أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد جمال - أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الأول















المزيد.....



أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الأول


محمد جمال

الحوار المتمدن-العدد: 4408 - 2014 / 3 / 29 - 07:51
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


• الفيضان التوراتي

تعد أسطورة الفيضان التوراتي احد اهم و اكثر قصص الكتاب المقدس شيوعا، و هي كقصة تحمل العناصر الأساسية التي نجدها في العديد من قصص الكتاب المقدس و التي تتمثل في خطيئة البشر التي تجلب غضب الأله مما يدفعه إلي الحكم علي جميع الخاطئين بالفناء ماعدا شخص مختار مع عائلته ثم يقوم بعد الأنتهاء من الكارثة بأعطاء عهد للناجين بمضمون معين لتفسير مافعله أو للتنبئ بشيئ يخص مستقبل الناجيين، و تعد قصة الفيضان ذات اهمية خاصة لأنها تعطينا فكرة عن شخصية الأله العبراني "يهوه" الذي لا يتورع عن افناء كل المخلوقات علي الأرض بدون تمييز بسبب خطأ مجموعة من البشر، و الأهم من ذلك هو انها من الأساطير المؤسسة لأصل البشر حسب التصور الديانات الإبراهيمية، فحسب الأعتقاد الإبراهيمي أن كل البشر منحدرين من نوح و أولاده الثلاثة (سام و حام و يافث) الذين انبثق من نسلهم جميع شعوب الأرض.

ذكرت قصة الفيضان في سفر التكوين ابتداءا من الأصحاح السادس حتي الأصحاح التاسع، و هي قصة تحكي كيف دمر الرب الأنسان الذي خلقه و هذا لما صدر منه من الشرور و الفساد، و كيف انقذ الرب نوح و عائلته فقط من البشر كما توضح القصة كيفية انقاذه للحياة الحيوانية عن طريق امره لنوح بأن يأخذ زوجين من جميع الحيوانات معه علي السفينة التي امره بأن يشيدها لتكون هي وسيلة نجاتهم من هذه الكارثة التي ستفني البشرية، و في هذا الجزء سنتحدث بالتفصيل عن هذه القصة حسب المصادر اليهودية التي مثلت المصدر الرئيسي للأسطورة في الأديان الإبراهيمية اللاحقة لليهودية، ثم سنتحدث في الجزء الثاني عن مصادر قصة الطوفان العبراني من حضارات بلاد الرافدين القديمة.

أولا : اسباب غضب الرب علي البشر و ارساله للفيضان :

جاء في الأصحاح السادس من سفر التكوين أن سبب غضب الرب علي البشر هو انتشار الشر و الفساد في جميع انحاء الأرض "5 ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم" (تك 6: 5) و لكن كان نوح هو الأستثناء الوحيد حيث تصفه جمل سفر التكوين بأنه رجل بار و انه وجد نعمة في عين الرب "8 وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب9 هذه مواليد نوح: كان نوح رجلا بارا كاملا في أجياله. وسار نوح مع الله" (تك 6 : 8-9) و أمام هذا الشر و العصيان، ندم الرب علي خلق البشر من الأساس و قرر تدمير خليقته بيده "6 فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه7 فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أني عملتهم" (تك 6 : 6-7) و هنا نجد انفسنا أمام احدي السمات المميزة للأله العبراني "يهوه" حيث ان الأحداث المختلفة في العهد القديم تظهر لنا أن شخصيته مليئة بالنواقص و المتناقضات مثله كمثل البشر، فهو يغضب و يندم و يظلم و يشعر بالفرح و الحزن و كلها صفات لا تليق بأله واحد، و التفسير المنطقي لذلك هو أنه في بدايات تكوين صورة الأله تأثر الوعي العبراني بصفات الألهة المختلفة التي كانت موجودة في ديانات الحضارات المحيطة مثل الحضارة المصرية و البابلية و الأوغاريتية و قد كانت هذه الديانات تعددية تحوي العديد من الألهة و كل أله له شخصيته المختلفة فمنهم الحكيم و منهم الشرير و منهم الرحيم..إلخ، و بالطبع فقد تأثر العبرانيين بشخصيات هذه الألهة في مراحل عدة من تاريخهم فدخلت في فترات تكوين دياناتهم كعناصر من شخصية ألههم الذي جائت شخصيته متناقضة كنتيجة طبيعية لأختراعه من مزج شخصيات اهم الألهة المحيطة بالعبرانيين في ذلك الوقت.

