أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جواد بشارة - السينما والأثر الأدبي وجهاً لوجه















المزيد.....



السينما والأثر الأدبي وجهاً لوجه


جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)


الحوار المتمدن-العدد: 5118 - 2016 / 3 / 30 - 20:25
المحور: الادب والفن
    


السينما والأثر الأدبي وجهاً لوجه
مقدمة في مشكلات الإعداد السينمائي للأدب
د. جواد بشارة
كتبت هذه المقالة قبل اثنان وثلاثون عاماً، في سنة 1984 ونشرت في مجلة الثقافة الجديدة التابعة للحزب الشيوعي العراقي في نفس العام في العدد 157 آب 1984 وارتأيت إعادة نشرها كما هي دون تدخل أو حذف أو تعديل أو إضافة لأنها لم تعد متوفرة ومفقودة إلا في أرشيف المجلة و لتكون شاهداً على ما كنت أفكر فيه سينمائياً في تلك المرحلة من حياتي.
كنت طرحت على نفسي هذا السؤال:" ترى ما هو سبب هذا التخوف الدائم من كل عملية إعداد سينمائي لرواية من نوع وأسلوب معين، خصوصاً إذا كانت لكاتب من منزلة معينة، وذلك أثناء مشاهدتي للتحفة الفنية السينمائية، التي فشلت فشلاً ذريعاً على الصعيد التجاري، وأقصد بها فيلم " صحراء التتار" الذي أنتج عام 1976 وأعد عن رواية للكاتب المبدع دينو بوزاتي، وقد أعدها للشاة فاليريو زورليني، وتجرأ على إنتاجه الممثل الجاد الفنان والمنتج جاك بيران، والذي أدى فيه دور الملازم جيوفاني دروغو وتم تصوير الفيلم في الأماكن الطبيعية الحقيقية التي دارت فيها أحداث الرواية ، أي قلعة وسط الصحراء تقع على الحدود الإيرانية ـ الأفغانية ، حيث أعيد بناؤها وترميم ما دمر منها لأجل هذه الغاية، فعادت الحياة في ذلك الأثر الخرافي المسمى " قلعة بام".
"إذا كان الفيلم لم يعكس بصورة تامة ومضبوطة محتويات النص الأدبي ، فإنه احترم ، إلى حد كبير، جوهره وروحيته. وهنا يكمن عنصر الإبداع في عملية الإعداد، وبنفس الوقت ، تكمن هنا نواة أو مبعث الإختلافات بين الآراء والاجتهادات". كان هذا الحديث قد دار بيني وبين زميل ناقد سينمائي يعمل في كاييه دي سينما وأستاذي في السوريون قبل ثماني سنوات أي في سنة عرض الفيلم 1976 وما يزال نفس السؤال يطرح نفسه بإلحاح كلما تجددت الفرصة .
تثار اليوم من جديد مشكلة الإعداد السينمائي ومدى إخلاص أو خيانة المخرج السينمائي للنص الأدبي ولكاتبه ومبدعه. وذلك بمناسبة عرض فيلم سينمائي فريد من نوعه عنوانه:" عشق سوان" . فبعد مرور ستون عاماً على وفاة الكاتب والروائي الفرنسي العملاق مارسيل بروست سنة 1922، ها نحن أمام محاولة سينمائي شاب وجد في نفسه الجرأة والشجاعة والإمكانيات، " ليتحرش" أخيراً بالأثر المحرم على السينما منذ عشرات السنين لصعوبته ألا وهو " البحث عن الزمن الضائع"، والمتعارف عليه في أوساط المخرجين والأدباء والنقاد أن هذا الأثر الأدبي الرائع عصي على الإعداد وغير قابل للتحول إلى لغة الصورة إلا بثمن تشويهه وإغماده حقه وطمس قيمته الفنية. لكن المخرج الألماني فولكر شلوندورف ، صاحب الفيلم البديع " الطبال" ، الذي أعده عن رواية الكاتب الألماني الشهير غونثر غراس، وحاز عليه الجائزة الأولى السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي قبل بضعة سنين، أخذ على عاتقه مهمة تجاوز أسوار الخوف والتردد وتحمل المخاطرة التي فشل فيها قبله سينمائيون عظام من طراز بيتر بروك وفيسكونتي وغيرهم.
شرح لنا شلوندورف موقفه :" قد يفتقد المخرجون الفرنسيون للجرأة والوقاحة والإقدام، أو إنهم يحترمون أكثر من اللازم هذه التحفة الفنية ـ الأدبية، أما أنا شخصياً فلا اشعر بأنني مشلول من الخوف ولا أخشى خيانة هذا العبقري". هذه الحيرة والتشكك، الوسواس والاهتمام الدقيق في الوقت نفسه، وما رافقه من تردد قد أصاب سينمائيين أكثر سمواً وخبرة وبروزاً وشهرة وأكثر قرباً من عالم ومناخ وأجواء مارسيل بروست مما هو عليه فولكر شلوندورف . فمنذ عشرين عاماً أو ما يتجاوزها بقليل، حاولت المنتجة الفرنسية نيكول ستيفان أن تبلغ مراميها وتحقق نتائج عملية ملموسة وناجحة إلى حد ما في مشروع إعداد آثار مارسيل بروست للشاشة رغم كل المعوقات والمصاعب والعراقيل التي واجهتها. فمنشورات غاليمار التي تملك حقوق جميع مؤلفات هذا الكاتب كانت قد وافقت، بطلب وتدخل مباشر من الكاتب الكبير والشاعر والسينمائي الفرنسي جان كوكتو، الذي عرض نفسه كضمان عن جدية ونزاهة مشروع نيكول ستيفان وأهميته ، إلى جانب مكانتها الفنية ورقي مستوى اختياراتها، ولنتذكر أننا مدينين لها بإنتاج فيلمين رائعين هما " صمت البحر" من إخراج المخرج الراحل جون بيير ملفليل المعد عن رواية فيكور ، وفيلم " الأبناء المزعجون" عن نص لجان كوكتو وإخراجه .
