|
الوجه الآخر الذي عرفته وداعاً للنجمة نادية لطفي
شوقية عروق منصور
الحوار المتمدن-العدد: 6482 - 2020 / 2 / 4 - 20:55
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
امرأة شقراء ، طويلة القامة ، الضحكة لا تفارق شفتيها ، المميز بها البحة التي تعايش حنجرتها، بحة فيها الدفء بقدر ما فيها أيضاً الثقة ، تستقبلك وهي ترتدي ثياب البيت، دون أقنعة ، ودون أضواء واكسسوارات ، ترحب بعبارات تشعل خجلك من كثرة ابجديات المحبة ، الى لغة السياسة .. عندما احتضتني وقالت : اشم بك رائحة فلسطين . ذات ليلة التقيت بها في بيتها في مدينة القاهرة وكان ذلك عام 1983 ، أو بالأحرى في شقتها المتواضعة جداً ، وكانت هي الفنانة نادية لطفي التي لعبت بالأضواء وأحاطت صورتها بظلال من الجوائز والأفلام وحفلات التكريم، لكنها الآن في تلك الليلة ، لمحت في عينيها صورة المرأة العنيدة التي تحدت الخطر ودخلت بيروت أثناء الحصار وعاشت مع العائلات المحاصرة ومع رجال المقاومة و الفدائيين . لا مفر من سطوة الاعجاب أمامها وهي التي قامت بتمثيل فلم " الخطايا " مع عبد الحليم ، وأنا التي اعتبر المطرب عبد الحليم حافظ مطربي المفضل- وما زلت - ، و طوال عمري أعتبر اغانيه خارطة للعواطف الشبابية ، وصوته ذاكرة تحمل المشاعر والاحاسيس الإنسانية والوطنية ، لا بد أن يكون النقاش حول الفلم الذي اخرجه آنذاك " حسن الأمام " وكانت البطولة موزعة بين عدة فنانين اشهرهم عماد حمدي ومديحة يسري ، لأن هذا الفلم يعتبر علامة فارقة في السينما المصرية . وأثناء رشفنا فنجان الشاي وقطعة الكعك التي أصرت أن اذوقها وهي من صنع يديها ، فتحت الباب الآخر بعيداً عن الفن ، قريباً من قضية تناضل من أجلها وهي " القضية الفلسطينية " . عندها تحولت الى امرأة أخرى ، امرأة تتحدث عن نكبة 1948 ، عن قرار التقسيم ، عن وعد بلفور ، عن نكسة 67 ، عن حرب 73 ، عن المظاهرات التي شاركت بها ، عن الندوات التي حضرتها في دول العربية وفي أوروبا حول القضية الفلسطينية .. امرأة على أهبة الاستعداد للكلام ، لا تمشي على رصيف العبارات المنتقاة ، بل تركض في سباق مع خلايا الذاكرة التي تضخ لها الأماكن والوجوه . ضحكت بأعلى صوتها وهي تقول : الم تسمعي الاشاعات التي قيلت عني .. أنني عشيقة أبو عمار .. ياسر عرفات .. ؟؟!! ثم تسللت بخفة إلى إحدى الغرف وأتت بكيس ضخم ، وقالت لي تعالي نجلس على الأرض ، وفعلاً نهضت عن الكنبة وجلست إلى جانبها ، الصقت ظهرها بالحائط ، وقالت لي بصوتها العذب : الليلة للصبح .. وبعد أن كنت منحنية الظهر الصقت ظهري أيضاً إلى الحائط . وفتحت الكيس وإذ بمئات من الصور تتساقط على السجادة ، الصور تخرج من قلب الحصار، حصار بيروت عام 1982 لقد قامت بتصوير عشرة الاف صورة .. وجوهاً عسكرية و قذائف ار بي جي محمولة على الاكتاف، نساء يطبخن على الحطب، و الرجال يتجولون بين البيوت المهدومة تجمعات لأطفال يرفعون أصابعهم البريئة إشارة النصر، بيوتاً مهدومة آيلة للسقوط ، وبيوتاً تحدق في الطائرات وتتحدى قذائفها ، ما زالت شامخة رغم شدة القصف ، ورجال يركضون بين الدمار ،الساحات، الملاعب ، الشوارع ، المدارس ، ومضات من الصور تحمل الحزن على الخراب وأسلحة تغرس قاماتها في لهيب الانتظار لأي طائرة تحاول الطيران فوق بيروت الغربية ، وفرق فنية تعزف وتصفق كأنها تقول : سنبقى دروع الانتصار . كانت نادية لطفي في بيروت ، الشق الغربي ، أو كما أطلق عليه بيروت الغربية التي حوصرت ثلاثة أشهر ، تنقلت خلال الحصار في كل مكان قدمت الطعام للمقاتلين ، وضمدت جروح الكبار والصغار ، ودفنت الكثير من الجثث التي كانت ملقاة في الطرقات ، كانت تعرف الوجه