|
كوميديا الثابت والمتحرك
عبد الفتاح المطلبي
الحوار المتمدن-العدد: 5282 - 2016 / 9 / 11 - 01:20
المحور:
الادب والفن
كوميديا الثابت وَالمُتَحَرِّك قصة قصيرة عبد الفتاح المطلبي بمصادفةٍ محض كان وجودي في غرفة الفندق المطلة على الشارع من الطابق الرابع فلم أفكر يوما بأن أطلّ على العالم من علٍ ، الحق أن الطلول على الحياة من فوق ممتعٌ ومحركٌ للمخيلة ، لم أختر ذلك إذ أنني وحالما وصلت إلى البلدة استقبلتني ثُلّةُ أصدقاءِ الليل القدامى المهووسون بالمرح، المدفوعون بشوقٍ حقيقي إلى استعادة أمجاد تلك الليالي المعجونة بنكهة الجنون وكنتُ أكثرهم مهارةً في صناعة تلك التفاصيل العابثة التي ما زالت عالقة في أذهانهم يتندرون بها كلما عنّ لهم ذلك ، هم أربعة وكنتُ خامسهم، وعلى الرغم من أن ما طلبناه كان متنوعاً لكنني كنتُ مصرّاً على احتساءِ المشروب المحلي الرخيص بينما راحَ الآخرون يرتشفون كؤوسَ المشروب الأجنبي ، هم يمزمزون وأنا أعبّ ، لم أحاول تفسير الأمر ولم يدفعهم ذلك إلى استجلاء السبب لأنهم يعرفون أنني لا أحيد عن رأيي في مثلِ هذهِ الأحوال، أصدقاءٌ سيئون حقيقيون ، اجتمعنا من أجل ذكرى قديمة مشوبة بذائقةِ تلك الأيام، شيءٌ ما مدفونٌ في أقاصي الذاكرة ،جعل المشروب المحلي رائعا ورخص ثمنه جعلني أفرغ في جوفي منه الكثير ، وبعد الهرج والغناء الذي يشبه مواء القطط ونباح كلاب منتشية وخوارثيرانٍ شبقةٍ ومخصيّة أحيانا، صَرَعَنِي المشروبُ الوطني وككل شيءٍ في الوطن يفجعك بسلوكه دون مقدمات لكنّ المشروب ُالأجنبي مثل صنارة الصيد تأخذ السمكة رويدا رويدا ، قد أبقى على ذُبالةٍ من الإنتعاش في رؤوس أصحابي ، كانوا يُغنّون وكنت شبهَ فاقدٍ للوعي بينهم ، وضعَ أحدهم حزام الحقيبة في عنقي ، أوقفوا سيارة أجرة ، حشروني في الوسط وأوصلوني إلى الفندق ، صعدوا السلالم وهم يسندونني وحينها لمحت السلم يدور ويدور ثم نمت وفي وقت آخر سيخبرني صديقي ذو الجثة الضخمة أنهم نفحوا عامل الخدمةِ بعضا من المال الموجود في محفظتي وهم يصخبون وألقوني على وجهي فوق السرير مرتديا سترتي ذات المربعات التي تشبه نافذة سجن عصري في بلاد ٍ حقيقية....نمتُ نوماً عميقا ، كنت أحلق بجناحين واهيين يشبهان جناحي يعسوب كبير، الغريب بالأمر أن كوني يعسوباً كان مقبولا حتى أنني رحت أفكر بما يفكر به يعسوبٌ أثناء طيرانه ، اليعسوب بعيونه المركبة الكثيرة ربما كان يرى ما أراه لكثرة تكرار الصورة في عدساته المزدحمة معتادا على زحام الصور بينما كنتُ كيعسوبٍ مخمورٍ تدهشهُ الأمورالتي لم يعتد على رؤيتها من فوق بعين يعسوب تتشظى الصورة فيها ، كان العالم تحتي مقموعا وأنا الحر الوحيد وفي تلك اللحظة حصل شيءٌ ما أخل بأجنحة اليعسوب الذي كنته وراح يعاني من صعوبة الطيران بينما بدت