|
مدينة كركوك كما وعيتها/ من خواطري الشخصية
محمد رياض اسماعيل
باحث
(Mohammed Reyadh Ismail Sabir)
الحوار المتمدن-العدد: 7001 - 2021 / 8 / 27 - 22:59
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في نهاية خمسينات القرن المنصرم، كانت مدينة كركوك، مركز لواء (محافظة) كركوك، تتألف من مناطق عديدة، كل منطقة كانت تتألف من عدد مما تسمى بالمحلة او (العكد) كما يسمى عند البغداديين، كل محلة تجمع مجموعة من سكان كركوك، تدين بشعائر قبلية توحدها وروابط تآخى فيما بينها، وتتنافس مع المحلات الأخرى وصولا الى الشجار، حيث اذكر بان محلتنا (خاصة)، على الجانب الغربي من نهيرة الخاصة(الصوب الصغير)، كانت تدخل بمشاجرات (معارك) مع محلة (جاي محلاسي) في الجانب الشرقي من النهيرة (الصوب الكبير)، تستمر لعدة ساعات، وكان شباب وصبية المحلتين يتقابلون في احدى ضفتي النهيرة، ويُخرِج كل محلة قائدها، فيتصارعان بالأيادي، وحين يصرع احد القائدين الاخر، يتشابك الشباب بالأيادي و( الة البوكس حديد)، والسكاكين لعدد من الدقائق وينسحبون بسرعة قبل ان يبدأ الصبية المتموضعين خلف كل طرف برمي الطرف الاخر بالحجارة، وينسحب الشباب من كل طرف الى جانبهم، لتبدأ برمي الحجر الذي كنا نجمعها بأعداد ونضعها بداخل (عب) ملابسنا الداخلية (الفانيلا) ونشد الاحزمة اسفلها لمنع وقوعها على الارض قبل المعركة، وكان سلاح الرمي، هو المصائد اليدوية بشكل منجنيق مصغر، تسمى (قوش وران بالتركي او داره لاستيك بالكوردي) أي المصيدة، وكانت تصنع من جذع وفروع الأشجار بضلعين على شكل حرف(Y ) باللغة الإنكليزية، يربط على الضلعين العلويين شريط من المطاط، غالبا ما كانت تقص من لب إطارات العجلات (الجوب) بأشكالها، ويخيط على طرفها الحر المعقوف قطعة جلد تستقر بها الحجارة ، فعند سحب الشريط باليد ثم اطلاقها لتخرج الحجارة بسرعة نحو الخصم، كما كنا نستخدم (الصبان) أي الرمي بالحبل، عند اتساع المسافة بين الطرفين المتشاجرين. والصبان عبارة عن حبل سائب من الطرفين وتنسج على طرفها المعكوف في الوسط بخيط غزل على شكل كف صغير، يستقر فيها الحجر، ويمسك الرامي الطرفين السائبين، ويدورها في الفضاء عدة مرات لتكتسب زخما قويا ثم يطلق يده عن أحد الطرفين السائبين لتنطلق الحجارة بقوة الى الامام حيث معسكر الطرف الخصم. وكانت غالبا تسبب جروح وكدمات بليغة عند المتشاجرين، وتسبب احياناً تشوهات في الوجه وكسر الاسنان وعمى العين عند اصابتها تلك الأجزاء من الرأس. كانت أمهات العوائل تستنجد بالوجهاء في كل محلة لإيقاف الشجار بين شباب وصبية المحلتين. ثم تتهيأ العوائل التي كانت تتأفف وتتألم للحال، لتضميد جروح أبنائها او نقل الإصابات البالغة للمستشفى الملكي (الجمهوري فيما بعد). كانت لكل محلة فريق كرة القدم، يتبارى مع فرق المحلات الأخرى، يتحمس افراد المحلة الى فريقهم بشكل تعصبي، وكانت المباريات تنتهي أحيانا بشجار عنيف أيضا بين المحلتين. كان شباب كل محلة متعصبة لحماية افراد محلتهم وتدافع ظالما كان او مظلوما عن افراد المحلة ان وقعت عليهم تحرش او دخلوا شجارا مع افراد من محلة اخرى، كما كانوا يحمون فتيات محلتهم إن