أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد جلال - العاهرة والبرجوازي -قصة قصيرة-















المزيد.....


العاهرة والبرجوازي -قصة قصيرة-


محمد جلال

الحوار المتمدن-العدد: 4422 - 2014 / 4 / 12 - 00:14
المحور: الادب والفن
    


مساء جميل يخترقه نسيم عليل يعكس إعتدال وجمال الفصل الربيعي، هدوء لا تعهده سوى الرؤوس التي تنام على وسائد مغلفة بالحرير.. ذاك هو الجو العام المحيط بالفيلا التي يقطنها أسعد، كل مساء يتصل بمجموعة أصدقائه لقضاء لحظات ممتعة في منزل ضيعة تعود لوالده ، المنزل الذي حوله الإبن الى ما يشبه قاعة إحتفال دائم. وفي تباهي لافت وإعتداد كبير بالذات، ركب سيارته الفارهة وغادر الفيلا متجها الى المكان الذي تقرر به اللقاء، وصل أسعد الى المنزل الكائن بالضيعة التي تبعد عن المدينة التي يقطنها بعض أميال، مضى ما يقرب من ساعة لكن لا أثر للأصدقاء، ربما أنه تسرع في الحضور! لكن مهلا فالساعة تشير الى السابعة والنصف والوقت المقرر للقاء هو السادسة والنصف. أخرج هاتفه وفي ذات اللحظة رن الهاتف، أوووه إنه صديقه كريم ، ماذا تراه يريد إنه غير مدعو الى الحفل ؟ !
-ألو ..
ويجيب كريم بنبرة تطبعها الصدمة والإرتباك :
-أسعد أين أنت ؟
بإزدراء شديد يجيب أسعد :
-ولما تسأل ماذا هناك ؟
كريم : إن مجموعتك قد تعرضت لحادث سير خطير على الطريق العام خارج المدينة بمسافة قصيرة .
وبلا مبالاته المعهودة يجيب أسعد :
-وكيف حدث ذلك هل هم بخير ، ألن يحضروا ؟ ياله من يوم مشؤوم ..
كريم : لقد اصطمت إحدى سياراتهم مع شاحنة كبيرة بينما كانوا يخوضون سباقا على الطريق العام، وقد توفي كل من كان بتلك السيارة.
أسعد : هل كانت ليندا من بين راكبي تلك السيارة ؟
-لا أعلم، وداعا الآن علي الذهاب، وأنت أيضا تجدر بك العودة حالا
أسعد: حسنا سنرى...
أووه يالسوء الحظ فسد الحفل، حظ عاكر حقا لم أتمكن حتى من رؤية وجه ليندا تلك الشقراء الحلوة التي يحكى أن جمالها آخاذ . أتمنى أن تكون سليمة معافاة ...
هته هي الفكرة التي خيمت على عقله آنئذ ولم يشعر بالرغبة في العودة الى المدينة لمعاينة أمر أصدقائه، صعد الى الطابق العلوي ، أخرج قارورات الخمر التي كانت معدة للإحتفال، عاد أدراجه الى الطابق السفلي ، نظر في الأنحاء ثم قال : نعم هته الليلة سأجرب أن أحتفل وحيدا .
شغل جهاز الموسيقى وعلى إيقاع الروك الصاخب بدأ بتناول الخمر كأسا تلو الآخر إلى حد الثمالة ، إندغم الزمان في المكان وضاعت كل المعاني وراء كؤوس الخمر إلى أن لفحت وجهه أشعة شمس الظهيرة المنعكسة من نافذة كبيرة مقابلة للصالة التي كان محتفلا وسطها .
