أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - شوقية عروق منصور - ويعود حزيران














المزيد.....

ويعود حزيران


شوقية عروق منصور

الحوار المتمدن-العدد: 6919 - 2021 / 6 / 5 - 14:23
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


دائماً أقول للذين حولي : ليتني أستطيع الإفلات من شبكة الذاكرة ، هناك المئات من الصور العالقة بين خيوط الشبكة ، تحاول التخلص لكن الخيوط تشدها ، وتبني حولها أعشاباً خضراء سرعان ما تتحول الصور الى اعشاش يابسة ، ترقد طيورها على بيض التفاصيل ، حتى تفرخ و أسمع أصوات الفراخ الهاربة ذات الزغب الملون .
ثقب الذاكرة يتسع هذه الأيام ، تخرج منه الصور المترنحة ذات الرائحة الباردة كالتي تلف الجثث المرمية على أرصفة النسيان ، بحجم الريح التي تقتلع أشجار الخوف ، كان الخوف يحفر السراديب تحت تراب حارتنا ، كنت أراه يحدق في وجوه الرجال الذين فوجئوا بأن الحرب بين العرب واليهود على الأبواب ، وذلك في العام 67.
غرفة الاستقبال في بيتنا مفتوحة على وجوه الرجال الذين أصابهم الاشتعال من قداحة الأخبار ، القداحة التي تنام في جوف الراديو المحاطة بجدران من الخشب اللامع ، وحين يشتعل الصوت مع التهديد ، و سباق التصريحات السياسية ، يتردد الصدى بصراخ صامت ، لقد ذاق الرجال طعم الحرب والهرب من قراهم المهجرة – أبي من قرية المجيدل - ، ذاقوا الخوف الكامن وراء نشرات الأخبار الغامضة ، التي تحمل الأغنيات الحماسية والآيات القرآنية والبيانات العسكرية .
كانت امي تدخل وتخرج بهدوء تراقب تقاسيم وجه أبي وأخوالي ووجوه الجيران الذين ينتظرون العبارات الطالعة من إذاعة " صوت العرب" .
" وقعت الحرب " صرخ جارنا ، بهذه الصرخة اختصر كل قوارب النجاة التي كانوا يحلمون بقدومها ، وبعد هدوء من نثر غبار الحيرة ، كان قرارهم تنظيف المغارة المليئة بالأوساخ في بيت جارتنا ام سليمان حتى يختبىء فيها الأطفال والنساء حتى لا تصيبهم نيران الحرب .
أول مرة اكتشف أن عندنا في الحارة مغارة ، فهي لم تظهر ابداً حيث تقع وراء بيت جارتنا أم سليمان ، خيالي أخذ يمتد الى واقع طفولتي "مغارة علي بابا افتح يا سمسم" لكن المغارة التي ظهرت من وراء بيت أم سليمان كانت واسعة ، شاسعة، الداخل اليها عليه أن يحني قامته لأن سقفها واطي ، لذلك كان اختيارنا نحن الأطفال الدخول اليها وتنظيفها من الداخل . بجد واجتهاد وسرعة خارقة، أخذنا نرمي محتويات المغارة ، براميل زيت صدئة قديمة ، فارغة ، بقايا ملابس مهلهلة ، ممزقة ، لفت نظري أكواماً من الكتب ، لكن جارنا أصر أن أرمي الكتب خارجاً ، قائلاً ( بدنا أكبر قدر من المكان حتى يتخبوا أولاد الحارة ) ، تبين بعد ذلك أن الكتب هي جزء من مكتبة الشاعر مطلق عبد الخالق ، حيث قامت عائلته بوضعها في المغارة حفاظاً عليها قبل رحيلهم عام 1948
عدة ساعات ونحن الأطفال ننظف المغارة ، والنساء في الخارج يجمعن الأوساخ ورميها بعيداً بما فيها الكتب ، لا مجال الآن لمعرفة قيمة الكتب وأهميتها .
من بين طبقات الظلام بدأت تظهر مساحة المغارة ، وبدأت النسوة بحمل السجاجيد والفرشات واللحف وادخالها في بطن المغارة التي تغيرت تضاريسها .
تلك الليلة نمنا في المغارة ، أذكر كنا أكثر من عشرين شخصا ، أطفالاً ونساءً ، حشرونا كالسردين فوق بعضنا البعض ، وقد تبين لنا أن المغارة تعاني من البرودة والجدران مسننة ، كأن الزمن قد قام بسن صلابة صخرها ، فكلما تحركنا كانت يغرز الصخر في ظهورنا ، أذكر أنني بكيت بصمت ، لم أستطع التذمر ، فتقاسيم وجه أمي تنذر بأن هناك شيئاً مخيفاً قادماً في الطريق ، وعلي أن أقبل الموجود دون اعتراض .
لا أحد يكلم الأطفال ، والكبار يتكلمون بالألغاز .. أسمع كلمة الحرب ، فأتخيلها دماً وذبحاً وجوعاً وفقدان أمي وأخوتي ، متأثرة من حكايات جدتي وأمي التي كانت تحكي لنا قصص الهجيج عام 1948 ، لذلك بقيت ملتصقة بحضن أمي التي طلبت مني عدة مرات الابتعاد عنها لأنها لا تطيق الآن احداً .
في النهار نخرج الى الحارة ، نرجع الى البيت ، الجميع في حالة صمت ، يلتصقون بالراديو – كأن على رؤوسهم الطير بعد ذلك تأكدت أن هذه العبارة كانت تنطبق عليهم آنذاك - في احدى المرات رأيت أبي يبكي ، لأول مرة أرى الدموع في عيون الرجال ، يرجمون بعضهم بنظرات الغضب ، ويكسرون الصمت بالآهات ولف السجائر واشعالها بسرعة الواحدة تلو الأخرى .
من شدة الغضب ضرب احدهم الراديو وشتم وصرخ وخرج من الغرفة ، ارتجفت وتجمد الدم في عروقي ، لا احد لحقه او اهتم لغضبه فجميعهم كانوا مثله .
سنوات طويلة حضنتها الذاكرة وكلما حلت ذكرى 5 حزيران انطلقت صورة المغارة التي كانت شاهدة على خوفنا من الحرب -أعترف ما زالت تسكن خوفي الطفولي -
اختفت المغارة تحت أصابع العمران ، لم يعد لها أثراً ، ورغم غيابها عن جغرافية الحارة ، أتذكرها كلما مررت من جانبها ، أتخيلها مفتوحة تستقبل خوفنا ، عندها اضحك بحزن على تلك الأيام .
نكسة 67 ، كانت طعنة نجلاء في الظهر لخصها أبي قائلاً : كنا قبل النكسة لما اليهود يحكوا معنا نسخر منهم ونقول لهم ( بكره ناصر والجيوش العربية بتيجي وبتشوفوا ... لكن بعد النكسة صرنا نهرب من قدامهم ، نسمع الشتائم والمسبات في دينينا .. يعايروننا وين ناصر تبعكم ؟؟ نصمت ونسكت .. لا نجيب ) .
عشت جرح 5 حزيران عام 1967 ، وبقي نزيف خيبة الأمل على امتداد السنوات ، حيث مات الرجال الذين كانوا يستمعون الى الراديو تلك الأيام ، ينتظرون البيانات العسكرية ، وأصبحوا خبراء في تحليل أصوات المذيعين ، من نبرات التفاؤل والتشاؤم يعرفون كيف تجري الأمور في ساحة الحرب .
مع كل ذكرى 5 حزيران أشعر أنني ما زلت أعيش في المغارة ، كبرت ولم تكبر المغارة ، ما زال صخرها المسنن يغرز في وجعي الممتد حتى اليوم.



