|
خِذلانٌ لا يَصدأ عشوائيات في الحب – العشوائية 29
سمير محمد ايوب
الحوار المتمدن-العدد: 6548 - 2020 / 4 / 27 - 11:21
المحور:
الادب والفن
كتب الدكتور سمير محمد أيوب خِذلانٌ لا يَصدأ عشوائيات في الحب – العشوائية 29 بعد إغترابٍ طالَ ، عُدتُ إلى عمان .عصرَ اليوم التالي لوصولي ، سمعتُ صوتاً مُنْهزِماً ، يُرَحِّبُ هاتفيا بعودتي ، ويقول : أنا رفيق عمرك ودروبك . أعْلمُ أن الأليق والأوجب أن آتيك . ولكن المرض يقعدني عن هذا الواجب . إعذرني إنْ قلتُ في أوَّل إتصالٍ لنا ، بعد سنينٍ عجاف ، مشتاقٌ لك ، وأنني بأمسِّ الحاجة للقياك . عرفته فورا من تقاسيم صوته . بعد ساعتين كنتُ أعانقه ، وهو على كرسي متحرك . جلسْتُ قبالته لأسمع منه. سألته لِمَ هنا في بيت أبيك ، لا في بيتك ؟ ما بِكَ يا رجل ؟ قال بأسى : في بيتي هناك ، ضاق المكان عليَّ . كنتُ طيِّباً في زمان لمْ يَعُد فيه للطيبة مكان . قُلْ كنتُ على نِيَّاتي . وأظن أن كثرةً من الناس مثلي على نيَّاتِهم . باتَت الأسرةُ بنيةً ووظيفة ، هشة ًواهية . تُشَلُّ وتصدأ ، وقد تنتهي بلحظة ونحن عنها غافلون . قبل عشر سنين ، وأنا على عتبة الستين من عمري ، لأسبابٍ كثيرةٍ خسرتُ مالِيَ . وتلَبَّسَني هَمُّ دينٍ وذُلُّه . وداهمني من كل حَدْبٍ وصوب ، فيضُ عِلَلٍ وأمراضٍ . السُّكَّرُ والسرطانُ أخبثها . أظنك تعلم ، آثار إستبدادِ الفقرِ والسكَّرِ والسرطان ، برجلٍ في العقد الخامس من عمره !!!. مع ضياع مالي ، ساء مع زوجتي حالي . توقَّعتُ أنْ تُعينَني على الزمن . لكنها للأسف ، مع تبدُّد المال وضعفِ الفُحولة ، قلَبَتْ ليَ ظهرَ المِجَنْ . و باتت عونا لِعادياتِ الزمن عَليَّ . ولم تَكتفِ بتحريضِ أولادي علي ، بل وتُعَيّرُني بفقري وضعف فحولتي . بعد خمسِ بناتٍ وولدين كلهم جامعيون ، وأكثر من ثلاثين سنة منْ رغد العيش ، لم تعُد تَذْكُرُ سوى أنَّها أنثى ، في عِزِّ صِباها كما تقول . بحاجةٍ لرجلٍ عَفِيٍّ وكَفٍّ يَهطل مالا . إنقلب كلُّ شيء في حياتي . أصبحتُ لا أحتمل تلميحاتها ، بل تؤلمني كثيرا . لأتبين وأقطع الشك باليقين ، غربلتُ كلَّ ما كنتُ أبْصِرُ وأسمعُ من تحريضٍ ضدي . سرعان ما أدركتُ أنَّ عقول زوجتي وأولادي ، وقلوبهم وألسنتهم وعيونهم ، باتت خاليةً مني . نجَحَتْ أمُّهم في إقتلاعي من كل تضاريسهم الداخلية والخارجية . ساعَتَها بِتُّ في عيشةٍ ضَنكا . فرَحلتُ إلى هنا بيتُ أبي . إكتظت صفحاتُ وجهِه ، بغيومِ أوجاعٍ وأحزانٍ وارفةِ الظلال . وبِتُّ أسمعُ وميضَ برقٍ ورعدٍ ، يتطايرُ من أصابعه المتصارعة . كان يلهثُ وهو يحاول الإمساك بزمام دمْعِه . إنحنيتُ وضممتُ رأسَهُ بين كفيَّ . قبَّلتُ جبهتَه إحتراما وإشفاقا . مسحتُ العرقَ المُتفصِّدَ منْ كلِّ تضاريسِ وجهه المُصْفَرِّ . لَمْ أجرؤ على نُطْقِ سُؤالي : ما بك تبكي مُرتعشا يا صديقي ؟ إلتقط ما يتوالد بين شفتي المزمومتين من كلام ، فعاجلني وكأنه يحمل أثقالا : أنهكَني المرضُ وبِتُّ مكسورَ الخاطِر . يُباغتُ روحيَ المُتصدِّعَة وجعٌ مُمِضٌ . يَحتلُّني خِذلانٌ لا يصدأ ولا يهدأ . قتلَ أشياءً كثيرةً فِيَّ . خوف الرحيل ، يتسرب إلى نفسي الآن ، بعد هذه الفضفضة ، أظنُّ أني راحلٌ عما قريب . أكملَ وكأنَّه يرجو : إشتقتُ لزمنٍ كانت فيه عائلتي مُكتملةً ، ليس بينها غائبٌ أوغاضب . أنا مُرهقٌ بشوقٍ لأناسٍ لنْ أراهم . يا لقسوة قناديلي من الأبناء والبنات . ليتهم رغم تنكرهم يعلمون ، أنَّ شعلة الشوق لهم ما انطفأت يوما . وأكملَ بصوتٍ مُتهدج ، والدمع يبلل أطراف لحيته البيضاء ، أرجو أن لا تجرؤ على التخفيف عني ، بالمجاملة والتبرير . إقشعر بدني من هولِ ما أسمع . دفنتُ رأسيَ بينَ كفيَّ وأطرقتُ لدقائق ، محاولا بصمتٍ تَهجِّي حيرتي . كَفْكفتُ دمعاً راودَني قبلَ أن أقول له : أحالوك يا صديقي مُسلسلَ خِذلان ، تفاصيله في بث متصل . أعلم أنَّ الخذلانَ سِجنٌ مُظلمٌ . كي لا تفقِدَ عقلَكَ فيه وتَنجحَ في مواجهته ، إتكئ على قدرتك وتخيل إيجابيات الوقائع والصور والأفكار ، لا على ما تواجه من عقوق متوحش . أدْرِكُ صعوبة التصالح مع الخذلان المتذبذب . ومع هذا لا تدع قلبك يصدأ بالأسى . إمْضِ مُتناسيا مُتجاهِلا قَدْرَ ما تستطيع . فالتجاهلُ وقتَ الغضب ذكاء ، ووقتَ المصاعب إصرار، ووقتَ الاساءةِ تعقُّل . تَجاهَلْ العتابَ ومارس الهدوء . فأنت في أشدِّ الحاجة لممارسة السكينة . راودتني رغبة موجعة في المغادرة . وعدته في أن أعود عصرَ غدٍ لإستكمال بقايا وشظايا الخذلان . عدت مُنكسرا إلى بيتي . وفي البال زيارةُ تَطَفُّلٍ وإستنارة إلى المشكو منهم ، زوجه وأولاده وبناته ، خشيةَ أن يكون صاحبي مُبالغاً أو واهما أو متجنيا . غفوتُ وأنا على هذا العزم . صحوتُ مبكرا ، مُكتئبا مما رأيت في منامي . أبصرت قمرا يراقص نجمة ، ويغيبان في حالك الغيوم . مع أول ملامسة لشفتي مع فنجان قهوتي ، إرتجفت يدي وأنا أمسك هاتفي ، سمعتُ قبل أن يسقط من بين أصابعي ، من يقول باكيا : البقية في حياتك . لقد رحل مع الفجر هذا اليوم ، حبيبك مرتقيا إلى ربه راضيا مرضيا ، وقد ترك لك مُغلَّفا مُغلقا بعناية . صلاة الجنازة ظهرا في مسجد الشريعة في اللويبده - عمان ، والدفن في سحاب . إصطَفَفتُ خلفَ نعشه . بعد أن دعوت لنفسي بمثل ما دعوت له . إنحنيتُ على النعش أقَبِّلُه . وهمستُ للراحل : لَمْ تُخْلِفِ ميعادك مع ربك ، ولم أخْلِف ميعادي معك . صديقي وداعا . سبقتني إلى رحمته ، إني بِكَ متى شاء الله لاحق .
#سمير_محمد_ايوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ملامح وأقنعة عشوائيات في الحب العشوائية 28
-
جدلُ الركودِ والتحرك في الحب عشوائيات في الحب – العشوائية 27
-
جدل القلب والعقل عشوائيات في الحب - العشوائية 26 إ
-
يا أمة تضحك منْ جهلها الامم إنه الله ، يا عشاق الحياة
-
الحب الصاخب عشوائيات في الحب – العشوائية 25
-
البشرية بين مَوتٍ وبائيٍّ ، وأنانيةٍ أعقد يا أمة تضحك من ج
...
-
رب ضارة نافعة يا امة تضحك من جهلها الامم
-
تورُّمُ الشَّراكات عشوائيات في الحب – الثالثة والعشرون
-
بعضُ الحب مُؤذٍ عشوائيات في الحب – العشوائية 22
-
سَلَفِيَّةٌ في الحب عشوائيات في الحب - العشوائية 21
-
وكما انت تعال ... عشوائيات في الحب – العشوائية العشرون
-
إبْحَثْ عنِ امرأة عشوائيات في الحب - العشوائية 19
-
حكاية بِرٍّ
-
وحْدَها تَعْرِفُ ... ! عشوائيات في الحب – العشوائية 17
-
إنها صَفعةُ القرن ، يا أمة تضحك من جهلها الأمم
-
نَحْلُ الحب وذُبابه عشوائيات في الحب - العشوائية 17
-
لا عزاء لأغبياء الامة ولا لحمقاها يا امة تضحك من جهلها كل ا
...
المزيد.....
-
وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما
...
-
تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
-
انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
-
الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح
...
-
في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
-
وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز
...
-
موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
-
فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
-
بنتُ السراب
-
مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|