إستيقظ من غيبوبته الدراماتيكية ، اتجه صعودا نحو الطابق العلوى ، سار نحو صنبور الماء وتناول حفنة ماء ثم غسل وجهه ، ليتمكن من إدراك ذاته أخيرا ، دخل المطبخ لكن لاشيئ هنا يصلح للأكل ، فكر قليلا ثم تناول مفاتيح السيارة بيده ، أخرج السيارة من موقفها ولم يكن شيئ ليجبره على الإقدام على ذلك لولا سلطة الجوع التي لم يعهد لها سبيلا طول حياته. غادر أنحاء الضيعة متجها نحو الطريق العام عله يهتدي الى متجر للأغذية ، قطع مسافة قصيرة ثم توقف، نظر على مد بصره لكن لا وجود لأي متاجر هنا على ما يبدو، واصل السير ثم توقف ثانية، نعم لقد شاهد شيئا على مقربة منه، إنها شابة صغيرة تقف على حافة الطريق ، تقدم نحوها قليلا ثم توقف، ركن سيارته على قارعة الطريق ، ثم ترجل متجها نحو الفتاة ، وبإعتداده المعهود بذاته سأل الفتاة :
-ماذا تراك فاعلة هنا ؟
أجابت الشابة الصغيرة بنبرة يطبعها الأسى والحزن :
-لاشيء
سألها البرجوازي الشاب مرة أخرى :
-هل أنت من هذه الأنحاء ؟ أنا أبحث عن متجر للأغذية ، أين يمكنني العثور عليه ؟
أجابت الفتاة :
-لا أعلم فأنا أيضا غريبة عن هته الأنحاء .
-أوه غريبة ، إذن تعالي معي نبحث عن متجر للأغذية ثم أوصلك إلى حيث تشائين .
وفي مشهد يؤوس طأطأت الفتاة رأسها إيحاءا منها بالقبول، ركبا السيارة ثم أكملا السير، وفجأة طالعه متجر على مقربة من الطريق العام، ترجل من السيارة وأمر الفتاة بالبقاء حيث هي . اقتنى البرجوازي الشاب ما يلزم بسرعة وعاد أدراجه نحو السيارة، ركب السيارة ، ثم نظر الى الفتاة واتسم وبادلته هي بدورها بسمة خافتتة في طياتها آلام سنين طوال، إستدار البرجوازي الشاب بسيارته عائدا أدراجه الى منزل الضيعة رفقة الشابة الصغيرة، ولا يدري ألسوء حظه أم لحسنه لا يوجد عمال في الضيعة اليوم، عمال هم في الأصل عبارة عن عائلة صغيرة كانت تشتغل في الضيعة ، وقد طردهم والد البرجوازي الشاب قبل أقل من شهرين إرضاءا لرغبة البرجوازي الناشئ ولتمكينه من جو ملائم يضمن إحتفلات بهيجة ، ورغم أن المغروسات المنتشرة جلها يبست وبعضها القليل يقاوم جفاف التربة فليس مها، بل المهم هو أن البيت قائم وهو بأفضل حال ، وصل البرجوازي الشاب رفقة الشابة الصغيرة التي يعلو وجهها الخوف ، ووسط صوت حفيف أوراق الشجر المتناثرة على طول الممر المؤدي الى البيت شقت الشابة الصغيرة الطريق رفقة البرجوازي الشاب، فتح الباب الذي كان في الحقيقة مغلقا لكنه لم يكن مقفلا ، استنتجت الشابة الصغيرة من وراء ذلك أن في البيت أشخاص آخرين مع البرجوازي الشاب .
تصلبت الشابة الصغيرة مكانها أمام الباب ، فأمسك البرجوازي الشاب بيد الفتاة وطلب منها الدخول فلا أحد في المنزل سواهما ، لكن لم يكن عقله المتسامي بقادر على أن يسجل حقيقة أن كل ركن من أركان هذا البيت يشهد على مرح طفلة حولها بؤس الوجود الى صورة إنسان ! . دخلت الشابة الصغيرة وعلى وجهها بسمة تتكبد عناء تصنعها إيحاءا منها بالرضى والإرتياح .
اتجهت الشابة الصغيرة الى إحدى الأرائك وسط صالة كبيرة تتوسط المنزل، وما كادت أن تجلس حتى باغتها البرجوازي الشاب قائلا :
-لا ، لا تجلسي أريدك أن تساعديني في إعداد الفطور .
وبنهجها المعتاد قابت الطلب بالرضى ، وفور شروعهما في إعداد الفطور لاحظت الشابة الصغيرة أن لا شيئ يستحق الإعداد، فالأكل جاهز في الأصل ، وهو عبارة عن قطع من الحلويات وبعض المشروبات ، شرعا في الأكل بالرغم من أن الفتاة لم تكن لها رغبة حتى في إبصار هذا الوجود البائس، لكنها نزلت عند رغبة البرجوازي الشاب كونها في ضيافته.
وبعد أن أفرغا من تناول الحلوى والمشروبات ، سأل البرجوازي الشاب تلك الشابة الصغيرة قائلا :
-ماذا تفعلين في هذه الأنحاء ؟
أجابت الفتاة بإمتعاض :
-أنا في جولة .