وتصيح هذا فلان ، وهذا علان ، تعرف الأسماء وتعرف كيف قتل بعضهم . في الساعة الرابعة صباحاً تكوم التاريخ والكلام والوجوه جلست أمامنا تنتظر رحيلها ، وأدرك شهرزاد الوجع البيروتي، أدرك نادية لطفي التعب من شهقات الألم والحزن حين كانت تتأمل صور الذين استشهدوا وغابوا ، حيث قامت بتصويرهم وهم يضجون بالحياة، يتسلقون سلالم التحدي .. وابتسمت عندما رفعت صورة الشاب الذي كان يردد ( جاييلك يا شارون .. ) لكن قتل بقذيفة مع رفاقه . سألتها من سيتكفل بنشر هذه الصور ، من سيقوم بتبني أشرطة الفيديو التي قمت بتصويرها .. !! قالت : أتمنى أن اقدمهم لجهة فلسطينية تحتفظ بهم للأجيال القادمة . شعرت أن الغرفة التي نجلس على بلاطها مسكونة بأصوات وحشرجات وتنهدات وهمسات هؤلاء الذين عاشوا الحصار التاريخي ، و كانت معهم " نادية لطفي " ليست فنانة بقدر ماهي انسانة أحبت القضية الفلسطينية وأخلصت لها ، حتى أنها تركت الأضواء وصممت على الدخول إلى قلب الحصار . الغرفة مسكونة بمرحلة يغلق عليها التاريخ أبوابه ، ويحاول إطفاء الأنوار وتركها في ظلام الخيبات. مع ملامح الفجر، وعند الباب وأنا أهم الخروج قبلتني امرأة خارجة من هذيان الفن إلى الواقع العربي الصعب ، امرأة دون أضواء ، لكن في أعماقها تقرع طبول الرفض معجوناً بالعناد ، حيث تترافع عن قضية آمنت بها . وداعاً يا أجمل النساء .. وداعاً " نادية لطفي " ليس لأنك نجمة سينمائية فقط ، بل لأنك امرأة حلمت بالنصر القومي والفلسطيني ، وبحثت عنه ولم تعش فقط في مدارات الأضواء العابرة .
#شوقية_عروق_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نعمة تعانق جثة القانون واسراء عانق جثة النسيان
-
عندما يسرق الأسير الفلسطيني ابنه من وراء القضبان
-
نرفع العلم فيموت الأسير
-
لا تتزوجوا إلا الجميلات
-
يا عنب الخليل كن سماً على المحتل
-
القبلة الزجاجية
-
استقالة ورقة التوت - قصة قصيرة
-
الثيران الهائجة والعجول المذبوحة وبينهما ابن نتنياهو
-
حين يسرق الموت صندوق الاسرار
-
الحفيد يشنق ساعة الجد
-
العامل الأسود في الوطن الأبيض
-
حدث في يوم العيد
-
فنجان التطبيع ودف الرفض
-
صالحة تفوز بالجائزة ونحن نركب الحنتوش
-
اضربوا الرجال .. وبيضة على رأس كل مسؤول
-
المرأة الفلسطينية وتوهج الثامن من آذار
-
اطلعوا برة .. وجاء أبو عواد وقال : آه يا ديسكي
-
يهودية وسعودية وبينهما طفلة يمنية
-
الرقص في وارسو بعيدا عن طريق سموني
-
مقتل الخاشقجي ودموع فرح
المزيد.....
-
سموتريتش يهاجم نتنياهو ويصف المقترح المصري لهدنة في غزة بـ-ا
...
-
اكتشاف آثار جانبية خطيرة لعلاجات يعتمدها مرضى الخرف
-
الصين تدعو للتعاون النشط مع روسيا في قضية الهجوم الإرهابي عل
...
-
البنتاغون يرفض التعليق على سحب دبابات -أبرامز- من ميدان القت
...
-
الإفراج عن أشهر -قاتلة- في بريطانيا
-
-وعدته بممارسة الجنس-.. معلمة تعترف بقتل عشيقها -الخائن- ودف
...
-
مسؤول: الولايات المتحدة خسرت 3 طائرات مسيرة بالقرب من اليمن
...
-
السعودية.. مقطع فيديو يوثق لحظة انفجار -قدر ضغط- في منزل وتس
...
-
الحوثيون يعلنون استهداف سفينة نفط بريطانية وإسقاط مسيرة أمير
...
-
4 شهداء و30 مصابا في غارة إسرائيلية على منزل بمخيم النصيرات
...
المزيد.....
-
في يوم العمَّال العالمي!
/ ادم عربي
-
الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي
/ رسلان جادالله عامر
-
7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة
/ زهير الصباغ
-
العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني
/ حميد الكفائي
-
جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|