أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد الشديدي - مذكرات لقلق مصاب بأنفلونزا الطيور















المزيد.....

مذكرات لقلق مصاب بأنفلونزا الطيور


سعد الشديدي

الحوار المتمدن-العدد: 1387 - 2005 / 11 / 23 - 09:12
المحور: الادب والفن
    


لا اريد الشكوى. فالشكوى "لله مش للبشر" كما تقول ميادة حناوي.
ولكنني مع ذلك لا أجد بداً من رفع صوتي عالياً، ومن له آذانٌ للسمع فليسمع.
انا طائرٌ من فصيلة اللقالق. في منتصف العمر، أو هكذا يحلو لي أن أصفَ حالي حين أقدم نفسي الى لقلقةٍ بيضاء الريش ناصعته، ذات ساقين حمراوين نحيفتين طويلتين. وانا، واعوذ بالله من كلمة أنا، احب السيقان الحمراء الطويلة. أو هكذا كنت على الأقل قبل أن اتأكد من تشخيص الطبيب لمرضي بأنه انفلونزا الطيور الذي لا شفاء منها. والحق أقول بأن التشخيص لم يصدمني. فقد كنت اتوقع منذ زمن ليس بالقصير بأن شيئاً ما سوف يقتحم عالمنا ويهدم سقوف اعشاشنا على رؤوسنا. شئ غامض لم أكن لأستطيع أن أحزره. فالكوارث كثيرة هذه الأيام والمصائب لا تترى تدحرجُ رؤوسَ أقوامٍ وتتلاعب بمصائر آخرين. وهذا ما أصبحتُ متيقناً منه مع مرور الوقت وانتقالي الدائم عبر القارات بصفتي طائراً مهاجراً. وبصفتي من هذا النوع فأنا اشبه الغجريّ المرتحل ابداً والذي لا يطيب له الأستقرار في محلٍ أو مكان مهما كان آمناً. ولهذا السبب فأن لي أعشاش في مدن لا استطيع أن احصيها.
اعشاشٌ بدأت بالتناقص حتى شعرت بأن قوةٍ ما تحاصرني. ايادٍ خفيةٍ تهدف الى القضاء عليّ وبني جنسي. فقد كنتُ بنيت عشاً صغيراً على سطح مبنى مركز التجارة العالمي في نيويورك. كنت أحلّقُ عالياً في السماء كي اصله. احياناً كان التعب يصيب جناحاي القوييين المتمرسين على الطيران لساعاتٍ متواصلة دون كلل. ولا أخفيكم سراً بأن العبد الفقير كان يشعر بلذة غامرة حين يتصبب العرق من ريش جبينه وهو يعلو مخترقاً السماء الى طبقاتها التي لا يصلها في العادة. ففي العش حيث كانت صديقتي، عفواً زوجتي (كي لا أوصف بانني ادعو الى التحلل الأخلاقي من قبل بعض ألوان الطيف السياسي)، تجلسُ مسترخية على بيضة أو بيضتين هما حصيلة تعب الموسم بكامله. منتظرةً عودتي حاملاً معي ما أجد من قوتِ يومي. فأسلم عليها: هاي حبيبتي. وتجيبني بلكنتها الأمريكية: هاي هني او هاي بَيبي. احياناً كانت تدللني اكثر من المعتاد فتقول لي: هاي سويتي. فأُسعدُ ايّما سعادة. ومالذي يصبو اليه الذَكر، اي ذَكرٍ كان، أكثر من لحظةٍ حبٍ واندماجٍ كاملٍ بالحبيبة؟ وكنت افعلً ما بوسعي لأصلً الى تلك اللحظة معها ولم تكن هي لتبخل على صاحبكم بأجمل المشاعر والنظرات وساعات الصفاء. ثمّ جاءت الطائرات التي كان يقودها ثلّةٌ من المجانين لتفجّر ناطحة السحاب تلك وتأخذ مني حبيبة العمر وبيوضها التي كنا ننتظرها على أحرّ من الجمر لتفقس عن كائنين رماديين لزجينِ.. رائعين. كنت كعادتي اطير بعيداً باحثاً عن طعامٍ لسيدتي التي كانت ترقد مسترخيةً تنظرُ الى الناس وهم يعبرون الشوارع المكتظة ابداً بالناس وسيارات التاكسي الصفراء. فأفلتّ من موتٍ محقق. حاولتُ البحث عنهم بين الأنقاض دونما جدوى. ولم استطع الطيران لأن السماء امتلأت بالطائرات ليلاً ونهاراً حتى اصبحتً اشعر بالرعب من مجرد التفكير بالتحليق بين ناطحات السحاب في نيويورك. غادرت المدينة تاركاً الجمل بما حمل للمجانين وخوفاً من الأرهابي والطيران الحربي الذي اصبح يجوب الآفاق دونما انقطاع. فلم تعد السماءُ سالكةً ولا الأرضُ آمنة.
اتجهتُ شرقاً عابراً المحيط. ولم ارَ شيئاً في سفرتي تلك لا في البحر ولا في الجزر العديدة المنتشرة بين أمواجه. كان كلّ همي أن أغادر سماءاً اصبح لها طعم العلقم في منقاري.

