محمود يوسف بكير - كاتب وباحث في الشئون الاقتصادية والإنسانية - في حوار مفتوح مع القراء والقارئات حول: بعض أفكار ماركس وهل تصلح للتطبيق وكعلاج لمشاكل الرأسمالية.

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 6458 - 2020 / 1 / 7 - 19:57
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة، وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى، ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء، تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا رقم  227 سيكون مع الأستاذ د. محمود يوسف بكير - كاتب وباحث في الشئون الاقتصادية والإنسانية - حول: بعض أفكار ماركس وهل تصلح للتطبيق وكعلاج لمشاكل الرأسمالية.




عندما تفشل أي منظومة فكرية جديدة في إحداث أي نوع من التغيير الإيجابي في المجتمع فإنه يفترض أن ندرك على الفور أن هذه المنظومة والعدم سواء. وبكلمات أخرى فإنه عندما نؤمن بشيء ونكتشف مع الوقت أنه غير ذي جدوى، فمن البديهي أن نعي أن هذا الشيء غير موجودا من الناحية العملية في حياتنا حتى ولو كان موجودا بالفعل لأنه لا يزيد عن كونه نوع من خيال المآته كما نقول في مصر وهو ديكور لإخافة الطيور يستخدم في الأرياف، ولكن الطيور لا تلبث أن تكتشف إنه وهم. أما العقل الأيديولوجي الذي تسيطر عليه قناعات وتفضيلات تفتقر عادة إلى البرهان العلمي والعملي ولا يكون لها أثر إيجابي ملموس في حياة الناس فإنه كثيرا ما يقاوم ما فعلته الطيور.
أثناء دراستي الجامعية في مصر قرأت عدة كتب عن ماركس والشيوعية جعلت مني شيوعيا متطرفا ومن مريدي ماركس خاصة أفكاره الفلسفية التي تتسم بالعمق والنزعة الإنسانية ورهافة الحس بالمظلومين والبؤساء والمخدوعين بالتحالف الجهنمي بين الرأسمالية الليبرالية ونظم الحكم المستبدة والمؤسسات الدينية الرجعية.
ولكن بعد تخرجي وسفري إلى ألمانيا الغربية "وقتها" استغربت أن فكر ماركس لم ينتشر في الغرب بما فيها موطنه ألمانيا وبدلا من هذا انتقلت أفكاره إلى أنحاء شتى من العالم.
وعلى عكس ما أراد ماركس أدت أفكاره إلى إحداث آثار اقتصادية مدمرة في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق والصين وفيتنام وكوريا ولاوس وكمبوديا وكوبا وصلت إلى حد المجاعات. وأنا شاهد عيان على المعاناة الشديدة التي عاش فيها الجزء الشرقي من ألمانيا الذي زرته أثناء بعثتي، كما زرت روسيا وكازاكستان وأوزبكستان قبل انهيار حكم جورباتشوف ولا يمكن أن أنسى مشهد طوابير الغذاء الطويلة والتي كانت تبدأ قبل الفجر وسط درجات حرارة تحت الصفر.
جعلتني هذه المشاهد أراجع أفكاري الشيوعية وأقرأ أكثر، وبدأت أتحرر تدريجيا من منهجية الفكر الأيديولوجي المتعصب وأنتقل إلى المنهج الأكاديمي النقدي الحر الذي تعلمناه من الألمان بعد أن تعلموه هم بشكل عملي من تجربتهم المريرة مع هتلر والتي أدت إلى تدمير ألمانيا وتقسيمها بعد الحرب العالمية الثانية.
ولا زلت أتساءل هل كانت مصادفة أن تمر كل الدول التي احتضنت الفكر الماركسي بهذه المحن وأن تسقط تحت أنظمة حكم استبدادية دموية وما الخطأ الذي حدث؟ وكيف هرولت هذه الدول بمثل هذه السرعة إلى أحضان الرأسمالية؟
أعرف أن الكثير من الأخوة الشيوعيين سيقولون إن الفكر الماركسي صائب دائما وأن المشاكل أتت من التطبيق الخاطئ، ولكن أليس هذا هو نفس المنطق العبثي الذي يردده السلفيون الذين أضاعوا بلادهم وشعوبهم عندما يقولون إن العيب ليس في الإسلام ولكن في المسلمين! أوليس من المفترض أن تؤدي القيم والمبادئ التي تأتي بها أي منظومة فكرية جديدة وملهمة بحق إلى تغيير سلوكيات وقناعات المجتمعات التي آمنت بها؟ وإلا فما قيمتها؟ وما معنى أن تفشل كل الدول التي ذكرتها في التطبيق دون استثناء واحد؟ أم أننا إزاء شيء معضل وغير قابل للتطبيق أصلا وعندما تمت محاولة تطبيقه عنوة تعرض النظام للانهيار السريع؟
وحتى يكون نقدي بناءا وعمليا فإنني سأناقش بشكل موجز ومحدد فكرتين أساسيتين من أفكار ماركس ربما يكون فيهما الرد على الأسئلة التي طرحتها أعلاه بخصوص المذهب الشيوعي:



أولا، في مسألة نظرية فائض القيمة


وباختصار شديد فإن ماركس رأى أن هناك جزءا من وقت العامل مخصص فقط لتحقيق ربح للرأسمالي الطفيلي على حد تعبير ماركس، بمعنى أن عائد هذا الجزء يذهب إلى الرأسمالي دون أن يعمل شيئا بدلا من أن يذهب إلى العامل باعتبار أن العمل هو أساس القيمة بحسب نظرية ماركس. ولابد هنا أن نتمعن في آلية عمل عوامل الإنتاج الأربعة التي يقوم عليها البنيان الاقتصادي وهي الأرض ومواردها المختلفة، والعمل بأنواعه، ورأس المال المادي والنقدي وأخيرا الادارة والتنظيم وهي المسؤولية التي يتولاها الرأسمالي عادة.
وهنا نجد أن العناصر الثلاث الأولى تتقاضى دخولها قبل الرأسمالي وحتى قبل تحقيق أي أرباح حيث يكون المنظم الرأسمالي ملزم بسداد قيمة إيجار الأرض أو شرائها وبسداد أجر العمال والموظفين والمهندسين والمحاسبين...الخ وبسداد الفوائد والاقساط المستحقة على القروض التي قد يحصل عليها لشراء الآلات والمعدات والمواد الخام ....الخ هذا بالإضافة إلي تجنيب المخصصات الأخرى التي تتطلبها العملية الإنتاجية مثل التأمين والضرائب و الإحلال والتجديد....الخ وإذا ما تبقى أي فائض بعد سداد كل هذه الالتزامات أو تحققت خسائر فإنها تكون من نصيب الرأسمالي لأنه هو ألمسؤول عن العملية الإنتاجية ويخصص لها كل وقته وجهده وهو الذي يتحمل كل مخاطرها ولذلك فإنه آخر من يتقاضى عائده. والأهم من هذا فإننا في البنوك نحرص على أن يساهم المنظم الرأسمالي بجزء من أمواله يفضل ألا يقل عن الربع من تكلفة إقامة المشروع حتى نقبل أن نمنحه أي خطوط ائتمان والتي تكون عادة بضمانات عينية مقدمة منه.

ويوضح المثال السابق والمبسط جدا الدور القوي والهام الذي يلعبه المنظم الرأسمالي في العملية الإنتاجية والذي بدونه يصعب تصور إقامة أي مشروعات ناجحة خاصة تلك ذات المخاطر الكبيرة التي لا يتحملها العمال ولا صاحب ملكية الأرض ولا البنوك. وبالرغم من هذا فقد شبه ماركس هذا الرأسمالي بمصاص الدماء.
كما أن ماركس تجاهل حقيقة أن الأموال التي يساهم بها الرأسمالي في العملية الإنتاجية هي نتاج عمل سابق وليس نتاج عمليات نصب واحتيال. وأود أن أضيف هنا أننا كاقتصاديين نفضل أن يتم تمويل المشروعات برؤوس أموال عوضا عن الاستدانة من البنوك هذا بالرغم من عملي في البنوك أيضا لفترة من حياتي العملية، والسبب في هذا أن عمليات الاقتراض تحمل المشروع بأعباء فوائد مركبة لا تنتهي أبدا سواء كان الاقتراض من البنوك التجارية التقليدية أو ما يسمى بالبنوك الإسلامية فلا فارق بينهما سوى المسميات. والبنوك كلها تقدم قروضها بفوائد وبضمانات بمعنى أنه مهما أكدت الدراسة الائتمانية على أهمية ونجاح المشروع فإن القروض لن تقدم إلا بضمانات وهي ذات أنواع عديدة يعرفها كل المصرفيين. والأخطر من هذا أنه في حال تعثر المنظم الرأسمالي عن سداد الفوائد أو الاقساط في موعدها فإنه يحق للبنوك أن تصفي المشروع وتشرد العمال وأن تخرب بيت المنظم من أجل الحصول على مستحقاتها.
ولكل ما سبق فإننا نعتقد أن ماركس ظلم غالبية الرأسماليين الذين هم أساس النهضة الكبيرة التي حصلت في الغرب والآن في باقي دول العالم بما فيها الصين وروسيا. وبالنتيجة يمكن أن نقول هنا أن القيمة ليست في العمل وحده كما قال ماركس ولكن في كل عوامل الإنتاج مجتمعة كما ألمحنا سابقا.