مسهن معاكسة بكلام غزل من شباب محلة أخرى، ويدخلون الشجار لمجرد إطالة النظر من قبل أي شخص لبيت في المحلة بها فتيات. كانت حدود المحلة هي حدود الاسرة الواحدة. كان الشباب تدافع عن سكان محلتهم، إن تعرضوا للأذى من طرف محلة أخرى، وتتجمع على الفور وتتهيأ للإغارة عليهم. ويندفع الشباب بحماسة خلف قائدهم الذي كان غالباً ينادي للانتقام بعبارات خشنة، وسط كل أنواع الشتائم الغليظة كتعبئة نفسية، وتنويم اجتماعي يهيئ للغوغاء.. كان للقوي حظوة عند جماعته وريادة. قد يتعجب البعض من مشهد الناس الذي ذكرته أعلاه، (أولئك البعض اللذين جاءوا بعد جيل الخمسينيات من القرن المنصرم)، ويعتبرونه قصة خيالية، ولكنها كانت واقعا منذ بداية القرن العشرين في كركوك، ووعيت على نهاياتها في بداية الستينات، بعد ان قلت تلك الغزوات بشكل كبير. كانت المحلات كثيرة في الرقعة الجغرافية الواحدة، وكان مركز لواء كركوك تقسم الى ثلاثة رقع، القلعة والصوب الكبير والصوب الصغير(قورية) كما ذكرناه. ففي القلعة كانت محلات طوب قابي، هرمزللار، اغالق، ميدان، حمام، باش قابي، يدي قزلار، زندان، النبي دانيال، وغيرها لا اتذكرها، والصوب الكبير وتنقسم الى محلات (جاي، مصلى، بريادي، اوجي، بولاق، جقور، شورجه، امام قاسم، تكية (حيث بيت جدي من طرف والدتي)، اخي حسين (حيث بيت جدتي من والدي) ، وغيرها لا يسعفني بها الذاكرة)... وفي جانب الصوب الصغير كانت هناك محلات ( الخاصة (حيث كان يقع بيتنا)، بكلر، صاري كهية، تسعين، حمزالي، كاور باغي، قوريه، شاطرلو واصلها شاه تري (سأتطرق اليه لاحقا) ، الماس، تعليم تبه، وغيرها).. كانت كل محلة تفتخر ببطولات شجعانها من الفتوة، وتتباهى بالمتميزين في الحرف والفنون الموسيقية والغناء والشعر، وكذلك المهن اليدوية كالخياطة وصانعي السجاد والاواني المنزلية والحدادين والصفارين والتجار، ويقللون من شأن المتعلمين وذوي المدارس والمهن الاخرى (كالعربنجية) أي أصحاب العربات التي تجرها الخيول، والكناس أي منظف الشوارع والارصفة ويكنون بكناية (كناس، انكس من الناس) أي اقل شئناً من العامة، والباعة المتجولين من بياعي الحمص والباقلاء المحمص والمثلجات (الكريم ستيك) باعتبارها اعمال مهينة. كما كانوا يكنون الوضيع بعبارة (ابن العربنجي)، ويصيحون بالطلاب اللذين يرتادون المدارس بعبارة مكتبلي ويقولون فيهم ( توت اغاجي توت ويري، مكتابللار ك.... ويري) أي (شجرة التوت تعطي الثمر، والمدارس تستهلك الدبر!)...وكانوا يعتبرون الفقر شرفا، لا يعاب الفقير في المجتمع بل تهرع الناس لمساعدتهم، وكانت المحلات تجمع مساكن الفقير والغني جنبا الى جنب، قبل ان ينزوي الأغنياء الى محلات خاصة بهم على أطراف كركوك (طريق بغداد) لاحقا. وكان الناس قاطبة يحتقرون الأديان الأخرى غير المسلمة، ويصفون المنحط الذليل بعبارة (كاور اوغلو) أي ابن المسيحي، ويصفون الجبان والبخيل بعبارة (يهودي اوغلو) أي ابن اليهودي. وكان عدد العرب قليلاً في مركز المدينة ويسكنون منطقة الصوب الصغير، جنوب غرب مدينة كركوك وتسمى عرصة الجماسة، وهم في الاصل بدو رحل، أناس كرماء، استقروا في تلك المنطقة، وكان عماد اقتصادهم تعتمد على