أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله بير - ندم اللقاء















المزيد.....


ندم اللقاء


عبدالله بير

الحوار المتمدن-العدد: 5803 - 2018 / 3 / 2 - 14:05
المحور: الادب والفن
    


ندم اللقاء
التقت عيناهما في الممر ، عينان ترزحان تحت الم كبيرو فيهما أسى عميق و حزن بلا حدود و عينان تشعان سعادة و فيهما ذكريات جميلة و سعيدة. لم يصدق كلاهما في تلك اللحظة هذا اللقاء ، الذي لم تحدد موعده ابداً ، إنه لقاء كانا يتمنيانه ولا يتمنيانه ، لقاء بين جنة الماضي و جحيم الحاضر ، لقاء كلاهما غرباء فيه ، لم يكن في الحسبان أن يتم في هذا العالم ، لقاء لم يكن ينتظره لا هو ولا هي ، مرا بجانب بعض دون حتى ابتسامة بسيطة ، كان الذهول سيد الموقف ، بل كان بالنسبة لكليهما وكأن الارض كفت عن الدوران ، و أن الزمن قد توقف ، وأن كل شيء قد انهار في تلك اللحظة ، كانت لحظة نسي كلاهما مفردات اللغة ، نسي كلاهما حتى لغة الاشارات ، بل نسي كلاهما أنهما في مكان ما في هذا العالم ، نسيا أن هناك اناس اخرون معهم ، احست هي بخوف شديد لا حدود له ، فزع كبير و كأنه عفريت خرافي ، احس هو بحزن شديد ، وكأن على أكتافه جبال منه ، كانت لحظة التقائهما و مرورهما متقابلين تُسقِط كل نظريات النسبية ، لم يكن في وسع اي عالم مهما بلغ من العبقرية أن يقيس زمن مرورهما امام البعض لأنها قد تكون لحظات ، ثواني ، ساعات ، قرون بل ملايين السنين . في تلك اللحظة فقد الزمن كل معنى له ، كان لا يستطيع احدٌ احتسابها بالمقاييس الارضية و قوانين الفيزياء و الجاذبية و النسبية ، انها لحظة خارج الزمان و المكان . كانت لحظة تنافر و تجاذب في آن معاً ، لحظة لم يبقى من الحياة إلا فتات او شذرات من ذكريات عمرها عشرات السنين ، ذكريات دفينة في طبقات عميقة من ذاكرة الانسانية ،ذكريات كانت في عداد الموتى . ذكريات لم تعد تسبب الأرق ، لم تعد تذرف دموعاً من العيون ، ذكريات لم تعد تزعج مضجعاً . في تلك اللحظة ، وكأن قنبلة نووية جبارة قد انفجرت و عصفت رياحها الهوجاء بفكرهما و دمرت كل شيء ، كل شيء اصبح خراباً ، كل جميل ، كل قبيح ، كل حب ، كل كره ، لم يتبقى إلا أشتات و صحارى و مجهول . ماذا حصل ؟ ماذا جرى في تلك اللحظة ؟ لم يعرف احدٌ شيئاً سواهما ، اسرع هو و دخل غرفته و اسرعت هي و دخلت غرفتها ، كان يبدو وكأنهما يهربان من كابوس مرعب.
ما أن وصل غرفته ،حتى اسقط نفسه على اريكة جلدية غالية الثمن ، بهذه الحركة اراد ان يغوص في اعماق الارض ، اغمض عينيه و دخل في حالة شبيهة بالغيبوبة . دخلت غرفتها و اسرعت تغلق الباب وراءها و جلست على كرسيها كأنها تهرب من شيء مخيف جداً وترتجف كأن بها حمى قوية . كانت مرتبكة ومكسورة و باهتة اللون. اندهش اصدقاءها و صديقاتها الموجودون في الغرفة معها و لم يعرفوا ماذا حصل لها و تساءل فيما بينهم بالإشارات و لكنهم لم يتبينوا شيئاً ، فاقتربت احدى موظفات منها وقالت :
- ليلى ، ليلى ، ماذا بك ؟ ماذا حصل ؟ هل انت مريضة ؟ هل حدث شيء لك ؟
لم تجب ليلى و وضعت راسها بين كفيها و سقطت دمعات من عيناها على الورق الذي امامها على الطاولة . دخلت السكرتيرة فوجدت مديرها راقد على الاريكة مغمض العينين و كأنه اصيب بنوبة قلبية او ما شابه ، فقالت بصوت هادئ مشوب بالخوف و الإرباك :
- سيد جميل ، سيد جميل .
