أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد جلال - -إشكالية التأخر التاريخي- من منظور عبد الله العروي















المزيد.....


-إشكالية التأخر التاريخي- من منظور عبد الله العروي


محمد جلال

الحوار المتمدن-العدد: 5110 - 2016 / 3 / 21 - 15:40
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لا تدعي هذه الورقة لنفسها الشمولية و الكفاية في طرق "إشكالية التأخر التاريخي" كما ناقشها الدكتور عبد الله العروي في جملة من مؤلفاته المنشورة للكافة، بل إن هذه الورقة تروم فقط التنبيه على الخطوط العامة التي حركت عمل عبد الله العروي، و كذا تصوره العام لهذه الإشكالية. من هنا يكون عملنا في هذه الورقة بمثابة توطئة عامة تطرق الخطوط العريضة ل"إشكالية التأخر التاريخي". و هي إشكالية لم ينتفض لها العروي فقط بل حركت عمل الكثير من المثقفين المغاربة منهم بشكل خاص و العرب بشكل عام. ذلك أن الهم الأكبر للمثقف هو النظر في مآسي مجتمعه و آماله، أما المثقف المترفع عن إشكالات واقعه وزمانه، فهو أشبه ما يكون بطائر ترك سرب الطيور يحلق فارا من خطر عاصفة وشيكة، يبحث عن ملجئ يأويه، و توقف الطائر المتخلف عن السرب مشدوها يرفرف فوق بركة ماء أوشك السيل على اكتساحها!.
ليس المثقف أو الفيلسوف شخصا مترفعا عن إشكالات واقعه و زمانه، بل إنه شخص منخرط في هذه الإشكالات و متفاعل معها أشد التفاعل، فهو (أي هذا المثقف أو الفيلسوف) كما يقول الدكتور زكريا إبراهيم، أشبه ما يكون برجل مريض يبحث عن وضع يمكن أن يرتاح إليه. و المرء إنما يصبح فيلسوفا حينما يشعر بأن وضعه بالقياس إلى الواقع هو مما لا سبيل إلي تقبله.
و إذا كان الوضع في المغرب قد اتسم بالتأخر، فإن المفكرين في هذا القطر اهتموا أيما اهتمام بالبحث عن السبل الكفيلة بتجاوز إشكالية التأخر التاريخي، و هي الإشكالية التي أرقت بال أغلبهم و قضت مضجعهم. وقد برز التأخر جليا مباشرة بعد هزيمة إيسلي (سنة 1844)، حينما ظهر تفوق الغرب، مقابل تأخر المنهزم (المغرب)، و في هذه الهزيمة ظهر التنظيم المحكم و التدبير الرفيع للغرب، مقابل ضعف التنظيم و غياب التدبير في أوساط المنهزم. و منذ هذه اللحظة دخل المغرب فيما يعرف ب"صدمة الحداثة"، و من ثمة طرح السؤال حول المصير و حول الذات و حول الأفق، فتعددت الإجابات و تباينت الرؤى، و ظل الجامع بين كل الآراء واحدا، و هو البحث عن سبل التقدم و تجاوز التأخر التاريخي.
من بين المحاولات التي خاضت في إشكالية التأخر التاريخي، بالفحص و المعالجة، نذكر محاولة المفكر و المؤرخ عبد الله العروي، و هي محاولة تروم تعرية الواقع و الفكر المغربيين (و الواقع العربي في حدود معينة). محاولة هدفت إلى تشخيص الداء و اقتراح الدواء. و إذا كان الداء هو التأخر التاريخي الذي أجمع عليه أغلب من حللوا الواقع المغربي المعاصر (العروي، الجابري، الخطيبي...الخ)، فإن الدواء الذي اهتدي إليه عبد الله العروي ينبع من الحداثة الغربية.
