أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - ظل آخر للمدينة 15














المزيد.....

ظل آخر للمدينة 15


محمود شقير

الحوار المتمدن-العدد: 6639 - 2020 / 8 / 7 - 17:51
المحور: الادب والفن
    


كانت زيارة مسجدي الصخرة والحرم مع الأهل في غاية الأهمية بالنسبة لي.
أذهب أحياناً مع أمي. يدفعني الارتفاع الشاهق لقبة الصخرة إلى مزيد من التحديق في الآيات القرآنية المكتوبة بخط أنيق على الجدران، أطيل النظر في الزجاج الملون للشبابيك. وفي الحرم الشريف يتكرر الأمر نفسه، فثمة شبابيك كثيرة بزجاج ملون، فأشعر بسكينة غامرة، وفي بعض الحالات، كنت أذهب مع أبي إلى الحرم، أغالب نعاساً ملحاً ثم أنام، فيما هو منكب على قراءة القرآن.
أما الاحتفالات في ساحة الحرم الشريف، التي كانت تقام في شهر نيسان من كل عام، احتفاء بموسم النبي موسى، فما زلت أذكر بعض تفاصيلها. تحتشد جموع من الخلق في الساحة، تمارس الدبكة والغناء، ثم تمشي في موكب نحو مقام النبي موسى، ومعها الأعلام (تلح علي الآن صورة تلك المرأة الشقية! ولم أكن أعرف لماذا يجري اضطهاد النساء آنذاك. على الطريق المؤدية إلى ساحة الحرم، بالقرب من باب سوق القطانين، رأيتها. كانت تخفض رأسها باكية، والدم يسيل من فمها ويبلل بلاط الطريق، بعد أن ضربها زوجها بقبضة يده لسبب لا أعلمه. تألمت لهذا المشهد. كان زوجها يواصل تهديدها، وهي تنكمش على نفسها وتواصل البكاء. سمعت أمي تعبر عن استيائها منه ببعض الشتائم، تدخلت نسوة أخريات لحماية المرأة من بطش الزوج، ثم واصلنا، أمي وأنا، طريقنا نحو الحرم). كنا نعود من المدينة ومعنا حلاوة "النبي بركة"، فلا نكف عن التهام ما يتاح لنا منها، لأنها كانت شهية المذاق، تعوضنا عما فاتنا من أطايب الطعام في تلك السنوات العجاف.