رفع جميل راسه و نهض و عدل من جلسته و رتب من ملابسه و رد:
- ماذا ، ماذا حصل ؟
فردت سكرتيرة :
- ماذا حصل لك ؟ هل حضرتك مريض او تعبان ؟ ماذا تامر؟ هل اجلب لك شيئاً تشربه ؟ يبدو إنك لست على ما يرام .
كان يبدو جميل كمصاب بحمى قوية ،مرهقاً و علامات التعب بادية عليه. فقال :
- لا شيء ، لا شيء ، فقط، اطلبي لي فنجان قهوة و لا تدعي احداً يدخل عليّ إلا أن اعلمك بذلك ، ولا تحولي اي مكالمة تلفونية مهما كانت مهمة ، و الآن اخرجي رجاءً ، اتركيني لوحدي .
فردت السكرتيرة :
- هل من امر اخر ؟
لم ينطق جميل باي كلمة إنما اشارة بيده على الخروج ثم قام من مكانه و ذهب ليجلس على كرسيه و رفع راسه ينظر إلى السقف و غاب في تفكير عميق مرة اخرى, صدرت منه تمتمةً خفيفة وهو يكلم نفسه :
- " أهذا انت حقاً يا ليلى ؟ ماذا حصل لك ؟ اين جمالك الفتان الذي لم ينافسه جمال ابداً ؟ اين كبريائك و غطرستك؟ اين اختفت كل تلك الاناقة و الجمال ؟ جسمك نحيل و وجهك شاحب و ملابسك رثّة . وكأنكِ في الستين من العمر . لم يبقى من جمالك الذي كنت تتباهين به شيء ، حتى شفتاك لم يبقى فيهما تلك الطراوة و النضارة . هل انت ليلى ايام الجامعة حقاً ، هل انت تلك الفتاة التي لم تكن ترضى إلا بما هو عظيم ، بما هو انيق ، بما هو فخم ، هل تعرفين كنت اعبدك ، لا بالتأكيد كنت تعرفين ، و اعترفت لي بذلك مرات عديدة ، كنت تقولين لي انت تحبني اكثر من الحب و لكن في النهاية تركتني مثل اي كلب يتركه صاحبه في الشارع ، هل تتذكرين الايام التي قضيناها في حديقة الجامعة ، هل تتذكرين الوعود التي كنت الزم نفسي بها لأُرضيك ، هل تتذكرين كم كان لدينا من ذكريات جميلة ."
استيقظ جميل من غفوته على صوت فنجان القهوة التي جلبته السكرتيرة و وضعته امامه على الطاولة ، وكانت تبدو متعمدة في إحداث الصوت منه لأنها ادركت بأنه غارق في تفكير عميق و لا يحس بشيء من حوله .