أول من اهتم بموضوع إعداد رواية بروست الطويلة هو الفنان والمخرج العبقري لوكينو فيسكونتي صاحب التحفة السينمائية " موت في البندقية " ، وذلك سنة 1968، وكان مشروعه في الإعداد السينمائي لا يشمل سوى جزء واحد من الأجزاء السبعة التي تتكون منها الرواية الملحمية " البحث عن الزمن الضائع" ، وهو المجلد المعنون " سدوم وعموره" وبالاشتراك مع كاتب السيناريو سوزو سوتشي أميكو، وكانا قد كتبا سيناريو وافقت عليه عائلة بروست : ونشر في كتاب مع أربعمائة رسم تخطيطي وصور توضيحية مرفقة. وكان المفروض أن يبدأ الفيلم بمشهد استدعاء واستحضار قطار بعلبك الصغير ليعبر الريف المشمس.
أمضى فيسكونتي الأسابيع الطويلة وهو يفحص ويبحث ويختار المناطق الخارجية الملائمة للتصوير في باريس وضواحيها وفي منطقة النورماندي حتى توصل إلى إقناع السلطات المحلية لمنطقة كابورغ بتأخير وتأجيل تهديم الفندق الكبير الذي نزل فيه بروست في إحدى فترات حياته .
ولقد تضاعفت وطالت وتعقدت مشاكل وصعوبات التمويل حتى تجاوزت الحدود القصوى للوقت الذي تحدد البدء فيه بالتصوير. وعندها قرر فيسكونتي أن يتخلى عن المشروع ويهجره متأسفاً وحزيناً سنة 1971 ليتفرغ لمشروعه السينمائي الرائع " موت في فينيسيا" ومن ثم لتحفته السينمائية الخالدة " لودفيغ" تاركاً وراءه سيناريو رصين وجاد وتفصيلي وزعت فيه الأدوار مسبقاً وكان للآن ديلون دور البطولة وهو دور الراوي وسيلفانو مانغانو دور دوقة غيرمانت. ولتعويض فيسكونتي واستبداله طلبت المنتجة الفرنسية نيكول ستيفان على التوالي من رينيه كليمونت وفرانسوا تروفو ولويس مال وألان رينيه أن يتصدوا لمهمة إخراج الفيلم وتنفيذ سيناريو فيسكونتي ونقله إلى الشاشة لكن هؤلاء المخرجين الفرنسيين انسحبوا تباعاً قبل أن يباشروا التصوير نظراً لخطورة وصعوبة المهمة والخوف من الفشل وتخلوا لغيرهم عن مغامرة تحقيق هذه المهمة العسيرة. بيد أن المخرج الأمريكي القديم المقيم في أوروبا جوزيف لوزي وافق على تحمل هذه المهمة بعد أن انتهى بمشاركة الكاتب البريطاني هارولد بينتر لتوه من إخراج فيلمي " الخادم" سنة 1963 و " الحادث" سنة 1967، مثبتاً تمكنه وسيطرته على المواضيع الصعبة والحالات الرومانتيكية والدقة والرهافة والرقة في معالجة الحالات السيكولوجية ـ النفسية ذات الخصوصية المتميزة.
ولقد قرر هارولد بينتر وجوزيف لوزي تناول أثر مارسيل بروست الأدبي " البحث عن الزمن الضائع" برمته وسلموا بسرعة سيناريو سينمائي كامل وصف بأنه أمين ومقبول وقيم بإيجابية لكنه مكلف جداً .
مر الوقت بسرعة وأصبحت آثار بروست ملكاً عاماً للجمهور والعامة حيث سقطت عنها جميع الحقوق وكان على المنتجة نيكول ستيفان أن تعمل بسرعة لأنه صار بإمكان أي شخص أن يقوم بإعداد أعمال بروست دون حسيب أو رقيب، لذا، وفي عام 1980 توجهت المنتجة الفرنسية إلى المخرج المسرحي والسينمائي البريطاني الشهير بيتر بروك المقيم في فرنسا منذ سنوات لتحمل مهمة الإخراج وقد وافق على المشروع وخرج بسيناريو دقيق وأمين جداً وجيد لكنه مقتصر على جزء واحد فقط من السباعية وهو الجزء الخاص بــ " عشق سوان" إلا أنه تخلى عنه وهجر هو الآخر المحاولة لكثرة مخاطرها.
أخذ الكاتب والسيناريست الفرنسي جان كلود كاريير مهمة إكمال العمل بدل بيتر بروك وأكمل كتابة السيناريو النهائي المعد للتصوير واقترح لإخراجه المخرج الألماني فولكر شلوندورف الذي وافق بحماس واندفاع وبدون تردد منطلقاً من النص الذي أنجزه بيتر بروك وأكمله جان كلود كاريير لكن المخرج تحمل وحده تبعية التوقيع على الإعداد ومسؤوليته. وبدأ التصوير في شهر مارس ـ آذار من العام 1983 ومضى فيه حتى النهاية وأخيراً خرج الفيلم وثارت العاصفة المتوقعة بين متحمس شديد الحماسة ومعادي عنيف للفيلم.
من المعروف أن فولكر شلوندورف متخصص في عمليات الإعداد السينمائي للآثار الأدبية مثل :" إضطرابات التلميذ تورليس" عن الروائي روبيرت موسيل و " الشرف الضائع لكاتارينا بلوم " عن الروائي هينريش بول، و "الضربة القاضية" عن الروائية الفرنسية وعضوة الأكاديمية الفرنسية مارغريت يورسينار، و " الطبال" عن رواية الكاتب والروائي الألماني غونثر غراس والذي حاز على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي لعام 1979.
