أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد جلال - الموسيقى والتراجيديا عند نيتشه















المزيد.....


الموسيقى والتراجيديا عند نيتشه


محمد جلال

الحوار المتمدن-العدد: 5213 - 2016 / 7 / 4 - 17:35
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تعني كلمة "تراجيديا" في أصلها الكلاسيكي اليوناني "أغنية الماعز" ، نسبة إلى طقوس احتفالية عبارة عن رقص وغناء/ديثرامب مصاحبة بالتضحية بالماعز في اليونان القديمة. وتتعلق التراجيديا عموما باستعراض حدث يثير انفعالات الألم (غالبا ما ينتهي بالموت)، وذلك من أجل كشف الجانب المأساوي للحياة، غالبا ما يكون بطل هذا الحدث ذا مكانة عالية في الوسط الذي ينتمي إليه (لنتذكر أوديب لسوفوكل)، فالتراجيديا حسب نيتشه تعمل على إثارة مشاعر التحدي وبه تمحق مشاعر الخوف والشفقة وتطهر النفس من هذه الإنفعالات .
تجد التراجيديا أساسها في الشعائر الميثولوجية القديمة في بلاد اليونان، لكن الروايات التراجيدية التي كتبها مثلا أسخيلوس ، يوربيد ، سوفوكل ، كانت تتسم بالطابع الأدبي أكثر من اتسامها بالطابع الديني/الميثولوجي .
لن نتطرق للتراجيديا من حيث بنيتها الداخلية (المقدمة ، العقدة ، الحل ...الخ) أو عناصرها (الشخصيات، الموضوع التراجيدي...) أو المشهد و إطار العرض المسرحي ، بل سنتناولها في بعدها و دلالتها الفلسفية والوجودية ، لأن نيتشه عندما كان يتحدث عن التراجيديا اليونانية لم يكن يتحدث عنها بلغة أرسطية واصفة ولا بلغة تاريخية (لأن التراجيديا قد تغيرت بين أسخيلوس ويوربيد وسوفوكل، من حيث تموضع أغنية الجوقة على امتداد المشهد التراجيدي ، كما تغيرت عناصر المقدمة الحوار وأطواره وعدد الشخصيات) ، "بل إن نيتشه كان يتحدث عن التراجيديا مداعبا إياها وبلغة فنان جمالي عاشق حتى الثمالة" .[1]
في كل الأحوال تتصف التراجيديا بتصاعد الأحداث نحو التوتر والقلق وتمتزج بلغة الموسيقى التراجيدية المصاحبة لها، التي تزيد من حركتها وتأثيرها ، وهذا العنصر الغنائي هو الذي يضفي على التراجيديا قوتها ويجعلها أكثر جاذبية .
أ) الميلاد التراجيدي لـ ديونيزوس وتصور نيتشه للتراجيديا
لعل تصور نيتشه الديونيزوسي، الفني للوجود هو ما يملي الوقوف عند الإله البطل "ديونيزوس"، إله الموسيقى والمناضل من أجل تخطي المصائب لإعطاء معنى للحياة وجعلها تستحق أن تعاش .
ديونيزوس من بين أهم الآلهة عند اليونان، إنه إله السكر والخمر والفنون الجميلة ، كانت ولادته غريبة كما كانت حياته بئيسة ، ولد في ظروف جد معقدة ، فهو ابن للإله زيوس وسيميلي (وهي امرأة و ليست إلهة )، لذلك كانت الولادة من زيوس وليس من الأم . أخرج زيوس من أحشائه ديونيزوس الصغير واحتفظ به في فخذه لمدة ثلاثة أشهر لكي تكتمل ولادته بشكل "طبيعي" . وقد أثارت ولادة ديونيزوس حقد وغيرة هيرا (زوجة زيوس)، مما اضطر معه زيوس لتحويل ديونيزوس على بنت وسلمه إلى أتاماس وإينو ليتعهداه بالرعاية والتربية، ولكن الإله الصغير لم يسلم من شر هيرا التي سلطت الجنون على أبويه بالتبني (أتاماس وإينو) ، مما دفعه إلى الهجرة بعيدا حيث حوله زيوس إلى جدي –قصد تمويه هيرا- و هناك تعهدته بعض الحوريات بالرعاية، وعندما وصل ديونيزوس إلى سن الرشد لاحقته لعنة هيرا فأصيب بالجنون، وتاه في العالم، وكان عندما يدخل إلى بلد ما يعلم الناس طرق غرس الكروم، وكيفية صنع الخمور .
استمرت رحلة ديونيزوس التراجيدية في التنقل بين مصر وسوريا واليونان، وبعد تحرره من الجنون وتعلمه الأسرار الإلهية ، أخذ سبيله حيث أراد أن يدخل تعاليمه لزراعة الكروم وصنع الخمور، وراح ديونيزوس ينشر تعاليمه ، وفي كل مكان مر به يحتفل به اعترافا بجميله ، وقد كان هذا الاحتفال خليط من الرقص والغناء/الديثرامب، يؤدى على شكل دائري في الوقت الذي يربط فيه حيوان (ثور أوتيس ) يرمز لديونيزوس ويكون ذلك في مكان مقدس يسمى "تيميلي" ، وهي حفرة مخصصة لجمع دم الضحايا ، أي أنها مكان مقدس .
لقد مثل ديونيزوس لليونان الإله الحامي والمحافظ على جميع الفنون الجميلة، وبالأخص التراجيديا والكوميديا المنحدرين من حفلاته التي كان يحييها الباخوسيون . كانت الأعمال الفنية تعكس صورة ديونيزوس كإله شاب ، يضع على رأسه إكليلا من أغصان الكروم و عناقيد العنب .
أخيرا يمثل ديونيزوس الإله الشريد النقيض لكل الآلهة ، إنه رمز للجنون واللاعقل ، رمز للخمر ، هاجر من بلاد اليونان كرها ثم طوعا (إلى الهند) ليحارب أنظمة العقل ، ويحرر الشعوب المستعبدة من الولاء لقيم لا تخدم الحياة . ديونيزوس هو إله غير معترف به من قبل آلهة العقل ، لأنه رمز الجنون والتهور، رمز لانحلال القيم السائدة (المثالية) ، رمز الاندفاع الحيوي ، إنه باختصار رمز للحياة .[2]

