|
الجزء الثاني من الرواية: القاف 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5381 - 2016 / 12 / 24 - 14:44
المحور:
الادب والفن
" الحياة الأولى قصيرة، فيما الحياة الآخرة بعيدة المنال. فما علينا، والحالة تلك، سوى إستعارة نسخة مصغّرة عن الفردوس السماويّ "، أستطردَ الشيخ في القول وقد أضفى نوعاً من الوقار على صوته المثقل بأثر الخمرة. في الأثناء، كان جيشٌ من الخدم يتحرك في كل الإتجاهات وكلّ منهم يحمل غرضاً منذوراً للسهرة الفردوسية، الموعودة. حتى الحمّامات، المتسقة حجراتها على نسق واحد ثمة في الركن المتطرف من المسبح، فقد وقفَ خادمٌ عند مدخل كلّ منها طاوياً فوطة على ساعده، متبدّ كأحد التماثيل البرونزية التي أعتاد " السيّد الفيلالي " مصادفتها في فيللات مخدوميه الفرنسيين. " لا بدّ أنّ ضيوفاً عديدين، سيشاركون الشيخ في الحفل "، فكّر السيّد وهوَ يستعيد عينيه من تلك الناحية القصية. ثمّ أستدرك حالاً، مُستعيداً كلام المضيف عن الفردوس: " ومن الممكن أنّ الرجل يحتفل كلّ ليلة على نفس المنوال، بالنظر لسعة رزقه وكرَمه؟ ". وهوَ ذا أحد الضيوف يتقدّم من مجلسهم، يرافقه من بدا أنه وصيفُ الشيخ. كان الضيفُ على خلاف في الشكل مع الآخرين من الحضور؛ بسحنة ناصعة، متناسقة القسمات، وعينين مسكوب فيهما عسلٌ ريان، صافٍ. أنحنى الرجلُ باحترام نحوَ يد المضيف ليقبّلها، فسحبها هذا ببطء مربتاً بها على الرأس المنحني. فلما جلسَ الرجلُ بمقابل السيّد، تبيّن أنه أكثر شباباً من الشيخ. هذا الأخير، قدّمَ ضيفه للآخر باحتفاء: " إنه صديقنا راغب؛ معلّم بصنعة الأثاث الدمشقيّ، ومقيم منذ بعض الوقت في مراكش ". وفيما كان الرجل الدمشقيّ يرفع كلتا يديه إلى رأسه علامة على الشكر والعرفان، واصل الشيخُ واجبَ التقديم: " أما صديقنا المغربيّ، السيّد الفيلالي، فلن ننعم كثيراً بصحبته كونه سينتقل إلى باريس للعمل في شركة إنشاءات سكنية " " أدام الله عليكم النعمة، سمو الشيخ.. "، ردّ السيّد تحية المضيف شاعراً بالحرَج لقاء دماثته وتواضعه. على الأثر، حضرَ خادمان يحمل أحدهما ابريق لغسل اليدين بينما الآخر وقفَ إلى جانبه مع فوطة ناصعة البياض. وما عتمَ أن تقدّم بعضُ الخدم مع آنية الفواكه، ليقوموا برصفها على البوفات في متناول أيدي الحضور. قال الشيخ بنبرة فخورة، متناولاً تفاحة ذات بشرة صفراء: " هذه من ثمار بستان القصر، وأيضاً كل ما ترونه من العنب والتين والتوت والمشمش والخوخ والأجاص والسفرجل والدراق والكرز..! ". كان يردد بشغف أسماء تلك الفواكه، وكما لو أنه بائعٌ على بسطة في سوق الخميس. ثم ألقى الشيخ نظرة ملية على كتيبة من الخدم، بدأت بنصب ركائز حديدية لشوي الذبائح على مبعدة أمتار قليلة من مجلسهم، قبل أن يتابع قوله: " نحن عرب، عرفنا شظف العيش وقسوته، تماماً كما كان حال نبينا الأكرم. كان آباؤنا يكسبون رزقهم باستخراج لآلئ الخليج، إلى أن بارت تجارتهم مع إكتشاف اليابانيين للؤلؤ الصناعيّ الأرخص ثمناً. ولكن الله شاءَ ألا يطول إفتقارنا، وإذا بالنفط يتفجّر في صحرائنا كالماء الزلال سواءً بسواء ". ثم ضغط الشيخ على ذراع ضيفه " راغب "، فخاطبه وهوَ يشير إلى ضيفه الآخر: " إنه كذلك من محتدّ نبيل، أيها الشاميّ العثمانيّ الأصل! نحن الثلاثة من أصول مختلفة، ولكنّ الله أسبغَ علينا نعمة الإسلام " " ونِعْمَ بالله.. "، ردد معلّم صنعة الأثاث الدمشقيّ بنبرة ورعة. على أنّ عينيه سرعان ما جحظتا، عندما أقتربَ خادمٌ من المجلس وكان محملاً بصينية فضية عليها رأسُ غزال. لعلّ الرجلُ جفلَ من مرأى عينيّ الغزال، المفتوحتين في رقة متناهية، متوائمة مع ثغره المنفرج عن أسنان بيض باسمة. أما الضيف المغربيّ، المعتاد على ذبح أضحية العيد بيديه، فإنه بدا مأخوذاً بالمنظر الدامي. وهذا هوَ مضيفهما، يلقي بدَوره نظرة على