من جانبها كانت ليلى هي ايضاً غارقةً في بحر افكارها في غرفتها ، وهي تفكر و تقول في نفسها :
- " هذا انت يا جميل ؟ الشاب النحيل الفقير في الجامعة ، عبقري الكلية ، فطن في كل شيء الا في الغنى ، هذا انت يا من كنت تؤمن بان المال لا يصنع الانسان بل الانسان هو الذي يصنع المال ، ماذا حدث ، هل ترك والد زوجتك كل هذا المال و السلطان لك ، ام كانت نظريتك صحيحة و صنعت لنفسك المال ؟ أأنت جميل ذاك الذي كنت احبه رغم فقره ، هل تتذكر ما كنت تقوله لي: انت اجمل الجميلات ، وكنت اضحك من هذه العبارة و اقول لك انت تبالغ كثيراً ، ليس لديك المال فانت تشتريني بالكلام . هل تتذكر لما كنت تقول تزوجيني وسوف اسكنك في بيت متواضع و حولنا اطفالنا نعيش سعداء ولو لم نملك المال ، نعيش مما سأكسبه من اي عمل كان ، ماذا حصل ؟ هل انت جميل ذاك الذي اراه في السوق خلف بسطته يبيع الأشياء القديمة ايام الجمعة ؟ هل انت جميل الذي كان يقول لي "لو تزوجت غيري لن اغفر لك ابداً "، كنت تقول اقبلي بي زوجا و سأكون خادما لك ، سأعمل كل شيء في سبيل ارضائك . لا مستحيل أن تكون انت هو ، مستحيل".
لم تفق ليلى إلا على صوت دقات صديقتها وهي تضرب الطاولة بيدها و هي تقول :
- هيا ، ماذا بك ، انتهى وقت الدوام ، لنذهب و لنحلق الباص قبل ان يفوت علينا ويتركنا لأرجلنا .
ابتسمت ليلى ابتسامة باردة و اخذت حقيبة يدها و التحقت بصديقتها التي خرجت لتو . قبل انتهاء وقت الدوام بنصف ساعة طلب جميل من سكرتيرته ان يستدعي مدير ادارة الشركة إلى مكتبه لأمر طارئ، دخل مدير ادارة مكتب جميل و بادر إلى القول :
- خيراً سيدي المدير ، السكرتيرة قالت إن الامر طارئ .
فرد جميل :
- نعم ، هناك موظفة جديدة في الشركة و اسمها ليلى على ما اعتقد .......
فأجاب مدير الإدارة على الفور :
- نعم ، نعم استاذ ، تعمل في الشركة منذ شهرين ، ماذا حصل يا استاذ ؟ هل اخطأت في شيء ما ؟ هل اشتكى عليها احد ؟ إنها امرأة بائسة ، حالتها مريعة و يرثى لها .
فعدّل جميل من جلسته على الكرسي و امسك بورقة بيضاء ينظر فيها و قال بهدوء و برودة :
- افصلها ، اخرجها من الشركة غداً أعطيها مستحقاتها لهذا الشهر و لا تدعها تدخل الشركة مرة اخرى.
في تلك اثناء عدل كلامه بسرعة وقال :
- لا ، لا اصرف لها راتبها الشهري بالكامل ، و اصرفها.
تفاجأ مدير الادارة لهذا القرار ، لكن وضع جميل بدا مريعاً, لاحظ مدير الادارة ذلك منذ لحظة دخوله غرفته لذا لم يناقش الامر و قال :
- الذي تامر به سيُنفذ يا سيدي ، لكن اليوم الدوام انتهى غداَ صباحاً نُبلغها بالأمر .
ثم اضاف :
- ارجو يا استاذ أن تصدر قراراً بهذا الامر لتقوم شعبة الحسابات باللازم ، هل من امر اخر ؟
اشارة جميل بإشارة النفي و قال :
- مع السلامة .
