|
القسم الثالث والرابع من الفصل الثاني
اسماعيل شاكر الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 6298 - 2019 / 7 / 22 - 08:55
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
3 و4 من انتشار الأسلام
3 ـ ابتكر المعتزلة أو " أهل العدل والتوحيد " كما يطلقون على أنفسهم : فكرة خلق الأنسان لأفعاله واستقلاله بها عن المشيئة الآلهية أو مخطط الله الكوني ، فهو مسؤول عن أفعاله ويحاسب عليها . هذا هو اجتهادهم النظري الأساسي الذي ستتفرع منه مواقفهم من موضوعات اللاهوت الأخرى كالذات الآلهية وصفاتها وخلق القرآن والتجسيم . لكن هذا الأجتهاد النظري للمعتزلة ، لم يستطع ـ حتى والديانة التي تبرع في اخراجها نظرياً اكثر انسجاماً مع نفسها وابعد عن الوقوع في التناقض ـ ان يعمر طويلاً وتراجع الى الوراء بعد عمر قصير . لا يختلف الأسلام عن الديانات الأخرى في التعبير عن معتقداته الماورائية بالطقوس . وموت الكثير من الديانات ، حصل من موت طقوسها نتيجة الغزو الذي فرض طقوس ديانة أخرى ، أو نتيجة خروج من يلّوح بالأصلاح من داخلها ، فيفرض طقوساً جديدة تغير الكثير من معالم الديانة القديمة ، وهذا ما حدث مع المسيح الخارج من داخل الديانة اليهودية ، وحدث مع الملل والنحل والطوائف الأسلامية التي خرجت من داخل الديانة الأسلامية . لا أهمية لأي اجتهاد نظري ديني اذا لم يتحول الى طقس ، ولا ديمومة للمعتقدات الدينية اذا لم تقابلها على الأرض مجموعة طقوس وممارسات تعبدية . وحين تخبرنا الأديان بأن خطابها عن عالم الغيب هو الأكثر صدقية لأن الأنبياء هم من نقلوه ، تظل روايتها مجرد زاوية نظر محصورة بعدد محدود من البشر ، ان لم تتحول الى طقوس أرضية تمارس بشكل جماعي من قبل كتل كبيرة من البشر ، وهذا ما دفع محمد الى تحويل طقس الحج الجاهلي الى حج اسلامي ، وتحويل القبلة من بيت المقدس الى الكعبة ، ونقل آليات الغزو الجاهلي مع ما تنتجه من غنيمة الى ممارسة طقسية اسلامية . لقد استولت الدعوة المحمدية على كل طقوس العالم " الجاهلي " الضخمة ، وحولتها الى طقوس اسلامية تمارسها نفس الكتل الجماهيرية الضخمة لكن تحت مسمى جديد ، فداخل هذه الطقوس الجماهيرية الكبيرة يشعر الأنسان الفرد بدفء الحماية والتعاضد والتساند . ولم تتراجع الديانات عن ممارسة هذه الطقوس حتى حين تحولت الى سلطات . لقد لعبت محاكم التفيش وسيف الخلافة الأسلامية الدور نفسه : دور الممارسة الطقوسية للدين ، لأشعار محكوميها بأنها جادة في البحث عن الشيطان لدى الجماعات ( الهرطوقية ) المسيحية ، أو لدى المارقين والكفرة في دولة الخلافة الأسلامية ، وازالة كل ما يعكر طمأنينتها وسكينتها . لم يستقل المعتزلة بطقوس خاصة بهم للتعبير عن معتقداتهم كما فعلت باقي الطوائف الدينية الأخرى ، وفي مقدمتها الشيعة الأمامية . فظلت طروحاتهم تدور في عالم الخواص ، ولم تلامس مشاعر الأكثرية التي يجتذبها الطقس أكثر مما تجتذبها الفكرة التي يتضمنها الطقس ، فتسبب ذلك بأختفائهم السريع . لأن الدين مقولة ايمانية وليس مقولة عقلية ، والجماهير الغفيرة من العوام لا تطالبه ببرهان على صحة ما يدعيه من أصول غيبية . لم يؤمن الناس بمختلف الحجج العقلية التي جاء بها القرآن على مدى 13 عاماً ، وانما بدأ الناس : ( يدخلون في دين الله أفواجاً . سورة النصر ) بعد آية السيف وليس قبلها . لكن يظل لأجتهاد المعتزلة ـ وسط العديد من الأجتهادات الأسلامية ـ الدور البارز في منح مفاهيم عالم الغيب انسجاماً وعدم تناقض ، والى هنا تنتهي أهميتهم ويتوقف فضلهم على مسيرة نضال الأنسانية الطامحة الى اجتثاث جذور اغترابها وتشيؤها . ذلك لأن " أهل العدل والتوحيد " لم يجتهدوا في ابتكار : فكرة حرية الأنسان في اختيار أفعاله ، من أجل تعبيد الطريق أمام الأعتراف بحقوق الأنسان الطبيعية ، فيحققوا سبقاً تاريخياً على مفكري وفلاسفة عصر الانوار الأوربي ، وانما لرفع التناقض الظاهر في الخطاب القرآني : بين وجود مخطط كوني له بداية وله نهاية ، وقد زودت فيه جميع الكائنات : حيّة وغير حية بطبيعة خاصة تقودها في سيرورتها الحياتية : الى أداء أفعال محددة لا تقوى على اداء غيرها ، اما صالحة واما طالحة ، وبين وجود يوم يحاسب فيه الناس على أفعال ، كانوا قد برمجوا على ادائها فهم من الناحية الأخلاقية غير مسؤولين عنها . كان شغل المعتزلة الفكري منصباً على رفع التناقض هذا ، لرفع ما يلحق الله من صفات الظلم واللاعدالة ببقائها . لقد كانوا ينشطون فكرياً من داخل المنظومة الفكرية الغيبية وبالأحتكاك مع الآخرين ( مانوية وزرادشتية ويهود ومسيحيين ومدارس اسلامية أخرى ) دفاعاً عن منظومة الغيب الفكرية الأسلامية ، وامعاناً في تنزية الله وتأكيد عدالته اذا ما جعلوا الأنسان حراً بما يقوم به من الأفعال ، فالحر مسؤول عن أفعاله وليس العبد المأمور بادائها . لقد استخدم المعتزلة العقل اداة او مطية في خدمة أفكارهم الغيبية ، ولم يستخدموه لأجل تفكيك القيود التي يلف بها الدين ذات الأنسان . كان العقل ومنطقه وسيلتهم في التأويل الذي حملوا فيه ظاهر النص الواضح الدلالة على الجبر ، وجعلوه ناطقا بما لم يكن مصمماً على النطق به . ولم تكن فكرة العدالة الآلهية من صميم اجتهادهم لقد أخذها المعتزلة عن الخوارج كما يقول المستشرق مونتغمري في كتابه " القضاء والقدر في فجر الأسلام وضحاه . القرون الثلاثة الأولى " . ولم تكن فكرتهم عن " المنزلة بين المنزلتين " بخصوص مرتكب الكبيرة ( المصر على فعلها والمداوم على القيام بها ) ، الاّ صدى للحرب الأهلية في الفتنة الكبرى ، لكي ينزهوا جميع الصحابة التي خاضوها من المسؤولية عن جر المسلمين الى قتل بعضهم البعض وجميعهم من الموحدين . فنظرية المعتزلة " العقلانية " هي نظرية في السياسة قبل ان تكون اجتهاداً دينياً ، ولأنهم ابقوها اجتهاداً دينياً ولم يستطيعوا الهبوط بها الى عالم الناس الأرضي ، فشلوا في تحويلها الى طقس أو ممارسة لكتلة بشرية كبيرة يتحولون من خلالها الى قادة ومنظمين لمعارضة سياسية تطيح بالدولة الأموية ، فتركوا الباب مفتوحاً لشيعة آل البيت من علويين وعباسيين لينشطوا في معارضتهم تحت حق خرافي اسمه حق آل البيت في الخلافة . فنظرية المعتزلة عن خلق الأنسان لأفعاله ومسؤوليته عنها يوم الحساب هي جزء من المعارضة الفقهية للأمويين ، صب تأويلها لصالح المعارضة العائلية من شيعة آل العباس وآل علي ، الذين كانت دعاية " دعاتهم " تقول بان العباسيين والعلويين يتحركون في ضوء من ارادة الله لمحاسبة الأمويين على ما اقترفوه من أفعال شنيعة ، وللرد على " المجبرة " الذين كانوا يقولون بان الأنسان مجبر على القيام بافعاله ، لأن الغيب كان قد قررها سلفاً . لتبرير أفعال الأمويين اللاأنسانية .