اندهش البرجوازي الشاب من جوابها فهيأتها لا توحي إطلاقا بما تقول ، وقد كان المشهد الطاغي عليها هو سيطرة البؤس الذي يظهر كعنوان بارز على جبينها .
حاول البرجوازي الشاب إستمالة الفتاة عن طريق مداعبتها وملاعبتها، وبروح إنهزامية كبيرة كانت الفتاة تقابل البرجوازي الشاب بإستسلام يؤوس، فظن أنها ممن يحترفن فن البغاء، وللحظة خطر بباله طردها من المنزل ، فمستوى البرجوازي الشاب لا ينحط الى مستوى -العاهرة الشعبية- كما يتصور ، لكن ما يحير باله هو تلك الملامح التي لا تحيل إطلاقا على أن هته الشابة الصغيرة محترفة في فن البغاء ، لكنه لم يؤرق باله بالتفكير فيما قد تكون عليه، نظر إليها بعد أن توقف عن مداعبتها ثم سألها قائلا :
-أجيبني صراحة ماذا أنت فاعلة في هته الأنحاء ؟
أجابت الشابة الصغيرة :
-قلت لك أنني في جولة . (نعم ، إنها جولة بحث عن لاشيئ)
لم يرغب البرجوازي الشاب في الدخول في متاهات هو في غنى عنها، -ولتكن ما تكن-، فجأة رن هاتفه ، إنه السيد الوالد صاحب الإستثمارات الطائلة، ذاك الوالد الذي كان مدرسة تعلم منها البرجوازي الناشئ أن الثروة مفتاح الكون، وأن مراكتها واجب يعلو فوق كل الوسائل ..
أجاب البرجوازي الشاب ، وكانت التحية عبارة عن توبيخ صادم ، فقد أخذ البرجوازي الشاب سيارة أخرى عوضا عن سيارته من موقف الفيلا يوم أمس، وقد تعمد ذلك في سبيل التباهي أمام أصدقائه، لكن البرجوازي الشاب وجد طريقة للتملص كالعادة ، قائلا لوالده بأن سيارته تعاني مشكلة في دواسة الوقود ، أنهى الحديث مع والده ثم عاد نحو الشابة الصغيرة، أمسك بيدها ثم طلب منها أن ترافقه الى غرفة النوم ، فالسرير هناك مريح و الفضاء أنسب. وبنبرة ملونة بكل ألوان الإنهزام والبؤس والضياع، أجابت الشابة الصغيرة ، حدد المبلغ الذي ستدفعه لي قبل أن ألج معك الغرفة .
وبقهقهة أُفزعت منها الطيور المرابطة فوق غصون شجرة تشرف على نافذة الصالة، قال البرجوازي الشاب :
-سأضع أمامك النقود وخذي ما تشائين .
إنتحر صوت الضمير في صدر الشابة الصغير وتوقفت أنفاسها، وانطلقت نحو غرفة النوم ، وهي التي لم تفكر يوما في ولوجها إلا بعد أن ترتدي الفستان الأبيض .
شرع البرجوازي الشاب في عزف سنفونيته المعتادة ، سنفونية لا تعترف سوى بلحن المتعة والتسلية ، ولايهم إن انقطعت الأوتار من صخب العزف ، بل المهم أن تعزف السنفونية ويصل اللحن .
إنقضت السنفونية وإنقضى اللحن ، لكنه إنقضى بقطع كل الأوتار، وبضياع اللحن في صخب الألم ، نعم هته العاهرة الصغيرة ، فقدت ما حرصت عليه لسنين ، نظر البرجوازي الشاب الى الشابة الصغيرة وبصوت جبروت وطغيان قال للفتاة التي يسبح الدمع فوق خديها :
-إذا كنت تعتقدين أنك ستنالين مني شيئا فأنت جد واهمة، خطة فاشلة حقا. اخذي المال واغربي عن وجهي.
وأي مال هو ذاك الذي يسلب الإنسان كرامته ويحوله من ضحية إلى مجرم . إنها سلطة المال ، السلطة التي تبدد معالم الوجود البشري فيستحيل وجودا مفككا مستلبا وملوثا.
لم يكن لدى الشابة الصغيرة خيار للتفكير ، لكنها إختارت خيارا أكثر إيلاما وهو أن تغادر عالم البرجوازي الشاب دون أن تنال شيئا ، فأحسن ما نالته من قبل البرجوازي الشاب هو افتتاح مشروع اليأس والضياع ، مشروع كان جليا منذ أمد قصير وكان ينتظر وقت التنفيذ!