لكن تبني العروي للحداثة الغربية لم يكن من باب الإعجاب بالنموذج الحداثي الذي تهافت - و يتهافت - عليه الكثير من المثقفين، بل إنه يتبنى نموذجا يعده النموذج الإنساني الصميم، بحيث عمل الرجل على نقد و نقض جملة من الدعاوى و التصورات التي برزت في كنف المجتمعات العربية الإسلامية، ليهتدي في الأخير إلى تقديم حل ارتآه مناسبا للخروج من إشكالية التأخر التاريخي.

إشكالية التأخر التاريخي و النقد الإيديولوجي.

انتقد العروي جملة من المواقف الفكرية و السياسية التي رامت التصدي لواقع التخلف الذي ينخر الجسد العربي، و بين تهافت أغلبها، و ذلك عبر تعرية هذه المواقف و هدم الأسس التي انبنت عليها.
انتقد الإيديولوجيا السلفية، و هي إيديولوجيا ظلت مشدودة بقوة نحو الماضي، و يقول بهذا الصدد أنه علينا أن "نودع نهائيا المطلقات جميعها، نكف عن الاعتقاد أن النموذج الإنساني وراءنا لا أمامنا، و أن كل تقدم إنما هو في جوهره تجسيد لأشباح الماضي، و أن العلم تأويل لأقوال العارفين، و أن العمل الإنساني يعيد ما كان و لا يبدع ما لم يكن، و بذلك تتمثل لأول مرة معنى السياسة كتوافق مستمر بين ذهنيات جزئية، تمليها ممارسات الجماعات المستقلة، و تتوحد شيئا فشيئا عن طريق النقاش الموضوعي و التجارب المستمرة، بحيث لا يمكن لأحد أن يدعي، فردا كان أو جماعة، أنه يملك الحقيقة المطلقة عن طريق الوحي و المكاشفة و يفرضها على الآخرين"[1].
الإيديولوجيا السلفية تحاول جاهدة أن تحافظ على تاريخ الأسلاف، بحيث يشكل لها هذا التاريخ منهجا في الرؤية و الفعل، و تظل هذه الإيديولوجيا موقنة بأن الخلاص يكمن في العودة إلى طريق السلف الصالح، و لا مجال للنظر مع هذه الإيديولوجيا إلى المكاسب التي حققتها الحضارات الأخرى، إذ أنها تتشبث بأن الخلاص كامن في رحم تاريخ مضى، و المطلوب بالنسبة لها هو إحياء هذا التاريخ.
لا تكتفي العقلية السلفية بالقول إن النموذج الإنساني كامن في الخلف لا في الأمام، بل تذهب إلى محاولة إبطال كل الاجتهادات "الحداثية"، و تنتظر عدول أصحاب هذه الاجتهادات عن اجتهاداتهم. من هنا تكون هذه العقلية كابحة لحركة التقدم كبحا مزدوجا، فمن جهة تدعو إلى الرجوع نحو نموذج نكوصي، و من جهة أخرى تحاول إبطال سبل الحداثة عن طريق نسف دعاوى المفكرين الساعين نحو تبيئة فكر الحداثة.
و بالمثل تتعامل الذهنية الكلامية مع ما يعترضها من قضايا تعاملا يتسم بالإطلاقية، و تظل متشبثة بسلسلة من المقولات التي تمنعها من الخروج نحو آفاق أخرى أرحب و أوسع،إذا أن الذهنية الكلامية تؤمن بالمطلق و تأخذ به أخذا قاطعا، فإنها تبقى سجينة دائما بين مجموعة من الثنائيات التي تمنعها من فرض إمكانات مفتوحة تنظر من خلالها للعالم بما هو تعدد و تنوع و اختلاف، و قد صنف العروي جملة من الثنائيات التي تؤطر الذهنية الكلامية، و التي تتراوح بين مجال الإلهيات و مجال الطبيعيات و مجال الكلام و العقل، منها مثلا الكلي في مقابل الخاصّي، و الجوهر في مقابل العرض، و الفعل في مقابل القوة، و الموجود في مقابل الممكن، و الواجب في مقابل الجائز...إلخ. و كل هذه المتقابلات تدخل بالنسبة له في إطار المطلق.