كانت ليلى في الطريق- كما في البيت- غارقة في دوامة من الافكار ، لم تعد تحس بشيءٍ حولها ، ولم يحس بها احد ،كانت تقول في نفسها :
- " ربما غداً ، سيناديني جميل ، ويعتذر عما اصابني ، ويعتذر لأنه اليوم لم يتكلم معي ، ولكن لماذا يعتذر و ليس هو السبب لما انا فيه أو انه لم يعرفني اليوم ؟ لأنني حقاً تغيرت كثيراً . انا متأكدة انه لن يتركني في هذا المستنقع الكريه الذي انا فيه . ربما سال مدير الادارة اليوم عني و عن حالي . غداً ، سيناديني و يعينني سكرتيرته الخاصة ، سيزيد من راتبي ، سوف استطيع شراء ملابس جديدة و راقية لي ، سوف أتأنق كثيراً مثل ايام الجامعة ، لا بد ان اعود جميلة كما كنت ، سياتي جميل كل صباح ويقول لي "صباح الخير ، هل ممكن ان تجلبي لي فنجان قهوة و ارجو تحضريه بنفسك ، لان القهوة من يديك طيبة جداً" و سأقول له حاضر يا استاذ ، فيلتف و يقول "كم مرة قلت لك لا تقولي لي يا استاذ بل جميل ، انا جميل فقط كما كنت تقولين في الماضي " . سأعود كما كنت ، سألبس الاجمل ، سأتناول الالذ ، ستزول عني رائحة البصل و الطبخ ، سأشتري احلى العطور ، او سأدعه هو يشتريها لي على ذوقه ، اجل فليشتريها هو ، ليختار لي الملابس و العطور لان ذوقه كان جميلاً ".
بقيت ليلى غارقة في هكذا افكار ، كان جميل هو الاخر يترنح تحت جبال من الافكار الغريبة . و لما وصل إلى البيت كان مهموماً و مرهقاً و مكسوراً ، قال لزوجته :
- لا اريد تناول الغداء الان ، لأنني مرهق قليلاً ، اريد اخذ قسط من الراحة ، إذا كان ممكناً .
بعد أن دخل جميل غرفته و ابدل ملابسه ، استلقى على السرير دون اخذ حمامِ كالمعتاد ، اخذته افكاره مرة اخرى إلى ايام الجامعة ، وكيف كانت ليلى تصبح فاتنة كلما راته فتبتسم و تشرق وجهها بإشعاعات غريبة فيحس بانها اجمل مخلوقات الكون . اغمض عينيه وقال في نفسه :
- ليلى ، كنت فيما مضى داخل روحي و خارج حياتي ، اليوم كنت خارج روحي و داخل حياتي ، لأخرجنَّك من كليهما . اذهبي لا تعودي ، لا تكدري لي حياتي انا سعيد كما انا ، اذهبي كما ذهبت اول مرة . يا الهي ماذا يحدث بعد كل هذه السنين هل ما زلت احبها ؟ كنتِ اليوم امامي ولم استطيع مصارحتك ، لا لن اقبل ان تدخلي حياتي مرة اخرى ، لأنك دمرت حياتي لن اسمح بان تكرريها مرة اخرى . انت رفضتني مرة و لن اقبل بك في المرة الثانية . اذهبي حيث تشائين ، لا يهمني ، الذي يهمني ان تخرجي من حياتي و لا تعودي اليها ابداً ، غداً ، سأنتصر و سأكون سعيداً جداً ، لأن روحي ستتحرر من حبك ، اذهبي لا اريد ان اراك بعد الآن ، لا تعودي لتعكري صفوة روحي ، حياتي سعيدة كما هي ، بنيتها بنفسي ، كما قلت لك سأبني حياتي دون ان اعتمد على احد ، لن اقبل ان تَمسي حياتي من جديد لأنك رفضت ان تشاركني في بنائها ، رفضت ان تكوني شريكة حياتي و رفيقة دربي ، اذهبي حيث تشائين ولكن لا تكوني حيث أرى .
استفاق جميل على صوت زوجته وهي تقول :
- جميل ، جميل ، حبيبي ، ماذا بك ؟ هل انت مريض ؟ هل ازعجك شيء ما ؟ انهض انه وقت الغروب و لم تتناول شيئاً ، لا بد وانك جائع الآن .
في صباح يوم التالي ، كانت ليلى في حالة اشبه ما تكون بنشوة سَكر ، كانت تحس بإشعاعات السعادة تشرق خلف تلال من تراكمات الحزن العميق في نفسها . ذهبت إلى غرفتها وجلست على كرسيها و بدأت بتصفح بعض الاوراق التي أمامها وكانت بحاجة إلى التدقيق فيها ، كانت تشعر بسعادة غريبة كنسمة هواء تهب عليها بين حين و آخر و لا تعرف مصدرها ، كانت تضحك بلا ادنى سبب ، اندهش زملائها من حالتها هذه . في الساعة التاسعة تقريبا ، اتى عامل خدمات الشركة إلى غرفتها وقال :
- ليلى ، مدير الحسابات يريدك في غرفته الآن .