بالفعل استجمعت الشابة الصغيرة قواها ومسحت دمعها واتجهت نحو باب الغرفة إيذانا منها بالرحيل، آنئذ أمسكها البرجوازي الشاب من يدها وتناول حزمة من الأوراق النقدية ووضعها في يدها. نظرت الشابة الصغيرة الى المال ثم رفعت عينيها نحو وجه البرجوازي الشاب ، ألقت النقود أرضا ، واتجهت مسرعة نحو باب المنزل ، إعتقد البرجوازي الشاب أنها قد تسبب له مشكلة، لكن خطر بباله أنها مهما فعلت لن تنال من سموه شيئا، غادرت الشابة الصغيرة المنزل وقد تركت الحياة التي رسمتها بريشة البراءة في جوف أيام مضت، وبينما كانت تخطو الخطوات الأخيرة قبل الخروج من باب الضيعة ، شعرت بوقع أقدام خلفها ، لم تشأ الإلتفات الى الخلف ، فإذا بيد تمسكها بقوة ، استدارت فإذا بصفعة قوية تنزل على خذها الفتي، ورغم آلم الصفعة إلا أن الشابة الصغيرة تماسكت ولم تظهر عجزا أو تمردا في وجه البرجوازي الشاب، هذا البرجوازي الذي احتار كثيرا من أمر هته الشابة الصغيرة، وكانت حيرته تلك دافعه الأساس لتقصي نواياها، لم يجد صياغة مناسبة لما يدور في خلده، فالشابة الصغيرة رغم كل ماحدث احتفظت بكبريائها ولخصته في لغة الصمت، وبلغة يسمها السخط والغضب توجه اليها محذرا إياها، ومعلنا عن استدعداده لإبداتها وسحقها إن هي فكرت في الإقدام على خطوة غير محسوبة، فأجابته بنبرة تطبعها الإستكانة الى الحال القائم :
-لا تخف يا سيدي ، من أنا لكي أجرؤ على النيل من برجوازي يشتري البشر بمال أبيه .
ثم عزمت على مواصلة المسير ، ولكن الآن هزمها الدمع ولم تقوى على مقاومة الآسى الذي يعصف بكيانها ، ابتعدت من البرجوازي الشاب بضع خطوات ، ولم يزل كلامها يطرق رأسه، ويزعزع كيانه ! وبلا تردد أندفع نهوها مرة ثانية، فأعترض سبيلها ، لكن هته المرة دون أن يجرؤ على تعنيفها، فكر في إرضائها، لذا طلب منها العودة معه الى البيت لكي يقدم لها ما يرضي خاطرها، وبالإنهزام المعتاد قابلت الشابة الصغيرة طلب البرجوازي الشاب بالقبول .
عادا أدراجهما نحو البيت وكانت الرياح قد إشتدت بحيث تتناثر الأوراق ويصدم بعضها بعضا في سنفونية طبيعية توحي بقدوم عاصفة وشيكة ، دخلا البيت وجلسا في أريكة وسط صالة صغيرة على الجهة الغربية من البيت حيث كانت الشمس مائلة الى الغياب وقد حجب جزءها الأعظم بفعل السحاب المخم على السماء ، جلسا معا ولم تنطق الشابة الصغير بكلمة ، قرر البرجوازي الشاب التفاوض معها تفاديا لحدوث أي منغص قد يعكر صفو باله ، وبلهجة وثوقية عالية ، اتجه البرجوازي الى الفتاة سائلا إياها عن المبلغ الذي سيرضيها ، لم تنطق الفتاة بكلمة ، لكنها بدلا من ذلك نطقت بسيل من الدموع ، حين ذاك أدرك البرجوازي الشاب أن هته الفتاة لا يعنيها المال حقا أكثر مما يعنيها شيئ آخر، شيئ فقدته ، شيئ يسمى بالكرامة، الكرامة الإنسانية الأصيلة التي لا مقابل مادي يعوضها، الكرامة التي عهد البرجوازي الشاب أباه يتاجر بها كل يوم، فتوقف لحينه عن المفاوضة ، وأحس بالرغة في معرفة خبايا هذه الشابة الكتومة، التي رغم تكتمها الشديد إلا أن ملامحها تقول الشيء الكثير ، قررت الإفصاح رغم أنها على ثقة شبه أكيدة بأن كلامها لن