الذهنية الكلامية مأسورة بالمطلق، هذه الذهنية يمثل لها العروي بعدد من المتكلمين كالغزالي و البقلاني و ابن حزم و ابن تيمية، و يعرض لآرائهم في العقل و مذهبه في النظر للعقل، و يتخذ من كتاب "معيار العلم"، لأبي حامد الغزالي مرجعا يفحص به و من خلاله كيف تتعامل الذهنية الكلامية مع ما يطرأ لها من قضايا، أما اتخاذه لهذا الكتاب مرجعا للفحص، فيعزوه إلى أن الكتاب يجسد عقل المطلق جليا من خلال اعتماد المنطق معيارا للحكم، و باعتباره كذلك يلخص آراء الفلاسفة و المتكلمين و الفقهاء الذي سبقوا عصر حجة الإسلام أبو حامد الغزالي.
يذهب الغزالي في كتابه الموسوم ب"معيار العلم" إلى وضع مجموعة من الحدود و القوانين الكلية و الحدود المفصلة التي يحد بها عددا من المفاهيم، و هذا ما نجده مبينا في كتاب الحدود من "معيار العلم"، و يبن في مطلع كتاب الحدود الحاجة إلى الحد الذي يتراوح في نظره بين التصور و التصديق، و يسمى تصورا إذا كان "علما بذوات الأشياء...و تصديقا إذا كان علما بنسبة الذوات بعضها إلى بعض، بسلب أو إيجاب."[2]
و الظاهر أن الغزالي قد رام وضع الحدود بالاستناد إلى علم المنطق لكي يضع حكما مطلقا و معيارا عاما يهتدي إليه الناظر في أمور الدين و العلم و المعرفة، و بذلك يكون قد شكل نموذجا للذهنية الكلامية التي تأخذ بالمطلق أخذا قاطعا، بحسب ما ذهب إليه العروي في كتاب "مفهوم العقل"، و ذلك عبر وضع الحدود و القوانين الكلية.
وجه العروي نقدا قويا للذهنية الكلامية التي ترى أن العقل هو عقل النص وحده، و يمثّل لها كذلك بابن حزم، الذي جعل من العقل أداة للتسييج و الحصر، و نظر لعلوم عصره على قاعدة النظر التي تم تقعيدها مع الأقدمين، إذ أسس لننظر في العقل في أفق محدودة جدا، و بهذا اعتبر العروي أن العقل عند ابن حزم " هو ما يعقل العقل و يحده، لا ما يطلقه و يسرحه. و ما يعقل العقل، بل يؤسسه كعقل، و هو علم المطلق، الذي هو علم مطلق. و ما سواه من علوم فرعية فهو خاضع له و لا يصح إلا به."[3]
ورغم أن ابن خلدون يشكل نموذجا فكريا متميزا في الثقافة العربية الإسلامية، إلا أنه مع ذلك لا يشكل نموذجا يحتذى للمعقولية في هذه الثقافة، و قد تساءل العروي "هل نجح ابن خلدون في جهوده لتجديد المفاهيم، و تخليصها من إرث المتكلمين"[4] . و الحال كما يرى العروي أن ابن خلدون لم ينجح لأن آراءه ظلت لصيقة بمجل التصورات الكلامية و الدينية التي اعتملت في كنف الثقافة العربية الإسلامية.
تجاوز العقل التراثي لن يتأتى إلا عن طريق اختيار عقلاني و حاسم، من هنا يصرح بكل قوة و بكل وضوح بالقول : "إن الحسم الذي نتكلم عنه و قع بالفعل، في جميع الثقافات المعروفة لدينا، ابتداء من القرن 16م إلى يومنا هذا."[5] و الاختيار الحاسم لا يتأتى إلا عبر اختيار عقلاني واضح و مؤسس.