ثانيا، في مسألة المساواة في الشيوعية


المساواة بين الناس شيء جيد بشكل عام ولكن عندما ندخل في التفاصيل نجد أن تحقيق المساواة الكاملة أمر صعب المنال. ومبدأ المساواة حلم قديم للبشرية منذ أيام آمون رع وكل الأنبياء ولكنه أخذ زخما كبيرا على يد ماركس وإنجلز في القرن 19 عندما أصدرا المانيفستو الشيوعي وفيه تصورا أن الطبقية والملكية الفردية سوف تزولا تماما في المرحلة الأخيرة من تطور الشيوعية.
والسؤال هل يمكن تصور حدوث هذا وأن يكون كل الناس سواسية أي القوي مثل الضعيف والمجتهد مثل الكسول والعبقري مثل المعتوه والمنظم مثل الفوضوي والعالم مثل الجاهل والعامل المنتج مثل العامل البلطجي؟ ألسنا بهذا نقتل الحافز الفردي للاجتهاد والتفوق؟ وفي هذا فإن لدينا في الاقتصاد نظرية تثبت أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من التداول بمعني أن العنصر السيء عندما يجاور العنصر الجيد في أي معادلة حياتية فإن العنصر الرديء يدفع العنصر الجيد إلى التقوقع والعزلة ثم الاختفاء. وهذا ما ينتج عادة من مساواة المجتهد بالكسول. وأيضا هل يمكن أن نقتل غريزة الطمع وحب التميز لدي البشر وأن نتحول إلى ملائكة كما تصور ماركس من خلال مقولته الشهيرة من كل بحسب قدرته ولكل بحسب حاجته؟ ولإيضاح صعوبة هذا لك عزيزي القارئ أن تتخيل مصنعا على وشك الافتتاح في ظل النظام الشيوعي، يفترض هنا أن نقوم بقياس قدرة كل عامل على العطاء وحجم احتياجاته قبل أن تبدأ العلمية الإنتاجية حتى نعرف حجم الإنتاج المتوقع وكيفية توزيعه بشكل عادل وفق معادلة ماركس.
كيف يمكن هنا تحديد قدرة البشر على العطاء بشكل دقيق وموضوعي؟ وكيف يمكن وضع حدود لحاجات المحتاجين وغير المحتاجين اللانهائية؟ ومن يقوم بكل هذه التقييمات بشكل مقبول للجميع في ظل النظام البدائي البسيط الذي صوره ماركس للمجتمع الشيوعي والذي يغيب فيه أي شكل للدولة وتسيطر فيه لجان العمال على كل شيء؟
في رأينا المتواضع أن فكرة المساواة الكاملة التي ستنتهي إليها الشيوعية تتناقض تماما مع الطريقة التي يعمل بها الكون منذ الأزل والذي يتصف بالتنوع الشديد والفوارق والمراتبية بين كل مخلوقاته ولذلك يتميز كل مخلوق ب DNA مختلف حتى عن توأمه ويستحيل أن نطلب من الناس أن يتصرفوا بطريقة معينة وهم مخلوقين بطريقة مغايرة. وكذلك لا يمكن تجاهل أثر اختلاف ظروف النشأة والبيئة والتعليم على سلوكنا وردود أفعالنا. فإذا أردنا حقيقة أن نحقق المساواة التي تصورها ماركس فعلينا إما أن نغير ال DNA للبشر حتى نساوي بينهم جسمانيا وعقليا ونفسيا أو أن نتعامل مع الاسباب المنتجة للفوارق بينهم. لأن كل ما يحدث في عالمنا هو نتاج أسباب معينة، وبناءا عليه فإن ما يحدث لنا هو شيء حتمي لا نستطيع أن نغيره بسهولة طالما أن أسبابه قائمة ولا زلت تعمل.
والخلاصة أن المساواة الكاملة لا يمكن أن تتحقق من خلال فرض نظام معين ولكنها تتحقق بالتعامل مع الأسباب كما أوضحنا.
ومرة أخري نتساءل، هل من المنطق في شيء أن نساوي بين القادرين وغير القادرين وأن نسخر القادرين والمؤهلين على العمل من أجل اشباع حاجات غير القادرين وغير المؤهلين والتي قد تفوق احتياجاتهم حاجات القادرين؟ أليس في هذا نوع من المفارقة وتثبيط لهمم القادرين على العمل؟ أليس من الأفضل أن ندعهم يعملون ويتميزون بشرط أن يدفعوا ضرائب على مكاسبهم تستخدم في دعم وتلبية حاجات غير القادرين؟