يقول مخرج الفيلم:" لقد أنهيت منذ زمن طويل ممانعاتي وكبحي لنفسي وما يعيق حرية نشاطي داخلياً إزاء أسطورة الأدب. فأنا أحتاج دائماً للرواية ، أولاً للاكتشاف، ومن ثم لأخفي وأستر نفسي وراء شخوصها وأحدائها . وبقراءتي وتحليلي لشخصيات الآخرين الذين خلقوها وأبدعوها من مخيلتهم، أكتشف نفسي وأنم أو أعبر عن ذاتي لنفسي .وببنائي لأفلامي واعتمادها على الروايات وليس على تجاربي الشخصية والنصوص العائدة لي وحدي، أتمكن من إظهار وكشف نفسي للآخرين معبراً بذلك عن دواخلي وأفكاري بنفس الوقت".
آثار بروست الروائية تعتبر المثال الجلي الأكثر وضوحاً وتمثيلاً للأدب الاستبطاني، والذي من خلاله نتمكن من مشاهدة خلجات الذات وما يجري داخل الذهن من شعور ومشاعر، قد نكون قادرين على وصفها، لكننا لن نكون بالضرورة قادرين على تأويلها ، وإن هذا الأدب الداخلي أو الباطني منذور لأن تخونه الصورة في جميع الأحوال.
كيف نستطيع إيجاد المعادل والمقابل السينمائي لأسلوب ما زالت خصائصه وما يحتويه من تلافيف ودورانات وتداخلات والتفافات، وما يكتنفه من حذلقة أسلوبية وتكلف أو تصنع في اللغة وصياغتها، تبعد الجمهور ولا تشجعه على المبادرة بالقراءة، ويتعب كثيراً القراء متوسطي المستوى؟ هذا فضلاً عن أن رواية " البحث عن الزمن الضائع" لا تحتوي على بناء سردي حقيقي تقليدي مألوف وسهل ومستساغ. فبروست يعتمد طريقة مزج وتجميع الأفكار والاستغراق في الوصف.
كيف يمكن ترجمة هذا للشاشة دون اللجوء إلى الطريقة السهلة للرجوع أو العودة إلى الماضي أو إلى الوراء المتبعة كثيرا في السينما والمعروفة بطريقة الفلاش باك ؟
إن شلوندورف يزمع تكثيف وتلخيص القصة" أو بالأحرى أحد أجزائها" في أربع وعشرين ساعة. أي يوم بليل ونهار متخيلين من عام 1885، حيث نجد رجلاً يدعى" سوان" يلتقي امرأة تدعى " أوديت دي كريسي" التي هي من النوع الذي يجذبه ويفضله من النساء لأنها لم تأت إلى الموعد الذي ضربه وحدده لها.
وفي هذا اللقاء يتنبه ويستيقظ اهتمامه ومن ثم عشقه لهذه المرأة التي سيظل يلاحقها طيلة يوم كامل بنهاره وليله ثم يجدها أو يعثر عليها ويتزوجها إلا أن حبه لم يعش ولن يدوم.
يقع " سوان" فريسة عشق وهيام يتغذى من الغياب والغيرة في قصة حب تدور كل أحداثها خلال أربع وعشرين ساعة. هذا ما نلمسه في الفيلم بينما عند مارسيل بروست فإن الحب هو المكان والزمان معاً، جعلا محسوسين داخل القلب. وهنا تكمن الخيانة الأولى لقوة وعمق هذا النص الإعجازي. هناك بالطبع تجاوزات وخيانات وتشويهات أخرى تتمثل في اختياره للمثلين في تجسيد أدوار شخصيات الرواية . فلشخصية " سوان" اختار المخرج لتجسيدها الممثل الإنجليزي القدير " جيرمي آيرونز" الذي يعبر بلغة ليست هي لغته الأم ، أي الفرنسية، رغم روعة تمثيله مما أثار جدل المتخصصين عن ملائمته أو عدمها للدور دون المس بقدرته التمثيلية وقابليته الحرفية . واختار أورنيلا موتي ، الممثلة الإيطالية ذات الجمال الفيزيائي المغري والمظهر والتقطيع الجسدي الذي يذكرنا بالدمى الجميلة، وهذا لا يناسب قطعاً شخصية " أوديت" البروستية كما وصفها وقدمها بروست عبر خطوط وأحداث وسطور وأوصاف روايته حيث هي ممشوقة القامة مغرية وذات وجه جانبي أو بروفايل بارز وبعينين واسعتين منقبضتين تحت ثقل كتلتيهما ويتعبان ما بقي من الوجه على حد وصفه، وأخيراً البارون الأرستقراطي العجوز والشاذ جنسياً " شارلوس" الذي جسد دوره الممثل النجم آلان ديلون بكفاءة دون أن يصل إلى المستوى الحقيقي للشخصية كما جاءت في الرواية.
إن الخصومات والاختلافات والمساجلات بل والمشاجرات حول مسألة الإعداد السينمائي للآثار الأدبية قديمة بقدم السينما نفسها وبعمرها تماماً. ومنذ " فانتوماس" لم تكن الشرعية والحق المطلق قد أطلقا أو أضفيا على عمليات الإعداد السينمائي. ولم تكن أمراً بديهياً بالنسبة للذين يعتبرون الأدب فناً نبيلاً وراقياً في حين ينظرون إلى السينما على أنها فن أدنى مستوى ومجرد وسيلة ترفيه شعبية ذات مستوى لا يرقى إلى مستوى الفنون الجميلة الست ولا تستحق صفة أو تسمية الفن السابع على هذا النحو المجاني فما بالك إذا اعتدت على الأدب.