ب) الدلالة الفلسفية التي يعطيها نيتشه لميلاد ديونيزوس

يمثل ديونيزوس بطلا تراجيديا يجسد بؤرة الحياة الأبدية والانفتاح على الآفاق المجهولة باعتباره مقاوم ضد الموت ، يؤسس لحياة اللذة من داخل الألم ، إنه بحق منبع التراجيديا ومحور الفن اليوناني ، لأنه محور الاحتفال وبطله وكل الطقوس الاحتفالية تتمحور حوله .
لعل هذا الصراع ضد القدر والموت هو ما يجسد الإنسان المتفوق الذي لا يعوقه عائق ولا يحد إرادته حد، هو إنسان القمم الشامخة والمرتفعات العالية ، الذي يذكرنا بزرادشت وهو يعانق الحياة .
إذا كان الموت قدرا، فإن التراجيديا هي مقاومة للموت نفسه وحلول في الزمن الأبدي. وإذا كان الموت يظل يفرض نفسه فعلى الأقل يجب أن نختار كيف نموت ، يجب أن نقاوم كي نموت بشرف وكرامة، وهذا لا يتحقق إلا بالمواجهة البطولية التي يجسدها الإنسان القوي والمتفوق، وديونيزوس هو الرمز الأكثر تعبيرا عن ذلك.
قصد تحقيق هذا التعالي والتفوق لابد من توفر الموسيقى، فهي في نظر نيتشه عنصرا حاسما في الاحتفال التراجيدي، فبالموسيقى يعود ديونيزوس، بعد اختفاء طويل، ليعبر عن الإرادة الكونية (ما يسميه نيتشه بالروح أو القوة الديونيزيسية)[3]
إن الموسيقى والتعبير الفني هما العاملان المسؤولان على تحرر اللغة والجسد من شطحات النحو "المقدسة" ، والكفيلان بأن يجعلا الحياة تستحق أن تعاش، وذلك من خلال الرمز، والصوت الذي يستوعب الوجود دون أن يتعالى عليه .


