أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الدرقاوي - بلا اثر















المزيد.....

بلا اثر


محمد الدرقاوي
كاتب وباحث

(Derkaoui Mohamed)


الحوار المتمدن-العدد: 6492 - 2020 / 2 / 16 - 00:16
المحور: الادب والفن
    


اربع مرات يوميا تقطع هذه الطريق بين البيت والمدرسة ، بنفس المشاهد تتكرر ،ونفس الأشخاص يخرجون خفافا صباحا ،كما يعودون أو لا يعودون في المساء ، صورة يومية مملة ،شتاء اذا زف ريح أو صب مطر، وصيفا اذا يبس الشيح وجف الواد وذبل الشجر ..
يوميا تمر عبر قنطرة خشبية لتلتحق بشبه مدرسة من حجرتين : حجرة للدراسة، وأخرى اصغر منها اتخذها الأستاذ مأوى ، المدرسة تناساها مديرها مكتفيا بمعلم يمارس فيها كل شيء فهو المدير والأستاذ وهو الحارس والمنظف كما هو الفقيه كاتب تعاويذ المرض ،وجداول فك السحر وطلاسم الجلب ، و هو كذلك امام محل للصلاة ،في غرفة للمتلاشيات المنسيات بين الاكواخ المتناثرة حول المدرسة ..
لا تذكر ربيعا طال في القرية ، فربيع القرية مات من يوم فقدت صديقها بطريقة غرائبية ..كانت تجري وهو يلاحقها، تصلها ضحكاته من خلفها ، وكلماته تملأ الفضاء :
ـ ساصل اليك .. ولو أنك خرجت قبلي .. انتظري سناء،انتظري ..
كانت تحاول أن تسبقه ،لكن في قرارة نفسها تتمنى لو يمسك بيدها ، يلتصق بها ،ثم يتابعان الطريق ؛ كانت أحاديثه اليها مفعمة بالحياة والأمل
ـ لو نرحل الى قرية أفضل ، بها مدرسة أحسن ، فيها معلم لاساحر يستغل فقر القرية وصمت الناس ...
كانت تحمل له عاطفة خاصة هي مزيج صداقة وأخوة وحب ينمو ...
فجأة تزفر هبة ريح فينقطع صوته ..تلتفت فلا تجده ، توهمته قد اختبأ في مكان ما .. لكن ليس في الطريق حقل ولا شجر ، لا بيت ولا خربة أو مخبأ كيفما كان ، حشائش خضراء من بقايا ربيع اطل ثم اختفى بسرعة ، حتى خشاش الأرض عصفت به رياح الشرقي فما عاد له على الأرض من اثر ، فقط سيارة مسرعة مرقت كالسهم ، تركت وراءها سحابة من الغبار كما تمر سيارات النقل العشوائي التي تتصيد المتنقلين وما اقلهم بين القرية المنسية والمدينة ..
نادت ، صاحت ، بكت .. دارت أكثر من دورة حول نفسها ..لا اثر له ، فقط صدى ترجيع صوتها ما يعود اليها ، كأن الأرض قد انشقت وبلعته ، أو كأن سحابة الغبار قد لفته بين عجاجها المظلم ،ثم عصفت به ريح الشركي العاتية حيث لا يعلم أحد ..لم يصل الى المدرسة فتجده ، ولا عاد الى البيت فيخرج اليها كما تعود كل صباح وهو ينتظرها بالباب ، وهي لهفة شوق الى لقائه ..
هاجت القرية وماجت ، لا سكان القرية وجدوا اثرا يدلهم عليه ، ولا الدرك اهتدى لدليل يكشف اين اختفى ؟ما ء قد تبخر وما ترك اثرا من ضباب ولا سحاب ، أو حتى سراب خادع قد يبعث أملا في ايجاده ..
كانت سناء طفلة صغيرة تجاوزت السابعة بقليل من عمرها ، عينان سوداوان واسعتان ، وشعر كستنائي على الكتفين مسدول في قوام معتدل ، لون قمحي تضيف له رشاقة الجسم خفة جعلتها لا تسير الا وهي تقفز ، او تنط لاهية على قدم واحدة . لا تعبأ بالأرض المتربة القاحلة ، ولا بالرياح الهوجاء الدائمة ، فقد تعايشت مع كل ذلك كما تعايش أهل القرية مع أكواخهم الحقيرة المتباعدة ،وارضهم العقيم الصخرية ، وفقرهم المدقع الذي جعلهم متوثبين لكل وافد على القرية جديد يبحث عن خادمة ..