إن غالبية السينمائيين الكبار متفقون على القول بأن الأدب ليس إلا مادة أولية أو عذر أو ذريعة وحجة أو نقطة انطلاق لا أكثر نحو تعبير جمالي صوري محض. ويعترف المخرج السينمائي الفرنسي المخضرم مارسيل كارنيه قائلاً بهذا الصدد:" الكل يعلم ما تحملنا أنا والشاعر جاك بريفير أثناء الإعداد لرواية " رصيف الضباب" لبيير ماك أورلان وما أدخلناه عليها من تغييرات ونقل وتحويرات للحصول على مناخ ملائم وشخصيات خارجة عن المألوف".
منذ ولادة السينما، شاع في الأوساط المحترفة في " الأدب والسينما"، وكذلك بين المؤرخين والمنظرين والنقاد في هذين المجالين الفنيين التعبيريين، أن هناك اتجاهين أو مدرستين للإعداد يتشعب منهما فروع وتفسيرات واجتهادات متنوعة كثيرة ، وهذين الاتجاهين هما" المدرسة الحرة أو المتحررة من القيود، والمدرسة المتقيدة أو الحرفية . أي أن هناك مخرجين يصنفون ضمن المدرسة الأولى ويأتي على رأسهم المخرج العبقري أرسون ويلز في كافة أعماله التي أعدها عن روايات لكافكا وشكسبير وغيرهم من الكتاب، وهو لا يتقيد على الإطلاق بالنص وشخصياته وأجوائه وأسلوبه وحواراته وأحداثه، بل ينطلق من رؤيته وفهمه الشخصي لروح القصة والحدث ويقدمهما كما يحس بهما ويتخيلهما صورياً باعتباره مبدعاً مستقلاً يسمح لنفسه أن يضيف ويحذف ويجدد ويطور في نص وإبداع المؤلف الأصلي بل وغالباً ما يتفوق عليه في كثير من الأحيان، وما علينا سوى دراسة أفلامه الخلاقة مثل " القضية أو المحاكمة " و " المواطن كين " و " فالستاف" و " عطيل" و " ماكبث" و " سيدة من شنغهاي" و " عظمة آل أمبرسون" الخ ويتبعه في هذا المفهوم وهذه الرؤية الجمالية الكثير من مخرجي العالم .
أما المدرسة الثانية فيقف على رأسها المخرج الانجليزي ديفد لين، المعروف بتقيده الشديد بالنص الأصلي للرواية التي ينقلها للشاشة بكل كلمة مكتوبة فيها وكل وصف وحركة وتفصيل مهما صغر ويكفي مراجعة أفلامه للتأكد من ذلك .
وبين هذين الاتجاهين المتناقضين تقف محاولات أخرى تأخذ من الإثنين معاً فلا هي متجاوزة للنص أو مشوهة لجوهر وشكل النص الأدبي، ولا هي عبدة مطيعة له وخاضعة ومتقيدة أو مكبلة به، وكمثال على ذلك إعدادات المخرج السوفياتي سيرغي بوندراتشوك لرواية " الحرب والسلام" لتولستوي وكذلك التحفة الفنية السينمائية للمخرج السوفياتي العملاق غريغوري كوزنتسيف ورائعته السينمائي " هاملت " وتحفته السينمائية الأخرى " الملك لير" اللتين أعدهما بحرية وأمانة في نفس الوقت وعلى نحو إبداعي متميز عن نصين لشكسبير. ولعل هذا المخرج هو أحد أفضل من قدم شكسبير للشاشة، ولا ننسى محاولات الفنان الانجليزي الكبير لورنس أوليفيه السينمائية التي لا تقل مستوى عن نظيره السوفياتي فيما يتعلق بمسألة الإعداد السينمائي لنص شكسبيري ، وهنالك أيضاً إضافات وتجارب ومحاولات المدارس الشابة في الإخراج في كافة أنحاء العالم.
إن هذه المشكلة العويصة التي تواجه المبدعين، أي الإعداد السينمائي للنصوص الأدبية كانت وما تزال تثير الجدل منذ عقود طويلة. والطريقة الأمثل كما يعتقد هو أن عملية الإعداد السينمائي تتطلب التحرر والانفكاك النسبي عن النص الأدبي بغية الرجوع إليه وعرضه بطريقة أفضل وبواسطة شكل آخر من أشكال التعبير الفني وبلغة تعبيرية أخرى قد تكون موازية أو مساوية أو متجاوزة وأكثر تقدماً وتكيفاً مع الذوق العام من اللغة الأدبية ألا وهي اللغة السينمائية. إذن فالعمل يجب أن يكون في مستوى إعادة الخلق وخاصة عندما يكون الحدث والمضمون، عقدة القصة وحبكتها، شيء أولي وأصلي وأساسي، ويستند على حالات وأوضاع أكثر وضوحاً وملموسة ومحسوسة شعورياً، وللشخصيات سلوك وتصرفات محددة ودقيقة.
ويجري غالباً تعارض ومجابهة السينما بالأدب بدون حق وعلى نحو تعسفي، حيث تجري مقارنة الشخصيات في الرواية والفيلم ويقال بعدها أنه في السينما نرى ونكتفي بمشاهدة هذه الشخصيات على الشاشة بينما هي في الرواية " محللة" أو خاضعة لتحليل ووصف ونستطيع أن نكشف خفاياها بتحليل جميع حركاتها وسكناتها بكلمات موضوعة لهذه الغاية وتفي بالغرض.