الطرقات مهووسةً بجدران الكونكريت ............................. بعد غيابٍ طويل عن الوعي تحرشت الشمس بعيني وطعنتها وهي مغمضة ،وما أن فتحتها حتى تكسرت أجنحة اليعسوب وهاجمني شعاعٌ مريدٌ لا ينفكّ يخزُ شحمةَ عيني المحمرّةَ من أثر السكر، فركْتُها وبدأت أنتبه إلى الأشياء التي شاركتني الغرفة ، رأيتني الثابت الوحيد بينما الغرفة بمحتوياتها تدور، خزانة الملابس ذات البابين الأسودين والمقابض البيض، المنضدة ذات المجرور بدت فوقها زهرية من الزجاج المموه تترنح وتوقعتُ أن تقع على بلاط الغرفة لتتناثر شظاياها ، التلفاز كان ميتا لكثرة أخبار الموت التي تبثها شاشته ،عرفت ذلك من رائحتهِ التي تشبه رائحة ثلاجة موتى المشافي العالقة بأنفي منذ استلام جثة صديق اختفى فجأة ولم نعثر عليه إلا في ثلاجة الطب العدلي ، لا أثر لمروحةٍ في السقف، كان الهواء يتسرب من شقوق شكلت دائرة مغلقة يحيطها إطارأسود، كأنني سمعت النافذة تعول وقد مدت ظلفتيها نحوي مثلما يفعل المستغيث ...يبدو أنني لازلتُ في حيز النشوة ، ذلك لم أعهده بي إلا مرةً واحدةً عندما وضع أصدقاء السوء ذاتهم شيئا ما في كوب الشاي أيام كنا نرتاد الجامعة ، كنا على موعدٍ مع امتحان الرياضة التكاملية وكنت الوحيد الذي أخذ الأمر على محمل الجد ، على كل حال هم أصدقاء سوء خفيفو الظل ظرفاء دائما، دسّوا قرصَ هلوسةٍ في كأسِ الشاي كي لا أجتاز الإمتحان الذي لم يتجاوزه أحدٌ منهم ، أتذكر أن محتويات الغرفة كانت تطير كلما نظرت إليها ، آه يا إلهي هل فعلها الأوغاد بي مرة أخرى وهذه المرة لأنني كنت قد بززتهم سوءً، آه يالهذه الحياة تجبرك أحيانا على أن تكون غير ما تشتهي، تحركت نحو النافذة التي كانت تستغيث ، أقسم أنني كنت أسمع صراخها تكاد تقول مللتُ الطلول على أشياء ميّته وأنت تقيدني في نظراتك ، الموت هناك في الأسفل ، زجاجي يشهد كم حطمته الشظايا وكم مرت عليّ أشلاءُ لاتعرف شيئا عما ألمّ بها ، مددتُ عنقي إلى الفضاء خارج النافذة ، هالني ما رأيت وتأكدتُ أن الأوغاد تذكروا الأيام الخوالي ، كان الشارع طويلا وأسودَ مثل إفعوانٍ أسطوري ، رأيتهُ يتلوى والسيارات مثل بقع مختلفة الألوان على ظهر ذلك الإفعوان فصَمَمْتُ أذنيّ عن سماع صراخ النافذة، رأسُه يختفي وراء البنايات العالية في المدينة وذنَبهُ يختفي في الحقول التي اصفرّ نباتها بشدّة وكانت النافذةُ تنظرُ إلى الناس وهم يطيرون في الفضاء ، مر عليها أحدهم كدتُ ألمسه، العالم يعيش بفوضى عارمة ، البنايات تتراقص ، المشروب المحلي جنونٌ مطبق، وأنا أرى إلى تلك الفوضى ظهر أمامي وجه هيلاري كلنتون وهي تضحك وددتُ أن أسألها : لماذا تضحك؟