تم تكرار سبب الفيضان المتمثل في فساد و شرور البشر مرة اخري في الجمل 11 و 12 من الأصحاح السادس "11 وفسدت الأرض أمام الله، وامتلأت الأرض ظلما12 ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت، إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض" (تك 6 : 11-12) و لكن تم استخدام كلمة "إيلوهيم" للتعبير عن الرب بدلا عن "يهوه" التي استخدمت في الجملة الخامسة التي ذكرناها من قبل، و من المعروف أن تعريف الأله بلفظ "إيلوهيم" هو أحد سمات المصدر الكهنوتي لأسفار العهد القديم، بينما تعريف الأله بلفظ "يهوه" هو من سمات المصدر اليهودي، و سنلاحظ فيما يلي الكثير من الأختلافات في احداث قصة الفيضان ناتجة عن استخدام المحررين التوراتيين للمصدر اليهودي و المصدر الكهنوتي معا في تسجيل احداث الفيضان في النسخة الأخيرة من العهد القديم.

لم يحتوي سفر التكوين الرسمي علي ماهو اكثر من أن البشر قد افسدوا في الأرض و نشروا الشرور فيها بدون وصف مفصل لما فعلوه ليستحقوا غضب الرب، و لكن احتوت النصوص المدراشية و الهاجادية علي بعض التفاصيل عما فعلوه منها أنهم كانوا متغطرسين ووقحين، و كانوا يتجولون في الأرض عراة، كما كانوا فاجرين و شهوانيين، إلي جانب انهم كانوا مجرمين و لصوص يقوموا بوضع علامات من مواد ذات روائح قوية علي ابواب منازل الأغنياء حتي ترشدهم الرائحة إلي اهدافهم في ظلام الليل، و لكن ابشع افعالهم كانت عدم الأيمان بقدرة يهوه الذي شعر بالطبع أن هذه أهانة شخصية له، و من مظاهر عدم ايمانهم بقوة يهوه و قدرته كانت ردة فعلهم علي نوح حينما حذرهم من الفيضان القادم، فقد كان ردهم هو السخرية و الأستهزاء من نوح بسؤاله، ماهو نوع الفيضان الذي سيرسله علينا الههك ؟؟؟ اهو فيضان من حمم ؟؟؟ إذا كان فيضان من الحمم فنحن لدينا مواد تقينا النار (اسم المادة في النص الأصلي في "مدراش هاجادول" هي "أليثا" و ربما يكون المقصود بها مواد الأسبست) أهو فيضان من الماء ؟؟؟ إذا كان فيضان من الماء فنحن لدينا سدود حديدية تقينا الفيضانات، و إذا كان فيضان من أمطار السماء فسوف نستخدم تسقيفات (ظلات)، فرد عليهم نوح بأن الرب سوف يخرج المياه المغلية من تحت كعوبهم، فرد المستهزئين بأنه ايا تكن عظمة هذا الفيضان فأنهم طوال القامة إلي درجة أن المياه لن تصل لأعناقهم، و إذا فتح الرب بوابات الغمر السفلي (المياه الجوفية) فأنهم سيسدوها بأقدامهم، و أمام هذا السلوك قرر يهوه تدمير البشر و اعطاهم مهلة من 120 عاما ليتوبوا و هي الفترة المتبقية من حياة الرجل الصالح "متوشلح" الذي لم يرد الرب تدمير البشر و هو وسطهم، و بعد وفاته اعطي الرب سبعة ايام اضافية هي فترة الحداد علي متوشلح ثم بدأ الفيضان.