إن التأكيد أو التركيز على أن السينما ليست سوى فن الرؤية فيه الكثير من الغبن لحقها وإنكار لدور التقطيع الفني للسيناريو من خلال كافة العمليات الفنية كالديكوباج والمونتاج والإخراج لهذا الفن الرفيع. فالسينما الآن أصبحت ، ومنذ زمن طويل، " فناً بالغاً" له قواعده وأصوله وجمالياته وتاريخه ونظرياته ولغته الخاصة به ، والتي تختلف كلياً عن لغة الأدب، بل وتتجاوزها في أحيان كثيرة في قدراتها التعبيرية والإيحائية والترميزية طبقاً لتطور مستوى المتلقي ومستوى التذوق عند الجمهور، وهو فن جامع وخاضع ومتناغم مع كافة الفنون الأخرى. ولقد كتب المنظر والسينمائي الفرنسي ألكسندر آستروك بهذا الخصوص:" ليدعونا نرتاح وبهدوء مع السينما الصافية "، ويقول هذا المخرج ، الذي سبق له أن أعد للشاشة روايات "حياة" لغي موباسان، و " التربية العاطفية " لفلوبير، بهذا الصدد :" إن ماكبث، هي في الوقت نفسه السينما وشكسبير لأن هناك شيئاً مشتركاً بين شكسبير والسينما، ولأن السينما وجدت في عالم كان قد وجد فيه شكسبير قبلها وأنا واثق بوجود أعماق مشتركة وجوهر مشترك بين الآثار الأدبية العظيمة والتعبير السينمائي لهذا القرن وما سيليه ولو عاش شكسبير في زمن السينما لصبح سينمائياً". ولطالما غذى الأدب فن السينما بآثار لا تنسى مثل " غاتسبي العظيم" عن رواية الكاتب الأمريكي سكوت فيتزجيرالد سنة 1974 من إخراج جاك كليتون وإعداد فرنسيس فورد كوبولا، و"موت في فينيسيا أو موت في البندقية" عن رواية لتوماس مان من إخراج لوكينو فيسكونتي فهل يمكننا نسيان هذه التحف السينمائية والأدبية في آن واحد؟
إن ترفع وتفوق أو تعالي الأدب على السينما هو " ترنيمة" تظهر في كل مرة يحاول فيها المخرجون التعبير بواسطة الصورة واللغة السينمائية الصرفة عن شيء كان موجوداً ومعبراً عنه بصورة متكاملة ومكتفية بذاتها تقريباً وذلك عن طريق الكلمات واللغة الأدبية. وهذه " الترنيمة" لم تتجدد ولم تختف منذ خلق مشكلة النزاع بين أولوية الأدب على السينما أو العكس. فالعبور من النص المكتوب إلى الصورة، والمرور من الوصف اللغوي إلى الوصف الصوري أو المرئي، هي عمليات متكافئة ومتشابهة، وتمتلك القيمة ذاتها من الناحية الجمالية، وما القضية سوى قضية أساليب ووسائل تعبير تؤدي ذات الأغراض والغايات ولكن كل حسب إمكانياته وأدواته، وكل شيء يعتمد على إمكانيات ومواهب وطاقات العاملين في الحقلين فمن الممكن تقديم عمل سينمائي رفيع وعالي المستوى من نص لغوي رديء أو متواضع والعكس صحيح .
في عام 1973 نجح الفنان المسرحي والسينمائي والكاتب والممثل الفرنسي ساشا جيتري بنقل وإعداد كتابه المعنون" رواية غشاش" بنفسه. وقامت مارغريت دوراس بنقل نصوصها الأدبية إلى السينما بنفسها وكذلك الروائي آلا نروب غرييه، وقبله جان كوكتو ومارسيل بانيول، وبمستوى أقل تمكن المخرج الفرنسي لوي مال أيضاً من إعداد رواية " زازا في الميترو" عام 1960 لريموند كنو، علماً بأن سحر وجمال هذه الرواية يعتمد كلياً على دعابة وطرافة الكلمات والأفعال والجمل والصياغات اللغوية إضافة إلى جمالية الوصف الأدبي. بيد أن هذه النجاحات في تجارب الإعداد تعتبر نادرة جداً. وقد صرح بعض المخرجين، نكاية، بأن الكتب السيئة فقط هي التي تعطي نتائج ممتازة وأفلام جيدة، لأن المعد وكاتب السيناريو، في محاولته إعادة كتابة وبناء الكتاب ومحتواه وأحداثه بطريقته الخاصة، لن يحتفظ إلا بالأجود والأفضل وكل ما هو حسن وملائم في النص للسينما دون أن يفقد شيئاً ذا قيمة. أما في حالة الكتب والمؤلفات الجيدة والكبيرة المعروفة فإن العمل على تقليص النص أو اختزاله ، هو غالباً لا يعدو أن يكون سوى إفساد وإتلاف يصل حدود التزوير والتشويه أحياناً ،حتى لو أخرجنا فيلماً ذو طول استثنائي ـ كما هو الحال في فيلم سيرغي بوندراتشوك الجميل الحرب والسلام ـ سنة 1966 ، الذي قسم إلى أربعة أجزاء " أفلام" طول كل واحد منها ساعة ونصف، فليس بإمكان أي مخرج الاحتفاظ بكل الشخصيات وبجميع الانقلابات والتحولات والتغييرات الفجائية وغير المتوقعة في الأفعال والأوضاع العامة للأبطال والحوادث وهي غالباً ما تكون مسهبة في الروايات الملحمية بالذات. وبالمقابل فإننا بشد وضم وحصر وتضييق واختزال واختصار الحبكات والمحتويات الدرامية وعقدها السيكولوجية، وبتبسيط الخطاب النصي والسرد الأدبي، سنصل حتماً إلى نتائج مريعة تقود بالضرورة إلى إفقار الأثر الأصلي وسلبه روعته وأبعاده الجمالية والرومانتيكية الأدبية.