كانت تنظر إلى الأسفل ، إلى الناس الذين يبدون مثل حروف مبعثرة على صحيفة قديمة، كنت أدرك تماما أن الأمر غير مستوٍ مع الواقع وأنه لايوجد أي مبرر لظهور وجه هيلاري وإن كل ذلك بسبب تطرفي في الميل إلى ذكريات قديمة و ظرافة أصدقاء السوء القدامى والمشروب الوطني ، وإنني قد خبرتُ مقالبهم آه لو لم يفعلوا ذلك لكانوا بائسين ولكنت أكثرَ بؤساً منهم إذ أن الطلول على العالم بصيغته الواقعية هو البؤس بعينه، ها أنا أستمتع بالأمرفأنا الثابت الوحيد والعالم من حولي يطير يا للروعة ، اتجهتُ إلى صنبور الماء وضعتُ رأسي الثقيل تحت دفق إنبوبه البارد ، وعندما وضعت المنشفةَ على عنقي استرقتُ نظرةً إلى النافذة ، رأيتُ زجاجاتها تبتسم ، مددتٌ عنقي، رأيت الناس والأشياء تتساقط إلى حيث يجب أن تكون ولم يدهشني ذلك فهم كانوا يطيرون مثل بذور الهندباء وليس مثل اليعاسيب لذلك تساقطوا بهدوء ورسبوا في قعر المنظور مثل عوالق الماء العكر حين ترسب في قعر الكأس واستقر الشارع الأسود الذي كان كالإفعوان يتلوى ، أطلقتُ ضحكةً مدوية وصحتُ يالهم من ظرفاء أتى على أثرها النادل مستقصيا ...قلتُ له بأدب جم : أنا جائعٌ ياسيدي، طأطأ رأسه كما يفعل عادةً وعندما جلب صينية الفطور كان عليه أن يهزني بلطف فقد كنتُ أغطُ في نومٍ عميق رأيت فيه وجه هيلاري الجميلة وكانت هذه المرة عابسة لا أدري لماذا ولم تكن لدي الرغبة بسؤالها،كادت النافذة تستغيث لولا أنني انتبهت ورحتُ ألتهم فطوري بنهم.
#عبد_الفتاح_المطلبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكرى
-
إعاقة - قصة قصيرة
-
ضامَكَ الشوقُ
-
قلب النار
-
الوقوف على بساط القصيدة عند خديجة غربوب
-
يا جارةَ الروح
-
ليلتي لائلة
-
خديجة غربوب تصنع بدلة الإمبراطور غير المرئية
-
إستيقاظ
-
الأمم المتحدة
-
موجدة -قصيدة
-
إجتماع
-
وجد- قصيدة
-
قميص أحمر-بحر أزرق
-
لاتسأل الدار -قصيدة
-
حلول - قصة قصيرة
-
خيبة
-
مرثية الليالي - قصيدة
-
توجس - قصة قصيرة
-
أمنيات - قصيدة
المزيد.....
-
صورة لفنان عربي مع مدون إسرائيلى تثير جدلا
-
مسرحي أنباري: إهمال الجانب الفني بالمحافظة يعيق الحركة الإبد
...
-
الأفئدة المهاجرة التي أشعل طوفان الأقصى حنينها إلى جذورها
-
بعد رحلة علاج طويلة.. عبدالله الرويشد يعود إلى الكويت الأسبو
...
-
قطر.. افتتاح مركز لتعليم اللغة الروسية في الدوحة
-
نجم فيلم -سبايدرمان-: الفلسطينيون في غزة هم الأهم ويجب تركيز
...
-
محمد منير يثير تساؤلات بسبب غيابه عن تكريم مهرجان الموسيقى ا
...
-
-جوكر: جنون مشترك-.. لعنة السلاسل السينمائية تُجهز على فيلم
...
-
من هو مختوم قولي فراغي الذي يشارك بزشكيان في ذكرى رحيله بترك
...
-
أحداث تشويقية لا تفوتك.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 167 مترجمة
...
المزيد.....
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
المزيد.....
|