|
ميادة
عبدالله بير
الحوار المتمدن-العدد: 5468 - 2017 / 3 / 22 - 01:43
المحور:
الادب والفن
ميادة كان في منتصف الاربعينيات من العمر ، طويل القامة و ممتلئ الجسم ، متوسط الطول ذو وجه طفولي ، كثير التفكير و منشغل البال دائماً في أمورٍ كثيرة . يلبس بغير تناسق ، لا يهتم كثيراً بمظهره الخارجي ، أرمل فقد توفت زوجته منذ ما يقرب السنتين ، وتركت له أربعة اطفال ، ولدان و بنتان . تأثر كثيرًا بموت زوجته ،هذا ما جعله أن يغير من أسلوب حياته و تفكيره و تعامله مع الاّخرين و نتيجةً لذلك تغيَر بالكامل ، لم يعد يهتم كثيرًا بحياته مثل قبل ، أو لم يعد يهمه شيء ،و عاش زاهدًا كالمتصوفين. بموت زوجته أصبح قليل الكلام حتى مع أولاده ، فلا يخرج من البيت أياماً عديدة ،و حين يخرج لا يعود إلا متأخرًا بالليل ، أو في الفجر . لم يهتم بتربية أطفاله لأن ابنته الكبرى أخذت دور الأم ،لم يكونوا بحاجة إلى عناية كبيرة إلا ابنته الصغرى، التي بلغت من العمر اثنا عشر عاماً ،أما البقية كانوا كباراً، ولم يكونوا بحاجة إلى الكثير من عناية الأب . عند خروجه من البيت في أي يوم ، كانت له عادة غريبة وهي التجول في السوق القديم لمدة من الوقت ، ثم الجلوس في المقهى و متابعة المارة ريثما تحضه ساعته البيولوجية للعودة إلى البيت، فقد كان ينسى كثيراً مواعيد الطعام ،أو يأخذ لقمة صغيرة من المقهى و يكتفي بذلك ، في أحد الأيام ، بينما هو جالس في المقهى لتناول كوب من الشاي كالعادة ، أخذته رجفة وأهتز جسمه هزةً عنيفة و كأن السماء سقطت على الأرض ، وهذه الحالة أرجعته إلى أيام الدراسة في الإعدادية ، مرت ذكرياته مثل فلم سينمائي سريع الحركة ، وتذكر "ميادة " ومغامراته مع تلك الفتاة التي كان قد أحبها حبًا جنونياً ، استغرق في التفكير عدة ثوان ،حينما استفاق من هول الصدمة على صوت أنثوي، وكأنها موسيقى عالمية ،سألت صاحب الدكان التي أمام المقهى عن أسعار الفواكه و الخضار ، لم يتمالك الرجل نفسه و اسرع الى صاحب الدكان و قال له: - حسابها عندي و أعطيها ما تريد. اصاب صاحب الدكان بذهول شديد و اندهشت المرأة !،ولم تعرف ماذا تقول للغريب الذي دخل عليهما! . فردت المرأة : - اردت فقط ان أسال ولا أريد شيئاً. ولكن لكونه ذو ثقافة واسعة و صاحب لباقة و بلاغة في الكلام ، أجبرت المرأة إلى أخذ بعض الخضار و الفواكه ، كانت ماتزال تشعر بالحيرة و الاندهاش من الحالة التي مرت بها ، وأخذت بعض الفواكه و الخضار حتى دون أن تشكره ، هو أيضاً لم يكن ينتظر منها ذلك . بعد أن عاد إلى مقعده في المقهى ، تلاطمت الامواج في بحر أفكاره و أحسّ بحملٍ ثقيلٍ ، ولم يقدر أن يسيطر على أفكاره و حركاته ، شيئاً فشيئاً استفاق من هول الصدمة و استعاد وعيه ، وشعر بوخزة خفيفة في نفسه و تساءل : - ماذا فعلت ؟ وهل ما فعلته كان صحيحا ؟ . انغمس في تفكير عميق و اخذ يتحدث الى نفسه : - " ميادة " يا حلماً في افق ذاكرتي تمرد على الغروب ، يا الق الماضي الذي كان الأجمل ، يا ذكرى منسية لا تنسى ، يا شمساً تشرق من جديد على أطلال ذاكرتي ، يا حلما ما فتئ أقلق منامي ، ماذا فعلت بروحي ، من اين جئت و اين ذهبت ؟ ، هل بعدك على سجيتيك ، جمالك لم يذبل, يا ترى ماذا فعلت؟ يا جمراً الهبت نيراناً عظيمةً بكل عروقي ، ما زلت تحرقين بنيرانك ذكرياتي و حياتي و كل لحظاتي الجميلة و القبيحة ، هل كل هذه السنين لم تفعل سوى أن دفنتك مؤقتاً ولم تقدر ان تمحوك من ذاكرتي ،لا اعرف هل حضورك نعيم ام جحيم ؟. عند عودته الى البيت ، ظّل فكره مشغولاً بهذه الكلمات ، ولما وصل ، دخل مباشرةً الى غرفته ، اعتذر للروح التي تسكنها ، وقال: - انا لم اخنك ابداً ، هذا الشقي الذي في داخلي فعل ذلك ، أنا على وعدي كما وعدتك بأني سأبقى على ذاكراك ، أكون أمينا لحبك التي علمني الكثير ، لن اتخلى عنك ، روحك تحرسني و لكن الذي حدث اليوم لم يكن بيدي، ولم يقدر روحك و لم اقدر على الدفاع عن روحي ، ضربت ضربتها و رحلت ، اُقسم لك أن الذي حدث كان اخر فقاعة من فقاعات الماضي ، ولا اعرف أين كانت مختبئة وانفجرت اليوم ، أظن أنها كانت أخر برق الصبابة. في الليل و على فراش