|
|
ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 4
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 6387 - 2019 / 10 / 22 - 00:18
المحور:
الادب والفن
لعلنا ذكرنا فيما مضى، أنّ منزل السيّد نيّو يقوم في الجانب الأيسر من مدخل الزقاق، وكان على مساحة واسعة من الأرض ـ كأغلب بيوتنا في ذلك الزمن، وكان أصحابها يتفاخرون بذلك قدّام كل قريبٍ قادم حديثاً من الوطن. في فترةٍ لاحقة، سيبيع هذا الدركيّ المتفاخرُ القسمَ السفليّ من المنزل، فيغدو جيرانه من آل " بلدية "، المنتمين لعشيرة آله رشي. بينما جيرانه من الأعلى، من آل " علكي " الآله رشية، عليهم كان أن ينتظروا ردحاً آخر من الزمن قبل أن يحلوا في الزقاق مع شرائهم من جدّنا لوالدتنا أحد عقاراته العديدة. ولكننا تركنا الدركيّ وهوَ قادمٌ إلى أصغر ولديه، بهدف إقناعه بدخول المدرسة العسكرية للفرسان كي يتخرّج منها صف ضابط. كان الوقتُ مساءً، والابنُ ينظر في ساعة جيبه ذات السلسال الذهبيّ وقد آنَ أوان خروجه إلى سهرته المعتادة مع الأصدقاء. مثل حال قريب أبيه، السيّد أوسمان، فإنّ الشاب عقد علاقاته الاجتماعية مع أولاد القسم الغربيّ من الحي، المرهفين والمرفّهين، المتباهين بالتكلم باللهجة الشامية وركوب الحنطور ليلاً إلى أماكن اللهو في مركز المدينة. " أريد منك أن تسمعني جيداً، ولتدع مؤقتاً ساعتك في جيبك "، قال الدركيّ لابنه بعدما جلسَ على كرسيّ من القش في وسط حجرة الزوجة الراحلة. ضيقُ ملامحه، ربما تُحال إلى الرائحة المقيمة في الحجرة والتي تركتها المرحومة خلفها بعد سيرةٍ حافلة بممارسة السحر بمعونة من أعواد البخور المشتعلة والمنقل النحاسيّ ذي الجذوة الملتهبة بالجمرات. إلا أنّ السيّد نيّو قد لا يكونُ فكّرَ بهذه الأشياء، وإنما بالشيء الهام الدافع لحضوره إلى الحجرة. على ذلك، أردفَ القول مذكّراً بفشله في إقناع أخيه أن يحذوَ حذوَ والدهما، فيصبح دركياً يتمتع براتب ثابت وهيبة واحترام. لو نفذَ الأبُ عندئذٍ إلى رأس ولده، لاستل منه فكرة سيئة بعض الشيء. كون الفتى قد فكّرَ، حقاً، ما لو أنه قدّامَ قدوةٍ حسنة: " إن أخي فعل خيراً، بالاستماع لنصيحة العم أوسمان! ". ما لم يتوقعه الابنُ، في المقابل، أن يكون هوَ أملُ أبيه في تحقيق ذلك الأمل. فبالمقارنة مع أخيه، المعرّف بالقوة والجسارة، فقد كان يُنظر إليه في الحارة كشاب رخو، ميال إلى الظهور أنيقاً وجميلاً ولطيفاً.. غندور، بكلمة أخرى! *** " ولكن، أبتاه، مهنتي كحلاق تتيح لي دخلاً جيداً فضلاً عن مكانة مرموقة بين الناس " استجمعَ الشابُ قواه كي يُجيب والده، المنتظر جوابه على موضوع التطوع في سلاح الفرسان. فلما نطقها، فلم يكن من السيّد نيّو إلا الحملقة بعينيه في نوعٍ من الدهشة الممزوجة بالإنكار. النظرة النارية، جعلت عينيّ الفتى تنكسان إلى أسفل، أينَ أرضية الحجرة العارية وغير المبلّطة. خزّ في نفس الأب، على ما زهرَ من تصرفه اللاحق، المجادلة العقيمة وكان يُعدّها غير جديرة بمقامه. برغم ذلك، لم يرَ بداً من إسداء هذه النصيحة المغلّفة بالإنذار: " سيكون لك ما قلتَ، لو أنك بقادر أن تفتح دكاناً خاصاً بك. إنما أقولها من الآن: ليسَ بمقدوري مساعدتك لا اليوم ولا في الغد " " لن أطلب منك شيئاً أبداً، سوى أن تدعوَ لي بالتوفيق "، رد الابن بنبرة كلها خضوع واحترام. عند ذلك، عض الرجل على شفته السفلى وكما لو أنه تذكّر موضوعاً فاته التنويه به. قال لابنه وقد اكتست لهجته ببعض الارتباك والحَرَج، " أعلم مدى شهامتك ومحبتك لأخيك، بتنازلك له عن ميراث أمك من المصاغ والمال كي يستعين به في زواجه. واعلم، أن هذا سيكون ديناً عليّ لو أن أخاك لم يتمكن من سداده مستقبلاً " " استغفر الله، يا أبي، فإنه مالك أولاً وأخيراً " " آمل يا بني أن يعطيك الله بقدر طيبتك ونيتك الصافية، وأدعو لك بالتوفيق "، قالها الأب بسرعة فيما كان ينهض من مكانه وكما لو أراد أن يهرب قبل أن تظهر على سحنته علاماتُ الانفعال. ووقف عليكي الكبير احتراماً، لحين مغادرة والده الحجرة. ثم ما لبثَ أن همد في