لم يكتفي العروي بنقد الإيديولوجيا السلفية المشدودة نحو تاريخ السلف و الذهنية الكلامية التي تأخذ بالمطلق في تعاطيها مع أمور العلم و المعرفة، بل يوسع نقده ليشمل كذلك التصور الليبرالي الذي ينزاح كلية نحو الليبرالية بشعاراتها الرنانة و ينسى الإشكالات التي يتخبط فيها الواقع العربي و العبء الذي يعانيه، إذ أن الإيديولوجيا الليبرالية تقوم على الإسقاط و الاختزال، و به تندفع كلية نحو النموذج الليبرالي، و تنسى (أو تتناسى) التأخر التاريخي الذي يرزح تحته العالم العربي.
المثقف اللبرالي يعيش استلابا خطيرا يثنيه عن فهم واقعه و طرح السبل الكفيلة بالخروج من أزمات التقهقر و الركود، فالمثقفون الذين يركعون تحت رحمة الليبرالية بشعاراتها الفضفاضة لا يتشبثون بالنموذج اللبرالي فقط، بل و يدعون إليه بكل ما أوتوا من قوة، و"هؤلاء هم ضحية إغراء الغرب حسب تعبير مالرو. تنعكس الليبرالية الأوروبية في أذهانهم انعكاسا تاما في الوقت الذي تواجه تلك الليبرالية في أوروبا ذاتها هجومات من كل جانب. تتشابه سيرهم مهما تباعدت أوطانهم: يساهمون في البداية و لمدة قصيرة في الحياة السياسية ثم يتفرغون للعمل التربوي، تخونهم الظروف، و ضمن المجابهة الكبرى بين أوروبا و غيرها يعيشون وحدهم ما يشبه المأساة، بسبب مغايرة الليبرالية لمجتمع لم تنشأ فيه. نرى بعضهم ينساق إلى اليأس و ينكفئ نحو قيم التقليد."[6]
ميز العروي بين ثلاثة تيارات للإيديولوجيات العربية المعاصرة التي تعامل معها تعاملا نقديا يتسم بالحذر و القوة، و مثّل لهذه التيارات بالشيخ و السياسي و داعية التقنية.
و الشيخ كما يحدده "هو الذي لا ينفك يرى التناقض بين الشرق و الغرب في إطاره التقليدي، أي كنزاع بين النصرانية و الإسلام. فيواصل سجالا دام أكثر من ألف و مائتين سنة على ضفتي المتوسط من الشرق العربي إلى الأندلس."[7]
الشيخ لا ينظر للعدو و لمنجزاته، بل يعتبره مجرد آلة مسخرة لغرض معين، و يوصد بالنسبة له النقاش، ذلك أن القدر محتوم و الواجب هو الانصياع للقدر و عدم مشاكسته، و حتى النظر فيما تحقق من العلم و الفلسفة على يد علماء و فلاسفة كثر، لا يكترث الشيخ إليه، بل يعتبر أن أصحاب هذه الاجتهادات العلمية و الفكرية سبيلهم الخسران في الأخير.
و إذا كان العروي قد أتى في كتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" على ذكر الشيخ محمد عبده في حديثه عن فئة الشيخ، فإن هذا لا يعني أن محمد عبده هو النموذج الوحيد الذي يمكن من خلاله فهم إيديولوجيا الشيخ، بل إن اتخاذ العروي لمحمد عبده كان بهدف تبيان كيف تتعامل فئة الشيخ مع منتجات و مكاسب الحضارات المخالفة.