حططت رحالي في مدينة النور باريس. بنيتُ عشاً على الطراز الباريسي على قمة برج ايفيل. وجمعتُ من مزابل المدينة كل ما خفّ وزنه وغلى ثمنه. حتى أنني حملت لوحةً من لوحات بيكاسو، كادت تقصم ظهري، زينتُ بها العش. شعرتُ ببعض السعادة والأمانِ وبريقٍ من الأمل يسري في حياتي ثانيةً. تعرفت عليها.. وما أجملها. رشيقةٌ كأجمل ما تكون انثى في هذا الوجود. رقيقة مثل نور القمر في ليلةٍ من ليالي تشرين. ويزيدها جمالاً انها كانت تلثغ عندما تنطق حرف الراء. تصوروا لقلقةٌ تلثغُ بالراء. يا عيني. في لقاءاتنا الأولى كنت اكنس العش جيداً.. أرشه بالماء متحسراً لأنني بعيدٌ عن بلاد الشرق وإلا كنت سأرشه لها بماء الورد. اهيأ قنينة النبيذ المعتّق وكأسين على المائدة التي تطلّ مباشرة على الجانب الشرقي لعاصمة النور. تأتي مفردةً جناحيها.. جليلة كمركب الأله رع. حلوةٌ كطبق الحلوى. وانا انتظرها على أحرّ من الجمر. تجلس تنظر لي بثقةٍ وأحساس يشبه الحُبّ. نحتسي نبيذنا بهدوء، صامتين. منتظرين ان يبادر أحدنا لتطويق الآخر بأجمل الكلمات. وبعد لحظات صمت تقول: مون آمي هل تعغفُ ما أغيد؟؟ ألم اقل لكم انها تلثغ بحرف الراء وبمنتهى الرقة والجمال. تعغف هي الكلمة الفرنسية لفعل تعرف وأغيد يعني أريد. نعم قولي يا أعز الناس. ماذا تُغيدين؟؟ تجيبني بصوتها الذي يفعل فيّ فعل السحر: طبق من شوغبة الضفادع مون آموغ. اعترفٌ بأنني ضعيفٌ أمام كلمة مون آمور هذه. اذوب فيها حتى قبل أن تصل الى طبلة أذني. وأكثر ضعفاً أمام شوربة الضفادع. أطير بجنون الى مزبلة مطعم مكسيم لآتي لها بأفضل شوغبة ضفادع في اوربا كلها. ونقضي الليل محترقين مع أضواء باريس. دام الحال فترةً من الزمن ونحن غرقى في الحب وشوربة الضفادع. ولكن دوام الحال من المحال. فقد رفضت وزارة الهجرة منحي حقّ الأقامة بعد أن أصدر الأتحاد الأوربي قوانين صارمة لتحديد الهجرة الى بلدان الأتحاد. وأكتشفت بأنهم يتهمونني بالهجرة غير المشروعة الى فرنسا وكذلك بالسكن في احدى بنايات البلدية دونما أذن. أُلقيّ القبض عليَّ وأودعت أحد السجون. حاولت لقلقتي الباريسية، دونما فائدة، ما بوسعها لأحصل على الأقامة. وعرفت بعد ذلك انها استسلمت للأمر الواقع واحتلت العشّ مع لقلقٍ جديد يحمل أقامة العمل في أوربا الموّحدة ويا دار ما دخلك شرّ.
تمّ ابعادي قبل موسم الهجرة بقليل. فواصلت طيراني نحو الشرق.
كانت بغداد هدفي هذه المرّة.
أذكر أنني اخترت بغداد لأنني سُحرتُ بقصص ألف ليلة وليلة التي حملت بعضاً من أوراقها الى العش حين بنيته بداية وصولي الى باريس. ولا أذكر كم من المرات قرأت تلك الأوراق. أخذتني شوارع وأحياء تلك المدينة الأجمل بين المدن الى عوالم تقطر بالحبّ والرومانسية. نسيت أن اقول لكم أنني لقلقٌ رومانسي للغاية كثير الأحلام في النوم واليقظة. فحملت ما بقيّ لي من متاع وطرتُ متجهاً نحو بغداد.