ولأجل أن يصبح كتاب ما فيلماً يجب أن يتوفر كاتب آخر لإعادة كتابته ونقله وتحويله إلى سيناريو حرفي خاص بالسينما ولغتها، وهذا هو دور المعد . وهذا الشخص قد يكون مجرد حرفي تقني بحت متمكن من مهنته، يأخذ فقرات ومقاطع الرواية ليضع أمام كل فقرة منها رقماً يناسب رقم مشهد أو حتى لقطة واحدة في الفيلم الذي سينفذ سينمائياً. وهكذا تنزلق الصور وتتوالى وتنساب من بين الصفحات والأسطر المكونة للمجلد الأدبي غافلة جمالية ورعة النص اللغوي الأدبي. ولم يفعل المخرج الفرنسي الراحل وأحد أعمدة مدرسة الموجة الجديدة الفرنسية كلود شابرول في فيلمه " حصان الخيلاء" سنة 1980 غير هذه العملية الاختزالية وهو يعد فيلمه عن نص أدبي، وكذلك فعل رومان بولانسكي في فيلمه " تيس" ولم يفعلا أكثر من هذه العملية البدائية الفقيرة في الإعداد الفيلمي لنص أدبي دون مراعاة قيمته الجمالية اللغوية. في حين صرح مخرج رائعة الحرب والسلام المذكورة أعلاه المخرج سرغي بوندراتشوك بهذا الخصوص قائلاً :" لم نكن نريد أن نختلق أو نضيف أو نحذف شيئاً من النص الأصلي، فالخلق والإبداع الحقيقي والمؤلف الوحيد للرواية والنص السينمائي هو تولستوي نفسه ولا أحد غيره".
ولكن رغم هذه الأمانة المطلقة، نجح المخرج بوندراتشوك في أن يقدم هذه الرواية على الشاشة برؤية إبداعية شخصية سينمائياً لا تقل روعة وجمالية عما كانت عليه أدبياً . وللمعد إمكانية وفرصة أن يتبنى قصة كاتب آخر إلى درجة تصبح فيها النتيجة تعود له وحده ، أي تصبح قصته هو وكأنه هو مبدعها . وهذه هي حالة أرسون ويلز كما ذكرنا عندما أعد نصوص شكسبير وكافكا، وهي حالة بيير باولو بازوليني عندما أعد رواية " الديكاميرون" لبوكاتشا ورواية سالو أو 120 يوماً في سادوم" للمركيز دي ساد، والإنجيل حسب ماثيو" عن الإنجيل المقدس ، والشيء نفسه ينطبق على المخرج السوريالي لويس بونويل عندما نقل للشاشة رواية الكاتب أوكتافيو ميربو المعنونة " يوميات خادمة منزل" وكذلك عندما أعد للشاشة رواية الكاتب جوزيف كاسيل المعنونة " حسناء النهار" . إن ترجمة الأحداث والشخصيات والأماكن والأزمان في هذه الأفلام اتسم بالذاتية وبالخصوصية المرتبطة بشخصية كل مخرج أي أصبحت شخصية بحتة بالنسبة للمخرجين وجعلتهم ينسون أو يهملون النص الأدبي ولغته مع احتفاظهم بروح النص وجوهره ورسالته الجمالية. ويمكننا الاستشهاد بتصريح للمنتج والممثل السينمائي الفرنسي جاك بيران وهو ممثل الدور الأول في فيلم " صحراء التتار " ومنتجه والذي أعده سنة 1976 للشاشة المخرج فاليريو زورليني عن رواية للكاتب الكبير ذي الأجواء الفنتازية الغرائبية والخيالية دينو بوتزاتي، قال فيه :" لم يكن في حسباننا أن نعد بأمانة مطلقة وتامة الكتاب الأصلي بكل حذافيره، لكننا استعرنا طريقاً آخر للوصول إلى الأهداف الرمزية والوصول إلى النتائج نفسها التي توخاها الروائي". وهناك تصريح مماثل للمخرج الكبير لوكينو فيسكونتي ، الذي لم يتوان أو يخشى تناول مؤلفات ونصوص أدبية عرف عنها صعوبتها ويتحرش بكتاب ويتواثب على رواياتهم المتوجة والمكرسة بالتخليد والشهرة في الأدب الإيطالي، قال فيه :" يمكننا أن نغير ونعدل أثراً أدبياً بشرط ألا نبدل روحه وأبعاده ومضمونه. فأنا إذ اشعر بكوني مؤلفاً ثانياً للنص أو مشتركاً بالتأليف لرواية " البريء" التي حولتها للسينما وهي لغابرييل آننونزيو ، فأنا لم أغير فيها جوهرها وروحيتها وأجوائها مع إنها صورت بكثير من التعديلات والتحويلات، ونفس الشيء حصل مع بقية أفلامي وإعداداتي السينمائية عن روايات مثل " الفهد" و " موت في فينيسيا".
وبالمقابل، وفي معرض إعداده لرواية الغريب للكاتب الفرنسي الوجودي المعروف آلبير كامو، سنة 1976، واجه فيسكونتي إخفاقاً ذريعاً. فهو ليس فقط أفرغ هذه الرواية المتميزة، التي هي أصلاً جافة ومجدبة وغير مشوقة، من مقوماتها الدرامية، وهي أساساً منفرة وقاحلة، فحسب، بل وكذلك لم يعرف ولم يفلح أن ينقلها بكفاءة إلى إطار آخر وهو السينما، ولم ينجح في تقديم المعادل الصوري لرؤية كامو العبثية والعدمية وأسلوب المؤلف الوجودي المفرط بالذاتية ، و لا أن يعوضها أو يستبدلها برؤيته وأسلوبه الخاص المعروف عنه سينمائياً. لذلك جاء الفيلم هابط المستوى وأقل بكثير من ألق الرواية وصيتها و لا يتناسب مع مستوى إبداعات هذا المخرج الخلاق والعملاق وكانت بمثابة سقوط فني وتجاري له في عالم السينما.