يتحدث كذلك عن موذج لفئة أخرى و هي فئة رجل السياسة، و المشاكل التي نبعت من الخلاف السياسي هي في اعتقاده أعوص المشاكل، و التي بفعلها تتخبط المجتمعات في دائرة التطاحن، بحيث تشدها فكرة ما، و يقع التطاحن من أجل استنبات هذه الفكرة. السياسي سواء أكان ليبراليا أم إسلاميا أم غير ذلك، يدافع عن رؤيته بكل جأش و قوة، بغض النظر عن مدى صلاحية ما يدافع عنه، من هنا يذهب الإسلامي "إلى القول أن الإجماع ميثاق ديمقراطي مستدلا على رأيه بما فعله الخليفة عمر عندما عين لجنة و كلفها بانتخاب خليفة له."[8]
و قد اتخذ الليبرالي من مسألة عدم أخذ رجل السياسة الإسلامي بالتصورات المعاصرة ذريعة لنقد و هدم إيديولوجية رجل السياسة الإسلامي هذا، مستندا في ذلك مثلا على البحوث العلمية المعاصرة، بحيث تأتى لليبرالي القول أن من يعتبر مسألة الإجماع التي تقررت في عهد عمر حدثا ديمقراطيا "يجهل أو يلغي ما أسفرت عنه البحوث الأثنوغرافية، و لا يختلف في شيء عن الحتمية العرقية التي قررها الكاتب الفرنسي غوتيه و إن كانت النتائج مختلفة."[9]
كما يوجه النقد لتيار داعية التقنية، و يرى أن داعية التقنية "كثيرا ما يستدل على مقالته بما حققته اليابان: هل يوجد دين أبعد من صفاء التوحيد، و تاريخ أعنف و أشرس، و شعب أكثر ميلا للخضوع و الخنوع من اليابان الإقطاعي؟ فلماذا استطاع اليابانيون في فترة قصير أن يتفوقوا على أمم كثير من الجنسين الأبيض و الأصفر؟ لأنهم قصدوا إلى سر الحضارة الغربية؟ لنفعل كما فعلوا، لنكف عن تشقيق الكلام و ندب حظنا التعيس."[10] هكذا يقول داعية التقنية.
ينطلق داعية التقنية رأسا نحو ما هو متحقق من إنجازات تقنية و ابتكارات علمية، ويتناسى كل الخصوصيات التي حملت أصحاب هذه الإنجازات و الابتكارات على الإبداع، والحال أنه من الضروري الأخذ بمختلف الحيثيات التي حملت مجموعة بشرية ما على الابتكار، و الحيثيات التي حالت دون إبداع مجموعة بشرية أخرى. سواء أكانت هذه الحيثيات مساعدة على الخلق و الابتكار أو كانت من عوامل خنق الابتكار...أو غير ذلك.
الإيديولوجيات العربية التي انتقدها العروي لم يبتكرها من محض إرادته، بل كما يدعي، إنه وجدها مشتتة في برامج الفئات العربية بمختلف توجهاتها، فكرية كانت أم سياسية أم دينية، من هنا يكون نقده لهذه الإيديولوجيات هو مساءلة لمنطق الفكر العربي في مجموعة من أبعاده، و اقتراحه لنموذج الحداثة الغربية لم يكن من باب الترف النظري، بل من باب الإيمان بصلاحية و نجاعة هذا النموذج الإنساني الكوني.
يقول بهذا الصدد: "لم أستخرج أدلوجة من تاريخ الغرب كما فعل البيطار لأقول: هذا قانون التاريخ الحتمي و لا مندوحة للعرب عنه. بل درست الأدلوجات الرائجة في عالم العروبة منذ قرن أو يزيد، فصنفتها و استخلصت من كل واحدة بنيتها. ثم أوضحت أن كل أدلوجة تستوحي دورا من أدوار التاريخ العربي الحديث. لم أعرض أدولجة من ابتكاري، بل وجدتها مشتتة في برامج الفئات العربية، في تطلعات الأفراد و ممارستهم. فجمعت الأشتات و حاولت أن أبين، حسب قناعاتي، أن تجزئة التراث الغربي و اختيار جزء دون جزء حسب الظروف، هو سبب إخفاق السياسات الإصلاحية في الساحة العربية."[11]

الحداثة باعتبارها حتمية تاريخية.

ينظر العروي للحداثة كما لو كانت قدرا لا مفر منه، فهي آتية لا ريب فيها. و إذا كنا نعرف تحديثا موسعا يشمل مجموعة من المجالات (إدارية، عسكرية، مؤسساتية...الخ)، فالمطلوب هو الإيمان بهذا القدر التاريخي (الحداثة) من أجل الانخراط فيه، أي الانخراط في مشروع تحديث الذهنيات. لكن لمّا كان تحديث الذهنيات ليس بالمهمة السهلة، كما هو الشأن مع تحديث البنيات و المؤسسات و الأجهزة، فإن العروي يقر بضرورة اعتبار الجانب السياسي مدخلا نحو الحداثة.