وصلت المدينة الحلم منهكاً لكن سعادتي كانت أكبر من التعب الذي اضعف جسدي النحيل. متهيأً لمقابلة البشر الذين يسهرون حتى الفجر بين رنين الأوتار وغناء المغنيين والمغنيات. باحثاً عن هرون الرشيد وجعفر البرمكي. عن خانات التجار والحانات والدكاكين المتخمة بما لذ وطاب من المآكل والمشارب والبضائع التي حملها السندباد البحري من سرنديب وجُزر الواق واق الى البصرة ثمّ الى دار السلام. عن الجواري والخدم الذين يسيرون في مواكب السادة من أكابر القوم مرتدين الحرير الموشّى بخيوط الذهب واللؤلؤ. وعن الحدائق الغناء على ضفتيّ دجلة.
كنت مهووساً بالبحث عن كل ذلك. ولكنني سرعان ما أكتشفت بأنني اخطأتُ في العنوان. فهذه المدينة التي عبرتُ من أجلها اوربا وشمال أفريقيا لا علاقة لها ببغداد التي كنت ابحث عنها.
راجعت كتاب الخرائط وجرّبت البوصلة مراتٍ ومرات فقد أكون عبرتها دون أن اشعر أو لم أصلها حتى هذه اللحظة. ولكن لا. كان كلّ شئ صحيحاً. وهذه هي اذن بغداد!!
مساحات واسعةٌ من البنايات المتهدمة بدلاً عن القصور الفارهة. أشجارٌ محترقة بدلاً عن تلك الحدائق الغنّاء. الظلام الدائم بدلاً عن الأنوار التي تتلألأ في سماء المدينة حتى الصباح. نسوة ملتفعاتً بالسواد ولا ترى منهن غير عيون غائرة بدلاً عن الغواني الفاتنات اللواتي سلبن عقول الشعراء والمغنيين وسادة القوم. طقوس لم أفهمها يضرب البشر فيها على صدورهم ورؤوسهم ويجلدون ظهورهم يالسلاسل بدلاً عن الرقص في كرنفالات واحتفالات كانت تمتد لأيام وايام. أهازيجُ حزينة وبكاء حارّ بدلاً عن اغنيات ابراهيم وأسحق الموصليين وزرياب. كلّ شئ تغير في تلك المدينة التي قرأت عنها بشغف في صفحات ألف ليلة وليلة سوى شئ واحد. مسرور السيّاف.. فما زال واقفاً منذ مئات السنين الى جانب النطع وحفرة الدمّ منتظراً أوامر الخلفاء والسلاطين والملوكِ والرؤوساء بقطع رقاب البشر. وحده هو الذي لم يتغير حين اختفى كلّ ما سواه في مدينتي التي قطعت اليها آلاف الكيلومترات حالماً بمعانقتها وتقبيل أبوابها والسهر في شوارعها وسماع غنائها والتمتع بالنظر الى العشّاق المتيمين فيها، رجالها ونساءها. ومسرور السياف هذا له فضائح عبر التاريخ. آخرها قرأتم عنها وسمعتم. فضيحة ملجأ الجادرية. فهو الذي أسسه ويديره بأقتدار. أراه كلّ يوم من على سطح المئذنة التي غامرتُ ببناء عشّي على قمتها. يروح ويجئ منفذاً أوامر هرون الرشيد، الجديد، قاطعاُ الطريق على الشعراء والمغنيين والعشاق والعيارين والشطار مجهضاً أحلامهم. تماماً كما كان يفعل دوماً.
بعد زمن قصير تيقنتُ بأنني لن أجدَ بغداد في بغداد.
هزلتُ وفقدت شهيتي لكل شئ.. واعتزلت كل الكائنات مختفياً فوق مأذنة جامع الشيخ الخلاّني. وعرفتُ مصادفة أنني أصبت بمرض يصيب الطيور والبشر على حدٍّ سواء اسمه انفلونزا الطيور. فلم يصدمني ذلك فقد سأمت الحياة بعد أن لوحقتُ في كلّ سماءٍ حلقت فيها وكلّ أرضٍ قصدتها. ولم تعد مسألة الحياة والموت تهمني كثيراً. بل قد يكون الموت، على العكس، افضل من حياةٍ كهذه. فقد ملأتم قلبي قيحا.



