أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الدرقاوي - تجربة صادمة















المزيد.....

تجربة صادمة


محمد الدرقاوي
كاتب وباحث

(Derkaoui Mohamed)


الحوار المتمدن-العدد: 6519 - 2020 / 3 / 21 - 04:21
المحور: الادب والفن
    


تعودا أن يخرجا معا بعد صلاة الفجر الى الغابة حيث يمارسان رياضة المشي لمدة ساعة ، لا يوقفهما حر ولا برد ، فهما على موعد يومي ، لاترهبهما الغابة سيان تخلف روادها أو قلوا ،خوفا من طقس أو لظروف خاصة ..
اليوم كان يسيران على غير عادتهما ، وحيدين ،كل منهما بعيد عن الآخر بحوالي متر ،تنفيذا لتعليمات وزارة الصحة ،بعد ان اجتاحت المدينة جائحة كورونا التي عمت العالم بأسره ،لم ينفلت منها قوي ولا ضعيف ،غني ولا فقير، كبير ولا صغير ..
أحس فاضل وهو يتمشي وكأن طيفا يلازمه ، احساسه هذا أوهمه أن حرارته مرتفعة ،أو ان اليوم حار رغم درجات الحرارة المنخفضة ، الطيف الملازم والحرارة ،وتباعده عن صديقه أحمد ،إضافة لشحنة الخوف التي تلبسته عن المرض ، كل هذا ولد في نفسه خيالات ورؤى لم يتعودها من قبل ،وأعادت اليه ذكريات كم حفرت في اعماقة زمنا ولا زالت ..
كلما تطلع الى صديقه وجده هو نفسه يتابعه بنظراته ،وكأن نفس الهاجس هو ما يدور في خلدهما معا ..
كان أحمد يحس بوحدة تلفه رغم أن صديقه لم يكن بالبعد الذي قد يبرر إحساسه هذا ،وفي وقت كان فاضل يصابر ويتخيل أن الطيف الذي قد توهمه يلازمه، ما هو الا روح صديقه الذي ما تعود أبدا ان يمشي بعيدا عنه ، كان أحمد ولأول مرة مترددا خائفا ، يتهيب مفاجأة حيوان مفترس قد يداهمه ، أو متشرد قد ينقض عليه رغم علمه بحارس غابوي يظهر من بعيد على فرسه ، لهذا كان يمشي وهو يتجلد بالصبر والابتسامة أحيانا عن تفاهة أوهامه ،فليست هي المرة الأولى التي يدخل فيها الغابة مع صديقه ،ويتوغل بلا ادنى إحساس بخوف ..
أمام هذا الشعور الغريب الذي لف كل منهما، صارا يتقاربان من بعضهما
وكل منهما يشتق من خيالاته ثيمات متنوعة هي خلفيات ما يعتقد ويستبطن ..قال فاضل :
لأول مرة احسست رهبة في الغابة ، وكأن طيفا غير طيفك يلازمني
ضحك أحمد وقال :
ولأول مرة توهمت أن حيوانا مفترسا سيداهمني وانا عنك بعيد ..
يبدو أن كثرة الحديث عن وباء كورونا قد ولد لدينا مشاعر وأعراض هي ما سببت قلقنا ،خوفنا وأوهامنا ..
سارا خطوات وهما جنبا الى جنب ثم قال فاضل :
ما أضعف الانسان في نفسه !! .. أحاديث عن فيروس قد يجد له العلماء دواء، يحدث لدينا رهابا يثير خيالاتنا ، ويغير علاقاتنا وسلوكاتنا ، فكيف بالموت الذي يهددنا ولا دواء له ؟؟ أنها لحقا تجربة صادمة ..
صمتا معا ،وكل منهما يتيه مع إحساساته ، كان فاضل يتذكر لحظة رحيل والدته كيف كان يتمسك بها وهو لا يدري المصير ، تلك الرائحة ، رائحة لحظة الوداع ،لازالت تملأ خياشيمه بعد عشر سنوات على موتها ،
فراغ قاتل خلفه غيابها في قلبه وعقله وذاكرته ، كم أوهم نفسه انه قد نسي تلك اللحظات العالقات بعيونه ،وهم يحملون أمه على محفة الى مثواها الأخير ..وهو يمشي الآن يستعيد مقابر الموتى التي كانت تزداد وتتضاعف
كلما ترحم على والدته ..تنهد بعمق وهو يتذكر تحذيرات مذيع الاخبار
كيف ان كورونا تهاجم الشيوخ المصابين بمرض مزمن قبل غيرهم ..
ثم تبسم من بين طيات حزنه حين تذكر ملحمة جلجاميش وهو يبحث عن نبتة الخلود ؛همس لنفسه : "الموت مرعب حقا ، وهزته عنيفة ، وكم هو مؤلم أن ينفك الانسان من الحياة بعد أنسها وصخبها .. الايمان بالله وحده يلطف ويخفف صدمته .. تنهد وقرا بصوت كاد أن يكون همسا :
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ..
.أدرك أحمد أن صديقه غارق في تفكيره ،لا شك أن أموات المرض الفتاك في دول غربية متقدمة ولها إمكانات هائلة قد جعلته يخاف على أبناء الوطن ويستعيد يتمه بعد موت والدته بسرطان الكبد ، يصمت ويستغرقه تفكير عميق ،وتلك هي حاله كلما أثير الموت على مسامعه ..