رأس الحيوان قائلاً: " لقد كان طريدة يومنا، الأبهى. ولحُسن الحظ، أنّ الباز لم يفقأ عينيّ الغزال الجميلتين خلال المطاردة. فإنني أبغي تحنيط رأسه، لكي ينضمّ إلى أخوان له ينتظرونه بشوق في حجرة مكتبي! ". نطقَ جملته الأخيرة وأعقبها بضحكة مجلجلة. شاركه الضيفان بشعور المرح، وبالأخص " السيّد الفيلالي " وكانت الخمرة تلعب برأسه لعبتها المعتادة. ثم ما لبثت بقية جوارحه أن أخذت بالإسترخاء، آنَ حضور ثلاثة من المطربين المحليين الجوالين مع آلاتهم الموسيقية، البدائية. أستمرّ هؤلاء بعزف الألحان الشجية، تارةً بلغة بربرية وتارة أخرى بالدارجة، مرافقين وليمة الذبائح المشوية على السفود. إذاك، كان السماط ذاخراً بآنية من الصيني الفاخر، المتخمة باللحوم ذات الرائحة الشهية، وقد تناثرت بينها خصلُ الياسمين الأبيض وبتلات الورد الجوري. ثم إذا بالمصابيح تطفأ على غرة، ليسطع بدلاً عن أضوائها أنوارُ حلقة من الشموع الكبيرة، المرصوفة في الساحة المعشوشبة المقابلة للمجلس. " رباه، إنه الفردوس فعلاً..! "، تمتمَ السيّد بكلماتٍ مبهورة ضاعت وسط صخب الموسيقى. عندئذٍ، كانت عيناه تتابعان موكباً من الحوريات، شبه العاريات، اللواتي كنّ يخطرن بخطى بطيئة راقصة، إلى أن صرن داخل حلقة الشموع. كنّ مغربيات، ولا شك، من ذلك النوع من الحُسن الأندلسيّ الشماليّ، المُهجّن بالدم الأمازيغيّ الريفيّ. بدأن برقص محليّ، مألوف لعينيّ السيّد، وتكمن فرادته في ثباتهن فيما أبدانهن ترتعش بحركات مثيرة يهتز لها الثديين والبطن والمؤخرة. بعد نحو الساعة، أنسحبت الفتيات ليخلين المكان لموكبٍ آخر من الراقصات. هاته الكوكبة الجديدة، كانت أقلّ احتشاماً في ملبسها وحركاتها على السواء. رقصهن، المُصاحَبُ بموسيقى غريبة الألحان، كان في غاية الإثارة بإعتماده على هزّ الردفين، المكسوين بسروال رهيف كالخيط. قال الشيخ وقد ألتمعت عيناه بشدة: " هذا الرقص برازيليّ المنشأ، يُدعى السامبا، ولكنه على ما يظهر خُلِقَ لكي تبدع به أوانسُ المغرب! ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجزء الثاني من الرواية: القاف 1
-
الجزء الثاني من الرواية: القاف
-
سيرَة أُخرى 42
-
الجزء الثاني من الرواية: الصاد 3
-
الجزء الثاني من الرواية: الصاد 2
-
الجزء الثاني من الرواية: الصاد
-
الجزء الثاني من الرواية: الفاء 3
-
الجزء الثاني من الرواية: الفاء 2
-
الجزء الثاني من الرواية: الفاء
-
الجزء الثاني من الرواية: العين 3
-
الجزء الثاني من الرواية: العين 2
-
الجزء الثاني من الرواية: العين
-
الجزء الثاني من الرواية: السين 3
-
الجزء الثاني من الرواية: السين 2
-
الجزء الثاني من الرواية: السين
-
الفردوسُ الخلفيّ: النون 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: النون 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: النون
-
الفردوسُ الخلفيّ: الميم 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الميم 2
المزيد.....
-
-عصر الضبابية-.. قصة الفيزياء بين السطوع والسقوط
-
الشاعر المغربي عبد القادر وساط: -كلمات مسهمة- في الطب والشعر
...
-
بن غفير يسمح للمستوطنين بالرقص والغناء أثناء اقتحام المسجد ا
...
-
قصص ما وراء الكاميرا.. أفلام صنعتها السينما عن نفسها
-
الفنان خالد تكريتي يرسم العالم بعين طفل ساخر
-
رابط شغال ومباشر.. الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2025
...
-
خبر صحفي: كريم عبدالله يقدم كتابه النقدي الجديد -أصوات القلب
...
-
موسيقى للحيوانات المرهقة.. ملاجئ الولايات المتحدة الأمريكية
...
-
-ونفس الشريف لها غايتان-… كيف تناول الشعراء مفهوم التضحية في
...
-
10 أيام فقط لإنجاز فيلم سينمائي كامل.. الإنتاج الافتراضي يكس
...
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|