النوم ، تذكر أيام صباه ، تذكر " ميادة " بنت الجيران ، تذكر الليالي التي كان يقضيها تحت المطر و في الظلمة و البرد من أجل نظرة واحدة من عيني " ميادة " ،او تمر امامها كالبرق من خلال شباك بيتها، تذكر كيف كان في ايام المدرسة ، ينتظر خروجها من و يقف في إحدى النواصي حتى تمر أمامه ، ليصطاد نظرةً أو يحصل على ابتسامة خفيفة ،وحينذاك يحس بأن روحه طارت بعيدةً، بعيدةً ترفرف في فضاء خيالي مليء بالنجوم و الاقمار وغيومٍ بيضاء ، ويشعر بعد ذلك بنشوة سكرٍ خفيفة،كأنه مَلك الدنيا وما فيها ، تذكر في تلك الليلة ، كل صغيرة و كبيرة مرت بها حياته مع " ميادة " . لم يحس إلا على صوت ابنته الصغرى: - بابا الفطور جاهز . قام من السرير و اغتسل و جلس مع اولاده على السفرة ، كانت نظرات أولاده اليه غريبة ونظر أحدهم إلى الأخر ، فأحسّ بوجود شيء غير طبيعي أو بحصول خطب ما : - ما الأمر يا أولاد ؟ ماذا تريدون ؟ مالكم تنظرون اليَ هكذا ؟. لم يتكلم احد ، قالت البنت الكبرى : - بابا ، لابد ان تعلم أن ماما أعطتك عمرها و رحلت ومن المستحيل أن تعود ، كلنا افتقدناها ولكن هذا أمر الله وعلينا تقبل ذلك ، المهم لنا الان هو انت ، ووجودك مهم لنا جداً بيننا ، لأننا مازلنا بحاجة كبيرة اليك ، نحن في بداية طريق ، نحن بحاجة إلى ظلك و إلى توجهاتك ، وخبرتك في الحياة لتعلمنا كيف نمارس حياتنا على الأقل بدون مشاكل كبيرة ، لأنك الأن دليلنا في الحياة ، معاناتك العظيمة ولكن لا نملك شيئاً إلا أن نكمل الحياة ، وهكذا تعلمنا منك . بعد هذا الكلام أخذ ينظر إلى أولاده نظرة يشوبها ابتسامة خفيفة وقال : - أنا أبوكم ولن أترككم أبداً ، أنتم بقية المرحومة ، أنتم أجمل ذكرى منها ، ولا تقلقوا أبداً ، لا يوجد شيء تخافون منه ، أنتم أولادي. بعد الانتهاء من الفطور قال الأب : - لن اخرج اليوم من البيت ، لدي بعض الأعمال التي سأنجزها ، ماذا تريدون أن أحضر لكم للغداء ؟ أريد أن أطبخ اليوم لكم ، لا لا لا ، أريد أعمل لكم مفاجأة للغداء . صاحت البنت الصغرى مع الولد الذي يكبرها: - ها اليوم سيكون لنا أحلى غداء ، ولن اكل في المدرسة أي شيء حتى اشعر بالجوع ،لأنه أكيد سيكون غداءً طيباً. بقي في البيت ذلك اليوم ، ولم يعرف السبب ، حاول إيجاد تفسير لذلك ولكنه كان عاجزاً عن ذلك ، كانت كل جوارحه تغلي ، يحس بأن حياته انقلبت رأساً على عقب ، كل شيء تغير ، خائف ، قلق ، متردد ، حزين ، سعيد ، يبكي تارة و يضحك تارة اخرى ، وتساءل مع نفسه: - أ انا خائف ؟ هل من الممكن ان يرجع الماضي ؟ ، تلك المرأة كانت " ميادة "، ولم تكبر ؟ أمن المعقول أن يكون الزمن قد توقف عندها ؟ كيف يمكن لفتاة منذ خمسة و عشرين عاماً أن تبقى كما هي ؟ لا شيخوخة ولا شيب ، ا أنا مثلها ، لكن الشيب غزا راسي منذ زمان ، وأعرف أن التجاعيد في وجهي دليل على ذلك ، انا لم اعد اعرف شيئا . ذهب الى المطبخ كي يحضر وجبة غداء لأولاده و ينسى ما مر به البارحة و يتسلى بما ينسيه ذلك ،وحاول استرجاع ذكريات شبابه ،و حينما كان صبياً في احدى مطاعم المدينة ،و يسترجع من ذاكرته إحدى وصفات ذلك الوقت، ليعمل مفاجأة لأولاده عسى ولعله ينسى ما حدث له . مرّ ليلة اخرى كالأمس ، يموج الفكر ، فيركب هذا الموج و ينزل من ذاك الموج ، لا يعرف على أي ميناء سيرسو. هناك صراع مميت بين زوجته و ميادة ، بين التي عاش معها أحلى أيام عمره ،و بين التي علمته الحب لأول مرة و تحملت طيشه و جنون صباه ، صراع يثقل رأسه و كأنه في صندوق حديدي، يَدّق من الخارج ، أو كأن في راسه برميل فارغ يتدحرج من منحدر عالٍ. لم ينفعه لا البقاء في البيت ولا العمل في المطبخ ، و لا الجلوس في اي مكان . نهض في يوم التالي ، تناول فطوره مع أولاده كالمعتاد ، وبعد ان توجه الاولاد إلى المدرسة ، بقي وحيدًا في البيت ،ارتدى ملابسه على الفور و ذهب مباشرة الى المقهى ، ولكن قبل أن يصل إليها ناداه صاحب الدكان و قال له : - إن المرأة التي دفعتَ حسابها ، قد اتت البارحة و سالت عنك . لما سَمِعَ هذا الكلام ، لم يحس بنفسه, كأنه غاب عن الوجود أو غاص في أعماق الكون الفسيح ، شعر وكأنه ذرة في هذا العالم ، لم ينطق بشيء ، ذهب إلى المقهى كعادته وبدا عليه القلق و الارتباك ،أخذ يراقب المارة مثل الطفل الذي اضاعته امه في الزحام ، كانت عيناه تتحركان بتوتر ، و سرعة كبيرين، و يجول نظره بدهشة عجيبة من شارع الى أخر و من شخص الى الاخر ، أخيرًا ، مرت قشعريرة على جسده ، كأن روحه خرجت منها و اشرقت الدنيا أمامه ، كان جسمه يرتجف كالمصاب حمىً شديدة ، أو كالمغروس في جبل من الثلج ، ظهرت تلك المرأة، ومثل المرة السابقة ،أسرع الى اللقاء بها. - مرحبا . - أهلاً ، ممكن أعرف ماذا تريد؟. - أنا ، أنا .... يا ليتني أعرف. مع ضحكة خفيفة منها - كيف لا تعرف ؟ يعني ما هو قصدك من كل هذا ؟. - صدقيني لا أعرف ... - هممهم ... بماذا أستطيع ان أخدمك ؟ . - برؤيتك . - بماذا ؟!!!. - بأن أراك كل يوم ، كل ساعة ، كل لحظة ... ك ....كل .... - أنت انسان ظريف . قالت ذلك و مالت إلى صاحب الدكان متسائلة: - أريد بعض الخضار و سوف أخذ بعض الفواكه ... - الحساب عندي ، خذي ما تريدين. قال ذلك و هو يمد يده إلى جيبه . - طيب أنا موافقة ، لا أقول لا ، ولكن أعلن عن نياتك. - نيتي أن تكوني سعيدة و أنا أراك كذلك. - أنا سعيدة و شكرًا. عادت إلى صاحب الدكان ، اخذت منه طلبها ، همت بالذهاب لما طلبت منها أن يبقيا على الاتصال ، أو أن يكون بينهما نوعاً من الاتصال ، جاءت ردها كصاعقة على راسه لما قالت: - لماذا نكون على الاتصال يا عم ؟ ، ماذا تريد مني بالضبط؟ كانت وقع كلمة "عم" قوياً عليه ، كالذي سقط في واد سحيق ، او كالذي ضربته صاعقة ً، جالت في راسه شتى الافكار ، لم يكد يحس بالعالم من حوله ، أفاق من هول الصدمة و استعاد وعيه و مازالت المرأة تنظر إليه من قمة راسه حتى قدميه و أضافت: - ماذا بك؟. فأجابها بلطف و ابتسامة مصطنعة على شفتيه: - خذي هذه ، إنه رقم هاتفي الشخصي و أرجو ان تتصلي بي ، لأنني ...لأنني ... لم يستطيع إكمال جملته لأن الكلمات و الحروف و الأصوات هربت منه ، وأصابه خرس عجيب، فردت عليه المرأة: - طيب ، هات الرقم يا عمي الملهوف ، سوف اتصل بك لكن لا أعرف متى . خطت خطوات ثم التفت واضافت: - سأتصل بك في الساعة الثانية بعد الظهر ،اذا لم أتصل في ذلك الوقت، سوف أتصل غداً في الساعة العاشرة صباحاً ، مع السلامة يا عم . بعد هذا الحديث سارت ولم تلتفت إليه ، ورجع الى مقعده بالمقهى وطلب الشاي ، ولكنه لم يفق بعد من هول وقع كلمة "العم " ، و استغرق في تفكير عميق كاد أن ينسى نفسه ، وكان يحدَث نفسه بصوت عالي ويحرّك يديه لا إرادياً ، حينما وصل الى البيت أسرع الى غرفته ووقف أمام المرآة ، نظر الى نفسه من خلالها ، فحص شكله و ركز على وجهه و جسمه ، رأى فعلا رجلا أكل الدهر منه و شرب، قد غزا الشيب رأسه ، ملأت التجاعيد وجهه ، ابيضت لحيته التي كان يحلقها كل يومين ، تساءل مع نفسه " من هذا الذي أقف أمامه ؟ انا ما زلت شابا، من هذا الشايب الذي يقف أمامي ؟ !!" ، تأثر كثيراً لأنه رأى ولأول مرة حقيقة نفسه ، أحس بأن قطار العمر وصل به إلى المحطات الأخيرة ، ولابد أن يراجع نفسه ، و يستعد لما هو أت ، ويراجع نظام حياته ،وفي اللحظة التي كان غارقاً في التفكير دقت الساعة الثانية بعد الظهر ، وفجاءةً تذكر موعد الاتصال ،من المؤكد أنها سوف تتصل ، تحدث في نفسه: - صبراً ، صبراَ وإلا ضاعت الفرصة . و قرر أن يرتب افكاره اثناء ذلك الاتصال كي لا يَضيع منه الكلمات، كما حصل له أمام الدكان : - ترى ماذا أقول لها او من أين أبدأ ؟ هل احكي لها قصة ميادة ؟ كيف يمكن أن أقترب منها ؟ ما هي الكلمات التي تعجبها ؟ ولكن لماذا أقترب منها ؟ . ثم راساً تذكر نفسه امام المرآة وقال : - ألم أرى نفسي في المرآة ، وكبرت على هذه التصرفات و المواقف ؟ ولكن اؤكد إنها "ميادة" عادت و دخلت حياتي من جديد بعد كل هذه السنين ، فاذا كانت هي "ميادة " ،ومازالت في ريعان الشباب ، ترى من كان في المرآة ؟ أكيد لم اكن انا، لأنني لم اشيخ كل هذه الشيخوخة بعد لأننا بنفس العمر ، مادامت "ميادة " عادت فإن شبابي لابد أن يعود . هكذا كان يدور في رأسه دوامة من الافكار ، و تشير ساعة الحائط إلى الثانية وعشر دقائق بعد الظهر ، وها هو الموعد الذي ذكرته له يرجع و يدق في رأسه ، وحمل هاتفه ، و كأنه يتنظر ميلاداً جديداً للعالم ، او أن نظام الكون كله سوف يتغير ، ومرر بأصابعه على أرقام الهاتف ، شعر بآن هذه الأرقام قد ضُربت ملايين المرات ، كانت الأرقام مرسومة في ذاكرته كأنها نقش هيروغليفي ومرسوم منذ ألاف السنين ، فجأة رنّ هاتفه وأحس بفزع كبير ، ووقع الهاتف من يديه و صمت في مكانه ،كأنه صُعِقَّ برجة كهربائية قوية ولم يتحرك حتى انتهاء الجرس ، ثم سار بخطى بطيئة ، حمل الهاتف مرة اخرى وفي نفس اللحظة رنَّ الهاتف مرة أُخرى وبسرعة الضوء فتحه : - ألو ، تفضل. أتاه الصوت من الهاتف : - ألو ، تفضل ، تكلم . ثم اضاف: - تكلم من معي ؟. كان الصوت شبه انثوي فيه نبرة ذكورية قليلة ، فرد - أنا ، أنا الذي التقيت بك اليوم ف ...... لم ينهي كلامه حتى أتمه الجانب الاخر : - آها ....في الدكان . فأضاف هو - نعم ، نعم ........ ما هو اسمكِ من فضلك ؟ - وفاء ، أنا اسمي وفاء ، من معي ، رجاءً؟. - أنا سعيد ، اسمي سعيد . - تشرفنا يا سيد سعيد ، ما المطلوب مني الان ؟. - ما أُريد منك ، هو أن اراك كل يوم ، كل لحظة ، أن أكون معك و أن .... أن .... - حسناً ، فهمت ، غداً في العاشرة صباحاً سأمر أمام المقهى ، وهذا يكفي على ما اعتقد. - طيب ، هل ممكن أن أطلب شيء اخر ؟ - اطلب ، تفضل ولكن لابد أن تعرف إنني امرأة متزوجة و لدي أطفال ... تفضل ما هو طلبك ؟. - طلبي صعب ولكن بسيط . - كيف هو صعب و بسيط ؟. - حسناً ، أريد أن أجلس معكِ لبعض الوقت ، هل هذا ممكن ؟. - آها ... ممكن جدا ولكن هذا الوقت غالي الثمن ، يعني أغلى من ثمن البقالة ، فهمت أو افهمك ؟. - لا ، لا ، فهمت و لا تهتمي ، المال ليس مشكلة عندي . - طيب أراك غداً في الشارع الخلفي للمقهى أمام السلم المؤدي إلى الحي القديم ، مع السلامة. - حسناً، موافق ، مع السلامة . لما انتهت المكالمة ، قال مخاطباً نفسه: - هذا الصوت لم يكن صوت ميادة ، صوت ميادة كان موسيقياً ، كانت نبرات صوتها تشبه سمفونية عالمية جميلة ، هادئة ، فيها انوثة و حلاوة تحاكي روح الأنسان ، أيمكن لتقدم العمر أن يغير في الأنسان كل شيء ، حتى صوته ؟ ما أصعب هذه الحقيقة : كل شيء يتغير مع الزمن ، كم أتمنى ان اسمع صوت "ميادة " مرة اخرى ، غداً ..... أو بعد غد سأعثر على الحقيقة ، غداً سأعرف كم من السنين مرت؟ . في اليوم التالي ، نهض في الصباح الباكر ، لم يكن يريد أن يقوم من الفراش ، بل بقي يفكر و يخطط فيما سيفعله اليوم . أين؟ متى؟ كم ؟ ماذا ؟ كيف؟ و لماذا ؟ كل هذه الاسئلة غير المكتملة تجري في فكره بسرعة الضوء وكأنه يسافر في مركبة فضائية في أقاصي الكون الفسيح ، لا يعلم ماذا يفعل أو ماذا يقرر او ماذا يريد ؟ وأخيراً قرر الخروج ، بعد تحضيرات دامت ساعة و نصف ، مثل كل يوم عادي ( الحمام و حلاقة اللحية و الفطور و تجوال في غرف البيت و ترتيب غرف الاطفال ) خرج و لم يبدل من هيئته شيئاً كما يخرج كل يوم ، لم يغير من أسلوب حياته ، ذهب ككل يوم إلى المقهى ، لكنه اليوم غيّر شيئاً واحداً فقط ،هو أن يذهب مباشرة إلى المقهى دون أن يقوم بجولته داخل السوق ، احتسى كوباً من الشاي والقى نظرة خاطفة إلى الدكان ،ثم انتظر حتى وقت الموعد ، بحذر ودون أن يثير أدنى ضجة خرج من المقهى ، دلف إلى المكان الذي حددَ بالأمس مع "وفاء " عبر الهاتف ، حين وصوله كان قد بقي من الموعد عشر دقائق ، نظر حوله وكان المكان يبدو غريبا عليه ، أو كأنه يزور المدينة لأول مرة في حياته ، شاهد بيوت المدينة على شكل مدرجات ، الأبواب و الشبابيك على هيأة أقواس جميلة ، خيل إليه أنها تضحك عليه ، فجأة ظهرت " وفاء " بطلّلتها (الجميلة؟ )في زاوية الزقاق ،وكانت تنزل من الدرج المؤدي إلى الحي القديم ، لما لاحت قامتها ، شعر بروحه وكأنها تخرج من جسده : - إنها ميادة ولكنها لم تكبر ، لم يغيرها الزمن ، إنها هي ، توقف الزمن عندها ، إنها ميادة التي لم أرى أجمل منها أبداً . ما أن اقتربت منه و ابتسمت له ، شعر بهزة قوية في جسده بل في كل كيانه ، اختل نظامه ،تسارعت كلماته في الخروج ، كلها تخرج في أن واحد ، قافزة الدموع فوق مقلتيه ، ابتسامة حزينة رسمت على وجهه ، يداه ترتجفان و تتحركان دون إرادته ، أفكاره غير منتظمة ، مهشمة ، غير واضحة ، لا تستجيب معه ، فجأة توقف كل شيء عنده، الزمان ، المكان ، الكلام ، التفكير و الكون ،و أصبح لا يرى غيرها في فضاء ضبابي فسيح مع كلمة: - صباح الخير . ثم أردفت! - ها .... عمي ماذا تريد ؟ ممكن أعرف ماهي نيتك ؟ . بهذه الكلمات استفاق من هول الصدمة ورد بهدوء مقلق ! - صباح الخير. ثم أضاف - كل ما أريده أنت ، أنت وفقط . - حسناً ، ممكن جداً أن أكون لك ، لكنني امرأة متزوجة ولدي طفلان ، ثم كيف تريدني أن أكون لك وأنا متزوجة من رجل أخر ؟ ثم ألا تخاف أن يرانا أحد في هذا الشارع و يخبر زوجتك و أنت رجل كبير بالسن ؟ ألا تخاف ان يأتي زوجي ويراك معي ؟ ماذا تريد بالضبط ؟ انا لست بالمرأة التي تستحق ذلك ، أنا ميتة منذ زمن بعيد ، ابتعد عني ، أنا ملزمة بخدمة أولادي و بيتي . - حسناً كل ما تطلبينه مني جاهز، ولكن اعتبريني صديقاً ، أو اعتبرني منقذ ، سأحقق لك كل شيء، ولكن هل أستطيع أن أزوركِ في البيت ؟. - آها ... طيب و بأي صفة ؟ وعندما يراني الناس وانت تدخل بيتي ماذا أقول لهم ؟ او يعرف زوجي ذلك ماذا أقول له ؟ أو ابي ، عمي او أخي .....او .... اقول صديقي ، وانت نفسك ،هل تؤمن بعلاقة الصداقة بين الرجل و المرأة في هذه المجتمعات ؟ وكيف سينظر الناس إلى هذه العلاقة ،حتى لو كانت علاقة بريئة ؟ ثم هل يؤمن الرجل نفسه في مجتمعاتنا بوجود هكذا علاقة ، أم ينظر إلى المرأة كأداة للجنس و إشباع رغباته أو وسيلة للترفيه عن نفسه ؟. مع السلامة يا .... بابا ، عمي أو يا صديقي . وحاولت أن تمر من أمامه ، فقال وهو يحاول استجماع قواه و لملمة شتات أفكاره ليركب جملة واحدة فقط كي لا يضيعها إلى الأبد مرة أخرى: - ليس لدي مانع ، لكن لنكن على التواصل عبر الهاتف، وأن أراكِ من حين لأخر ولو من بعيد. فاستدارت إليه ونظرت إليه من فوق كتفها: - موافقة بشرطين ، الالتزام بمواعيد المكالمات و ثانياً مصاريف المكالمات عليك . ودون إضافة شيء اخر نزلت من الدرج المؤدي الى الشارع الفرعي ، المفضي إلى الشارع الرئيسي . بقي هو في مكانه سامراً لفترة ثم سلك نفس الدرب ، انحرف يساراً نحو المقهى مرة ثانية ، شرباً من الشاي و قليلاً من الماء ، بعد هذه المقابلة كان كمحارب مهزوم يجر هزائمه وراءه, او كعاشق مكسور الفؤاد ، جرجر نفسه إلى البيت ليستريح و يرتاح من هول الضربة . ثم كرر المكالمات و المواعيد على الطرقات، في الزوايا الخفية في الشوارع و الازقة الضيقة، بعيداً عن أعين البشر ، استمر الحال لأشهر دون اي تغيير لا في وقت المكالمات و لا في أماكن المواعيد، إلا أن جاءت اللحظة التي كان قد يئس منها ، فاذا هو يتفاجأ ،عندما سمعها في إحدى المكالمات وهي تقول : - غداً في الساعة الثانية بعد الظهر انتظرك في البيت ، يا عمي ....يا صديقي . مع ضحكة خفيفة ، ناعمة ، كانت اُنوثية جداً لأنها كانت نابعة من أعماقها ، وكأنه ولأول مرة يسمع صوت امرأة تضحك . كانت "وفاء" امرأة في حوالي الثلاثين من عمرها ، متوسطة الطول نحيفة الجسم ، ذات وجه دائري ممتلئ ، و بشرة بيضاء صافية ، خدودها ملساء ومتوردة؟ تظهر عليها حمرة قليلة، وتملك شفاه مكتنزة و شكل فم جميل و صغير و كأنه مرسوم بيد رسام ماهر ، كانت عيناها عسلية مائلة إلى الخضرة مرسومة بشكل جميل ، تزداد جمالها حينما تضحك ، لانهما تكونان على شكل هلالان فوق خديها البيضاوين ، كانت لها خصلات شعر شقراء، تنزل على خديها وكأن الطبيعة عمدت الى رسم هكذا وجه لهذا الشعر ، اما باقي جسمها فكان في تناسق عجيب و رائع ، ممشوقة القوام و لا ترى في قامتها اعوجاجاً ، دائما تلبس ثوباً احمراً كأنها لا تملك غيره، مع شال اسود مهترئ للراس و فوقهما عباءة سوداء تحملها الى النصف ، وتظهر تحت عباءتها السوداء ساقان بيضاويتان لتشبه لوحة فنية في منتهى الروعة و الجمال . دنت اللحظة التي كان ينتظرها منذ خمس وعشرين عاماً ، هو وميادة في مكان ما وحيدان دون أن يزعجهما أحد هكذا تصور ، كانت روحه عطشى لهذه اللحظة ، كان كمن سار في صحراء جافة و فجاءةً