***
بعد حلول النكبة، أصبح جدي لأبي يميل إلى العزلة والانطواء.
كان في أيام شبابه، مثلما يروي عنه الناس، شديد البأس، مرهوب الجانب، كثير التعلق بمتاع الدنيا. فأصبحت غايته بعد ذلك كله، التفرغ لعبادة الله (بعد دخولي المدرسة، لاحظ جدي أنني أكتب بيدي اليسرى، ولم يرقه ذلك. أحضر خيطاً من القنب، حشر يدي اليسرى داخل كيس من قماش، ثم لفّ الخيط فوق يدي وربطه بإحكام، وقال لي: عليك أن تكون من أصحاب اليمين. لكنني كنت أغافله، أفك الخيط، وأكتب بيدي اليسرى، وهكذا كبرت، وبقيت من أصحاب الشمال).
كان يقضي وقته وهو يقرأ القرآن بصوت عال يملأ الأسماع، أو وهو يقرأ في كتاب آخر، عن عذاب النار، ويروي لمن يأتيه زائراً بعض ما قرأه في ذلك الكتاب. أستمع بين الحين والآخر إلى نتف مما يرويه. يقول إن قيام المرأة بالزغردة في أية مناسبة حرام، وسوف تأتي يوم القيامة وفي طرف لسانها ثعبان. ويتحدث عن عقارب في جهنم، الواحدة منها بحجم الجمل، وعن أفاع مخيفة يسلطها الله على الكفار من أهل النار.
ولم تكن حكايات جدي هي وحدها التي تثير المخاوف في نفسي، فقد روعتني قبلها أحداث كثيرة، لعل أبرزها تلك الحرب التي كانت تقترب منا، حاملة معها الموت والتشتت والدمار. ذات مساء، كنت أتناول طعام العشاء أنا وأبي (لم يكن مسموحاً للنساء أن يجلسن معنا لتناول الطعام، ولم أكن أعرف سبب ذلك)، وفجأة انفجرت بالقرب من بيتنا قنبلة قادمة من مكان ما. كان لدويها وقع مذهل في نفوسنا. فلم نكمل عشاءنا، ورحنا نلوذ بغرفة أخرى ليست لها نوافذ من جهة الغرب، خشية أن تنفجر قنبلة أخرى، فتهلكنا.
وكان لحكايات جدتي لأمي تأثيرها المفزع أيضاً.
كانت تأتي للإقامة في بيتنا عدة أشهر كل عام (إنها امرأة بسيطة تتحلى بطيبة مفرطة، وقد أحببتها كثيراً. بكت في أحد الأعياد لأنني لم أبادر إلى تهنئتها بالعيد، ولم أقبّل يدها. تألمت وأنا أراها تبكي، ولم يكن موقفي مقصوداً، ولا أدري الآن، كيف حُلَّ بيني وبينها ذاك الإشكال. وكنت أنام إلى جوارها في الليل، تسرد علي قصصاً وحكايات، وتعبر عن رغبتها في أن تلد أمي أولاداً كثيرين ليكونوا سنداً لي في الملمات. أذكر، ذات ليلة، فيما كانت أمي حاملاً في شهرها الأخير، أن جدتي أسرت لي بمخاوفها، قالت إنها لا تستبعد أن تلد أمي أختاً أخرى لي، وقالت إن هذا الأمر لا يروقها، ثم نامت وعلا شخيرها، وبقيت أفكر، بعض الوقت، في كلامها الذي بدا محيراً، ثم نمت).
كانت تروي لي ولأخواتي كيف نهضت من نومها ملهوفة في الفجر، معتقدة أن الشمس على وشك أن تطلع من خلف الجبل، فلامت نفسها لأنها تأخرت في النوم، فحملت على ظهرها أوعية من معدن خفيف، تضع فيها الحليب الذي تبيعه في المدينة، فلما مشت في البرية مبتعدة عن بيتها، اكتشفت أنها وقعت ضحية الفجر الكاذب، ففكرت في العودة إلى البيت، ثم ترددت، وآثرت أن تستمر في سيرها نحو المدينة. غير أن أمراً فادحاً دفعها إلى التراجع مرغمة، فقد رأت على مقربة منها، ضبعين يتراكضان في البرية، ما أدخل الرعب إلى نفسها، ولم ينقذها من شر الضبعين اللذين هاجماها سوى أوعية المعدن التي كانت تحمي ظهرها.
يحتل الضبع حيزاً كبيراً في ليالي طفولتنا أنا وأخواتي الأربع، وفي كوابيس أحلامنا. تتواطأ جدتي وأمي على تخويفنا كلما عصينا أوامرهما بضرورة النوم المبكر، فتقولان لنا إن الضبع واقف خلف الباب، فتنكتم أصواتنا، وتخمد حركتنا، وننام خائفين. ولا تفتأ جدتي تحدثنا عن الجن وتقول لنا إنهم موجودون من حولنا، فتحرم علينا رشق الماء على الأرض ليلاً، لأن ذلك يغضبهم. ولا تفعل شيئاً إلا وهي تذكر اسم الله، لحمايتها من شرهم.
يتبع..



#محمود_شقير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ظل آخر للمدينة14
- د. حنا ميخائيل.. مثقف ثوري لا يمكن نسيانه
- ظل آخر للمدينة13
- ظل آخر للمدينة12
- ظل آخر للمدينة11
- ظل آخر للمدينة10
- ظل آخر للمدينة 9
- ظل آخر للمدينة8
- ظل آخر للمدينة7
- ظل آخر للمدينة6
- ظل آخر للمدينة5
- ظل آخر للمدينة4
- ظل آخر للمدينة3
- ظل آخر للمدينة2
- ظل آخر للمدينة1
- عن نجوم أريحا لليانة بدر
- مرغريت أوبانك صديقة الأدب العربي
- بحر الحب والرغبات/ نص
- عن رواية يحيى يخلف: نجران تحت الصفر
- من قديمي الجديد: عندما تشيخ الذئاب.


المزيد.....




- إلغاء حفل النجمة الروسية -السوبرانو- آنا نيتريبكو بسبب -مؤتم ...
- الغاوون.قصيدة مهداة الى الشعب الفلسطينى بعنوان (مصاصين الدم) ...
- حضور وازن للتراث الموسيقي الإفريقي والعربي في مهرجان -كناوة- ...
- رواية -سماء القدس السابعة-.. المكان بوصفه حكايات متوالدة بلا ...
- فنانون إسرائيليون يرفضون جنون القتل في غزة
- “شاهد قبل أي حد أهم الأحداث المثيرة” من مسلسل طائر الرفراف ا ...
- تطهير المصطلحات.. في قاموس الشأن الفلسطيني!
- رحيل -الترجمان الثقافي-.. أبرز إصدارات الناشر السعودي يوسف ا ...
- “فرح عيالك ونزلها خليهم يزقططوا” .. تردد قناة طيور الجنة بيب ...
- إنتفاضة طلاب جامعات-أمريكا والعالم-تهدم الرواية الإسرائيلية ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - ظل آخر للمدينة 15