#شوقية_عروق_منصور (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المذاق الذي أصبح رخيصاً
- اغتصاب الرحم ومخالب المستوطنين
- العشماوي وجارتنا أم اسحاق
- امرأة شهر آذار
- ابن الحارة الذي اصبح مخرجا سينمائيا في هوليود
- في شهر المرأة .. شهر آذار أنحني تقديساً لأم أحمد جرار
- في شهر آذار من يتذكر يارا وأطوار
- البن والجرح العميق -
- عزت العلايلي في الطريق ايلات
- نبض المكان وحرير الذكريات
- لماذا لاتوجد صبية فلسطينية تكتب مذكراتها مثل آنا فرانك
- البحر لنا والشاطىء لنا
- الأنوثة تباع بالكيلو في الأسواق العربية
- ام كلثوم غني لشوارع التطبيع
- الجماجم ليست للغفران
- زمن فهد الكورونا
- في زمن حسن شاكوش
- الوجه الآخر الذي عرفته وداعاً للنجمة نادية لطفي
- نعمة تعانق جثة القانون واسراء عانق جثة النسيان
- عندما يسرق الأسير الفلسطيني ابنه من وراء القضبان


المزيد.....




- ترامب يشعل ضجة بفيديو وأغنية -سأضع آية الله في صندوق وأحول إ ...
- قطر.. جملة قالها وزير الخارجية لأشخاص -يتحججون بسبب الحرب- و ...
- إيران تعلن نهاية الحرب مع إسرائيل بعد الاتفاق على هدنة بوساط ...
- جيش الاحتلال يقر بمقتل ضابط و6 جنود في كمين خان يونس
- طيارو القاذفات B-2 -الشبح- يروون لـCNN كواليس عملياتهم: -تخت ...
- نائب ترامب عن ضرب إيران: -لا أحد يريد أن يمتلك أسوأ شعوب الع ...
- ترامب ردا على تقرير CNN: الغارات على إيران -من أنجح الضربات ...
- رغم وقف إطلاق النار مع إسرائيل.. أمريكا تراقب أي تهديدات من ...
- -نصران- في حرب واحدة: ما نعرف عن النتائج الأولية للمواجهة بي ...
- إيران لم تسقط وإسرائيل تجاهلت دروس التاريخ


المزيد.....

- كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف / اكرم طربوش
- كذبة الناسخ والمنسوخ / اكرم طربوش
- الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر ... / عبدو اللهبي
- في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك / عبد الرحمان النوضة
- الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول / رسلان جادالله عامر
- أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب ... / بشير الحامدي
- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - شوقية عروق منصور - ويعود حزيران