لاحت أمامه واحة مزدهرة بالماء و الخضرة و الظلال ، كان كل جزء من كيانه له نغمة معينة لاستقبال هذه اللحظة ، اقترب موعد اللقاء ، مشى إلى حيث دلته على مكان اللقاء و لاصطحابه الى منزلها ، وقف في المكان المحدد ينتظر ظهور "وفاء " ، لم يمر كثير من الوقت حتى ظهرت ، وبنفس الهيئة التي رأها من قبل ، وقالت: - مرحباً. بدأ بالكلام وهو يرتجف كالواقف على سلك رفيع فوق هاوية عميقة ، فرد: - اهلاً وسهلاً. - تفضل معي. مشى وراءها كأنه أعمى ، دخلا زقاقاً ضيقاً ، لا يكاد يمر فيه شخصان معاً ، ثم صعدا درجاً طويلاً وسخاَ جداً ، بدا المكان قديماً جداً ، مكان لم تصل اليه يد الحضارة ، بيوت منخفضة, الأبواب و الشبابيك من الطراز القديم ، شعر بأنه في المدينة ألف ليلة و ليلة ، في نهاية الدرب وجدا أمامهما بيتاً كبيراً ذا طرازٍ حديث و كأنه خارج من الارض في هذا المكان العالي و الصعب الوصول ، يلف به زقاق ضيق و وسخ ايضاً و استدارا في الجانب الشرقي للبيت الكبير ،كان ثمة باب حديدي أحمر يبدو أنه باب سرداب البيت الكبير ، وللانحدار الكبير للأرض أصبح الجزء السفلي خارج الأرض ، و الأغلب وجِد هذا لتعديل أساسات البيت الكبير ،و فتحت الباب الحديدي الأحمر و دخل ورائها دون أن ينطق بكلمة واحدة ، كان بيتها مكوناً من جزأين رئيسين ، الجزء الامامي مقسم كذلك مرة اخرى إلى قسمين ، وفي اليمين هناك جدار من قوالب اسمنتية عليها ستارة يبدو أنها تستعمل كحمام و دورة مياه في نفس الوقت ، أما في اليسار فكانت تبدو كمطبخ البيت ،لكن بدون جدار ، مع ستارة سميكة من القماش ، ثم يواجهك باب بلاستيكي أبيض يفضي إلى غرفة مستطيلة طويلة ذات شباك صغير على الجهة اليمنى ،كانت هي أيضا مقسمة غلى قسمين ، في الجانب الايمن من الشباك يبدو انه بستخدم كغرفة للمعيشة ، أما في الجانب الايسر و الأكثر ظلمة كان يستخدم كغرفة نوم، و يحتوي على دولاب خشبي ذي أربعة أبواب ، كانت نصف مفتوحة أو أقفالها معطلة ، كانت الغرفة بشكل عام نظيفة و مفروشة بسجاد صناعي مخطط ، نظيف و مرتب . - تفضل ، اجلس . قالت و خلعت عباءتها السوداء، - اخذت اطفالي إلى بيت خالتهم. قالت وهي تستند إلى الباب و تضع يدها على خاصرتها. - ماذا تريد ؟ انا لست بالمرأة التي تتصورها ، أنا دعوتك الى بيتي لسببين ، أولا أنت مثل أبي و ثانيا لأنهي حكايتك معي ، لأنني لا استطيع ان تستمر هذه المسرحية . ثم ختمت كلامها تهم بالخروج من الغرفة ، استدارت وقالت : - ماذا تشرب شاي ، قهوة ؟ . ظل ساكناً و ساكتاً دون أن ينبس بكلمة واحدة ، وكأنه تمثال رخامي نُصِبَ وسط الغرفة ، بعد هينة رفع رأسه و تمتم بكلام نصف مفهوم: - يمكن أن اكون منقذك من هذا القبر الذي تعيشين فيه ، انا مستعد لفعل اي شيء تطلبين إلا الزواج، بشرط ان أناديك ميادة وأن أراك كل يوم على الأقل و أزورك متى شئت ، أقضي بقية عمري معك ، فأمري و أنا أنفذ كل ما تأمرين به . خرجت بعصبية و دون أن تنظر إليه مع حركة من يدها ،وكأنها تريد أن تقول مجنون ،و لكن حركتها كانت تنمي عن حالة عصبية أو حالة من الغضب . جهزت الشاي ، جلبت كوبين من الشاي و جلست امامه : - تريد سعادتي ، تخلصني مما أنا فيه من غير زواج ، كيف؟ تشتريني ؟ تحررني من هذه العبودية ، تخرجني من هذا القبر الذي أدفع أجره من جهدي و شبابي و سعادتي ، تشعرني بالسعادة ، أضحك من كل قلبي دون خوف أو تردد ، تحررني لأتهن بحياتي ، ولكن السؤال كل هذا مقابل ماذا ؟ ما هو الثمن ؟ إن المرأة في هكذا مجتمعات هي مقياس الرجولة ، مقياس الشرف و مقياس الكرامة ليس للعائلة بل ربما للعشيرة وهي بالأساس فاقدة الكرامة ، الشرف و الحياة ، أنا لن اقبل بعبودية مقابل عبودية ، ابتعد عني ، دعني و شأني ، أنا لا أستطيع تحمل أكثر ، يكفيني ما انا فيه ، أرجوك ، أنا أُمارس حياتي ببساطة ولدي ما يكفي من الصعوبات في حياتي ، ولا أُريدها معقدة أكثر من هذا ، كل همي أن أربي أطفالي ، امنحهم فرصة تعليم لائقة تجعلهم سعداء في المستقبل و لا يكونوا مثلي ، أنا تخليت عن الحياة في سبيلهم ، ليس لديهم أحد غيري ، أرجوك ابتعد عني ، أُخرج من طريقي ، دعني أعيش حياتي كما