|
مأزق لحاق الأقليات بالثورة السورية
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 6313 - 2019 / 8 / 7 - 16:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من أسوأ ما يمكن أن يبتلى به بلد يضم طوائف ومذاهب وأعراق متعددة مثل سوريا، هو أن يتوضع فيه نظام ديكتاتوري ويتكرس على خطوط انقسام طائفية أو عرقية. ويكون ذلك حين يكون شخص الديكتاتور والممسكون بمفاصل القوة الأمنية والعسكرية في البلد، في غالبيتهم، من أبناء أقلية عرقية أو دينية أو مذهبية بما يغذي لدى أبناء هذه الأقلية انطباع (وهمي طبعاً) بالسيطرة والحظوة ويغذي لدى الأكثرية شعوراً بالغبن (والحق أن الغبن واقع على محكومي الديكتاتورية من أقليات وأكثرية). في هذه الحال يسهل انزلاق العمل التغييري الذي يستهدف النظام إلى مزالق جانبية تمتص قوة التغيير وتجعل بالتالي عملية التغيير في النظام السياسي للبلد معقدة وباهظة التكلفة، إن على صعيد الخسائر البشرية والمادية أو على صعيد الأهمية السياسية للبلد ودوره ومستقبله وربما كيانه. ويلفت النظر أن حزب البعث كرس في البلدين اللذين وصل فيهما إلى الحكم (سوريا والعراق) ديكتاتوريين من الأقليات المذهبية هنا وهناك. والحقيقة أن هذا التراكب بين الديكتاتوري والطائفي في كلا البلدين كان مطباً مرشحاً لكسر ظهر البلد بشكل يغري بالقول إن الديكتاتور الذي ينتمي بمولده إلى أقلية في مجتمعه أشد خطراً ومأساوية في مآلاته على البلد من الديكتاتور ذي الانتماء الأكثري، وفي كليهما خطر ومأساة. في العراق احتاج إسقاط النظام إلى تدخل عسكري خارجي واحتلال حطم بنية الدولة وأعاد صياغتها وفق تقسيم طائفي وعرقي صريح. وفي سورية تُدفع الثورة، بفعل البطش الوحشي للنظام وسياسته الأمنية كما بفعل طبيعة القوى الإقليمية "الداعمة" للثورة، إلى مسالك عنيفة وطائفية تهدد مضمون الثورة نفسه المتمثل بفكرة المواطنة والديموقراطية. الأقليات الدينية والثورة السورية حين نتكلم عن جماعات مذهبية أو دينية فإننا نقصد هنا الجانب السياسي الاجتماعي وليس الديني إلا بقدر ما يشكل الرابط الديني خلفية ثقافية عامة وبعيدة لتعرف الناس على أنفسهم وتعرف الآخرين عليهم بصفتهم أبناء مذهب معين. من البدهي أن الفرد لا يختار دينه أو مذهبه كما أن معظم الناس لا يفقهون في الشؤون الدينية لمذاهبهم إلا ما يحمله وعيهم من ثقافة مسموعة وطقوسية في سياق حياتهم اليومية. ولهذا يبدو الصراع المذهبي، كشكل مشوه عن الصراع السياسي، صراعاً عبثياً وأخرقاً ومجافياً لأبسط قواعد العقل السليم. غير أن الصراعات السياسية كثيراً ما تختار سبلاً لاعقلانية. لا يصعب على المراقب ملاحظة الموقف الحذر للأقليات ولاسيما العلويون من حركة الاحتجاجات التي اندلعت في سوريا منذ آذار 2011، ولا يتناقض هذا الموقف (الحَذِر أو المعادي) مع وجود عدد كبير من المعارضين التاريخيين للنظام في صفوف العلويين، كما ليس عصياً على التفسير وقوف كثير من معارضي النظام السابقين