تقدم أحمد عن فاضل بخطوات وهو يتملى الطبيعة أمامه ،وقد برعمت بخضرة ، والغابة وقد امتدت تستعيد جمالها الأخضر بعد اصفرار الخريف وتعرية فصل الشتاء ؛ تساءل: ترى كيف كان أجدادنا الأولون يستمتعون بهذا الجمال الذي تعلن عنه الطبيعة في أواسط مارس ؟ لاشك أن الطبيعة كانت قاسية لم تبدع فيها يد تنمية ولا صناعات فلاحية ولا تكنولوجية ، لم يعرف أجدادنا أسمدة غير روت البقر و الغنم ،لهذا كانوا لا يخشون تسمما غذائيا أو يستشعرون رعب الموت .بجراثيم كيماوية يدمر بها الانسان إنسانا حبا في الهيمنة ؛ لم تكن الحياة لديهم أعجوبة كما صارت لنا اليوم ، فايمانهم بخالقهم او بالطبيعة أو بكل معتقداتهم كانت فلسفة لحياتهم هي الرضى بقناعتهم، كل وما يعبد ،و هو في عمقه مركوز ، سيان أشهر ايمانا أو أخفاه .. فغايته صيانة روحه ،وفي هذه الصيانة كل حاجاته الوجودية ..
بلغا الى نقطة وصولهما اليومي ، تنفسا بعمق ورأسهما الى أعلى وكأنها يعبان من الغابة هواء السماء واريج النبات ..
قال فاضل : ما اجمل الحياة ياصديقي ..اللهم لطفك من غمة القبر
رد أحمد وقد جمع بين حاجبيه مستغربا دعاء صاحبه :
ـ هل القبر يسبب لك كل هذا الرعب ؟ هي ومضات وينتهي كل شيء
هو موت الوالدة لازال يؤرقك ..
رد فاضل : أكذب لو قلت لا ..فقد أحسست بعد موتها بشيخوخة عمري
كل ما حولي صارا جافا بلا معنى ، ويوم تزوج أبي أدركت ان حياتي قد سلبت مني، الى اليوم لم أنسها ..
تنهد بغصة ثم قال وكأنه يتعمد أن يبعد صديقه عن ذكرى تؤلمه :
دعنا نسرع الخطى قبل ان تفاجئنا الشرطة بطلب إذن الخروج ، فالتجوال لازال ممنوعا بلا سبب ،حماية من تفاقم انتشار العدوى ، و حفاظا على
أرواح الناس ..
تمشيا قليلا ثم قال أحمد : بعد هذا الوباء ستتغير كثير من الأشياء ،فقد كنا في حاجة الى الضبط الذي فقدناه حتى صارت بعض مدننا تسيبا
بلارادع ، بين ناهب ومتهاون ، والأكاذيب تملأ كل بوابات التواصل الاجتماعي ، وبعض المتنطعين أرادوا ان يركبوا منع الصلاة في المساجد احتراسا من تسارع العدوى لاظهار نواياهم وكان غيرهم هم اقل اسلاما وايمانا منهم .. ناس لم يأخذوا من الدين الا القشور والمظاهر، أما عمق الدين وفلسفته فقد ضاعت بين الأطماع والمصالح .
صمت قليلا ثم تابع : ورغم ذلك فالوباء بكل قسوته وخطورته قد فتح عيوننا على ذواتنا ، فلا يمكن أن نغط الطرف على ما أيقظه من شعور بالمواطنة ، وتحفيز على التضامن ،وان كشف فقر بنياتنا الصحية عند المخاطر والتحديات ، فنحن أكثر من أي وقت مضى في حاجة لدفعة حيوية للاستثمار في مجال البحث العلمي ، فهو بوابة تقدمنا وتحقيق أمننا ..
رد فاضل وكانه يؤمن على كلام صديقه :
معنى هذا يا صديقي أننا في حاجة الى نخبة فكرية وثقافية ، تدرك مسؤوليتها في إرساء قواعد نظام معرفي جديد يقوم على صرامة العدل ،بعيد عن أحزاب تآكلت، وماعادت تنفع قشورها الوهمية ، وعن انظمة اقتصادية صارت هشة ، ونقابات شاخت لا تجتر الا ماضيها ..
قال أحمد : رياح التغيير آتية لا محالة ، تجرها العدوى خلفها ،وستفرز أنظمة عالمية اقتصادية واجتماعية جديدة ، ولاءات جديدة ، وقوى عالمية جديدة ..أظن أن ما "قبل كورونا لن يكون ما بعد كورونا "



#محمد_الدرقاوي (هاشتاغ)       Derkaoui_Mohamed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- امنحيني فرصة
- منك أريد ولا اريد
- رجومك قادفات
- عطر...من بصل
- مابعد الحلم (ج2 من حلم الفيل )
- ليس أبي
- حلم الفيل
- اسألوا جانيت مربيتي (2)
- اسالوا جانيت مربيتي (1)
- لا رحمة في ليلة عشق
- استنبات
- هل أنا لديك اكتفاء؟
- بلا اثر
- الثعلب
- بداية سمفونية
- العرافة
- حبي ليس نزوة
- الله يرحم عمي سليمان
- رسالة مخفية
- جدتي


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الدرقاوي - تجربة صادمة