أُريد ، أنا راضية بما كتب لي ، لا أُريد منك شيئا لأنك رجل مثل باقي الرجال. كان ينظر الى كوب الشاي ، يرفع راسه بين حين و آخر لينظر إليها و هي تتحدث إليه ، خلال كل هذا الكلام لم يرى دمعة واحدة في عينيها ، وقال في نفسه: "ربما هي بكت ما يكفي لأن تجف دموعها أو لا أنها لا تريد أن تشعر بانها امرأة ضعيفة ، أو إنها امرأة حقيرة بائسة و لا تريد أن أعطف عليها ". - انتِ كيف تريدني أن أُحرركِ ؟. سال وهو ينظر إلى قعر كوب الشاي وما بقي فيها من بقايا السكر ، قطع من ورق الشاي ، ثم أضاف : - أنا أستطيع أن أُوفر لك كل ما تريدين ولكن لا أضمن السعادة ، لأنني لا أعرف كيف تكوني سعيدة ، إن كنت ستسعدين بالمال فهذا بسيط جداً ،أما إذا كنت غير مستعدة للسعادة ، فانا لا أستطيع أن أفعل أيّ شيء . نظرت إليه و سألته : - تريدني ككل ، أم تريد جزءاً مني ؟ اذا كنت تريدني ككل ، أنا مستعدة لأن أتنازل عن بعض ما أملك في المقابل تمنحني الطمأنينة و السعادة و الحرية ، أما إن كنت تريد شيئا آخر ، فهذا الشيء لا يهمني و لا يهم أحداً ، أُعطيك كيفما تريد لأنني ميتة ، ميتة ، ولا اعتقد بأنني سأشعر يوما ما بعارٍ أكثر مما أشعر به الآن ، أصبحت أكره نفسي ، أكره كل جزءٍ من جسمي ، حتى أكره كل ما ألمسه ، أكره الناس ، الدنيا و كل شيء . قام من مكانه وهو محطم ، يشعر بثقل كبير في راسه : - حسناً ، سأذهب اليوم ، و سأعود متى ما سمح الوقت بذلك ، أزورك في وقت آخر ،ستكونين بحال أحسن من الآن ، شكراً على الشاي و الضيافة و طيبة قلبك ، مع السلامة . حاولت ان تمنعه من الخروج لأنها كانت لديها فتات كلام مازال يعشعش في صدرها ، تريد أن تخرجه ، لأنه كان يسبب لها ضيقاً في صدرها ، إلا أنه خرج ، كأنه من أصحاب الأعراف ، لم يظفر بشيء مما في خياله ، ووجدها امرأة مختلفة جداَ عن "ميادة" ،التي كانت رقيقة ، ناعمة ، حنونة و رومانسية بل وجدها امرأة بائسة ،محطمة ،مهمومة ، منحطة وحزينة حزن الدنيا كلها لحد السوداوية . ، أصبح هو أيضاً يحس بأن فضاءه قد اضطرب و كواكبه قد خرجت من مساراتها ، تسير بغير هدي و لا هدف ، ظلّ منشغل البال ، الفكر لعدة أيام تالية . بعد أيام من المقابلة الأولى ، اشترى كمية من حاجاتٍ منزلية ( ملابس ، احذية ، منظفات ، مواد غذائية )، وذهب حسب الموعد المحدد ، ولكن هذه المرة طلب رؤية الاطفال ، فلما فتحت الباب ، رأت كل الأكياس التي كان يحملها ، لم تفاجأ ولم تظهر على وجهها اي علامات تعجب و لا علامات السرور ، فقط ساعدته على دخول البيت . عندما رأى الطفلين ، كان أحدهما بنت و هي الكبرى بعمر اربع سنوات ، والثاني ولد بعمر سنتين ، لم يتكلم ، ذهب مباشرةً نحوهما و قبلّهما ، وحمل الولد الصغير و قبله مرة اخرى ، ابتسم للبنت ثم نظر إلى الام: - لم انساهما و اشتريت لهما بعض الملابس و بعض الحلويات. ولما فرغت هي من تفتيش كل الاكياس ، كانت بين الحاجيات التي جلبها علبة ورقية صغيرةً وعليها صور امرأة بملابس النوم فرفعتها. - ما هذا ؟ ولِمَ هذا ؟. فأجابها وهو يلعب مع الولد الصغير الذي في حضنه . - هو لك ، اشتريته خصيصاً لك ، إنه ثوب نوم أحمر ، أرجو أن تجربيه الآن لأراه عليك إذا كان ممكناً . قال ذلك ولم ينظر اليها ، ومازال يداعب الولد ويلاطفه كي لا يبكي . - كيف ألبس وأنت موجودٌ ، كيف أنزع ملابسي أمامك ؟ اخرج من الغرفة أو أخرج أنا . التفت إليها وقال: - لا .لا سأخرج أنا لدقيقة. بعد أن أذّنتْ له بالدخول ، أصابته دهشةٌ كبيرةٌ ، لما راها وقد لبست ذلك الثوب ، فاقترب منها و دون أن يسيطر على نفسه امسك معصميها و اقترب منها: - أنتِ اجمل امرأة على الإطلاق ، أنتِ هدية الله ، أنتِ ملاك انزله الله لي ، أنتِ ميادة بروح وفاء ، أنتِ ماضيي الدفين ، اقبلي أن أخدمك ما دمت حياً. - ولكن لماذا تفعل كل هذا ؟. ردت بسرعة و بعصبية ،كانت قسمات وجهها توحي بحزن عميق و ارباك عظيم . - اسمع صحيح إن زوجي إنسان وليس بإنسان ، لا يهمه إلا نفسه ، لا يقوم بأدنى واجبات الزوج ، وحتى هذان الطفلان كانا نتيجة اغتصاب ، اجل كانا بسبب اغتصاب ، أنهما جاءا إلى الدنيا ليس رغبة مني ، ولذلك فأكرهما