ثانيا : الموسيقى و التراجيديا من الأوج إلى الانحطاط
في مقدمة الترجمة الإنجليزية لكتاب "مولد التراجيديا"[4]، يقر ميخائيل تانر بصعوبة تحديد طبيعة الموسيقى الإغريقية، وذلك لافتقارنا إلى المعلومات الضرورية عنها، وسنحاول اختراق هاته الصعوبة لبيان العلاقة الرابطة بين الموسيقى والتراجيديا عند الإغريق كما تصورها نيتشه، كما سنعمل على تفكيك حاصل القول الذي يذهب إليه، عندما أقر بأن التراجيديا الإغريقية انبرت من أعطاف الموسيقى، وفي خندق الروح العلمية ماتت .
ليس غرضنا في هذا المقام أن نعرض لأصول التراجيديا والموسيقى في إطارهما التاريخي، ولا أن نستعرض أعمالا توثق للعلاقة بين هاتين الأخيرتين، بقدر ما نروم كشف المؤشرات والدلائل العامة التي أقر بها نيتشه بصدد انكبابه على "التراجيديا والموسيقى"، من مرحلة الأوج والسطوع إلى مرحلة الفتور والانحطاط، لكن ما معنى "مولد التراجيديا من روح الموسيقى" ؟ وما علاقة الإغريق بالموسيقى التراجيدية ؟ هل جسد الإغريق الشكل المتشائم للفن ؟