التحقت بالمدرسة كما يلتحق الذكور من أطفال القرية ، وقليل من البنات في بداية كل سنة ، وكلما تقدمت الأيام قل عدد البنات بالمدرسة فلا يبقى منهن غير ذات علة و احتياج ،أما الأخريات فقد التحقن بالمدينة خادمات حتى اذا ما بقي غير بعض الذكور وحدهم تركوا المدرسة بدورهم لاستاذهم الذي يحول الحجرة الدراسية الى خم لتربية الدجاج والارانب ومكان لعلف بعض الأغنام والعجول مما يأتي به طالبو خدماته السحرية من خارج القرية ..
كثيرون حاولوا اغراء سناء بمصاحبتهم الى المدينة ، لكنها كانت تمتنع باصرار ،فان تجوع وهي حرة مع أمها وابيها خير لها من ان تشبع وهي خادمة ،محكومة بأوامر غير والديها .. ثم كيف تستطيع بعدا عن رفيقها وهو متنفسها في قرية كل ما فيها يلف بالضجر والملل ..
توقفت سناء عن الذهاب الى المدرسة فبعد الهزة القوية التي غيبت صديقها والتي احتار فيها أهل القرية جميعا ، فقد الناس ايمانهم بما يتعلمه أبناؤهم ، فاذا كان المعلم نفسه وهو من كان يتعاطي كتابة الجداول واتقان التربيعات واستنطاق أبالسة المندل على أكف الصبيان لم يهتد للجن الذي خطف ابنهم ،فما جدوى السلطة الوهمية التي يتمتع بها بين اهل القرية ؟
صارت سناء تقضي نهارها بأمنيات يومية كاذبات في عودة صديقها ، وتستغل نوم أبيها وامها ليلا لتزحف على أربع ، وتقف وراء كوة صغير ة خارج الغرفة ،تصخي السمع وتراقب اشباح الليل ،عساها تجود بخبر عن الرفيق الغائب ..
بدأت القرية تنشغل بالحياة اليومية العسيرة عن طفلها الحاضرالغائب وكلما تتسلل الى نفوس الاهل كماض أليم ، زفروا حسرة ، أو فاضت عيونهم دمعا ،فالطفل كان بهي الطلعة ،ذكي الفؤاد ،قوي الشخصية ، كان يرفض الجلوس الى معلمه كما كان يجلس غيره من الأطفال كوسيط بين المعلم والجني وقد مدوا أكفهم في مندل ، كما كان يتعفف عن سؤال من جلسوا بين يدي الأستاذ عن حقيقة ما كانوا يرونه في الجدول الذي خطه على أكفهم الصغيرة ..
الأستاذ وحده كان يؤمن ان الطفل ربما تم خطفه من قبل الجن لانه كان يشكك في وجودهم ، ويمتنع أن يصير وسيط كذب بين الأستاذ وطالبي الأغراض كما كان يفعل أترابه في المدرسة مقابل حلوى أو فاكهة جافة أو كسرة خبز مما يفيض عن حاجة الأستاذ ..
هذه ليلة من ليالي الشتاء الطويلة ، أعاصير الرياح كصواري سفن البحر ترفع معها الرمال وتزحزح الحجارة الكبيرة ، و الأمطار كشلالات غاضبة تقتلع الطريق وتعمق حفرها ..وتمازج عواء الذئاب مع قوة الرياح ، وكأن كل منهما يرد الصدى على الآخر كرد تلقائي على ألفة خاصة ؛ أحست سناء وهي من وراء الكوة التي تلازمها كل ليلة برهبة تسري في جسدها ، ثم تقبض على صدرها كأنها تعبان مجنون يتجاوز قوة احتمالها ، حاولت أن تعود لفراشها فخارت قواها ، تنهض فتسقط ...
بلاحراك تمددت على الأرض ،عينان جاحظتان بللهما الدمع ، وانفاس متقطعة تكاد توقف قلبها عن الوجيب .. بين غيبوبتها وثنايا الظلام
رات سيارة تخترق العاصفة ، من بابها المفتوح تمتد يد قوية وتشد صديقها من رقبته الى قلب السيارة ..
طلع نهار جديد وقد احتارت ام سناء في أمر ابنتها .. من حملها الى خارج الغرفة ؟وما سبب غيبوبتها ؟ما علة هذا الامتقاع الشديد الذي يغطي وجهها بصفرة خرقومية جعل الطفلة كانها جثة محنطة بلا روح ؟
لا رائحة البصل ايقظتها من غيبوبة ،ولا تعاويذ الأستاذ الذي اقبل مهرولا لانقاد تلميذته قد نفعت في انتعاشها ...