الحداثة تشكل في نظر العروي موجة عارمة، العوم ضدها مخاطرة، و لا راد لحدوثها، و"أمام القوة الكاسحة للحداثة ليس لنا إلا خياران: إما أن ندفن رؤوسنا في الرمال وننزوي حتى تمر الموجة فوق رؤوسنا، وفي هذه الحالة نصبح أقرب ما نكون إلى حثالة التاريخ، وإما أن نعوم معها ونلقي بأنفسنا فيها بكل ما نملك من قوة فنكون من القوم الناجين ولو في أية رتبة من الرتب."[12]
الحداثة التي ينادي بها العروي قامت على مجوعة من الثورات، ثورة علمية تمثلت في الحسم مع بعض التصورات القديمة (الفلك مثلا)، ثورة اقتصادية و صناعية، (الثورة الصناعية الإنجليزية مثلا)، ثورة دينية (الإصلاح الديني الذي قاده لوثر و كيلفن و الذي أدى إلى الحسم مع سلطة الكنيسة). من هنا يكون هذا النموذج هو من أرفع النماذج التي عرفها الإنسان على امتداد التاريخ.
إذا كان الواقع العالمي يفرض اليوم ضرورة الدخول في حوار كوني مع الأخذ بسبل التقدم، فإنه لا مجال للقبول بالرجوع نحو نموذج يعتبره العروي "ميتا و مميتا"، من هنا يأتي نقده لعقل الاسم، عقل المطلق، و مناداته بعقل الفعل و العمل، إذ أنه " لا يكون العقل عقلانية، لا يجسد في السلوك، إلا إذا انطلقنا من الفعل، و خضعنا لمنطقه، ثم بعد عملية تجريد توضيح و تعقيل، أبدلنا به المنطق الموروث. منطق القول و الكون، منطق العقل بإطلاق."[13]
لا يكتفي العروي برصد الحداثة الغربية التي اعتبرها النموذج الأمثل من أجل الخروج من ورطة التأخر التاريخي، بل نظر في جملة من النتائج التي آلت إليها هذه الحداثة، و لم ينظر إلى هذه النتائج من وجهة نظر الفيلسوف أو المنظر، بل نظر إليها من وجهة نظر المفكر المؤرخ، و بهذه النظرة قرأ مجموعة من النتائج التي آلت إليها الاجتهادات الحداثية و استخلص منها الطريق الذي ينبغي أن يتبع بهدف الخروج من واقع التأخر التاريخي.
ينادي العروي بنوع من العقلانية القائمة على التنظيم و الضبط، و هي تبدو شبيهة بالعقلانية الفيبرية في حدود معينة، لكنها تختلف عنها من حيث الأفق و المخارج، كما ينادي بضرورة القطع و الحسم مع التصورات التراثية، و يرفض التصورات الاختزالية التجزيئية التي تعتبر أن نموذج المعقولية يكمن في تصور معين "لفيلسوف" بعينه و في مرحلة بعينها، لذلك فالحداثة التي دعا إليها تتميز بالسيرورة و الصيرورة، و لا مجال للقول بالسكون و الثبات فيها.
كما انتقد دعاة ما بعد الحداثة في الفكر العربي، فالغربيون الذين دعوا إلى ما بعد الحداثة عاشوا في كنف الحداثة ما أزيد من ثلاث قرون، و استفادوا من منجزاتها، من هنا تكون لهم الشرعية في الدعوة إلى "ما بعد الحداثة"، أما العرب فلم يعيشوا حداثة بعد، لذا لا يحق المناداة بما بعد الحداثة في مجتمعات لم تعرف الحداثة، لكنه يقر في المقابل بأنه لا توجد حداثة مكتملة أو ناجزة، بل إن الحداثة تظل أفقا مفتوحا.
