أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - محمد عبد المجيد - ستة أيام في المستشفى!















المزيد.....

ستة أيام في المستشفى!


محمد عبد المجيد
صحفي/كاتب

(Mohammad Abdelmaguid)


الحوار المتمدن-العدد: 6823 - 2021 / 2 / 24 - 02:44
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


خرجت اليوم 23 فبراير من المستشفى بعد قضاء ستة أيام إثرعرض صحي امتد في علاجات وفحوصات ليس هذا مجال الحديث عنها!
بعض الأماكن تبهجك في مرضك، وبعضها تُتعسُك في صحتك!
بعض الأماكن تصل الأدعية للسماء بعد المرور بين أيدي هيئاتها الطبية، وبعض الأماكن ينتقم منك أطباؤها وممرضوها إذا لم تتسع مساحة جيبك وتظهر منه أطراف مالية يسيل لها اللعاب.
بعض الأماكن يُسرع مشرط الجراح في حل ألغاز جسدك قبل أن تمد يدك في جيبك، كالأم الحنون، أي الحكومة الخادمة تجعل المستشفى المجانية مثل قصر الحاكم، وبعض الأماكن يبحث طلاب كليات الطب أمام أبوابها على فقراء معدمين يعرضون أعضاءهم المتهتكة للبيع مقابل جنيهات ليجري عليها الطلاب.. أطباء المستقبل اختبارات كما يفعلون مع أرانب التجارب.
استقبلني طبيبي كأننا أصدقاء طفولة، وأجرى فحصوصات أولية، وأمر باعداد غرفة حتى يأتي طبيب القسم.
نزلت الملائكة من السماء، فلما وصلت إلى المستشفيات في النرويج قررت العمل بها، وارتداء البياض الناصع، والطير في الممرات فور أن يضغط المريض على زر الاستدعاء.
كل شيء كان منظما ومرتبا، وتاريخي الصحي لديهم وفي مستشفيات أخرى لا يحتاج لأكثر من شبيك لبيك!
شاركني في الغرفة الواسعة النظيفة والمجهزة كأنها صالون عمليات رجل نرويجي ناهز الثمانين من العُمر، ويفصل بيننا حاجز!
ممرضات شقراوات كأنهن خرجن من ملاعب التنس. تأتي الممرضة الجميلة إلى الثمانيني وتتحدث معه كأنه جدها أو ابنها الصغير. تفعل معه كل ما تفعل الأم رغم أنها في عُمر أحفاده، وتعطيه الدواء والطعام وتقابل ابتسامته بمثلها، وضحكته بضعفها، وتسأله إذا أراد الاستحمام لتساعده أو يساعده زميلها الممرض، وتوقظه بلطف لتُغيّر له ملابسه بدون أي تأفف، تساعده في أدق خصوصيات الجسد الإنساني، وعلى مدار 24 ساعة في ثلاث ورديات يتغيرن فلا تدري أهن ممرضات أم ملائكة.
أما أنا فأجريت منظارين لمعرفة ماذا حدث في المريء، وأغلب الظن أن السبب عدم شربي الماء الكافي بعد ابتلاع الدواء فيلتصق في جدار المريء، أما الحموضة فسببها عشقي لليمون والخَلّ.
"كلما داويتُ مرَضًا بانَ مرضٌ"، وزيارة يومية من الطبيب، وأدويتي تركتها في البيت فالمستشفى تُعدها لي في مواعيدها مع نصائح طبية.
هيئة التمريض في خدمتك، والمستشفى بيتك الثاني، والإدارة الناجحة من رأس الهرم تمر على مؤسسات الدولة كلها فلا تفلت منها مؤسسة، أو مكتب، أو صيديلية، أو مسؤول صحي!
كل الناس على قدم المساواة ولا يدري الوزير أن جاره في الغرفة إن كانت لاثنين عاطلا عن العمل أو من الطبقة الدنيا رغم أن كل الطبقات دنيا في الدول الاسكندنافية، في الأغلب الغالب!
الممرضة الصغيرة الملاك تقترب معلوماتها من طبيب امتياز، مع المبالغة، لكنها لا تتدخل بكلمة زائدة تختلط مع توجيهات الطبيب أو معلوماته.
لن تضع يدك في جيبك لو قضيت عدة أسابيع في المستشفى، وأجريت أصعب العمليات الجراحية، وقمت بزراعة أعضاء، فكل الناس خدم لدى كل الناس، والملك لا يستطيع الخروج من المستشفى قبل أن يأذن له الطبيب، والدولة مسؤولة عن علاجك، وتطبيبك، وعمل ملف كامل لأمراضك منذ أن دخلت المرة الأولى إلى أي مستشفى في النرويج.
طبعا من الصعب أن أشرح لأبناء عالمي الثالث الذي دفع بي إلى العالم الأول أن الحكومة خادمة، وأن مرتب رئيسة الوزراء مخصوم من ضرائبك، وأن رئيس جهاز الاستخبارات لا يرفع عليك صوته ولا يرفض لك كوبا من الماء ولا يمنع عنك مكالمة هاتفية.
النرويج واحدة من أغنى خمس دول في العالم، وأتذكر أنه في منتصف الثمانينات طلبتْ رئيسة الوزراء آنئذ جرو هارلم برينتلاند حارسا شخصيا لها، فغضب البرلمانيون وقالوا بأننا دولة لا يُحرَس فيها كبير لمركزه. وبعد مفاوضات عسيرة أقنعتهم بحاجتها إلى حارس واحد لأنها سيدة، ومن الممكن أن تتعرض رئيسة الوزراء لمكروه، فوافق البرلمان بعد تعرض رئيس وزراء السويد أولو بالمَ للقتل في أحد شوارع السويد وهو خارج من دار عرض سينما.
