|
2 في السيرة
اسماعيل شاكر الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 6278 - 2019 / 7 / 2 - 18:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حفريات ضرورية
2 ـ في السيرة
ينتمي محمد عشائرياً الى البيت الهاشمي ، وحين بلغ أشده بدأت قوة هذا البيت بالأفول وسط قبيلة قريش ، نتيجة تضعضع أحواله التجارية والمالية ، وصعود البيت الأموي تجارياً ومالياً وبالتالي قوة ومنعة . ومع ذلك ظل البيت الهاشمي يحتفظ بمكانته الأجتماعية الرفيعة لأهمية الحسب والنسب في الثقافة المكية والقبائلية عموماً ، ويحتفظ بموقعه في الملأ القريشي وفي وظيفته الدينية حيال الكعبة ، وذلك ما سيحفظ لمحمد مكانته وهيبته . ووسط شبه الأملاق الذي اكتنف حياة عمه ابي طالب ـ الذي تكفله منذ الولادة بعد وفاة والده ـ كان على محمد ان يتدبر شأنه ، فتزوج من التاجرة ألأرملة خديجة بنت خويلد التي كانت تكبره سناً ، والتي كانت هي الأخرى بحاجة الى من يشرف على تجارتها ويحفظها لها . وهذه واحدة من مواهب محمد الأجتماعية التي ساعدته على حسن التخلص من أزمته المالية كعاطل عن العمل . لم يطور محمد تجارة خديجة لا قبل وفاتها ولا بعدها ، فلم يصبح تاجراً تجري القوافل باسمه في رحلتي الشتاء والصيف ، وهذا ما يشير الى ان محمداً لم يجعل السعي من أجل تكثير أرباحه التجارية هدفه الأعلى في الحياة ، بل انه كان يكتفي من التجارة بالمشاركة في قوافل تدر عليه من المال ، ما يسد به حاجاته وحاجات افراد اسرته الأساسية التي ازدادت عضواً بتبني محمد لأبن عمه علي بن أبي طالب . وقد ساعده هذا السعي المتواضع في عالم التجارة على التفرغ ، وتكريس جل وقته لمواهبه : الروحية والبيانية والسياسية ، وهذا ما يشير بقوة الى انه كان على درجة عالية من الوعي بمواهبه الذاتية ، وانه سعى الى تطويع الظروف المحيطة به لنشر معتقده وايمانه العميق بوجود الاه واحد خالق لهذا الكون ، وهو يديره باحاطة شاملة : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة الا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين . الأنعام : 59 ) كان ذلك هو الهدف الأسمى الذي كرس له محمد جل وقته ، وطوع كل مواهبه وامكانياته لخدمته وتنميته بصبر وارادة لا تلين . قاوم محمد الظروف القاسية التي احاطته بثبات ، وحاول الخروج بدعوته من مكة ، ولم تنكسر إرادته حين فشل في رحلته الى الطائف أو في تطوافه على الكثير من القبائل وما لاقاه هناك من عسف وعناء . فمحمد الرسول لا يختلف عن الأنبياء الذين جاء ذكرهم في آيات القصص القرآني من حيث النشأة في بيئة ثقافية ، كان التوجه فيها الى آلهة متعددة في العبادة ( الشرك ) هو المفهوم الأساسي الذي يسود تلك الثقافات . لم يكن سؤال التوحيد يشغل بال " الملأ المكي " من التجار ورؤساء العشائر الذين كانوا يعزون ما هم عليه من بحبوحة في العيش ، ومن وجاهة اجتماعية وسط القبائل العربية ، الى هذا المنهج التعددي الذي اختطوه لأنفسهم ، وتوافقوا عليه على انه الأستراتيجية الدينية والسياسية والأجتماعية التي يعني تبديلها : الضياع والفوضى ، ولهذا لم يكن غريباً على محمد ( ابن التعددية والانفتاح ) القيام بزيارة الصوامع المنبثة على الطريق الى دمشق ولقاء رهبانها والأستماع اليهم ، وهم يروون له بعض ما ورد في كتب الأناجيل من قصة السيدة العذراء وقصة ابنها يسوع ومعجزاته . ويشرحون له طبيعة السيد المسيح ، وكانوا في معظمهم من النساطرة القائلين بالطبيعتين، على خلاف المدارس المسيحية في الأسكندرية وانطاكية القائلة بالطبيعة الواحدة . كان المسيح في عقيدة النساطرة ذا طبيعتين : ناسوتية ولاهوتية ولكنهما لم يتحدا ويشكلا طبيعة واحدة . حدث ذلك