أ) الموسيقى و التراجيديا في نقائهما الأول
يعتبر جيل دولوز في كتابه "نيتشه و الفلسفة"، أن التراجيديا إنما هي الجوقة الديونيسية التي تسترخي وهي تقذف إلى خارج ذاتها عالما من الصور الأبولونية، كما يحددها نيتشه باعتبارها "شكلا جديدا من الوعي الجمالي"، مشيرا بذلك إلى أن الحياة ليست طريقة من طرق التفكير في العالم وفق قواعد العقل الجامدة والجدلية، بل هي بالدرجة الأولى طريقة لإدراك العالم، إدراك في نظره لا يتأتى إلا عن طريق الموسيقى، وإذا كانت الروح الديونيسية في الموسيقى تؤكد لنا أن كل شيء ولد لا بد أن يستعد لمواجهة مصيره المؤلم في الأخير، فإن الموسيقى وحدها قادرة على جعلنا نحدق في الوجود المرعب ونقبل عليه .
لقد كان كورس الساتير المنشد لأغاني الديثرامب في نظر نيتشه حبل خلاص في الفن اليوناني، هذا الكورس الذي كان يعمل على إحاطة التراجيديا وحمايتها من هجمات الواقع، والذي هو بمعنى ما " جدار قائم على إبعاد وإقصاء معطيات العالم الخارجي الواقعي وما تحتويه من هموم، وتطاحنات اجتماعية، بحيث تحافظ التراجيديا على أرضيتها المثالية وحريتها الشعرية"[5].
في الكورس تنكشف معالم الانجذاب إلى العالم الطبيعي بكل تجلياته الحدسية والعفوية، فما جوقة الساتير سوى تعبير عن الحنين إلى النمط البدئي وإلى الطبيعة، لكن السؤال الذي يطرحه نيتشه هو "إلى أي حد استطاع اليونانيون أن يبقوا على الإنسان البدئي، أي يرجل المراعي ؟ وإلى أي حد استلب الإنسان الحديث بتخنثه بالصورة المسلية للراعي الحساس وهو يعزف على نايه ؟"[6]. لقد نظر اليونانيين (كما يقر نيتشه في الشذرة 8 من ميلاد التراجيديا) إلى الساتير على أنه ممثل للطبيعة البكر، الطبيعة التي لم تغزوها المعرفة بعد. كان الساتير إذن نموذجا للإنسان، إنه التعبير الأرقى والأقوى عن مشاعر الإنسان، الكائن المرح الملهم بسبب قربه من الآلهة، وهي صحبة عاطفية تثبت الآلهة من خلالها ما تحس به من لواعج الألم، كبشائر بالحكمة الصادرة عن كبد الطبيعة، كتعبير عن أمومة الطبعة الغامرة، التي كان اليونانيون معتادين على تبجيلها بروح الدهشة [7].
تحثنا الموسيقى على الحدس الرمزي للروح الديونيسية، بواسطة هذا الحدس، يعود الإنسان للتوحد مع عالمه الطبيعي في أشكال تعبيرية تعتمد على الرقص بهدف تحرير الجسد وجعله يعانق الزمن الأول، من هنا يطرح أتباع ديونيزوس اللغة والتفرد ، و ينخرطون في رقص نشوان، سبيلهم في ذلك الموسيقى والسكر .
في حضن الطبيعة يتم اختبار الألم في صورة فرح، و هكذا كما يقول نيتشه، نسمع في لحظات الفرح الغامر صرخات الرعب أو البكاء الموجع اشتياقا الى شيء ما فقدناه بلا رجعة، وما الإنشاد التراجيدي سوى تعبير عن هذا الألم المتجلي في صورة الفرح، إنشاد ترافقه حركات يؤديها المحتفلون، مشيدين بذلك عالما من الرموز، ليس رمزية العين والفم والكلمة فقط، بل كل رمزية الجسد، والحركة الإيقاعية لكل أطراف الجسد عبر الإشارة الكاملة للحركة الراقصة[8].
الموسيقى التراجيدية هي إذن استعادة للروح الديونيزيسية بكل تمظهراتها الحدسية والرمزية، لكن هل استطاعت هاته الروح أن تصمد أمام الروح العلمية بمقولاتها المتصلبة ؟ ألم يؤدي تغليب الجانب الأبولوني في الفن إلى القضاء على هذه الروح الديونيزيسية الفريدة ؟
ب) بواعث أفول التراجيديا
ما سبب وصول التراجيديا إلى موتها المحقق ؟ أهي الأخلاق بالمفهوم السقراطي؟ الديالكتيك؟ التواضع والابتهاج على ملامح المفكر ؟ كما يصرح نيتشه. هل كان من الممكن أن تستمر التراجيديا محافظة على نقائها الأصلي بمعزل عن الشرخ الذي أحدثته الفلسفة النظرية بمنهجها الجدلي وتصورها المتعالي للوجود؟ أم أن أفول التراجيديا كان أمرا محتوما ؟ إلى أي حد ساهمت الروح العلمية في القضاء على التراجيديا هل يمكن اعتبار سقراط ويوربيد عاملي انتحار داخل التراجيديا اليونانية؟
يفترض نيتشه في الشذرة 17 من كتاب مولد التراجيديا أنه لو تم تحويل مسار التراجيديا عن خطها الأصيل، لأمكننا القول أن هناك صراعا لا ينتهي بين الفلسفة النظرية والفلسفة التراجيدية، ولجاز لنا القول أنها ستستمر على طرف نقيض للروح العلمية المتفائلة، و لأمكن بالتالي توقع عودة التراجيديا عندما "يصل شوط الروح العلمية إلى نهايته، وتجبره حدود هذه النهاية على التخلي عن ادعائه بحقه في العالمية "[9]، إلا أن تسيد الفلسفة بمنهجها الجدلي العقلي الصارم عمل على الإجهاز على كل صيغة تراجيدية فنية في كنف حضارة اليونان.
لقد كان سقراط بمنهجه الجدلي وتشبثه بالفضيلة والمعرفة ، عاملا حاسما في مصير التراجيديا، سايره في ذلك الشاعر يوربيد الذي قدّم العقل على الجمال، معتبرا أن كل شيء يجب أن يكون عقلانيا قبل أن يكون جميلا ، بحيث نسف تماما مبدأ التعلق بالوجود في صيغه الحدسية والعفوية، وإذا كانت التراجيديا تعلي من شأن التعبير الجسدي وتمجد الانتشاء بالطبيعة ،فإن سقراط سينسف هذا الأمر تماما ، إذ أعلى من شأن القياس ضدا على الحدس ، واعتبر أن كل "ما يخالف القياس لا بد أن يكون جزءا أخس في النفس"[10]، ومنه يكون الألم كما يتصور سقراط دليلا على اللامعقول إذ أن الألم متصل "بالجزء الذي يذكرنا بشقائنا ويدفعنا إلى الحزن، ولا يشفي غليله، ونستطيع أن نسميه باللامعقول والعقيم و الجبان"[11]، والألم متصل بالانفعال الغضبي، وهو الانفعال الذي يشكل في نظر سقراط مادة غزيرة للمحاكاة ، وقد تسربت هذه الرؤية إلى تلميذه أفلاطون الذي شن بدوره حربا ضد المحاكاة بما هي تصوير مشوه للعالم .