ثانيا: السفينة :

بعد أن قرر يهوه حتمية قضائه علي البشر بالفيضان، أمر نوح بأن يبني سفينة لتكون وسيلة نجاته هو و اهله و الحيوانات "14 اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر. تجعل الفلك مساكن، وتطليه من داخل ومن خارج بالقار15 وهكذا تصنعه: ثلاث مئة ذراع يكون طول الفلك، وخمسين ذراعا عرضه، وثلاثين ذراعا ارتفاعه16 وتصنع كوا للفلك، وتكمله إلى حد ذراع من فوق. وتضع باب الفلك في جانبه. مساكن سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله17 فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت" (تك 6 : 14-17) و في الحقيقة فأن كلمة سفينة التي نستخدمها دائما في ذكرنا لقصة الطوفان ليست دقيقة، فقد استخدم النص العبري كلمة "ת-;---;--ּ-;---;--ֵ-;---;--ב-;---;--ַ-;---;--֣-;---;--ה-;---;-- تيباه" و التي تعني "صندوق" و هي كلمة لم يستخدمها العهد القديم إلا في موضعين أولهم كان عند الحديث عن سفينة نوح في سفر التكوين و ثانيهم كان عند الحديث عن الصندوق الذي وضعت فيه أم موسي ابنها و القته في النيل في سفر الخروج، و هذه الكلمة ربما تكون ذات اصل مصري حيث انها قريبة جدا من الكلمة المصرية القديمة "تباو" التي تعني صندوق ايضا، و اذا صح ذلك فربما يكون دليل علي قصة اقدم كانت متداولة شفهيا بين العبرانيين قبل السبي البابلي، و بعد السبي تأثر العبرانيين بقصة الطوفان البابلية التي نراها تطل علينا واضحة من النص العبري.

يعطينا سفر التكوين انطباع عن السفينة أنها عبارة عن صندوق مستطيل ضخم مصنوع من خشب الجفر، و ابعاده 137 متر طولا، و 22 متر عرضا، إما الأرتفاع فهو 14 متر، و قام نوح بتقسيم السفينة إلي ثلاث طوابق مع مجموعة من النوافذ و باب واحد في جانب السفينة، و حسب المصادر الكهنوتية اللاحقة فقد استغرق بناء السفينة من نوح 52 عاما.

ثالثا: ركاب السفينة:

أمر يهوه نوح بأن يركب السفينة هو و زوجته و اولاده و زوجاتهم و يأخذ معه نوعين من كل الكائنات بالأضافة إلي الطعام اللازم للوقت اللذي سيستغرقه الفيضان "18 ولكن أقيم عهدي معك ، فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك19 ومن كل حي من كل ذي جسد، اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا وأنثى20 من الطيور كأجناسها ، ومن البهائم كأجناسها، ومن كل دبابات الأرض كأجناسها. اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها21 وأنت، فخذ لنفسك من كل طعام يؤكل واجمعه عندك، فيكون لك ولها طعاما22 ففعل نوح حسب كل ما أمره به الله. هكذا فعل" (تك 6 : 18-22) و لكن نفاجئ في الأصحاح التالي برواية مختلفة عن الذين سيدخلون السفينة من الحيوانات "1 وقال الرب لنوح: ادخل أنت وجميع بيتك إلى الفلك، لأني إياك رأيت بارا لدي في هذا الجيل2 من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا وأنثى. ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين: ذكرا وأنثى3 ومن طيور السماء أيضا سبعة سبعة: ذكرا وأنثى. لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض4 لأني بعد سبعة أيام أيضا أمطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة. وأمحو عن وجه الأرض كل قائم عملته5 ففعل نوح حسب كل ما أمره به الرب" (تك 7 : 1-5) و تفسير ذلك هو أن رواية الفيضان قد حررها المحررين التوراتيين لتظهر بشكلها الحالي اعتمادا علي مصدرين مختلفين و المصدرين هم "المصدر اليهودي Yahwist Source" و الذي يرمز له اختصارا ب "J Source" و الذي تمت صياغته في مملكة يهوذا الجنوبية عام 950 ق.م حسب ارجح الأراء، إما المصدر الأخر فهو "المصدر الكهنوتي Priestly Source" و الذي يختصر عادة ب "P Source" و قد تمت صياغته من قبل الكهنة اليهود اثناء فترة السبي البابلي عام 500 ق.م تقريبا، إما عن سبب الأختلاف بين المصدرين فهو سبب راجع إلي خلاف عقائدي بين كتبة المصدرين، فكتبة المصدر اليهودي كانوا يؤمنون بشريعة التضحية فكان لزاما عليهم أن يجعلوا من عدد أزواج الأنواع الطاهرة (الحيوانات الطاهرة هي الحيوانات الصالحة للأضحية حسب الشريعة اليهودية، و يمكن مراجعة سرد كامل للكائنات التي تعد طاهرة في (لاويين 11 : 3-31) و (تثنية 14 : 4-20)) الصاعدة إلي السفينة سبعة أزواج، لأنه من وجهة نظرهم العقائدية كان يجب علي نوح أن يحرق للأله اضاحي بعد أن ينجيهم من الفيضان، و بالتالي لا يصلح ان يأخذ زوجان فقط من الأنواع الطاهرة لأنه في حالة صعود زوجان فقط منها لن يستمر النوع بعد التضحية المطلوبة، إما كتبة المصدر الكهنوتي فلم يكونوا مؤمنين بشريعة التضحية لذلك جعلوا عدد الكائنات الصاعدة في السفينة زوجان فقط من كل نوع و هو العدد الضروري لضمان استمرار النوع فقط.