يغير من الأمر شيئا، فأفصحت للبرجوازي الشاب عن الحقيقة، حقيقة أسرة اشتغلت لسنين في هذه الضيعة عينها، وبأنها ابنة تلك الأسرة التي طُردت من هته الضيعة دون سبب معلوم، وبأن أباها مات قبل شهر ونصف من الآن بعد أن قام والد البرجوازي الشاب بطرده وامتنع عن إعطائه أجرته التي منعها عنه منذ أكثر من سنة، هته الضيعة التي دونت براءة طفولة زهرية حولها الزمن الى معاناة سوداء قاتمة، أخبرته أنها هي ذاتها تلك الفتاة التي كانت تمسح الغبارعن الأرائك وعن الرفوف عند علمها بأن البرجوازي الشاب سيأتي ليحتفل مع أصدقائه، لكن بهجته وسعادته المتسامية كانت تحول بينه وبين إدراك وجود هؤلاء البسطاء في هته الضيعة، أخبرته أيضا أن والدها توفي بعد مرض شديد عصف به منذ زمن لكنه كان مرغما على التحدي تحت وطأة الألم لكي يعيل أسرة تتوقف كل حياتها على أب مريض ، وبأن هذا الأب لم يقوى على الجمع بين المرض الذي ينخر جسده وبين صدمة طرده وحرمانه من مستحقاته، فكان السبيل هو الإستسلام للموت ، وبأن الأم أيضا طالها المرض وابيضت عيناها جراء البكاء الدائم ، وبأن هته الشابة الصغيرة لم تجد سبيلا للبحث عن أمل في الحياة سوى الطريق الذي قررته ، طريق إعتقدت أنه سيخفف شيئا من معاناة عائلتها الصغيرة ولا يهم إن هي ضاعت وراء عالم طالما نظرت إليه على أنه عالم الحقارة والدناءة والوساخة، ولم يخطر ببالها أن من كانوا السبب في دمار حياة أسرة كاملة سيواصل خليفتهم الشاب نهجهم في السلب ، أخبرته أنها هي ذاتها تلك المراهقة الحمقاء التي تعلقت بحلم مستحيل، حلم يدور حول الفوز بقلب أسعد البرجوازي الناشئ المرح الدائم .
بقي البرجوازي الشاب صامتا متصلبا في مكانه ، لم ينطق بكلمة ، واستمر في الصمت الى أن تحدثت عيناه بدل لسانه، ولأول مرة تنهمر دموع البرجوازي الشاب بهذه الحدة ، واصل الصمت وإحتضن الشابة الصغيرة وغرقا معا في مشهد ينفطر له القلب ، مشهد يخيم عليه الدمع والندم والشديد .
اسمتر الصمت عنوانا لمشهد يلخص تجربة كاملة، موزعة بين الإبتهاج العبثي وضحايا هذا الإبتهاج ، إبتهاج صنعه البرجوازي ودفع البسطاء ثمنه غاليا، وبعد عناق طويل مسبوغ بدموع الندم ، رفع البرجوازي الشاب يده نحو وجه الشابة الصغيرة فمسح دموع عينيها، وطلب منها المكوث في المزل الى حين يعود، قبٌلها على جبينا ثم خرج مسرعا من المنزل وكانت السماء قد شرعت في إرسال خيوط مطر غزير وكأنها بذلك ترثي حال يأس هؤلاء المضطهَدين ، لكنه لم يعر المطر إهتماما، فالنار المتوقدة في صدره تحول بينه وبين أي إكراث لما يسود في الأنحاء، ركب السيارة واتجه عائدا الى المدينة، الى الفيلا التي دونت لسنين طوال بذخا وترفا منقطع النظير. وبينما تزداد شدة إنهمار الأمطار ينطلق البرجوازي الشاب بسيارته مسرعا مخترقا المطر المنهمر ، الذي آتى على السهول الواسعة و غير شكل المزروعات وكأنها بذلك تحتضن الأرض وتبحث عن منفذ من غضب الطبيعة، وصل البرجوازي الشاب الى المدينة ، وماهي إلا لحظات قليلة حتى كان بشرفة الفيلا التي يقطنها، اتجه نحو الباب وببسمته المعتادة فتح البواب باب الفيلا وقد لتصقت ثيابه على