سمعت ليلى هذا ، و قالت في نفسها " حانت الساعة " و اشرق وجهها بالنور ، وزينت وجهها ابتسامة عريضة ، لأنها كانت تظن إنها ساعة اليسر لا محال وأن الفرج قادم . دخلت ليلى غرفة مدير الحسابات و هي تكاد تضحك لأدنى سبب أو تكاد تطير من الفرح ، ولكن ما تمنته لم يكن في انتظارها ، بل وجدت مدير الحسابات و امامه ورقة و بعض المال ، و هو يقول لها:
- صدر قرار بصرفك من الشركة ، صُرف لك كامل مستحقاتك لهذا الشهر ، تفضلي وقعي هنا وهذا هو راتبك لهذا الشهر .
لم تدعه ليلى ينهي كلامه حتى اجهشت بالبكاء ، و لم تقوى على البقاء واقفة فجلست على اقرب كرسي موجود ، وبكت بحرقة شديدة ، وكانت الكلمات تخرج من فمها جملةً واحدة, لا يُفهم منها شيئاً :
- استاذ ، ماذا ... صرف ... مستحقات ، ل...ل... لماذا؟ ما...ماهي ...ماذا فعلت ، ا...أ....انا محتاجة .....ل...... ل... هذه الوظيفة ، ماذا افعل الآن ؟ اين .... اين ....اذهب ؟ قل يا استاذ من اشتكى عليّ ؟ ماذا فعلت كي يتم طردي من الشركة ؟ انا ، انا ، ماذا افعل ، لدي زوج معاق و اطفال صغار ، اجرة بيت اسكن فيه ، لابد أن هناك خطاء ما ، استفسر لا بد من ان هناك خطأ ما ، الم تعرف السبب يا استاذ ، اعطني فرصة اراجع مدير الشركة ، يمكن ان يكون هناك خطأ ما .
بعد أن رق قلبه لها, نصحها مدير الحسابات ان تراجع مدير الادارة لمعرفة السبب، ذهبت ليلى إلى غرفة مدير الإدارة كي تعرف تفاصيل هذا القرار المفاجئ ، وكان هو ايضاً في حالة من الذهول و الدهشة ، ما أن رأى ليلى بادر الى القول :
- ليلى ، ليس الامر بيدي ، انه قرار صاحب الشركة .
فقالت وهي تغلي في داخلها وترتجف كمن يسبح في مياه متجمدة و بصوت يخالطه البكاء :
- اريد ان اراجع مدير الشركة ، هل هذا ممكن ؟ ارجوك ساعدني يا استاذ انت تعرف ظروفي ارجوك ساعدني يا استاذ .
فقال مدير الإدارة بصوت هادئ :
- المدير اصدر قرار بان لا يراجع مكتبه اي موظف مهما كانت الاسباب ، لم يبقى لك إلا أن تنفذي الامر، وارى من الاحسن ان تذهبي و تستلمي مستحقاتك و تخرجي من الشركة بهدوء.
كانت كلمات مدير الادارة صادمة لليلى ، فلم تعرف ماذا تفعل ، تبكي ام تضحك؟ و اهتزت شفتها السفلى قليلاً و تمردت كلماتها و ابت الخروج من فمها ، ثم فجأة انحنت وحاولت تقبيل يد المدير و أجهشت بالبكاء مرة اخرى و جلست على ركبتيها على الارض واخفت وجها بين يديها و اخذت تبكي بمرارة ، مد مدير الإدارة يده إليها و انهضها من الارض و قال لها :
- سأحاول مرة اخرى مع سيد جميل و الآن اذهبي إلى الحمام اغسلي وجهك و اذهبي إلى غرفتك و سوف ارى ماذا أستطيع أن أفعل .