تقول المصادر الكهنوتية اليهودية بأنه عندما أمر الرب نوح بجمع كل هذه الحيوانات، شعر نوح بثقل المهمة الملقاة علي كاهله و اشتكي للرب متعجبا عن كيفية قيامه بذلك، فقام يهوه بأرسال ملائكة بسلال من الطعام المفضل لجميع الأنواع ليجتذبوهم بها إلي السفينة فبدا للناظر كأن الحيوانات تأتي وحدها، و قد تجمعت جميع الكائنات أمام السفينة قبل الفيضان بأسبوع فأمر يهوه نوح بأن يجلس أمام باب السفينة و جعل الحيوانات تمر أمامه و تنحني مقدمة احتراماتها حتي تحصل علي الأذن بالدخول، و بناء علي أوامر يهوه فلم يكن لنوح أن يعطيهم الأذن بالدخول إلا عندما يري أن الذكر مسيطرا علي الأنثي فإذا شعر أن الأنثي لها السيادة علي الذكر لا يسمح لهم بالدخول، و كان لذلك حكمة عند يهوه، فقد كانت الخطيئة منتشرة بين الحيوانات ايضا حيث ادي ضعف سيطرة ذكور الأنواع المختلفة علي اناثهم أن قامت ذكور انواع اخري بأعتلائهم فقد قام ذكر الحصان بأعتلاء انثي الحمار و اعتلي ذكر الذئب انثي الكلب و هكذا، و كان ذلك من اسباب رغبة يهوه في تدمير الحيوانات مع البشر علي حد السواء.

رابعا: بداية الفيضان و احداثه :

لا تقدم لنا رواية سفر التكوين الرسمي الكثير من التفاصيل عن كيف بدأ الفيضان، فكل ما تصفه هو كيف فتح يهوه ابواب السماء و ابواب الأرض ليسمح لمياه السماء و مياه الأرض بأن تغمر الأرض، و كان هذا في السنة الستمائة من عمر نوح، ثم تقص لنا روايتين متناقضتان عن فترة استمرار الفيضان علي الأرض فبينما تقول الجملة السابعة عشر من الأصحاح السابع أن فترة الطوفان كانت اربعون يوما و اربعون ليلة، نجد الجملة الرابعة و العشرون تقول أن المياه تعاظمت لمدة 150 يوما، و هذا الأختلاف راجع إلي الأختلاف بين المصدر اليهودي و المصدر الكهنوتي كما وضحنا من قبل، و يبدو أن المصدر اليهودي متأثرا بشدة في العديد من النقاط بعناصر ميثولوجيا مصرية قديمة. (سأتطرق إلي نقطة التأثير المصري بالتفصيل في الجزء الرابع من هذا البحث)