4ـ
لا تتحقق حرية الناس في اختيار أفعالهم ومسؤوليتهم عنها في عالم التأويل ، اذا لم يقابلها على أرض الواقع ممارسة فعلية لها ، على شكل قوانين وتشريعات تكفل حرية الضمير والمعتقد ، وتكفل للناس الحرية في اختيار حكامهم دورياً . سردية المعتزلة في تفسير نصوص نظرية الخلق الكونية القرآنية على انها نصوص في الحرية الأنسانية ، تكذبه وقائع الدعوة الأسلامية المحمدية ، التي كان سهم اتجاه حركتها متجهاً صوب صناعة مجتمع غير حر : الطاعة فيه مطلقة للحكام ، وايضاً غير عادل : تم فيه تشريع تفضيل بعضهم على بعض في الرزق ، وتفضيل الرجل على المرأة ، وتفضيل المسلم على غير المسلم . طاعة المحكومين مطلوبة وضرورية في المجتمعات الحديثة ، لكن للقوانين والتشريعات التي تعاقدوا عليها وكتبوها بأنفسهم ، وليس للأفراد الحاكمين مدى الحياة ثم يورثون الحكم لأبنائهم . لم يستطع المعتزلة تفعيل نظريتهم عن حرية الأنسان ، وايجاد ممارسات سياسية لها على الأرض . فظلت مجرد افتراضات لا برهان عليها في ممارسة الناس لحياتهم اليومية : لأن الحرية كما تقول وثائق أحداث التاريخ العالمي الحديث ، ممارسة شمولية تهبط باللاهوت نفسه الى ارضية المجتمع ويصبح موضوعاً للدرس العقلي النقدي . فما يدرسه العقل يتحول الى ممارسة حرة : في ادارة مؤسسات الدولة وفي شؤون تنظيم الحياة الأخرى . ولدت المجتمعات الحديثة من النقد العقلي المستمر للأستبداد القديم ، ولما تنتجه هذه المجتمعات الحديثة من استبداد . فهي مجتمعات دائمة النقد لذاتها ، بحيث أصبح النقد العقلي جزءاً من طبيعة هذه المجتمعات الحرة ، وهذا ما لا يمكن لمجتمعات الحضارة الزراعية القديمة بمفاهيمها الطائفية عن موالاة ابناء الطائفة والعشيرة والمنطقة ، والتنكر لمن لا يشاركها الرأي في صحة تأويلاتها الدينية ، أن تخلق مجتمعات المواطنة وحقوق الأنسان : مجتمعات المجتمع المدني االذي وضع قوانين كفالة حرياته بنفسه على شكل دساتير اباحت له الاستقلال بنشاطه الانتاجي والفكري عن السلطة السياسية ، وليس عن الدولة كمؤسسات ثابتة ، وباستقلال عن سلطة الحرام والحلال .
#اسماعيل_شاكر_الرفاعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفصل الثاني : انتشار الأسلام
-
الرسالة والنبوة
-
2 في السيرة
-
حفريات ضرورية : 1 خصوصية البيئة الثقافية المكية
-
3 الأستعداد السياسي
-
2 الأستعداد البياني أو الموهبة الأدبية
-
حيرة المسلم بين الرؤيتين الدينية والبرلمانية
-
هوامش سياسية
-
فنجان ثالث من قهوة الصباح
-
قهوة صباحية
-
اشرف الخمايسي في رواية : جو العظيم
-
محنة رءيس الوزراء العراقي الجديد
-
ظاهرة يوسف زيدان
-
تنبوء ولي العهد السعودي
-
ثقافة تزداد تحجراً
-
جمال خاشقجي
-
قتل النساء
-
رءيس مجلس النواب الجديد : محمد الحلبوسي
-
تاكل حزب الدعوة
-
لا زعامة للثورة البصرية
المزيد.....
-
الضربات الأمريكية على إيران تثير مخاوف في دول الخليج من الان
...
-
الولايات المتحدة غيّرت مسار المواجهة - كيف سترد إيران؟
-
خاص يورونيوز: إسرائيل ترفض تقرير الاتحاد الأوروبي حول غزة وت
...
-
خبير إسرائيلي: تل أبيب لا تريد التصعيد والكرة في الملعب الإي
...
-
هل فشلت -أم القنابل- في تدمير -درة تاج- برنامج إيران النووي؟
...
-
أحداث تاريخية هزت العالم بالأسبوع الرابع من يونيو
-
الرأسمالية نظام -غير ديمقراطي- يستنزف جنوب العالم ليرفّه عن
...
-
هل يطلب المرشد الإيراني وقف إطلاق النار مع إسرائيل؟
-
كيف نُفذت الضربة الأميركية على إيران؟ وما الأسلحة المستخدمة؟
...
-
كيف يرد الحوثيون بعد هجمات واشنطن على إيران؟
المزيد.....
-
كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف
/ اكرم طربوش
-
كذبة الناسخ والمنسوخ
/ اكرم طربوش
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|