#سعد_الشديدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصحافة الوطنية العراقية في خدمة الأرهاب؟!
- ريّا تعودُ اليومَ من موتِها
- الجامعة العربية تأتي متأخرة كالعادة
- رمضان العراقيين.. هلال بلون الدمّ
- شمس الدين: الحقيقة والأسطورة
- صورة دافئة من ألبوم عراقي
- كتيبة أمريكية تصممّ العلَم العراقي الجديد؟
- عثمان الأعظمي.. ألكاظمي.. العراقي
- تصبحون على أمان
- أغاني بابلية للموت العراقي
- دستور العراق.. أبو طبر جديد؟؟؟
- عراقنا المغدور ما بين الحجاب والسفور
- تصريحات الحكيم.. عشرة عصافير بحجر واحدة
- هل تدعم إيران الإرهاب السلفي في العراق؟
- السادة والعبيد في العراق الجديد
- من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه
- لمحمد الوردي..والنار التي في قلبه
- عاشِروا الأكراد بالمعروف.. أو.. طلّقوهم بالمعروف
- سجّل أنا شيعي...
- كولاج عراقي لسماء قاتمة


المزيد.....




- الحضارة المفقودة.. هل حقا بنيت الأهرامات والمعابد القديمة بت ...
- مصر.. القبض على مغني المهرجانات -مجدي شطة- وبحوزته مخدرات
- أجمل مغامرات القط والفار.. نزل تردد توم وجيري الجديد TOM and ...
- “سلي طفلك الان” نزل تردد طيور الجنة بيبي الجديد 2024 وشاهد أ ...
- فرانسوا بورغا للجزيرة نت: الصهيونية حاليا أيديولوجية طائفية ...
- الحضارة المفقودة.. هل حقا بنيت الأهرامات والمعابد القديمة بت ...
- المؤسس عثمان الموسم الخامس الحلقة 159 على ATV التركية بعد 24 ...
- وفاة الممثل البريطاني برنارد هيل، المعروف بدور القبطان في في ...
- -زرقاء اليمامة-.. أول أوبرا سعودية والأكبر في الشرق الأوسط
- نصائح لممثلة إسرائيل في مسابقة يوروفيجن بالبقاء في غرفتها با ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد الشديدي - مذكرات لقلق مصاب بأنفلونزا الطيور