تسويق مشتقات حليب الجاموس لسوق قورية والسوق الكبير، ويبيعون الحمص والباقلاء امام مداخل صالات عرض الأفلام (السينما)، وكانوا يتلقون الإهانة والضرب من سكان المحلات عند مرورهم بها نحو مركز المدينة. وعلى ذكر محلة شاطرلو، واصلها شاه تري، ذكره لي المرحوم الاسطة صابر الاسكافي، حيث أخبره جده، بان العجم كانوا يتوافدون الى كركوك بسبب الفقر المدقع في بلادهم، وكان اغلبهم من مناطق تبريز وسنه، وكانوا يسكنون بيوت من الطين في أطراف القلعة، تختلف نسيجهم الاجتماعي عن نسيج محلات منطقة القلعة. وكعادة المحلات العشائرية في القلعة، تجمع شباب المحلات وزحفوا على بيوت العجم، وتشابكوا معهم بمعركة خاطفة وهزموهم، ما لبث العجم الا وان فروا الى الشمال الغربي من مدينة كركوك، وتابع شباب القلعة خطاهم ليبعدوهم الى ابعد قدر مستطاع من حدود القلعة، وسط سخريتهم من انكسار قوة العجم، واهازيجهم تتعالى، شاه تري، شاه تري، أي اخرج الشاه ريحا من مؤخرته، دلالة الهزيمة المنكرة.. وهكذا استقر العجم في تلك المنطقة من الصوب الصغير، وسميت شاه تري، وبمرور الوقت والتغير الديموغرافي للمدينة، هذبت التسمية الى شاطرلو. كانت تلك الأيام التي وعيت فيها، تشهد نهاية الفتونه، وبداية عصر فرض القانون.
#محمد_رياض_اسماعيل (هاشتاغ)
Mohammed_Reyadh_Ismail_Sabir#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عبارة عمي / خاطرة شخصية
-
معالجة ديون العراق والاقتصاد المنهار بيد عصا البنك الدولي ال
...
-
هل يمكن التغيير بهدف التعايش السلمي؟
-
معالجة ديون العراق والاقتصاد المنهار بيد عصا البنك الدولي ال
...
-
الى متى محاربة ( الاٍرهاب ) !
-
وجهة نظر في الاقتصاد النفطي العراقي
-
الوعي هو السبيل الى الحرية والاستقلال!
-
غياب الإرادة الدولية سينهي الحياة على الكوكب الأزرق!
-
السلاح الإعلامي الأمريكي والغربي يستهدف عقولنا
-
استدراك النفس في ميلودرامية الحياة والموت
-
الليبراليون الغربيون دعاة حرب!
-
جدلية الانسان والخالق
-
الكاظمي امام تحدي الدولة العميقة
-
تداعيات انسحاب أمريكا من أفغانستان والعراق
-
الدستور العراقي في ضوء المعطيات والنتائج
-
المعاناة في العلاقات الزوجية
-
السعادة على طريقة ابو خضير
-
متى تنال الخرفان حريتها؟
-
الاعلام الحُر ليس حُراً/ الجزء الثاني
-
الاعلام الحُر ليس حُراً
المزيد.....
-
Xiaomi تروّج لساعتها الجديدة
-
خبير مصري يفجر مفاجأة عن حصة مصر المحجوزة في سد النهضة بعد ت
...
-
رئيس مجلس النواب الليبي يرحب بتجديد مهمة البعثة الأممية ويشد
...
-
مصر.. حقيقة إلغاء شرط الحج لمن سبق له أداء الفريضة
-
عبد الملك الحوثي يعلق على -خطة الجنرالات- الإسرائيلية في غزة
...
-
وزير الخارجية الأوكراني يكشف ما طلبه الغرب من زيلينسكي قبل ب
...
-
مخاطر تقلبات الضغط الجوي
-
-حزب الله- اللبناني ينشر ملخصا ميدانيا وتفصيلا دقيقا للوضع ف
...
-
محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بته
...
-
-شبهات فساد وتهرب ضريبي وعسكرة-.. النفط العراقي تحت هيمنة ا
...
المزيد.....
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
المزيد.....
|