إذا كان سقراط قد شن حربا لا هوادة فيها ضد التراجيديا، ناسفا بذلك كل إمكانية للمحاكاة، فإن نيتشه بدوره شن حربا ضروسا ضد التصور السقراطي، إذ أن الروح العلمية التي دشنها سقراط كان من نتائجها سيادة العقم و تفشي روح الانبطاح والخنوع، إنها نفي للغريزة والجسد الذي هو قوة فاعلة متعالية عن العقل والحكمة و الجدل العقيم، كل هاته المقومات السالبة انبرت حسب نيتشه من الروح المناقضة لديونيزوس (اللاديونيزوسية)، وبرز على السطح فرح شاحب رافض لقيم الانجذاب نحو عالم ديونيزوس، "فرح مناهض للعفوية المجيدة لدى اليونانيين القدماء، ونمت زهرة الثقافة الأبولونية التي نهضت من هوة الكآبة، فكانت انتصار الإرادة اليونانية الساعية إلى تمجيد الجدل والمفهوم الجامد والمتحجر، وهي الثقافة التي عكست عالم الجماليات ، وغلبتها على الألم و حكمة الألم "[12]، وهو عينه الألم الذي قال عنه سقراط أنه المسلك اللائق بالنساء فقط أما ، و يضيف أنه "عندما يصبنا الحزن نحن أنفسنا ، فإنك تلاحظ أننا نفخر بالصفة المضادة ، أي نحاول أن نعتصم بالصبر و السكينة ، واثقين من أن هذا هو المسلك اللائق بالرجال"[13]، ولكي لا تغتصب اللذة والألم يقترح سقراط طرد الشعر الغنائي و محق كل تجلياته المحاكاتية، فيقول بهذا الصدد محاورا جلوكون : "لا نستطيع أن نقبل في دولتنا من الشعر إلا ذلك الذي يشيد بفضائل الآلهة و الأخيار من الناس . أما إذا لم تكتف بذلك وسمحت للربة المعسولة بالدخول، إما في الشعر الغنائي، وإما في شعر الملاحم فسوف تغتصب اللذة و الآلام و السيادة من القانون، المبادئ التي وقع إجماع الناس على أنها الأفضل"[14]، هذا الموقف رفضه نيتشه بقوة معتبرا إياه تعبيرا عن حالة الانغلاق و التحجر الذي يعصف بالروح العلمية التي دشنها سقراط .
وإذا كان سقراط بمنهجه الجدلي العقيم قد وجه طعنات متتالية للتراجيديا الإغريقية في كل تعبيراتها الشعرية والغنائية، فإن الشاعر يوربيد لن يقل عن هذا الموقف تصلبا و تشددا، بحيث إذا كان سقراط قد أنزل الفلسفة من السماء على الأرض فإن يوربيد كما يرى نيتشه قد أنزل التراجيديا من السماء إلى الأرض، وعين فوق رأسها جمهورا من المتفرجين الذي أصبحوا يحكمون بما يفهمون، وأصبح المعقول متقدما على الجميل .
وجهت الروح العلمية ضربات قوية للتراجيديا الإغريقية، فتم الانتصار للروح الأبولونية ، للنظام، للعقل ، للجدل، ضدا على الروح الديونيزيسية المفعمة بالحياة، بالحدس، بالألم المصطبغ بنكهة الفرح. لكن هل انتهت التراجيديا تماما ؟ هل أجهزت الروح العلمية على كل إمكانية لانبعاث الروح الديونيزيسية مجددا؟
ج) الموسيقى و التراجيديا: حلم الانبعاث
بعد تاريخ طويل من الخفوت و الضمور الذي طال التراجيديا، اعتقد نيتشه للحظة أن حلم الانبعاث يلوح في الأفق، بحيث وجد أفضل مثال معاصر للرؤية المأساوية في أوبرا صديقه ريتشارد فاجنر، إضافة إلى أفكار أرثر شوبنهاور الذي عمل كموجه لفلسفة نيتشه لسنوات، لقد بدأ نيتشه بتفسير عقلية فاجنر بوصفها التعبير الأقوى عن روح ديونيزوس، التعبير الذي حاربته الروح العلمية بكل عتادها الجدلي والمفهومي والأخلاقي المتصلب، واعتقد بذلك أنه قد بشر مجددا بزلزال عنيف سيضرب العقل المتحجر بقوة.
موسيقى فاجنر الأوبرالية، كشفت عن قوى إبداعية لسبر غور هذا العالم الغريزي، المعتم للإنسان، مستخدمة الأسطورة كبدائل فنية. أحس نيتشه بأن آماله الفلسفية معلقة لا على الإبداع الموسيقي فحسب، بل على موسيقى فاجنر تحديدا، علما أن فاجنر كان يستلهم أعماله من التراث اليوناني، فأتت طافحة بالإبداع والطرافة، إبداع يستحضر فيه فاجنر الأبطال التراجيديين القدامى، وهذا ينطوي على وعد بانبعاث روحي وقومي عبر سحر الموسيقى المتقد .
إن استدعاء الأسطورة في الموسيقى معناه إعادة خلق العالم وفق رؤية جمالية تنفلت من كل حصر عقلي، فقد قامت فلسفة نيتشه على محاولة بعث قيمة الأسطورة في حياتنا الروحية الحديثة، وخاصة الأسطورة اليونانية، التي تجسدت في الإبداع المسرحي التراجيدي، وفيها وجدت الروح الديونيزيسية الحارة، الغريزية الغامضة، في مقابل الروح الأبولونية العاقلة المولعة بالنظام والتوازن والضوء. تجسد ذلك في الأدب اليوناني الملحمي، والذي أعطاه الفيلسوف سقراط معادله الفلسفي العقلي .
إلا أن هذا الانبهار بفن فاجنر، و هذا الطموح الكبير في إعادة بث الفن التراجيدي في ألمانيا الحديثة تحطم تحت صخرة النكوص وإرادة العدم ، بحيث كان ظهور أوبرا "بارسيفال" لفاجنر عام 1877 بمثابة الإعلان الصريح عن تنافر المشروع النتشوي والمسار الفاجنري الجديد، هنا كانت علاقة نيتشه بفاجنر تكاد تكون قد انتهت تماما، ف«بارسيفال»، ذي الطقس الديني المسيحي، الذي انتزع سحر البطولة الوثنية السابقة، يتبنى الرمزية الدينية، وينقل دماء المسيح وهي تسيل لتفتدي العالم وتخلصه .
من هنا وصل نيتشه إلى أن فن فاجنر فن مريض، و المشكلات التي يعرضها على المسرح هي مشكلات الهستيريا والأباطيل ... لقد غاص فاجر إلى الأسفل يائسا مهزوما أمام الصليب المسيحي، ومنه أصبح هو والمسيحية في نظر نيتشه مرادفات للتدهور والضعف و العدمية وإنكار الحياة .