ما أن سمعت ليلى باسم جميل حتى بدت بالبكاء من جديد و خرجت من الغرفة وهي نادمة على اللقاء الذي حدث البارحة.
دخل مدير الإدارة إلى غرفة جميل ، بادر بالكلام :
- استاذ جميل انا جئتك بشان تلك الموظفة التي صرفتها اليوم من الشركة ، عندي سؤال إذا ممكن .
فقال جميل:
- تفضل ،اسأل .
فقال مدير الإدارة
- هل يمكن صرف النظر عن هذا الامر ؟ إنها لم تفعل شيئاً تستحق الطرد من الشركة ، انت تظلم هذا المرأة بطردها ، وهي تربي ثلاثة يتامى .
فدهش جميل لما سمع كلمة يتامى و سال بتلهف :
- كيف ؟ هل هي ارملة ؟
فجلس مدير الإدارة الذي كان واقفاً و اضاف :
- ليست ارملة بمعنى الكلمة ، ولكن زوجها معاق على الكرسي المتحرك ، نصف مشلول ، لا يستطيع عمل شيء ولا حتى الكلام ، انها تسكن قريبة من بيتنا ، وتعرف, انا الذي جلبتها إلى الشركة لأننا كنا بحاجة إلى موظفة إدارية خريجة جامعة وكانت لديها تلك المؤهلات .
فصمت جميل لبرهة ثم قال :
- اذهب الآن و سأفكر بالأمر و اعطيك الجواب .
فقال مدير الإدارة :
- ماذا اقول لها الآن ، ماذا ستفعل هي الان ؟
فرد جميل بعصبية :
قلت لك اذهب الآن و سأعطيك الجواب لاحقاً.
بعد ساعة استدعى جميل مدير الإدارة إلى مكتبه وقال له :
- حدثني عن جارتك هذه التي اسمها ليلى .
فقال مدير الإدارة :
- يا استاذ ، اصبحت هذه المرأة جارتي منذ سنتين او ثلاث ، ولما جاءت كان وضعهم مزرياً ، عاونها اهل الحي في ايام الاعياد و المناسبات, يجمعون لها صدقاتهم، اشتغلت خادمة في المنازل, تعاون النساء في ترتيب البيت و ما شابه ذلك، ولما سالت عنها بعض الجيران قالوا ان زوجها كان ابن احد اثرياء المدينة و لما مات ابوه ترك له ارثاً كبيراً ، ولكن الرجل الله يسامحه لم يعرف ادارة موارده و امواله فوقع في ايدي بعض اصدقاء السوء فجروده من كل شيء ، يقولون أنه خسر كل ما يملك في اسبوع واحد من لعب القمار, سترنا الله، فطُرد هو واسرته من البيت الذي تركه له والده ، واصبح في الشارع ، هو و امه و زوجته وثلاثة اطفال . يُقال إنه استأجر قبواً في وسط المدينة و حاول ايجاد عمل ، فعمل فترة عامل تنظيف في نفس العمارة ولكن نزلت عليه المصائب واحدة تلوه الاخرى ، فماتت امه في الاشهر الاولى من عيشهم في القبو ، ثم اصيب هو بجلطة دماغية عنيفة فأصيب بشلل نصفي ، واصبح مقعداً على كرسي حتى انه لا يستطيع الكلام ، ثم طرده صاحب العمارة واجر القبو لشخص اخر . من هناك اتوا إلى الدار الذي بقرب بيتنا ، كما تعرف يا استاذ الايجارات عندنا رخيصة فالبيوت القديمة دائماً ارخص ايجاراً من الجديدة . منذ قدومها الحي وهذه المرأة تعمل خادمة في البيوت ، تساعد النساء في اعمال البيت: الغسل و الكنس, وهم يعطونها قلبلاً من المال مع الملابس مستعملة و الطعام الزائد ، اتت في احدى الايام لتساعد زوجتي في اعمال المنزل و تعارفا و منذ ذلك الحين كانت كل اسبوع تأتي يومين او ثلاثة لتساعدنا في البيت ، وتعرف يا استاذ النساء و كلامهم الذي لا ينتهي ، فقصت قصتها لزوجتي بانها خريجة جامعة و زوجها مقعد و لديها اطفال صغار لذا هي تعمل لوحدها لإعالة عائلتها ، رجت زوجتي بان اجد لها وظيفة حتى لو كانت تنظيف في الشركة ، وحضرتك تعرف بان احدى موظفات قسم الإدارة قد تركت العمل منذ اشهر و اصبحنا بحاجة إلى موظفة جديدة ، فألحت زوجتي عليّ بان اعينها في الشركة بدلاً من تلك الموظفة ، لا اعرف هل تتذكر ام لا؟ فاتحتك بالموضوع فوافقت و اجرينا انا ومدير الحسابات مقابلة لها و كانت ملمة بشؤن الادارة فقبلناها و اصدرت حضرتك امر تعينيها قبل شهرين على ما اذكر او اكثر من ذلك بقليل ، ولكن الذي حيرني ، ماذا فعلت هي حتى تصدر امر فصلها عن وظيفتها ؟
بعد هذا السرد ساد الصمت لبرهة و ظهرت علامات غريبة بين حزنٍ دفين و بهجةٍ ظاهرة على وجه جميل ، فقال مدير الادارة :
- سيد جميل إلى اين تريد أن تصل ؟
فرد جميل :
- لا ، لا شيء بتاتاً .
ثم اضاف بحرص و لهجة قوية :
- اسمع يا استاذ ، مادام الامر هكذا ، لتبقى جارتك هذه في الشركة ولكن بشرط أن لا تخرج من غرفتها مهما كانت الاسباب و حتى المطعم لا تذهب إليها فليجبلوا لها ما تريد من الاكل و الشرب ، تخرج فقط إلى دورة المياه و لمرة واحدة في اليوم عند الضرورة القصوى ، هذا كل ما عندي اذهب و بلغها ، مع السلامة .



#عبدالله_بير (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قد لا يأتي الأمل أبداً
- الذي لي ليس لي دائماً
- الخير يأتي اولاَ
- العباءة
- افتح قلبك لتسمع روحك
- الظل
- لا تدع الديدان تقترب
- قراءة في رواية - الخيميائي - لباولو كويلو Paulo Coelho -.
- قراءة في قصيدة (كلما أنَّ الجسدُ من أسره رَفرَفت الروح) للشا ...
- ملائكة في طريق الجحيم
- ميادة
- قراءة في رواية - الجريمة والعقاب - لفيودور دوستويفسكي - .
- الهرمنيوطيقا (فلسفة التأويل).
- قراءة لديوان (نارنج) للشاعرة نارين ديركي
- ماركس وفوكو والصراع أو الحرب
- اليمن و تجسيد أزمة الإسلام


المزيد.....




- العلاج بالسينما.. الفيلم الوثائقي أبو زعبل 89
- تدهور الحالة الصحية للنجم بروس ويليس .. أصبح لا يتذكر تاريخه ...
- نقابة الفنانين في ذي قار تحتج على تجاهل رأيها في مشروع النصب ...
- بعد أحداث السويداء.. ما حقيقة فيديو -سوق السبايا- ومن يقف خل ...
- -ما بعد الحقيقة-.. تشريح معمق لأزمات المعرفة والتضليل في عصر ...
- وداع مؤثر من فرقة Black Sabbath ونجوم الموسيقى لأسطورة الروك ...
- مهرجان -ثويزا- بطنجة ينطلق الخميس -نحو الغد الذي يسمى الإنسا ...
- راغب علامة يتلقى الدعم من نقابة -محترفي الموسيقى والغناء- في ...
- الشاعرة السعودية ميسون أبو بكر تُسحر الريفييرا الفرنسية بنبض ...
- صدوق نور الدين يقرأ عالم كيليطو في كتاب جديد.. تأملات من قلب ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله بير - ندم اللقاء