في صف النظام اليوم ضد هذه الثورة. فهؤلاء يعارضون النظام ويعملون على تغييره على أن يكون التغيير بمبادرة يشاركون فيها وبعملية يملكون درجة من السيطرة عليها، ولكن حين بدأ الحراك من خارج دائرتهم وبعيداً عن سيطرتهم فقد تحرضت في أعماقهم مخاوف تميز أبناء الأقليات ومبعثها عدم الثقة بالآخر ولاسيما حين ظهرت علامات شكلية توحي بطابع إسلامي للحراك (مثل الخروج من الجوامع، والتكبير، وتبني الحراك من جانب بعض المشايخ ... الخ)، مخاوف راحت تلبس، بوعي أو بلا وعي منهم، أثواب العداء لأمريكا والعداء للإسلاميين والأصولية وما إلى ذلك. وإذا كان بروز العنف والميل الإسلامي في الثورة السورية قد عزز من مخاوف أبناء الأقليات المذهبية فإن خوف هؤلاء وإحجامهم عن المشاركة عزز بدوره من إسلامية الحراك وغذاه ببعد طائفي عاد ليغذي تلك المخاوف من جديد. لذلك كان واضحاً منذ البداية أن الأقليات لا تسير باتجاه الاندماج بالثورة، وإنها ستقف مدافعة عن النظام أو على الحياد في أحسن حال، إلى أن تميل كفة الصراع، عندئذ قد يسارعون للحاق بالثورة (وهو احتمال ضئيل) وقد يبقون على حالة الراضخين بالقوة لجهة يحملون لها كل الانطباعات والظنون السيئة (وهو الاحتمال الأرجح). ومهما يكن من أمر فإن الجماعات لا تلام على خوفها وإحجامها، ولا يعالج الخوف بالكبت أو الزجر أو الذم، على ما يفعل بعض "مثقفي" المعارضة. الخوف يصيب الجماعات كالأوبئة، فالمرض يعدي لكن الصحة لا تعدي. وعلى مدى الشهور الطويلة من عمر الثورة لم يتحطم جدار الغربة بين الأقليات والمعارضين (المسلحين منهم بوجه خاص)، وارتسمت في أذهان أبناء الأقليات صورة نمطية شريرة للمعارض المسلح تتمثل برفضه العنيف للآخر الديني وميله الشديد للقتل الشنيع (الذبح) وتنكيله بالجثث وعدم تمثيله لخيار سياسي ما خلا الانتقام والدعوة إلى الحكم الإسلامي. حتى بات من المتواتر في أوساط من العلويين مثلاً الحديث عن سعي الأسر لاقتناء السلاح ليس بغرض المواجهة بل بغرض الانتحار الفردي أو الجماعي (العائلي) حين يكون الوقوع في أيدي هؤلاء المسلحين أمراً لا مفر منه. وقد لعب إعلام النظام دوراً مهماً في رسم هذه الصورة (استناداً إلى أفعال قامت بها بعض مجموعات المعارضة المسلحة كان أهمها مجزرة جسر الشغور بحق عناصر فرع الأمن العسكري هناك، واستفادة من تقارير صحفية أجنبية ومن تقارير لمنظمات حقوق إنسان عالمية) صورة لم ينجح الإعلام المعارض، رغم ما يتوفر له من منابر، في تبديدها. ونلاحظ مروراً أن العنف الرهيب الذي يمارسه النظام والذي تتحدث عنه التقارير الصحفية العالمية ومنظمات حقوق الإنسان وتعرضه وكالات الأنباء العالمية، والذي يتجاوز بكثير حدود القمع الديكتاتوري المعيارية، لم يشكل جدار غربة للأقليات هذه عن النظام، لا بل تجد الكثيرين منهم يطالب بالمزيد من العنف للتخلص من "المسلحين والإرهابيين" حتى لو سقط جراء ذلك من يسقط من الأهالي، فيما يسمونه الحسم. وبذلك يسجل المجتمع السوري تأخره