على سبيل الختم
نظر نيتشه للفن الإغريقي في مجمله نظرة مغايرة، بل وجديدة كل الجدة، نظرة تكسر المألوف وتغير الأسس، فلم يقدم بذلك تصورا مدرسيا يؤرخ للفن وفق منعرجات وتمفصلات شاحبة، بل إنه قد انقض على طريدته وهي تلهو آمنة مطمئنة في عقر دارها، وكان الفن التراجيدي خير مجسد لهذه الطريدة، التي أجاد نيتشه فن اصطيادها كفنان عاشق متعلق بمعشوقته حتى الموت .
لقد لاحق نيتشه هذه المعشوقة (التراجيديا) في مهدها الأول، من الأب ديونيزوس، وسحر الموسيقى، مرورا بالتضييق والخناق الذي أقامته الروح العلمية على هذه المعشوقة الفاتنة، وصولا إلى حلم الانبعاث، انبعاث المعشوقة من رمادها، كما انبعثت في الأصل الأول . لكن هل تركت الروح العلمية إمكانية انبعاث جديد لهذه المعشوقة ؟ و هل من انبعاث جديد لعاشق آخر لهذه المعشوقة المصلوبة فوق جدار النكوص و التصلب و الجمود ؟ .


هوامش المقالة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] إدريس جبري ، مفهوم التراجيديا عند نيتشه ، مجلة فكر و نقد ، عدد 15 ، دار النشر المغربية ، الدار البيضاء ، 1999 ، ص 103
[2] محمد مزوز ، أزمة الحداثة و عودة ديونيزوس ، مجلة فكر و نقد ، عدد 21 ، دار النشر المغربية ، الدار البيضاء 1999
[3] فريدريك نيتشه ، مولد التراجيديا ، ترجمة محمد الناجي ، أفريقا الشرق ، الدار البيضاء –المغرب- 2011 ، ص 14
[4] حمل الكتاب في الأصل عنوان "مولد التراجيديا من روح الموسيقى" ، و قد صدرت طبعته الأولى سنة 1872
[5] : فريدريك نيتشه ، مولد التراجيديا ، ترجمة شاهر حسين عبيد ، دار الحوار للنشر و التوزيع ، سورية –اللاذقية- ط 1 سنة 2008 ص 121
[6] المصدر السابق ص 126
[7] المصدر السابق ص 127
[8] المصدر سابق ص 91
[9] المصدر السابق ص 200
[10] أفلاطون ، محاورة الجمهورية ، ترجمة فؤاد زكريا ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف و النشر . ص 372 ت د 603
[11] المصدر السابق ص 374 ت د 604
[12] مولد تراجيديا ، مصدر سابق ص 205
[13] محاورة الجمهورية ، مصدر سابق ص 376 ت د 605
[14] المصدر السابق ص 377 ت د 607