في سنة 1961 سحب الكاتب جاك بيريه إسمه من عناوين فيلم " العريف المسجون" الذي أعده المخرج الفرنسي الكبير جان رنوار عن روايته لأنه قدر وأعتبر بأن أثره الأدبي قد جعل غير مفهوماً وأصبح بعيداً جداً عن روايته وبالتالي لا علاقة له بأثره الأدبي ولا ينتمي إليه .
نادرون هم الكتاب الذين يقبلون بلا تحفظ إعداد نصوصهم بحرية تامة وبدون التقيد بنصوصهم الأصلية من أمثال البير سيمنون صاحب رائعة المفتش ميغريه الذي يتدخل ليقلب أوضاع مؤلفاته ويغيرها تغييراً تاماً أو كلياً ويقلبها رأساً على عقب وبسهولة وبهجة وارتياح نادر حسب رغبات معديها أو مخرجيها للسينما.
وإذا تأملنا في العملين المهمين في السينما " الإعداد والإخراج" نرى المعدين غالباً ما يكونوا مجهولين من قبل الجمهور العريض مع حدوث بعض الاستثناءات، كما حصل مع جان أورنش وبيير بوست اللذين أصبحا بمثل شهرة المخرجين الذين كتبا لهم " إعدادات" قصص " السمفونية الرعوية" و " الشيطان في الجسد" و " ألعاب ممنوعة" و " الحنطة في العشب أو القمح عشباً " و " الأحمر والأسود " و " جيرفيه" وهي عناوين لتحف سينمائية مشهورة في تاريخ السينما الفرنسية. يقول أوونش بهذا الصدد:" يبدو بديهياً أن هناك بعض المخرجين أعتقدوا أنهم موهوبون بفضل كتاب السيناريو الذين يتعاونون معهم وجعلوهم يؤمنون بهذا الاعتقاد ويصدقوه". قيل هذا الكلام سنة 1962 ولم يتغير الكثير منذ ذلك الوقت .
بعض السينمائيين حاولوا أن يقدموا أو يقترحوا بأعمالهم ــ قراءات جديدة ــ لبعض التحف الفنية الأدبية أو الروائع الكلاسيكية وكانت النتائج في أغلب الحالات كارثية ومفجعة بل وسيئة جداً مثل " أميرة كليف" للكاتبة مدام دو لافاييت والتي أعدها للشاشة جان كوكتو لحساب المخرج جان ديلانو ولم تحظ باهتمام أحد في سنة 1960 سوى ببعض جمهور الموجة الجديدة.
رواية "البريئة أو الساذجة"، لفولتير نقلت أحداثها إلى القرن العشرين من قبل المعد كاربونو ولكن لم تكن هذه المحاولة سوى حماقة تفتقد لأية إشارة فلسفية كانت تموج بها الرواية الأصلية، ولم تقدم لنا سوى قشرة باهتة من البلاهة بمكان أنها باتت بلا قيمة تذكر. وكذلك " خطيئة القس موريه" لأميل زولا التي نقلت أحداثها هي الأخرى لتدور في سبعينات القرن العشرين من قبل المعد جورج فرانجو وفقدت الكثير من رحيقها ونكهتها الشاعرية وعنصر الفضيحة فيها. أما في فيلم " مولن الكبير" الذي رآه المشاهدون سنة 1966 واستلهم عنوانه من رواية آلان فورنييه ، فقد استنفذ المخرج جان غابرييل آلبيكوكو طاقاته وبذل قصارى جهده للبحث فيه عن الشعر وشاعرية الطفولة بلعب يقوم على تباين الإنارة والأضواء والظلمة والظلال وحركات الكاميرا الحيوية الجميلة إلا أنه لم يصل إلى مستوى النص الأدبي الإعجازي بجماليته الفائقة و مع ذلك يستحق المخرج الفخر والامتنان على إعطائنا فيلماً شفافاً وجميلاً جداً.
يعتبر روائيو القرن التاسع بمثابة منجم ذهب للسينما. ونستطيع حساب أكثر من أربعين إعداداً سينمائياً لنصوص لفكتور هيغو وحده، وإثنين وثلاثين لبلزاك، وثلاثة وعشرون لأميل زولا، وتسعة لموباسان، وخمسة لستندال، وإثنان لفلوبير. والرواية الأمريكية لها حظ أكبر من الروايات الفرنسية وتغري السينما أكثر من غيرها حيث نرى أسماء لامعة تتكرر مثل " برومفيلد" و " كالدويل" و"كابوت" و " فولكنر" و" فيتزجيرالد" و" همنغواي" و"ميلر" و " روبنس" و " شتاينبيك" وغيرهم كثيرون الذين قدمت أعمالهم لتكييفها وإعدادها للسينما.
كلنا يتذكر أحسن أفلام جون هيوستن " موبي ديك" عن رواية هيرمان ملفيل و " الرجل الذي أراد أن يصير ملكاً " عن رواية لروديارد كابلانغ. ريتشارد بروكس يحمل للشاشة رواية " اللورد جيم" لجوزيف كونراد سنة 1965 ويقول:" الخيانة شيء ملازم لكل عملية إعداد سينمائي للأدب" ثم يضيف :" إن هاتين السنتين اللتين كرستهما لتكييف وإعداد رواية كونراد حاولت فيهما ما أمكنني ذلك ألا أخون روح وجوهر الكتاب الأدبي".