و لكن بالمقابل تعطينا نصوص المدراش اليهودية فكرة جيدة عن تفاصيل احداث الفيضان في الفكر العبراني، فتصف هذه النصوص كيف اهتزت الأرض و ارتجت اساساتها مع بداية الفيضان، و كيف ومض البرق و جلجل الرعد بصوت يصم الأذان، بالأضافة إلي كثير من المؤثرات التي كان غرض يهوه منها هو اخافة مرتكبي الفظائع و جعلهم يتمنون التوبة بدون جدوي، ثم قام يهوه بفتح طاقات السماء و بوابات الأرض فأغرق الفيضان الأرض كلها ببطئ، و عندما وجد البشر العصاة أن الفيضان حقيقي قاموا بالتوجه ناحية السفينة التي تجمع حولها اكثر من 700 الف من البشر العصاة صارخين مطالبين نوح بفتح الباب و السماح لهم بالدخول، فرد عليهم نوح بقوله انه حذرهم من ذلك و طلب منهم التوبة طوال المائة و العشرون سنة السابقة و لم يستجيبوا، فأجابوه بأنهم قد تابوا الأن، فرد عليهم بأنه قد فات الأون علي التوبة، فحاولوا كسر الباب و كادوا يقلبون السفينة بسبب تزاحمهم عليها و لكن جائت مجموعات من الذئاب و الأسود و الدببة التي لم تدخل إلي السفينة محاولة هي الأخري الدخول فقامت بتمزيق اغلبهم إلي اشلاء و الباقي تفرقوا في فزع لمواجهة مصيرهم المحتوم، فقاموا بألقاء الأطفال داخل الينابيع المتدفقة كمحاولة لأيقاف تدفق المياه و لكن لم تفلح المحاولة فحاولوا تسلق الأشجار العالية و التلال، و لكن استمر تدفق الأمطار كالشلالات و استمر خروج المياه من الينابيع و الأبار فأرتفعت المياه سريعا حتي رفعت السفينة ثم سرعان ما ازدادت ارتفاعا إلي أن اغرقت المختبئين في الأماكن العالية، و تقول بعد المصادر أن المياه كانت مغلية حيث قام يهوه بتمريرها علي نيران الجحيم اولا لغليها قبل ارسالها لغمر الأرض، و ذلك لتعذيب اصحاب الشهوات الملتهبة بمياه ملتهبة مثل شهواتهم.

استمر الفيضان عاما كاملا لم يذق فيه نوح و اولاده طعم النوم و لو لدقيقة واحدة، فقد كانوا مشغولين بمهامهم التي لا تنتهي المتمثلة في اطعام الحيوانات التي كانت تأكل اطعمة مختلفة في اوقات مختلفة، فالجمل يأكل التبن، و الحمار يأكل الشعير..إلخ، بالأضافة إلي اختلاف مواعيد اطعامها فتوجد بعض الكائنات تأكل في ساعات الصباح المبكرة و اخري تأكل ليلا و هكذا، هذا بالأضافة إلي تظيف أماكنها و روثها، و في محاولة لجعل القصة اكثر منطقية ذكر احد المصادر المدراشية أن جميع ركاب السفينة من بشر و حيوانات و طيور و زواحف قد تغذوا علي نوع واحد فقط من الطعام طوال فترة الفيضان إلا و هو "خبز التين".

و تستمر المصادر المدراشية في ذكر مغامرات نوح مع سكان سفينته من الحيوانات، فتذكر انه لا احد من سكان السفينة كان يعرف ماذا تأكل الحرباء إلي أن جاء يوم فتح فيه نوح رمانة، فسقطت منها دودة في مكان اقامة الحرباء، فقامت الحرباء بألتهامها، و حينما رأي نوح ذلك قام بعجن كمية من براعم نبات العاقول و صنع منها كعكة ووضعها في مكان الحرباء لتتغذي من الدود الذي سيخرج منها، إما بالنسبة للأسد فقد اصيب بحمي طوال فترة الفيضان جعلته غير قادر علي الأفتراس، فتغذي علي العشب مثله مثل الثور، ووسط كل هذه الفوضي كان هناك طائر يقضي كل وقته نائما في احد الأركان فأندهش نوح منه و ذهب اليه ليوقظه و يسأله لماذا ينام دئما و لا يطلب الطعام، فأخبره الطائر بأنه رأي المشقة التي يتكبدها دائما فلم يرد أن يزيد مشقته، فتمني له نوح ألا يموت أبدا، و فعلا استجاب الرب لأمنية نوح و ظل هذا الطائر حيا دائما لا يموت، فهو يتجدد فقط عن طريق الأحتراق ثم ينبعث مرة اخري من رماده، و هذا الطائر هو العنقاء.

إما بالنسبة للحياة الجنسية لسكان السفينة من البشر و الكائنات الأخري، فقد حرمها نوح عليهم و منعهم من المعاشرة الجنسية، و اقد اطاع كل ابناء نوح أوامره ما عدا حام الذي عاشر زوجته، فقام الرب بلعنه بأن جعل لون بشرته أسود، و قد خرجت بعد التفسيرات المدراشية بتفسير لماذا فعل حام ذلك، و ادعت انه ما خالف أوامر ابيه إلا ليبعد العار عن زوجته التي كانت حامل من الملاك الساقط "شمحازاي"، كذلك اطاع الأمر باقي الكائنات ماعدا الكلب و الغراب فلعنهم الرب لعنات مختلفة.

بعد انقضاء مدة الفيضان أمر الرب طاقات السماء أن تنغلق و مياه الأرض بأن تعود إلي أماكنها، ثم انحسر الفيضان تدريجيا إلي أن استقرت السفينة فوق أعلي قمة من جبال أرارات، و بعد ذلك بدأت قمم الجبال الأقل ارتفاعا في الظهور "3 ورجعت المياه عن الأرض رجوعا متواليا. وبعد مئة وخمسين يوما نقصت المياه4 واستقر الفلك في الشهر السابع، في اليوم السابع عشر من الشهر، على جبال أراراط5 وكانت المياه تنقص نقصا متواليا إلى الشهر العاشر. وفي العاشر في أول الشهر، ظهرت رؤوس الجبال" (تك7 : 3-5) ثم قام نوح بفتح طاقة في السفينة و أرسل الغراب لتقصي اخبار الأرض "6 وحدث من بعد أربعين يوما أن نوحا فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها7 وأرسل الغراب، فخرج مترددا حتى نشفت المياه عن الأرض" (تك7 : 6-7) و هذا كل ما ذكره سفر التكوين الرسمي، إما نصوص المدراش فتذكر قصة طريفة أكثر تفصيلا، و ملخصها هو أن نوح قد فتح طاقة في السفينة و أمر الغراب أن يطير لتقصي الأخبار، فرد الغراب بوقاحة قائلا "أن الرب الهك يكرهني و انت كذلك تكرهني، ألم تكن أوامر الرب أن تأخذ سبعة أزواج من الطيور الطاهرة و زوجين فقط من الطيور الغير طاهرة ؟؟؟ لماذا إذن تختارني أنا لهذه المهمة الخطرة بينما لا يوجد سواي أنا و رفيقتي ؟؟؟ لماذا تعفي الحمام من هذه المهمة و هم يوجد منهم سبعة ازواج ؟؟؟ إذا مت من البرودة أو الحرارة فسيحرم العالم من الغربان إم أنك تشعر بالشهوة تجاه رفيقتي لهذا تريد التخلص مني ؟؟؟ " فقال نوح " ايها الملعون، حتي زوجتي محرمة علي بينما نحن مازلنا في السفينة فما بالك برفيقتك و هي ليست من نوعي ؟؟؟" فقام الغراب بالأختباء من نوح حتي لا يرسله في المهمة، فقام نوح بالبحث في كافة ارجاء السفينة حتي وجده مختبئ تحت جناح أنثي النسر، فقال له نوح "ايها الملعون ألم اخبرك أن تخرج لتري إلي أي مدي انحسر الفيضان، فلتخرج حالا" فرد الغراب و قال "إذا فأن شكوكي في محلها، انت تشعر بالشهوة تجاه رفيقتي" فغضب نوح و صاح "فليلعن الرب المنقار الذي ردد هذا الأفتراء" فقالت كل الكائنات التي كانت موجودة كلمة "أمين" ثم خرج الغراب لتنفيذ المهمة و عاد ثم ارسله نوح مرة أخري فعاد ايضا ثم ارسله نوح مرة أخيرة لم يعد بعدها لأنشغاله بالتغذي علي جثث الموتي، و ما لم يعرفه نوح في وقته أن الغراب في الوقت الذي كان مختبئ فيه من نوح قام بمعاشرة و تلقيح أنثي النسر و العديد من اناث الطيور الأخري مما افسد طبيعتها و جعل نسلها أكلة للجيفة.