لم تكن الإشكالات التي حركت عمل العروي إذن محض إشكالات نظرية تنظّر لآفاق مجردة، بل لقد كان عمله يقوم على رصد جملة من الإشكالات التي يتخبط فيها المجتمع المغربي (و المجتمعات العربية ككل). و اقتراحه لسبل تجاوز إشكالية التأخر التاريخي، و نقده للفكر السائد في المجتمعات العربية و الواقع السياسي و المجتمعي، كان من باب التنبيه على العوائق التي تقوم سدا منيعا في وجه التحديث.

هوامش المقالة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]: عبد الله العروي، "الإيديولوجيا العربية المعاصرة"، دار الحقيقة، بيروت- لبنان، 1970. ص 21.
[2]: أبو حامد الغزالي "معيار العلم" تحقيق الدكتور سليمان دنيا، دار المعارف للطباعة و النشر و التوزيع، مصر ، سنة 1961، ص 265.
[3]: "مفهوم العقل"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – المغرب (بيروت-لبنان)، ط3، سنة 2001، ص 97.
[4]: المصدر السابق، ص 237.
[5]: المصدر السابق ص 363.
[6]: عبد الله العروي، "ثقافتنا في ضوء التاريخ"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب (بيروت-لبنان). سنة 1983، ص 161.
[6]: عبد الله العروي "الإيديولوجيا العربية المعاصرة"، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء- المغرب- (بيروت-لبنان)، ط 1، سنة 1995، ص 39.
[8]: المصدر السابق ص 45.
[9]: المصدر السابق ص 45.
[10]: المصدر السابق ص 47.
[11]: عبد الله العروي "مفهوم الإيديولوجيا"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب (بيروت- لبنان)، الطبعة الخامسة، سنة 1993، ص 125
[12]: عبد الله العروي، "عوائق التحديث"، منشورات اتحاد كتاب المغرب، سلسلة محاضرات الشهر، الطبعة الأولى، سنة 2006، ص23
[13]: عبد الله العروي، "مفهوم العقل"، مصدر سابق، ص 364.



#محمد_جلال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطريق معوجّة ... والمقصد مستقيم
- ثرثرة الصغار !!
- الإنسان قفل .. مفتاحه الكلام !!
- عصير العفول !
- يكبرون ولا ينضجون
- الخلاف في الرأي يفسد للود ألف قضيه
- القضية الفلسطينية و صورة العرب و المسلمين في مخيال إسرائيل و ...
- أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الرابع
- تجارة الوهم
- أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الثالث
- العاهرة والبرجوازي -قصة قصيرة-
- أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الثاني
- أساطير الفيضان الإبراهيمية - الجزء الأول
- المجتمع المغربي كبنية تناقضية
- الأخلاق أم الدين
- الكُرد والكورد
- السبيل الى الخروج من فم الثعبان
- المجتمعات العربية المعاصرة بين إشكالية الإستلاب وأزمة الإغتر ...
- انا وانت والمساء


المزيد.....




- بسبب متلازمة -نادرة-.. تبرئة رجل من تهمة -القيادة تحت تأثير ...
- تعويض لاعبات جمباز أمريكيات ضحايا اعتداء جنسي بقيمة 139 مليو ...
- 11 مرة خلال سنة واحدة.. فرنسا تعتذر عن كثرة استخدامها لـ-الف ...
- لازاريني يتوجه إلى روسيا للاجتماع مع ممثلي مجموعة -بريكس-
- -كجنون البقر-.. مخاوف من انتشار -زومبي الغزلان- إلى البشر
- هل تسبب اللقاحات أمراض المناعة الذاتية؟
- عقار رخيص وشائع الاستخدام قد يحمل سر مكافحة الشيخوخة
- أردوغان: نتنياهو هو هتلر العصر الحديث
- أنطونوف: واشنطن لم تعد تخفي هدفها الحقيقي من وراء فرض القيود ...
- عبد اللهيان: العقوبات ضدنا خطوة متسرعة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد جلال - -إشكالية التأخر التاريخي- من منظور عبد الله العروي