في أول خروج لمحمد وهو في الخامسة والعشرين الى الشام بتجارة لخديجة ، وليس غريباً على تكوينه الثقافي التعددي تأمل المحيط الجديد بما يضج فيه من ألوان المدارس الدينية ، مقارناً ذلك بالظواهر الدينية وبالأصوات الجديدة التي بدأت بالظهور في مكة ، وهي ترفض السائد من العبادات الوثنية ، فيخرج بنتيجة جديدة عليه وهي ان الافكار الدينية ذات طبيعة تساعدها على عبور المسافات الفاصلة بين الشعوب والأقوام ، ويمكن لها ان تلاقي تجاوباً من جميع البشر على اختلاف ألوانهم واماكنهم الجغرافية ، وان انتقال هذه الأفكار الى عمق الجزيرة وخروجها الى العلن في مكة ( الأحناف ، الأدب الديني ) دليل قاطع على ذلك . وكانت النتيجة الثانية التي اختمرت في وعيه الشاب حين دخل حدود الأمبراطورية البيزنطية ، تتمثل بأن الدين هو السياسة وان سياسة البلدان والامم ذات الدول والأمبراطوريات العظيمة تنطلق من امتلاك هذه الأمم لدين . هكذا استتقبل محمد في وعيه الترابط بين السياسة والدين ، بين القوة والدين أي بين الدولة والدين ، والأهم بين الدولة والمكان . ومن الآن فصاعداً على محمد ان يتدبر امر العلاقة بين الدين والدولة والمكان ، ذلك ان الدولة تمتد على مساحة أكبر واوسع بما لا يقاس من مكان القبيلة . ومن الآن فصاعداً سيضمر اله القبيلة في قلبه وفي قناعاته كقوة ، لا بد ان يكون للدولة اله اقوى من اله القبيلة تمتد سطوته على مكان أكبر : وقد وجد نموذجاً لمثل هذا الأله في نماذج الأديان التي يتعرف اليها عن قرب : اله المسيح لا المسيح الأله كما تعرف عليه من النساطرة : اله غائب غير مرئي بعيد ومتعال كما هو نموذجه لدى اليهود . قوة الدولة من قوة الاهها وامتدادها على مساحة واسعة من الغرب الى الشرق ( البيزنطية ) ومن الشرق الى الغرب ( الفارسية ) تجيء كنتيجة لقوة فكرة الأله الواحد الخالق لكل شيء والمهيمن على كل شيء . فافكار يسوع المسيح الدينية التي دونها تلامذته عنه في الأناجيل ، الذي ولد وصلب في مكان بعيد عن مكة ودمشق ، تمكنت من التوغل في اعماق صحراء العربيا ، بقوة أفكارها لا بقوة سيوفها ، وهذا الأتجاه الديني سيتبدى بوضوح في السور المكية التي خلت من الدعوة الى العنف وفرض الرؤى الدينية بقوة السف ، وانطوت على بعد الدعوة بالكلمة : ( ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين . النحل : 125 ) . لكن للدين وجه آخر هو الوجه السياسي الذي يعني امتلاك القوة ، فكيف سيبدأ محمد بتجميع هذه القوة ؟ سنكتشف مع السيرة اللاحقة لمحمد بأنه امتلك نواة هذه القوة في مكة نفسها ، وامتلك معها استراتيجية واضحة عن عمله اللاحق في المدينة . تتكون هذه القوة من اتباعه القليلين الذين تملكتهم ارادة التحدي والتمسك بايمانهم بمحمد الى النهاية من خلال ثباتهم على ما آمنوا به ، لدرجة استشهاد نفر منهم تحت تعذيب البعض من الملأ المكي : هجرتهم الى الحبشة وسط ظروف قاسية ، التضحية بممتلكاتهم من دور وسواها بعد الهجرة الى يثرب ، التفافهم حول محمد في المدينة ، مشكلين النواة الأولى التي اشرفت معه على تنظيم قوته ، فكانوا مستشارين واداريين وقادة غزوات ومعارك . لم يفشل محمد في مكة وهو يتركها الى يثرب التي صار اسمها : المدينة ، لقد تركها بعد ان انتزع الأعتراف بقوة شخصيته من المكيين : اعداءً ومناصرين ، والأعجاب بشخصية محمد هو بالتأكيد اعجاب بدين محمد وبما ادعاه من نبوة ومن رسالة . . لا يمكن فصل شخصية محمد عن دعوته الدينية بركنيها النبوة والرسالة . كان محمد يصوغ رؤاه الدينية ، وكانت هذه الرؤى تصوغ شخصيته وهو يدير دفة حوارها وتفاعلها مع وسطه الأجتماعي والديني . لقد انتزع محمد للنبوة التي ادعاها هيبة ووقار بمواقفه