فيما بعد قام نوح بأعطاء أوامر مماثلة للحمامة التي خرجت أول مرة و عادت مسرعة حيث لم تجد أشجار تقف عليها، و في المرة الثانية عادت و في منقارها ورقة زيتون فعرف نوح أن المياه قلت، و في المرة الثالثة خرجت و لم تعد فعرف نوح أن الفيضان قد انحسر، فخرج نوح من احدي الطاقات لينظر فلم يري إلا مساحات واسعة من الطين ممتدة في جميع الجهات، و في اليوم السابع و العشرين من الشهر الثاني من السنة الستمائة وواحد من عمر نوح كلمه يهوه أمرا اياه أن يخرج مع أهله و جميع الكائنات من السفينة لتعمير الأرض.

خامسا : نهاية الفيضان و ميثاق الرب :

بعد أن أمر الرب نوح بالنزول من السفينة، كان اول ما فعله نوح حين مست قدماه الأرض هو اقامة مذبح و تقديم اضحيات للرب من الحيوانات و الطيور الطاهرة التي اصطحب منها سبعة ازواج "19 وكل الحيوانات، كل الدبابات، وكل الطيور، كل ما يدب على الأرض، كأنواعها خرجت من الفلك20 وبنى نوح مذبحا للرب . وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح" (تك 8 : 19-20) و الغرض من القربان هنا ليس ارتجاء رحمة الرب لجعلهم ينجون فقد تم الأختيار و اختار الرب نوح و اسرته لتعمير الأرض من نسلهم و انتهي الأمر، و لكن كان الغرض من القربان هو ابداء الشكر و العرفان ليهوه.

حينما شم يهوه رائحة القربان شعر بالرضا و قرر ألا يدمر الأنسان مرة أخري لأنه علم ان الشر طبيعة فيه "21 فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان، لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته. ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت" (تك 8 : 21) و نجد أنفسنا هنا مرة أخري أمام صورة لأله قاصر غبي و جاهل بصفة المخلوق الذي خلقه بيده علي صورته (حسب روايات العهد القديم بالطبع) ألم يعلم يهوه بأن الشر صفة موجودة داخل نفس الأنسان ؟؟؟ ألم يخلقها فيه ؟؟؟ إم لم يكن هو خالقها إذا فمن خلقها في الإنسان ؟؟؟ و إذا كان قد خلق الشر في الأنسان هل كان الأمر يستلزم منه اقامة مذبحة جماعية لكل البشر الموجودين علي الأرض حتي يقتنع أن الشر متأصل فيهم ؟؟؟ علي اية حال فأن هذا ما ذكر في نهاية الأصحاح الثامن من سفر التكوين، و هذا كان مقدمة للميثاق بين يهوه و باقي الكائنات ذلك الميثاق الذي تم التلميح اليه في الأصحاح السادس "18 ولكن أقيم عهدي معك ، فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك" (تك6 : 18) ثم ذكر الميثاق مفصلا في النصف الأول من الأصحاح التاسع "11 أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضا بمياه الطوفان. ولا يكون أيضا طوفان ليخرب الأرض12 وقال الله: هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبينكم، وبين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر13 وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض14 فيكون متى أنشر سحابا على الأرض، وتظهر القوس في السحاب15 أني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية في كل جسد. فلا تكون أيضا المياه طوفانا لتهلك كل ذي جسد16 فمتى كانت القوس في السحاب، أبصرها لأذكر ميثاقا أبديا بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض17 وقال الله لنوح: هذه علامة الميثاق الذي أنا أقمته بيني وبين كل ذي جسد على الأرض" (تك 9 : 11-17)، و يتلخص ميثاق الرب مع البشر في اعترافه بأن الأنسان يملك بذرة الشر داخل نفسه لذلك تعهد بألا يدمره مرة أخري، كما ذكر بأنه من ذلك الوقت و حتي نهاية العالم سيأتي وقت الزراعة يليه وقت الحصاد كمثل الشتاء يليه الصيف و النهار يليه الليل، كما بارك الرب نوح و اسرته (ماعدا حام الذي لعنه اباه فيما بعد) و سمح للبشر بأن يأكلوا اللحوم و الخضروات علي حد سواء و لكن لا يسمح لهم بتناول دم الحيوان لأن روح الحيوان موجودة في دمه، كما قرر عقوبة الموت لأي انسان يقوم بجريمة القتل، و كنوع من التذكرة قام بوضع قوسه في السماء لتذكير نفسه و البشر بهذا الميثاق المبروم بينهم (قوس قذح) و الذي سيراه الأنسان دائما بعد كل مطر ينهمر علي الأرض لتذكيره بميثاقه مع الرب كما يحدد هذا الميثاق طبيعة العلاقة المستقبلية بين الرب و البشر و يمهد للميثاق الذي اقامه يهوه فيما بعد مع شعب إسرائيل.