جلده جراء المطر المنهمر ، دخل البرجوازي الشاب الفيلا لكنه لم يركن السيارة في موقفها الخاص بل تركها أمام الباب الخارجي، واتجه مسرعا نحو قلب الفيلا ، دخل ولم يبحث عن أسرته المستلبة بين تناثر استثماراتها، بل اتجه مباشرة الى غرفته، أزاح صورة كبيرة كانت معلقة على الحائط ، ثم تناول صباغة مائية وفرشاة من خزانته الخاصة، ثم كتب باللون الأحمر وبخط كبير –سحقا لكم ولبرجوازيتكم المتعفنة- أغلق الباب ، ثم اتجه نحو مكتب والده اتجه الى خزانة حديدية كل ما يعلم عنها أنها تظم أوراقا إستثمارية ومبالغ مالية وقد كانت الخزانة الحديدية مقفلة بواسطة شيفرة إليكترونية خرج الى حديقة الفيلا ، تناول قصيبا حديديا حادا من أحد طرفيه ثم عاد إلى مكتب والده، ولأن الخزانة لم تكن بذات الصلابة المعهودة على إعتبار أن الفيلا مؤهولة دائما ، فقد تمكن البرجوازي الشاب من كسر قفلها دون عناء كبير، أخذ حقيبة وبعض المجوهرات ثم لف الحقيبة والمجوهرات في قطعة قماش ، وانطلق مهرولا لمغادرة الفيلا، كان الظلام قد خيم ولكن ذلك لم يكن ليحول بينه وبين المضي في ما هو عازم على فعله، عاد أدراجه نحو السيارة ثم إنطلق عائدا الى الضيعة، وكانت الأمطار قد خفت قيليلا، وسط هذا الظلام الدامس لا شيئ يحتل تفكير البرجوازي الشاب أسعد سوى الشابة الصغيرة أحلام المرابطة في المنزل الموجود بالضيعة التي لخصت تجربة معاناة تزعزع بفعلها كيان هذا البرجوازي الشاب، ووسط الندم الشديد والرغبة الجامحة في التكفير عن خطأ تغنى لسنين في كيان متسامي ضحاياه كائنات بشرية جرفتها عاصفة بذخ البرجوازية الشرهة والمتتطلعة الى الرقي والمزيد من الرقي، دون إحتساب لأي ضريبة شرط أن تكون خارج كيان البرجوازية ذاته ، إنطلق البرجوازي الشاب يرسم أملا إنسانيا جديدا، وإن كان على ثقة أن ما بحوزته من مال لن يعيد إنسانية البشر الذين سحقت إنسانيتهم، لكن عله يستطيع الحد أو على الأقل التخفيف من معاناة مظلمة عصفت بأناس ذنبهم الوحيد أنهم لم يأتوا الى العالم وفي أفواههم معالق من الذهب وتحت رؤوسهم وسائد من الحرير.
وصل أسعد الى الضيعة وكله أمل في تعويض أحلام وأسرتها عن شيئ مما كابدوه لسنين وسنين ، أخذ الحقيبة والمجوهرات من السيارة ثم إتجه نحو باب المزل طرق الباب وأعاد الطرق مرات لكن ، لم تأتي أحلام لفتحه، فتحه بنفسه، وشرع في النداء على الشابة الصغيرة، أحلام، أحلام، أحلام... لكن لا أثر لأحلام، وفجأة رأى شيئا على الطاولة التي تتوسط الصالة الغربية، مهلا إنها ورقة ماذا بها يا ترى؟ أخذ أسعد الورقة وإذا به يطالع كلمات مكتوبة بخط رديء ، وهي على ما يبدو من أحلام، حيث إعتذرت منه وأخبرته أنها رحلت الى أبد ولا يجدر به البحث عنها لأنه عبثا يحاول إن هو أقدم على البحث.
أصيب أسعد بصدمة صاعقة ولم يقوى على تحمل ما طالعه في تلك الرسالة، عاد أدراجه نحو السيارة مسرعا، لكن الى أين؟ . قرر المكوث الى الصباح عله يهتدي الى سبيل للوصول الى أحلام، مضت الليلة بطولها لكنه ظل يعد القائق ولم ينم ولو لبرهة، وفور بزوغ الغسق انتفض مسرعا، اتجه نحو السيارة وانطلق مسرعا في رحلة بحث عن أحلام.