يومان كاملان بليلهما ونهارهما وسناء غائبة حتى اذا استعادت أنفاسها ، فتحت عينيها وهي تبكي بغصات تصّعَّد من صدرها ، بادرت الام اليها ، احتوتها بين أحضانها ، أحست وكأن شمسا وهاجة تلتمع في وجه ابنتها ، سقتها ماء ، ثم اعطتها بيضة مسلوقة عساها تنعشها قليلا .. طوقتها بيديها خوفا من أن تعاودها الغيبوبة ، وهي تحمد الله على ان وحيدتها قد استعادت أنفاسها ..سمعتها تتمتم:
ــ رايته يا مَّا ،رايته ..
توهمت الام أن بنتها تهذي من حمى ، وضعت يدها على جبهة سناء ، ليس على الجبهة غير عرق بارد ينز ويسيح على صدغيها ، مسكت بيدها وهي تسأل في لهفة :
ــ رأيت من يا حبيبتي ؟، بسم الله عليك من كل وسواس وشر الناس..
ظلت عينا سناء نصف مفتوحتين ،وهي تهمس بكلمات كأنها تصدر من قعر بئر :
ـ رأيت إدريس ، خطفته يد امتدت من قلب السيارة التي مرت مسرعة كالبرق وتركت غبارا قويا ، ثم رايته يتحرك في محطة قطار وكأنه خائر القوة ،مسلوب الإرادة ،يمسك بيد رجل يجره وادريس لا يدرك ماحوله ..
ورايته مرة ثالثة وهو في مخزن للتموين قرب نفس محطة القطار، لم يكن وحده ، أولاد وبنات في المخزن نائمات أو ميتات لا أدري ..
مسحت الام جبهة ابنتها بمنديل مبلل بماء ،لفتها بغطاء بعد أن شرعت تهتز بين يديها وكأنها تقشعر من برد ، ارخت سناء جبهتها على صدر أمها ثم غابت في نومة عميقة ..
وصل قطار المدينة الليلي متأخرا بساعتين عن موعده المعتاد ، ترجل العميد القادم من مهمة بالعاصمة الى مقهى المحطة ، طلب قهوة في انتظار وصول سيارة ابنه ..وهما خارجان من المحطة قال الابن :
ـ رائحة كريهة تنبعث من احدى المخازن القريبة من المحطة
قال الاب : الحي جديد ربما احدى الكلاب الضالة قد مات بناية غير مكتملة .. صمت قليلا ثم أضاف: اين ؟
عرج الابن بالسيارة يسارا حيث بعض المتاجر الحديثة ومخازن للتموين بالجملة ، بخبرة الاب العميد أدرك ان الرائحة قد تكون من طبق تحت أرضي ، حين ترجل من السيارة اقبل عليه حارس ليلي يتسقط عما يريد ،
سأله العميد عن مالك أحد المخازن ، فتظاهر الحارس أنه لا يعرفه ؛
تدخل الابن مخاطبا الحارس : انت مع السيد العميد وهو يسألك فاجبه بوضوح ؛بدأ الحارس يتلعثم وباشارة من العميد تنحي الابن بعيدا ، أخرج هاتفه وكلم أحدا ثم عاد ..
في اقل من عشرة دقائق كانت سيارة شرطة تقف بالمكان ، نزل منها أربعة رجال بزي مدني ، بلا ضجة ساقوا الحارس الى مخفرالشرطة ولحق بهم الابن بسيارته ومعه والده ..
لم يكن عميد الشرطة ولا كل من اشتغلوا معه لفك خيوط القضية يتصورون بعد ان تم فتح أحد المخازن ، ان يكون المخزن متكونا من طابقين تحت الأرض ،وان المخزون ليست سلعا فاسدة أولحوما نتنة وانما جثت صبيان وصبيات قد اسملت عيونهم وبترت كلاهم وقلوبهم ..



#محمد_الدرقاوي (هاشتاغ)       Derkaoui_Mohamed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثعلب
- بداية سمفونية
- العرافة
- حبي ليس نزوة
- الله يرحم عمي سليمان
- رسالة مخفية
- جدتي
- أهواك
- أرض خصبة لم تكن موعودة
- احزاب...ولكن
- لبيته لن أعود
- نملة
- جف في بيتكم زمزم
- العدة وقلة القبض
- قلب المحارة درة
- شوك صبار
- قهوتي
- ليلة ليلاء
- أعطيني نفسك
- تفاحة


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الدرقاوي - بلا اثر