كثيراً، مع ذلك ليس لهما ذنب في ذلك ، لذا أفعلُ كل شيء من أجلهما وان لا يكونا مثلي و يمرا بما مررت به ، زوجي لا يعمل أي شيء و لا يريد أن يعمل ، همه جيبه و بطنه ، لو يعرف أنك موجود الآن لَجاء و باعني اليك بثمن بخس ، همه الأوحد أن يكون في جيبه كم دينار و يذهب إلى المقهى يشرب الشاي و يلعب القمار ، ويرجع على مشارف الصباح ، مفلساً و سكراناً ، ولو لم يجد أي مال في جيوبي ، يضربني ثم يغتصبني و ينام و يتركني أتألم لوحدي ، أي لا يقوم بواجباته لا في الليل و لا في النهار كانسان صاحب مسؤولية و زوج ، وهذان كانا نتيجة ذلك الاغتصاب و الضرب . ثم أضافت و عيناها مغرورقان بدموع صافية ، تجلس أمامه ، لابسةً ذلك الثوب الاحمر . - هل تريد ان تغتصبني أيضاً ؟. وحملت طفلها و أدارت ظهرها له ، قالت: - انا أكره الرجال ، يا ليتني لم أكن ، ولكن ما دمت موجودة ، لي حق في الحياة و العيش ولكن بكرامة و شرف، اليس كذلك ؟ ثم ذهبت إلى زاوية من زوايا الغرفة ، جمعت طفلاها إليها ، بكت بمرارة ، فذهب إليها وجلس إلى بالقرب منها وقال: - أنا لا أريد منك شيء سوى أن تكوني سعيدة ، أنا لا أريد منك إلا ضحكة و ابتسامة . - اريد أن يكون بجانبي انسان يكون زوجي ، ابي وصديقي ، يغمرني بحب و حنان ، يمنحني حياة كريمة ، يحزن لحزني و يفرح لفرحتي ، ويُشعرني بأنني زوجته ، وانني ام أطفاله ، يحسني بانني قادرة على إسعاد عائلتي ، أنا لا أريد رجلا يظلمني و يأتي آخر يعطف عليَ . قالت ذلك و قامت بخلع الفستان أمامه ، ولبست ملابسها . - أنت هكذا لن تجعلني سعيدة بل ستزيد من بؤسي فشكراً لك . ثم أضافت: - اخرج من حياتي فلا فرق بينك و بين زوجي لأنكما تريداني ذليلة و أنا لا أُريد أن أرى نفسي كذلك . ثم فتحت الباب و قالت: - تفضل . لم يستطيع أن يقاوم : - كل ما أريد أن ابقى معك ، و أجعلك سعيدة ، انا وعدت زوجتي بأن لا اتزوج بعدها ، هذا كل ما في الامر ، أنتِ ذكرى جميلة في حياتي ، أُريدك أن تبقين ، سأحاول بكل قوة أن أُحررك . قال وهو يحاول أن يقنعها بأن تقبل صداقته و لكن لم ينفعه ذلك . - أنا هكذا سعيدة و شكراً لك ، أرجو أن تخرج من حياتي ، ولا تأتي إليَ و لا تخابرني و شكراً للهدايا سأقبلها و لكن لو أردت سعادتي اخرج من حياتي ، وإذا أردت رؤيتي ، سوف تراني عند محل البقالة ، لكن دون أن تتصرف اي تصرف تغضبني وإلا بعد ذلك لن تراني إلى الابد ، مع السلامة و ارجو لك حياة سعيدة . ختمت كلامها و حملت طفلها الصغير ومسك الأخر طرف ثوبها ، لا يعرفان ماذا يجري . خرج و لم يضف شيئاً و غادر متوجهاً إلى البيت ، مشتت الافكار لا يعرف ماذا يقول ، ماذا يريد ، ماذا يفعل ، سجن نفسه في البيت لعدة ايام ، بركان ذكرياته مع "ميادة " انفجر فجاءة ، ثم أسرع و قام بحلاقة لحيته ، اخذ حماماً و لبس بسرعة ، كأنه في انتظار موعد قد تأخر لعصور و أزمان كثيرة و سار مباشرة نحو المقهى وجلس في مكانه المعتاد منتظراً مجيئها .
#عبدالله_بير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في رواية - الجريمة والعقاب - لفيودور دوستويفسكي - .
-
الهرمنيوطيقا (فلسفة التأويل).
-
قراءة لديوان (نارنج) للشاعرة نارين ديركي
-
ماركس وفوكو والصراع أو الحرب
-
اليمن و تجسيد أزمة الإسلام
المزيد.....
-
الأردن يطلق الدورة 23 لمعرض عمّان الدولي للكتاب
-
الكورية الجنوبية هان كانغ تفوز بجائزة نوبل للآداب لعام 2024
...
-
كوميدي أوروبي يشرح أسباب خوفه من رفع العلم الفلسطيني فوق منز
...
-
رحيل شوقي أبي شقرا.. أحد الرواد المؤسسين لقصيدة النثر العربي
...
-
الرئيس بزشكيان: الصلات الثقافية عريقة جدا بين ايران وتركمنست
...
-
من بوريس جونسون إلى كيت موس .. أهلا بالتنوع الأدبي!
-
مديرة -برليناله- تريد جذب جمهور أصغر سنا لمهرجان السينما
-
من حياة البذخ إلى السجن.. مصدر يكشف لـCNN كيف يمضي الموسيقي
...
-
رأي.. سلمان الأنصاري يكتب لـCNN: لبنان أمام مفترق طرق تاريخي
...
-
الهند تحيي الذكرى الـ150 لميلاد المفكر والفنان التشكيلي الرو
...
المزيد.....
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
المزيد.....
|