مكانه، وقد اجتاحه الحزنُ بسبب إحباطه أمل الرجل فيما يتعلق بموضوع المدرسة العسكرية. إلا أن ما خفف عنه، فجعل الصفاء يعود لمحياه اللطيف، هوَ ما حظيَ به من الرضا والثناء. هكذا أخرج الساعة من جيبه فيما كان يلْحُنُ نغماً عربياً، سمعه مؤخراً في أحد مقاهي الشام، ممنياً النفس بسهرةٍ حافلة مع الأصدقاء. *** خرجَ من البيت في ذلك المساء من شهر بداية الصيف، وكان الهواء يتلاعب بغرته بإغراء، وكما لو أنه يودّ أيضاً لو تتم دعوته لحضور السهرة. أشعل سيجارة بمجرد خروجه من الزقاق، وكانت جذوتها هيَ بصيص الضوء الوحيد في غياب أي إنارة بالحارة. كان في طريقه مشياً إلى الحارة الجديدة، حينَ تناهت إليه قعقعة عجلات عربة تجرها الخيل. وما لبث أن تلقى فرِحاً تحيةَ أخيه الكبير: " كنتُ أود أن أتعشى، قبل العودة للعمل. ولكن لا بأس، لن تكون ثمة مشكلة لو أن معدتي الجائعة قرقرت بحقك بعضَ الشتائم! "، قال ذلك فيما كان يساعد أخيه على الركوب. عاد عليكي الصغير لإشعال مصباح الكرّوسة، العامل على مادة الكيروسين، وذلك ليرجع أوباً إلى الجهة الغربية من الحي. مثلما جرى القول أكثر من مرة، كانت علاقة الأخوين متينة وجديرة برابطة الدم. على عكس الأخ الكبير، المعروف بطبعه الصموت، كان الآخر ميالاً للبوح بمكنونات قلبه وذهنه على السواء. هكذا حدث أخاه عن موضوع المدرسة العسكرية، وبالطبع دونما أن يذكر له الجانب المتعلق بإرث الوالدة الراحلة. مع ذلك، شعرَ عليكي الصغير بأن ثمة شيئاً مضمراً في الحديث. بعدما بارك لأخيه قراره بالاستمرار في مهنة الحلاقة، أردف قائلاً بصوت واضح وبإخلاص: " أعلمُ بالطبع، أن تضحيتك وإيثارك منعت حصولك على دكان خاص بك. وأنا سأوفي ديني، حالما يتجمع معي المال اللازم " " يا أخي، أرجوك، لا حاجة بك لذكر الدين. فأنا أعتبر الأمرَ هدية من أخ لأخيه بمناسبة الزواج.. نقوط، بحسَب التعبير الشامي "، قال الجملة الأخيرة بالعربية ضاحكاً. أراد الآخر أن يعترض، ولكن عليكي الكبير استمر بالقول بنفس النبرة المرحة: " ولو أصررتَ على تسديد دينك، فكل المطلوب منك هوَ أن توصلني لمحل أعرفه في سوق الجمعة يبيع الكحول بشكل غير قانوني. فأنا لا أرغب بالذهاب إلى أصدقائي خاوي الوفاض ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 3
-
ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 2
-
ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 1
-
ليلى والذئاب: الفصل الخامس/ 5
-
ليلى والذئاب: الفصل الخامس/ 4
-
ليلى والذئاب: الفصل الخامس/ 3
-
ليلى والذئاب: الفصل الخامس/ 2
-
ليلى والذئاب: الفصل الخامس/ 1
-
ليلى والذئاب: الفصل الرابع
-
ليلى والذئاب: تتمة الفصل الثالث
-
ليلى والذئاب: الفصل الثالث/ 3
-
ليلى والذئاب: الفصل الثالث/ 2
-
ليلى والذئاب: الفصل الثالث/ 1
-
ليلى والذئاب: الفصل الثاني/ 5
-
ليلى والذئاب: الفصل الثاني/ 4
-
ليلى والذئاب: الفصل الثاني/ 3
-
ليلى والذئاب: الفصل الثاني/ 2
-
ليلى والذئاب: الفصل الثاني/ 1
-
ليلى والذئاب: الفصل الأول/ 5
-
ليلى والذئاب: الفصل الأول/ 4
المزيد.....
-
يوروفيجن تحت الحصار.. حين تسهم الموسيقى في عزلة إسرائيل
-
موجة أفلام عيد الميلاد الأميركية.. رحلة سينمائية عمرها 125 ع
...
-
فلسطينية ضمن قائمة أفضل 50 معلمًا على مستوى العالم.. تعرف عل
...
-
أفلام الرسوم المتحركة في 2025.. عندما لم تعد الحكايات للأطفا
...
-
العرض المسرحي “قبل الشمس”
-
اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية.. احتفال باللغة وال
...
-
المدير التنفيذي لمعجم الدوحة: رحلة بناء ذاكرة الأمة الفكرية
...
-
يعيد للعربية ذاكرتها اللغوية.. إطلاق معجم الدوحة التاريخي
-
رحيل الممثل الأميركي جيمس رانسون منتحرا عن 46 عاما
-
نجم مسلسل -ذا واير- الممثل جيمس رانسون ينتحر عن عمر يناهز 46
...
المزيد.....
-
مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
زعموا أن
/ كمال التاغوتي
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
المزيد.....
|