عن الوفاء بشروط المجتمع وتسجل سوريا بالتالي تأخرها عن كونها تمثل وطناً. ومرة أخرى لا يقع اللوم في هذا الواقع المر على أحد بالتحديد، لكنه يلقي مسؤولية كبيرة على الجميع إذا كان لسوريا أن تستمر كوطن لجميع أبنائها. وللحق لم يكن للأقليات، ككتل بشرية، موقف إيجابي من الثورة في أي لحظة من لحظاتها. وليس صحيحاً أن الأقليات ابتعدت عن الثورة حين دخل السلاح والعنف والإسلاميون على الخط. لقد كان للتشويه الإعلامي الذي مارسه إعلام النظام مشفوعاً بتخلخل نزاهة الإعلام المؤيد للثورة دوراً في دعم مخاوف أبناء الأقليات وتغذيتها وصدهم عن الثورة. ما نفّر الأقليات هو اندلاع الحركة من حاضنات سنية متدينة (درعا وبانياس) وبروز وجه إسلامي للحركة ولاسيما حين كان من المطالب الأولى للمتظاهرين في بانياس إعادة المنقبات إلى التدريس. في المحصلة، لا تتيح السياسة لنا رفاهية التسوق بين خيارات سياسية معروضة في فاترينا. السياسة صراع وآفاق، ومهما علق في الثورة من عوالق تشذ بها عن صورة الثورة المرسومة في الأذهان والكراسات، فإن انتصار الثورة السورية يفتح آفاقاً يمكن أن تنهض بسورية إلى مستوى حياة سياسية قد تنتج بحق وطناً ومواطنين، ولا يتاح فيها لأحد أن يطوب البلد باسمه ويكرس نفسه حاكماً أبدياً لسوريا. حزيران 2012
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
معركة الساحل الثالثة، خيار خاطئ
-
لون جديد
-
عن الانتفاضات العربية ومآلاتها
-
من الرئيس إلى البلد.. والمعنى واحد
-
منطقان في الثورة السورية
-
من التشبيح الاقتصادي إلى التشبيح السياسي
-
نظام قتل عالمي
-
رحلة شيوعي صغير
-
منكوبون ولامبالون
-
تسلية مأساوية
-
الخطاب الموالي للنظام السوري: مواجهة الداخل بالخارج (2)
-
الخطاب الموالي للنظام السوري: مواجهة الداخل بالخارج (1)
-
يحدث في الثورة السودانية
-
الجهاديون مرض الثورة السورية
-
بماذا يفكر القناص؟
-
التشبيح الموازي
-
بورتريه ريفي
-
التحديق في الموت
-
رثاء الأحياء
-
حركة أحرار الشام، بين الجهادية والأخوانية
المزيد.....
-
مصدر يوضح لـCNN موقف إسرائيل بشأن الرد الإيراني المحتمل
-
من 7 دولارات إلى قبعة موقّعة.. حرب الرسائل النصية تستعر بين
...
-
بلينكن يتحدث عن تقدم في كيفية تنفيذ القرار 1701
-
بيان مصري ثالث للرد على مزاعم التعاون مع الجيش الإسرائيلي..
...
-
داعية مصري يتحدث حول فريضة يعتقد أنها غائبة عن معظم المسلمين
...
-
الهجوم السابع.. -المقاومة في العراق- تعلن ضرب هدف حيوي جنوب
...
-
استنفار واسع بعد حريق هائل في كسب السورية (فيديو)
-
لامي: ما يحدث في غزة ليس إبادة جماعية
-
روسيا تطور طائرة مسيّرة حاملة للدرونات
-
-حزب الله- يكشف خسائر الجيش الإسرائيلي منذ بداية -المناورة ا
...
المزيد.....
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
-
الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ
/ ليندة زهير
-
لا تُعارضْ
/ ياسر يونس
المزيد.....
|