قطع مسافة قصيرة وبدأ يرصد الأنحاء ، كانت أشعة الشمس تنبعث في الأفق البعيد وتعكس في عيني أسعد أملا جميلا في إيجاد أحلام وفي إنقاذها هي وأسرتها من مستنقع الآسى . واصل أسعد مسيره قطع أميالا كثيرة ولا يعلم الى أين هو الملاذ، لكنه يبحث... واستمر البحث، نهار مضى لكن لا لم يحقق نتيجة وراء البحث، خيم الظلام في هذه المنطقة التي لا يعرف عنها شيئا، أوقف سيارته على قارعة الطريق ثم استسلم للنوم بعد إجهاد طويل، ورغم أن الجوع يسحق أمعاءه فلم يشعر برغة في الأكل. وفي صباح اليوم التالي انطلق أسعد مجددا لإكمال رحلة البحث الشاقة ، لكن إقضى هذا اليوم أيضا دون تحقيق الهدف المرجو، بحث أسعد لأيام معدودة، مضى سبوعين لكن دون أي نتيجة مرجوة، قرر العودة الى الضيعة، وبالفعل عاد أدراجه قطع عشرات الأميال ثم وصل أخيرا الى الضيعة، دخل الضيعة فطالعته رائحة كريهة تعصف بالأجواء، إتجه نحو المنزل وكلما اقترب كلما اشتدت الرائحة الكريهة، دخل المنزل فإذا بالرائحة تخف، خرج ثانية للتأكد من مصدر الرائحة فكانت الكارثة أن وجد جثة لإنسان ملقى أمام شجيرات صغيرة بجانب المزل إقترب من الجثة فإذا بكيانه يشتعل، نعم إنها أحلام ، إقترب منها ليفحصها فوجد خنجرا مغروسا في قلبها، صرخ صرخة تكاد تصم الآذان، وانهال بالبكاء، مأساة حقيقية صنعها عقل تطبعه اللامبالاة، كان تصوره الى الآن هو أن الفتاة إنتحرت بفعل ما حل بها، تناول معولا وشرع في حفر قبر في الحديقة لكي يواري جسد أحلام في التراب. وأثناء قيامه بدفن أحلام انهمرت من عينيه دموع كثيرة، دخل الى المنزل نظر في الأنحاء وقال في حديث مع نفسه، نعم لقد أنهيت رحلة البحث لكنك ابتدأت رحلة المعاناة الأبدية، قرر أسعد الرحيل الى مكان بعيد حيث لا يعرفه أحد، شرع في البحث عن أغراض يستعين بها في رحلته، فاتجه نحو خزانة خشبية تظم أغراض قديمة، وفوجئ بوجود رف مفتوح، تفحصه فوجد ملفا قديما فتح الملف، وكان عبارة عن وثائق للولادة وبعض الفحوصات وشهادة مكتوبة بخط يدوي ، لكن مهلا وثيقة الولادة، إنها لأحلام، وكانت الصدمة أن وجد أن وثيقة الشهادة تعود لأم أحلام ، ففي سنة 1990 تعرضت أم أحلام لهجوم عنيف من قبل صاحب الضيعة ، بينما كان في حالة سكر فإغتصبها ونتج عن ذلك حمل وكانت نتيجة الحمل هي أحلام. والوثائق الموجودة بالملف تؤكد ذلك، نعم بسبب هذا الملف وضعت أحلام حدا لحياتها، طار عقل أسعد عندما أدرك أن أحلام أخته، أحلام التي دعاها الى السرير المريح تكون أخته . لم يفكر كثيرا في الأمر فالصدمة تحول بينه وبين أي إمكانية للتفكير ،صعد الدرج وأخذ قنينة بنزين وشعلة، خرج أسعد من المنزل جثة لا روح فيها، اتجه نحو قبر أحلام وسكب البنزين على جسده ثم تناول الشعلة وأدرم النار في جسده.
أحلام الفتاة الجميلة الشابة الصغيرة، وأسعد البرجوازي الشاب، نهاية واحدة خطتها البرجوازية المتعفنة، البرجوازية التي تطحن البسطاء من البشر دون أي إعتبار إنساني.



#محمد_جلال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الثاني
- أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الأول
- المجتمع المغربي كبنية تناقضية
- الأخلاق أم الدين
- الكُرد والكورد
- السبيل الى الخروج من فم الثعبان
- المجتمعات العربية المعاصرة بين إشكالية الإستلاب وأزمة الإغتر ...
- انا وانت والمساء


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد جلال - العاهرة والبرجوازي -قصة قصيرة-