|
عودة إلى السماء
عبدالله بير
الحوار المتمدن-العدد: 6113 - 2019 / 1 / 13 - 11:54
المحور:
الادب والفن
عودة إلى السماء خرجت صابرين من بيت اخيها ، منكسرة ، متشتتة الفكر ، منهارة البنيان ، حالما اصبحت في الخارج ،قفزت دمعة من مقلتها لتبدا مسيرتها في سهول خدها الندية ، لكنها استطاعت بعد جهد و الم السيطرة على منبعها و جففتها كي لا يراها احد . لما كانت في الشارع ، مر امامها شاب و شابة تشابكت ايديهما, يتهامسان و يضحكان ، طفت ذكرى يتيمة على بحر افكارها : - عيب يا عبدالله ، كيف تمسك بيدي في الشارع ؟ - يا حبيبتي ، السنا مخطوبين ؟ وبعد مدة سوف نتزوج . لكن سرعان ما عصفت كلمات اخيها و اخو زوجها بتلك الذكرى الجميلة التي مرت كنسمة عليلة على ذاكرتها . - اذهبي و تزوجي ، عبدالله مات . فرددت مع نفسها : - يا الهي ، أأتزوج بعد عبدالله ؟ الذي كان املي الوحيد في هذه الحياة ، مستحيل ، لا, مستحيل ان يرى رجل آخر جسدي ، سأجد حلا لكل هذا . توقفت على الرصيف و اشارت إلى سيارة تاكسي ، فتوقفت : - خذني إلى السوق ، رجاءً. بعد ان ركبت السيارة ، فتشت في حقيبتها ، وجدت في احدى زواياها مبلغاً من المال ،استذكرت كلمات الشيخ : - يا بنيتي ، هذا مبلغ من المال اعطاني اياها كريم لأتصدق به، وانا اعطيكي اياه ، لأنك ارملة و عندك يتامى ، عذرا على هذه الكلمة . لما طلبت منه صابرين ان يدينها بعض المال لحين إيجاد عمل ما لها . كان جهاز راديو السيارة مفتوح ، تصدح فيه اصوات النساء و الرجال اغانٍ وطنية ، فتذكرت صابرين الحرب و عبدالله و بقية الشهداء الذين تركوا وراءهم الارامل و اليتامى. - تبدوا الاخت شاردة و حزينة . قالها سائق التاكسي ، و هو ينظر إليها خلال المرآة . فاستفاقت صابرين من حزنها و قالت : - ماذا ؟ اضاف سائق التاكسي : - الحرب مازالت قائمة في عدة محافظات ، اليوم فجر ارهابي نفسة بين مجموعة من المتطوعين و استشهد عدد منهم . ثم اضاف : - اراد اخي التطوع ، فمنعناه ، لأنه متزوج و لديه اطفال صغار و زوجته مازالت شابة ، فمن يكفل عائلته إذا استشهد ، الحياة صعبة هذه الايام ، و حسناً فعل بعدم تطوعه. فأعاد ذلك صابرين إلى اليوم المشؤوم الذي تطوع فيه عبدالله: - عبدالله ، ألا يمكن تأجيل مسألة التطوع قليلاً ، ثم, فكّر فيّ و في اطفالي ، ماذا سيحصل لنا إن استشهدت ؟ ارجوك فكّر قليلاً ، انا خائفة جداً. - يا حبيبتي ، يا صابرين ، الوطن بحاجة إلينا ، ألا ترين الهجمة الشرسة عليه ،إذا انا لم ادافع و غيري لم يدافع ، من سيدافع عنه اذاً ، سيسقط الوطن ، الوطن سيتكفل بكِ و بأطفالي، سيكون اولادي من بعدي مرفوعي الراس لان والدهم ضحى بنفسه في سبيل الوطن ، لا تقلقي ابداً . - عبدالله علوان ، عبدالله علوان ، عبدالله علوان، مَن قدم عنه ؟ - نعم ، نعم ، انا ، صابرين حسين ، زوجته ، تفضل ، هذه الاوراق . - كم كان هذا الرجل غيباَ ، مَن يترك هذا الجمال و يذهب إلى الموت بنفسه ، غبي . تمتم الموظف في مديرية التقاعد ، فاستفسرت صابرين منه : - ماذا؟ فرد الموظف : - لا لا ،لا شيء يا اختي ، احدث نفسي فقط ، تفضلي وقعي هنا ، راجعينا بعد شهر . - بعد شهر ؟ ولكن اين راتبه التقاعدي ؟ اين المكافاة التي تحدث عنها مسؤول لجنة الشهداء ؟ - يا اختي ، لا يوجد مكافاة اصلاً، ثم إن زوجك كان متطوعاً كما هو مكتوب هنا ، ثم أن الراتب التقاعدي للذين انهوا الخدمة المدنية ، وزوجك لم يخدم سوى خمس سنوات فقط ، فاعتقد لا يوجد راتب تقاعدي, سوف يعطونك فقط هدية من الدائرة, جائزة استشهاد زوجك . أيقظ صوت السائق صابرين من غفوتها وهو يقول : - اين تريدين أن تنزلي يا اختي ؟ فالتفتت صابرين بسرعة يميناً و يساراً عبر زجاج السيارة ، لم تتذكر اي شيء ، ولا حتى اين هي بالضبط ، وما الذي اتى بها إلى هذا المكان ، ثم وبدون ان تعرف لماذا! قالت : - توقف من فضلك ، سأنزل هنا ، شكراً اخي . ترجلت من السيارة ، لا تعرف لماذا جاءت إلى هذا المكان المكتظ بالناس ، فجاءة تذكرت ابنها ، وهو يقول : - امي ، منذ أن رحل والدي ، لم نأكل اللحم ، لماذا لا يشتري عمي لنا بعضاً منه ؟ فاتجهت مباشرة إلى بائع اللحم ، اشترت كيلوغرام منه، ثم قررت الرجوع إلى البيت ، لأنها تركت اطفالها عند الجيران ، استقلت حافلة الظهر و جلست في احدى الزوايا ، سمعت امرأتين عجوزتين تقول إحداهما للأخرى: - بعدها مازالت شابة ، لماذا لا تتزوج ثانية ، او تتزوج اخو زوجها و ترتاح ؟ اغرقت هذه الكلمات صابرين في دوامة كبيرة من الافكار ، فتذكرت صديقتها زينب ، كيف تزوجها اخو زوجها لفترة وبعد ان استولى على اموالها و شبع منها ، رماها هي و اولادها إلى الشارع ، لم يدافع عنها احد و بقيت تائهة في شوارع المدينة, لا يعرف احدٌ الان اي رصيف تفترشه .او سندس المرأة المسكينة التي ضحت بكل شيء من اجل زوجها الذي مات بسرطان الدماغ و تركها شابة ووحيدة بلا اي عائل ثم تزوجها اخو زوجها ، و لم تمر إلا اشهر ، حينما وجدتها الشرطة مقتولة في احدى المجاري على اطراف المدينة . استعادت صابرين وعيها على صوت الجابي وهو واقف على راسها يطلب الاجرة ، تبتسم بخوف شديد ، و تمتمت بصوت لا يكاد يسمع: - لطيفة ، لطيفة كانت صديقتي و استشهد زوجها ايضاً في الحرب ، ثم تزوجها صديق زوجها ، استعادت عائلة زوجها الاطفال بحجة الزواج من خارج العائلة ، بعد فترة طردها زوجها ارضاءً لزوجته الاولى ، فأصبحت مجنونة تجوب شوارع المدينة بشعر اشعث و ثوب ممزق . توقفت الحافلة ، نزلت صابرين و اتجهت إلى البيت ، الذي كان عبارة عن سكن فوق السطح مكون من غرفة و مكان صغير للطبخ و حمام و ملحقاتها معاً يصعد إليه بسلم حديدي خارجي بجانب الدار ، اجرّه من صاحب البيت الذي يعيش مع زوجته وحيدين, حيث تركهما اولادهما و سافرا إلى خارج البلد ،ولم يكونا بحاجة إلى الايجار ، لذا لم يكن يسال عن اجرة البيت حتى تُدفع له ، كان البيت في الصيف قطعة من جهنم و في الشتاء كان الزمهرير بحد ذاته ، كانت صابرين قد وضعت قدمها على اول درجات السلم حينما ناداها صاحب البناء: - يا بنيتي ، اتى شخص إلي اليوم وكان اسمه جابر ، وقال لي أنك زوجة اخيه الشهيد ، فعلاً اتى اولادك إليه و كانوا ينادونه بالعم ، طلب مني طردك من البيت لتعودي إليهم ، لانهم يخافون على شرفهم ان يدنس ، فانت ارملة و شابة و جميلة ،ثم إذا كان باستطاعته أن يعيلك و اولادك الذين هم اولاد اخيه ، لماذا لا تتزوجيه ؟ وترتاحين ، صار لك ستة اشهر و لم تدفعي الايجار، انا لا أهينك و يكفي ان الصغار يؤانسوننا هذا يكفي ، لكن تصوري شخصاً اخر غيري هل كان يقبل كل هذا التأخير؟ ما ان لفظ الشيخ هذه الكلمات حتى ارتسمت إمارات الحزن على وجه صابرين و بدت غيوم الحزن بارزة على قمم خديها ثم قالت : - لا تهتم يا عمي ، سوف تنال اجرك عاجلا ام اجلاً ، ساحل المشكلة في اقرب فرصة ، شكرا لك و لكرمك ، يجب ان انادي الاولاد ، مع السلامة . تركت الشيخ ، وصعدت الدرج و ركض الاولاد لاستقبالها عند سماع صوتها ، كانا في قمة السعادة و تعالت ضحكهما وهما يحاولان الوصول اليها و قالا معاً : - ماما ، عمو جابر اتى إلينا . فقالت : - حسناً ، حسناً ، انتما ضيفاي الليلة و غدا ، سنكون ضيوفاً عند والدكما . بدأت صابرين تهيء العشاء لأولادها وقد اشترت اللحم و الخضار ، قلبها يغلي او كاد ينفجر في اي لحظة ، وهي تتذكر قصة حياتها منذ ان تزوجت عبدالله ، تلتفت إلى اولادها من حين لأخر و تحاول رسم ابتسامة على وجهها. ثم فرشت جريدة قديمة للسفرة ،وضعت عليها الطعام ، لما شاهد الاولاد ذلك صاحا معاً : - تعيش ماما سنأكل كثيراً الليلة . كانت ضحكات الصغار تطير لمسافات بعيدة فوق المدينة الكئيبة. في الصباح ، اتصل الشيخ بسيارة الاسعاف و سيارة الاطفاء بعد ان عجز و الرجال الذين معه عن كسر الباب الحديدي لبيت صابرين حيث رائحة الغاز تملئ المكان ، كسر رجال الاطفاء فوجدوا الام و على يمينها ابنها و بنتها على يسارها جثث هامدة مختنقين بغاز الطبخ .
#عبدالله_بير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المحاكاة
-
ذكريات سرور
-
صديقي لم يكن ارهابيا
-
قراءة في كتاب السيميولوجيا و التواصل
-
فتاة من طينة الذهب
-
ندم اللقاء
-
قد لا يأتي الأمل أبداً
-
الذي لي ليس لي دائماً
-
الخير يأتي اولاَ
-
العباءة
-
افتح قلبك لتسمع روحك
-
الظل
-
لا تدع الديدان تقترب
-
قراءة في رواية - الخيميائي - لباولو كويلو Paulo Coelho -.
-
قراءة في قصيدة (كلما أنَّ الجسدُ من أسره رَفرَفت الروح) للشا
...
-
ملائكة في طريق الجحيم
-
ميادة
-
قراءة في رواية - الجريمة والعقاب - لفيودور دوستويفسكي - .
-
الهرمنيوطيقا (فلسفة التأويل).
-
قراءة لديوان (نارنج) للشاعرة نارين ديركي
المزيد.....
-
“اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش
...
-
كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
-
التهافت على الضلال
-
-أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق
...
-
الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في
...
-
جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا
...
-
مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين
...
-
-أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق
...
-
شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ
...
-
عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا
...
المزيد.....
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
-
الهجرة إلى الجحيم. رواية
/ محمود شاهين
المزيد.....
|