#محمد_جلال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آراء الفارابي في تعليم الفلسفة وتعلمها
- 23 مارس -جروح التعليم لم تشفى بعد-
- -إشكالية التأخر التاريخي- من منظور عبد الله العروي
- الطريق معوجّة ... والمقصد مستقيم
- ثرثرة الصغار !!
- الإنسان قفل .. مفتاحه الكلام !!
- عصير العفول !
- يكبرون ولا ينضجون
- الخلاف في الرأي يفسد للود ألف قضيه
- القضية الفلسطينية و صورة العرب و المسلمين في مخيال إسرائيل و ...
- أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الرابع
- تجارة الوهم
- أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الثالث
- العاهرة والبرجوازي -قصة قصيرة-
- أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الثاني
- أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الأول
- المجتمع المغربي كبنية تناقضية
- الأخلاق أم الدين
- الكُرد والكورد
- السبيل الى الخروج من فم الثعبان


المزيد.....




- السعودية.. الديوان الملكي: دخول الملك سلمان إلى المستشفى لإج ...
- الأعنف منذ أسابيع.. إسرائيل تزيد من عمليات القصف بعد توقف ال ...
- الكرملين: الأسلحة الأمريكية لن تغير الوضع على أرض المعركة لص ...
- شمال فرنسا: هل تعتبر الحواجز المائية العائمة فعّالة في منع ق ...
- قائد قوات -أحمد-: وحدات القوات الروسية تحرر مناطق واسعة كل ي ...
- -وول ستريت جورنال-: القوات المسلحة الأوكرانية تعاني من نقص ف ...
- -لا يمكن الثقة بنا-.. هفوة جديدة لبايدن (فيديو)
- الديوان الملكي: دخول العاهل السعودي إلى المستشفى لإجراء فحوص ...
- الدفاع الروسية تنشر مشاهد لنقل دبابة ليوبارد المغتنمة لإصلاح ...
- وزير الخارجية الإيرلندي: نعمل مع دول أوروبية للاعتراف بدولة ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد جلال - الموسيقى والتراجيديا عند نيتشه