يمتلئ تاريخ العبرانيين المسجل في العهد القديم بالعديد من هذه المواثيق و هي عبارة عن عهود يلزم بها الرب نفسه علي شروطها، و هي غالبا ما تكون متقاربة في هذه الشروط التي تمثل انواع من الحماية الألهية و البركة و التي تكون مشروطة بالطاعة التامة من البشر للأله و عدم عصيانه و يعتبر خرق البشر لهذا الشرط خرق للعهد فيقوم الرب بالأنتقام اما بالتشريد او التدمير او الأبتلاء بالكوارث و تسليط الأعداء، و هذه المواثيق تذكرنا بالعهود القديمة التي كانت تعقد في المجتمعات البدوية بين القبائل القوية مع القبائل الأضعف منها، و التي تتعهد فيها القبيلة القوية بعدم الأغارة علي اراضي القبائل الأخري مقابل الخضوع لسلطتها و بالطبع دفع إتاوات معينة تحظي في مقابلها بالحماية، و هذا بالطبع ناتج طبيعي لفكر شعب بدوي كالعبرانيين الذين تصوروا الههم من وحي بيئتهم و نظامهم القبلي المحيط بهم.

"انتهي الجزء الأول و إلي اللقاء في الجزء الثاني"

• References :

1. Graves, Robert & Patai, Raphael (2005) Hebrew Myths--;-- The Book of Genesis, Carcanet Press-limit-ed

2. Muddiman, John & Barton, John (2001) The Oxford Bible Commentary--;-- The Pentateuch, Oxford University Press


3. Greenberg, Gary (2000) 101 Myths of The Bible--;-- How the Ancient Scribes Invented Biblical History, Sourcebooks, Inc

4. Young, Dwight & David Sperling, S (2007) Flood, The (Article) ENCYCLOPAEDIA JUDAICA, Second Edition, Macmilan Refernce USA


5. Flood, The (1906) Jewish Encyclopedia, First Edition, The Jewish Encyclopedia E-Version http://www.jewishencyclopedia.com/



#محمد_جمال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المجتمع المغربي كبنية تناقضية
- الأخلاق أم الدين
- الكُرد والكورد
- السبيل الى الخروج من فم الثعبان
- المجتمعات العربية المعاصرة بين إشكالية الإستلاب وأزمة الإغتر ...
- انا وانت والمساء


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف موقع اسرائيلي حيوي ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف قاعدة -عوفدا- الجو ...
- معرض روسي مصري في دار الإفتاء المصرية
- -مستمرون في عملياتنا-.. -المقاومة الإسلامية في العراق- تعلن ...
- تونس: إلغاء الاحتفال السنوي لليهود في جربة بسبب الحرب في غزة ...
- اليهود الإيرانيون في إسرائيل.. مشاعر مختلطة وسط التوتر
- تونس تلغي الاحتفال السنوي لليهود لهذا العام
- تونس: إلغاء الاحتفالات اليهودية بجزيرة جربة بسبب الحرب على غ ...
- المسلمون.. الغائب الأكبر في الانتخابات الهندية
- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد جمال - أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الأول