لا أحد يشعر هنا أنك تتفضل عليه، فالمسؤول خادم لكل المواطنين في تخصصه، كما أنك خادم في تخصصك.
الميزانية معروفة، ومقروءة في البرلمان، ومسلوخ ظهر واضعها لأنها أموال الشعب حتى لو ملأ خزان سيارته الخاصة بكارت بنكي مخصص لتنقلات رسمية!
الإخفاء جريمة حتى لو ارتكبها أعلى رأس، والصحفي مهمته الكشف وليس الفضح أو التبرير.
في عالمنا الثالث يسرقون بحوث وجهود الناجحين وينسبونها إلى الله بحجة أنك لم تفعل شيئا بغير إرادته، عز وجل؛ أما هناك فكل أتعابك دنيوية، أما الأخروية فبينك وبين خالقك .
أتذكر أنني منذ سنوات ركبت سيارة أجرة من بحري إلى المندرة في الاسكندرية، وأراد سائق التاكسي أن يقف أمام مسجد أبي العباس و(يلطعني) في سيارته! سألته: هل ستذهب للصيدلية لشراء دواء؟ قال: لا، ولكن لتأدية الصلاة! قلت له: هل تسرق وقتي وأنا مرتبط بموعد لتعطيه لله، وتحصل على ثواب أيضا!
عاد إلى السيارة على مضض، وأظنه فهمها هرطقة.
أبهرتني طرق تعامل الممرضات فلم يرفض عقلي أنهن هبطن من السماء للعمل في المستشفيات مع مسحة جمال اسكندنافي كأنهن يتسابقن إلى قلبك قبل مرضك، ويطمعن في أجر سخي عبارة عن ابتسامة و.. كلمة شكر.
التحضر في أي بلد يبدأ من الطاقم الطبي، والجمال من الممرضات، والتمدن من الأطباء، والمواطنة من الرعاية الصحية، والكرامة من النظافة، والطهارة من اللسان، والأمانة من الجدّ في العمل، وحُب الوطن من الإيمان أن الجميع خدم للجميع.
إخفاء أي مسؤول مهما كبر لميزانية ما مهما صغرت هي سرقة مهما تشكلتْ!
الشعوب التي تعرف حقوقها ولا تشي على أبناء بلدها تستحق العيش بسلام.
المواطن الذي يتساهل في أصغر حقوقه يهضم الحاكم على مرأى منه أكبر حقوقه، ويركل في وجهه كل مطالبه.
لا أتحدث عن هيئات طبية لا تخطيء، معاذ الله، لكنني أصف المشهد كما رأيته مرات كثيرة طوال عشرات السنين.
في العالم الثالث يقرأ المرء ما أكتبه عن حقوقه في العالم الأول فيضرب كفا بكف، ويسخر لدقيقتين، ويؤكد أن بلده يحتاج لمئة عام حتى يتغير في المستقبل ثم يحدثك عن الماضي بحنين أجوف، هلامي كأنه عاشه تحت ألسنة باعة السماء لأهل الأرض.
في عالمنا الثالث كل الناس يأكلون، ويشربون، ويحتضنون، ويحلمون بالمدينة الفاضلة التي قصّ عليهم من أوصافها محتالون، ودراوشة، وكاذبون، ومخادعون، ومرشدون.
أنا قادم من العالم الثالث، وأتذكر أنني في نهايات الثمانينيات أجريت مقابلة صحفية مع وزير الخارجية النرويجية في مكتبه. وغضب من أسئلتي، فضغط على جهاز التسجيل وطلب مني الخروج. رفضتُ الخروج قبل أن يجيب على كل أسئلتي المحرجة له. لم يطلب حارسا ليصحبني للخارج. رضخ لرفضي وأكمل الإجابة على كل الأسئلة، وأصبح بعدها بعامين رئيسا للوزراء.
المسؤول إنْ تجاوز واجباته نبهته قناعة المواطن بها.
تجربتي لستة أيام في المستشفى جعلتني أعيد النظر في شرعية أي حاكم في العالم الثالث يحتاج مواطن فيه لعلاج فلا يجده، ولمستشفى نظيف فلا يملك قيمة قضاء سويعات قليلة فيه، وإلى عملية جراحية فتُسلمه الحكومة لملك الموت لأن الحاكم صاحب سلطة مطلقة ترى أن بناء الإنسان أقل أهمية من رفاهية سيد القصر وعائلته.
ستة أيام في المستشفى في النرويج تجعلك تخجل من حكّام العام الثالث وتخجل أكثر من مواطنين يؤمنون أن الله خلقهم للركوع، والسجود، وإرسال أدعية إلى السماء، أما الأرض فهي للمعبود الأرضي.
لو أن كل مواطن في العالم الثالث مر بتجربة المرض والهيئات الطبية والمستشفيات هنا وأن يدخل ويخرج دون أن يرهق جيبه المثقوب، لعاد كل منهم إلى بلده، وتعلم حقوقه المشروعة فهي العبادة الأولى المقبولة سماويا.
ستة أيام بهيجة وحزينة، جميلة في تحضرها وقبيحة في العالم الثالث حيث الطاعة المختارة.
ستة أيام ترى أناســًا اختاروا الحياة يقابلهم في العالم الثالث أناس مثلهم، من لحم وشحم وضلوع وقلوب وعقول اختار أصحابها الموت الجبان، والحقوق المهضومة، وبيع الكرامة تحت حذاء حاكم قد يكون أجهل من أجهل مواطنيه.
تحية حُب لكل من جعلني في المستشفى النرويجي أنفجر غضبا على الصامتين على حقوقهم في العالم الثالث.

طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 23 فبراير 2021



#محمد_عبد_المجيد (هاشتاغ)       Mohammad_Abdelmaguid#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا لا يتعلم المصريون من الجزائريين؟
- أكملت اليوم 74 عامًا؛ وماذا بعد؟
- صورة الله في عقل الإسلامي الحديث!
- للمرة المئة.. تغطية وجه المرأة معصية لله!
- اكتشاف لقاح مضاد لإبليس!
- لهذه الأسباب أكره التيارات الدينية!
- أبناؤنا المتآمرون.. ولاد الكلب!
- لهذا لن تتكرر ثورة 25 يناير!
- هل المسلمون مرضىَ بالدينِ أمْ الدينُ مريضٌ بالمسلمين!
- الشعبُ على دينِ رئيسِه!
- جرائم هذا الرجل!
- دعاء طائر الشمال لعام 2021!
- هل صحيح أن هناك كفارًا و.. مؤمنين؟
- غباء أنجيلا ميركل وذكاء السيسي!
- صناعة المُسلم الأفيوني!
- الحلُّ السعوديُ لأزماتــِنا!
- مبروك للمغفلين فالأموال عادتْ للصوص!
- طائر على طُرق كثيرة!
- تلك هي هزائمي!
- لكنهم لا يصدّقون أنَّ اللهَ أكبر!


المزيد.....




- ماذا قالت إسرائيل و-حماس-عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين ف ...
- صنع في روسيا.. منتدى تحتضنه دبي
- -الاتحاد الأوروبي وسيادة القانون-.. 7 مرشحين يتنافسون في انت ...
- روسيا: تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة مستحيل في ظل استم ...
- -بوليتيكو-: البيت الأبيض يشكك بعد تسلم حزمة المساعدات في قدر ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من رمايات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية م ...
- تونس.. سجن نائب سابق وآخر نقابي أمني معزول
- البيت الأبيض يزعم أن روسيا تطور قمرا صناعيا قادرا على حمل رأ ...
- -بلومبرغ-: فرنسا تطلب من الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة ض ...
- علماء: 25% من المصابين بعدم انتظام ضربات القلب أعمارهم تقل ع ...


المزيد.....

- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار * / رشيد غويلب
- سلافوي جيجيك، مهرج بلاط الرأسمالية / دلير زنكنة
- أبناء -ناصر- يلقنون البروفيسور الصهيوني درسا في جامعة ادنبره / سمير الأمير
- فريدريك إنجلس والعلوم الحديثة / دلير زنكنة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - محمد عبد المجيد - ستة أيام في المستشفى!