نرجو ألا يفهم من نقدنا السابق أننا من أنصار الرأسمالية خاصة في شكلها المتوحش الحالي فنحن من المؤمنين بحتمية الحل الاشتراكي لعلاج مشاكل الرأسمالية المتفاقمة على مدار الثلاث عقود الماضية ومن أهمها فجوة الدخل والثروة بين الأغنياء والفقراء والمتزايدة بمعدلات مقلقة وإغراق النظام النقدي العالمي بالقروض والإصدارات النقدية الرخيصة التي يستفيد منها الأغنياء وحدهم والأخطر من هذا السماح لهم باستخدام هذه القروض والإصدارات الجديدة في عمليات مضاربة على مدار الساعة في كل الأسواق المالية والسلع والخامات والخيارات والمشتقات المالية لتحقيق مكاسب من لا شيء، بالإضافة إلى مشكلة إهمال التنمية البشرية لفئة العمال والموظفين ذوي المهارات المحدودة خاصة فيما يتعلق بالتعليم والرعاية الصحية والإسكان، وهؤلاء لا يعانون فقط في الدول الفقيرة ولكن هنا أيضا في الدول الغنية، هذا بالإضافة إلى مشكلة التغير المناخي التي أصبحت تهدد الحياة على الأرض بسبب التلوث البيئي الناتج عن المبالغة في استنزاف موارد الارض وحث الناس على الاستهلاك بشكل مجنون لكم هائل للبضائع التي لا يحتاجونها.

نحن من المؤمنين بأن الاشتراكية الديموقراطية هي الحل لكل أوجاع الرأسمالية لإن الاشتراكية نظام اقتصادي اجتماعي بالأساس وليس نظاما أيديولوجيا كما الشيوعية. والاشتراكية تقبل بالمجتمع الطبقي الرأسمالي الذي تلعب فيه الحكومة دورا أساسيا كما هو الحال في الدول الإسكندنافية في شمال أوروبا حيث يدار كل من الاقتصاد والمجتمع بشكل ديموقراطي يرعى مصالح الجميع خاصة الفقراء. وأدوات الحكومة في هذا هي الضرائب المتصاعدة على الأغنياء لتوفير كل الخدمات الأساسية لمحدودي الدخل مثل التعليم الجيد والرعاية الصحية والإسكان الآدمي. وحد أدني للأجور ومنح اعانات للبطالة ومعاشات جيدة وحماية محدودي الدخل من الاحتكارات وانفلات الاسعار.
وهذا بالضبط ما تحاول كل الاحزاب الاشتراكية الديموقراطية فعله في الغرب كنوع من إعادة توزيع الدخل والثروة لصالح محدودي الدخل.

والخلاصة أن الديموقراطية الاشتراكية تملك أدوات وسياسات الإصلاح الحقيقي لمشاكل الرأسمالية وهي بذلك أفضل من الشيوعية في الحفاظ على استقرار وسلامة كل المجتمعات من ديكتاتورية البروليتاريا والحلول الدموية والثورات العنيفة التي رأى ماركس أنها الحل الوحيد لتحقيق العدالة الاجتماعية ونصرة العمال والقضاء على الطبقية والملكية الخاصة وفئة الرأسماليين.
كما أن الرأسمالية وحدها بالرغم كل ما تتمتع به من ديموقراطية وشفافية وقضاء مستقل لم تعد تعمل إلا لصالح الأغنياء وهي بحاجة للبعد الإنساني الذي تنادي به الاشتراكية وتعمل من أجله.

أتمنى أن يحظى الموضوع بحوار علمي هادئ ومتحضر يكون هدفه تبادل الخبرات وطرح المزيد من الآراء حول موضوع المقال بهدف الوصول الى ما هو أفضل للبشرية ولمجتمعاتنا.