المنطوية على روح البطولة . وحين هاجر الى يثرب : هاجر وهو مكلل بهالة النبوة وبهالة لا تقل اشراقاً عن اله محمد القوي المهيمن على كل شيء والخالق لكل شيء . وقد تجلى هذا الأعتراف من قبل مستقبليه من الأوس والخزرج الذين سلموه قيادة يثرب / المدينة ، بموافقتهم على الوثيقة التي كتبها عن شكل وتنظيم وادارة العلاقة بين سكنة المدينة على اختلاف وجودهم القبلي والديني تحت اشرافه ، ناعتاً أتباعه ومميزاً اياهم بكونهم أمة مستقلة بشؤونها عن باقي أمم المدينة من اليهود والمشركين . قدمت مسيرة محمد في مكة والمدينة نموذجاً للعلاقة الصافية المرئية بين البطل والتاريخ ، بين الذات وبين الظروف المحيطة ، وبين التأثير المتبادل بينهما ، وكيف صنع هذا التأثير المتبادل حركة دينية استطاعت ان تشكل علامة من علامات التاريخ البشري الوسيط . ومثلما اثرت " الشخصية المحمدية " في صناعة وانجاح ميتافيزقيا : النبوة والرسالة فتحولت على يديه الى حركة تاريخية ضخمة ، كذلك كان أثر التاريخ ( المعطيات الزمكانية ) ملموساً بالقدر نفسه على دعوة محمد ، اذ لم يستطع انجاحها بقوة خارجية رغم التصوير الخرافي لأله محمد في القرآن بل كان عمله على انجاح حركته تم بالأساس من خلال معطيات التاريخ وبشروطها : ( صراعه الناجح مع الملأ القرشي ، الحصار ، هجرته الى الطائف ، اللجوء الى القبائل والأحتماء بها من خلال أعرافها ، اسباب النزول أي تاريخيته ، الهجرة الى المدينة ، الوثيقة ثم غزواته وسراياه وحروبه ، وام تم على مستوى المعتقد من تبديل القبلة وبداية الصوم .. الخ . .......................................................................................................................................
• السيرة لابن هشام وكتاب المغازي للواقدي ، وما كتبه طه حسين عن السيرة و: محمد في مكة للدكتور هشام جعيط و: محمد في مكة لمونتغمري واط .
#اسماعيل_شاكر_الرفاعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حفريات ضرورية : 1 خصوصية البيئة الثقافية المكية
-
3 الأستعداد السياسي
-
2 الأستعداد البياني أو الموهبة الأدبية
-
حيرة المسلم بين الرؤيتين الدينية والبرلمانية
-
هوامش سياسية
-
فنجان ثالث من قهوة الصباح
-
قهوة صباحية
-
اشرف الخمايسي في رواية : جو العظيم
-
محنة رءيس الوزراء العراقي الجديد
-
ظاهرة يوسف زيدان
-
تنبوء ولي العهد السعودي
-
ثقافة تزداد تحجراً
-
جمال خاشقجي
-
قتل النساء
-
رءيس مجلس النواب الجديد : محمد الحلبوسي
-
تاكل حزب الدعوة
-
لا زعامة للثورة البصرية
-
ساسة من نوع آكلي لحوم البشر
-
مخجل هذا الذي يجري في العراق
-
ذاكرة ما بعد الموت
المزيد.....
-
أحدث كتلة لهب هائلة أضاءت الليل.. شاهد لحظة انفجار صاروخ -سب
...
-
-مأساة أمريكية“.. بروس سبرينغستين غير منسجم مع الوضع السياسي
...
-
مصمم الأزياء رامي العلي: هذه القطعة يجب أن تكون في خزانة كل
...
-
وزنه يفوق طنين ومداه يصل إلى 2000 كلم: ما هو صاروخ -سجّيل- ا
...
-
مسؤول إيراني يرد بقوة على ترامب: لا أحد يستطيع تهديد طهران و
...
-
الحكومة الإيرانية تعلق صور القادة العسكريين القتلى إثر الهجم
...
-
بلاغ للنائب العام: وفاة سبعة محتجزين بقسم العمرانية في أقل م
...
-
وسط صمت حكومي.. إسرائيل تفرض أمر واقع جديد في الجنوب السوري
...
-
رئيس ديوان المستشارية يؤيد ميرتس ويؤكد دعم ألمانيا لإسرائيل
...
-
محافظة دمشق ترد على ما يشاع حول الأعمال الإنشائية على سفح جب
...
المزيد.....
-
كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف
/ اكرم طربوش
-
كذبة الناسخ والمنسوخ
/ اكرم طربوش
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|