ولنا مثال آخر أكثر سطوعاً وعبقرية في عملية الإعداد السينمائي وهو المخرج العبقري المتميز والمجدد الراحل ستانلي كوبريك الذي نقل إلى الشاشة رواية " لوليتا" لنابكوف وكان التعاون الحميم والبناء بين الروائي والمخرج قد أتاح ، ليس فقط دقة وأمانة النتائج فحسب وإنما ايضاً الخصوصية الشديدة التي تتميز بها الرواية وكانت النتيجة خاصية شديدة للفيلم تعود لفضل وموهبة الإثنين وتعاونهما وبخاصة طريقة كوبريك في رؤية الأشياء والعمل مع المبدعين الآخرين كل حسب اختصاصه. ولم يكن باستطاعة أي فيلم آخر وأي مخرج آخر أن يترجم بالصور والمشاهد السينمائية هذا الحب الغامض والمبهم للبروفيسور العجوز الذي يكنه لفتاة مراهقة دون الوقوع في فخ وإغراء العمل الجنسي البورنوغرافيا . وما لم ينجح الكتاب في إبرازه نجح الفيلم بتعويضه بفضل عبقرية ستانلي كوبريك الذي عرف كيف يترجم الجانب الوهمي والخيالي أو التخيلي والحلم المستحيل الذي ينبني عليه هذا الحب المحرم داخل المجتمع الواقعي الذي ولد فيه.
و لا يمكن أن نغفل تجارب المخرج الطليعي الراحل وأحد قامات الموجة الجديدة الفرنسية الراحل آلان رينيه الذي أعد للشاشة روايات طليعية مثل " هيروشيما حبيبتي" للروائية والمخرجة السينمائية مارغريت دوراس، و " العام الماضي في مارينباد" للروائي والمخرج السينمائي آلان روب غرييه وهو أحد منظري ورواد الرواية الفرنسية الجديدة، وتعتبر كل أعمال آلان رينيه عبارة عن إعدادات حرة وخلاقة عن روايات ونصوص روائية أو مسرحية قام بها إلى جانب مؤلفيها أو بالتعاون معه كتاب فرنسيين كبار ومشهورين وأعطت نتائج مذهلة وناجحة جداً لأنه تصرف كشريك في عملية الإبداع وأضاف أبعاداً جمالية للنص الأدبي الأصلي.
وهناك مثال آخر لمخرج سوفياتي رحل عنا قبل سنوات ويعتبر من أعظم سينمائيي العالم هو شاعر السينما الراحل أندريه تاركوفسكي ، في جميع أفلامه التي أعدها عن روايات وكانت النتائج قمماً سينمائية وذروة في النجاح الجمالي والفني وإعجازاً في عملية إعادة الخلق ورسم الخطوط الرئيسية للمضامين الأصلية منذ " طفولة إيفان" و مروراً " بأندريه روبليف" و " سولاريس " وستالكر " و نوستالجيا أو الحنين" وانتهاءاً بــ " القربان" . وكان وحده يشكل مدرسة سينمائية خاصة في طريقة وكيفية إعداد النصوص الأدبية للسينما.
ومن الماضي سيكون لنا مثال آخر للمخرج الفرنسي آبل غانس الذي اهتم بكتاب سيلين منذ خروجه للسوق في أول طبعه له عندما نشر تجارياً سنة 1930. كان غانس على علاقة وثيقة بجاره الذي يسكن نفس الطابق في البناية التي سكن فيها وهو طبيب. وفي سنة 1923 يقدم غانس لجاره الطبيب رواية خرجت لتوها للسوق وهي تحمل عنوان " رحلة إلى أقاصي الليل" بقلم كاتب إسمه سيلين وطلب منه قراءتها وإعطاء رأيه فيها في تلك اللحظة أعترف له الجار الطبيب الذي يحمل إسماً مهنياً هو الدكتور ديتوش وهو يضحك بفرح قائلاً لغانس:" صديقي وجاري العزيز سيلين هو أنا" . ومنذ تلك اللحظة تعاون سيلين مع غانس الذي أراد بأي ثمن إعداد رواية " رحلة إلى أقاصي الليل" وكان متحمساً ومندفعاً لإعدادها للشاشة وإخراجها . ولقد كتب له سيلين بنفسه عملية التكييف والإعداد للشاشة على شكل سيناريو تبعاً لتوجيهات آبل غانس ، وهذا السيناريو موجود لحد لآن ومتوفر بين مخلفات المخرج بعد وفاته، لكنه موجود عند أحد ورثة غانس الذي ربما لا يريد التخلي عنه أو إعطائه لغيره. بيد أن العمل لم ير النور كغيره من مشاريع آبل غانس بسبب عدم وجود التمويل الضروري له . حاول كثيرون إعداد هذا النص الروائي الجميل والصعب وشديد الخصوصية ولم يفلحوا بعد غانس.
آثار أدبية كبيرة طمعت بها وتمنتها أو اشتهتها السينما منذ زمن طويل ولم تنقل لحد الآن إلى الشاشة لاعتبارات كثيرة أولها توفر التمويل لإنتاجها ومنها هذا الأثر الخالد " رحلة إلى أقاصي الليل" للكاتب الفرنسي الكبير المثير للجدل بسبب موقفه من اليهود وهو لويس فيرديناند سيلين، وقد حاول كل من ميشيل أوديارد وروميو فورلاني وسيرجيو ليون الاهتمام بالرواية ونقلها وإعدادها للشاشة الفضية لكنهم جميعاً فشلوا ولم يتمكنوا من إقناع أي منتج بالإقدام على مغامرة تمويلها ولا حتى إقناع مدام لوسيت آلمانزور أرملة الكاتب بالحصول على موافقتها للقيام بذلك.
وأخراً وليس آخراً لا بد من القول أن الكثير من السينمائيين تغريهم باستمرار الكتب التجارية ذات الشهرة الكبيرة والمبيعات التجارية القياسية ــ بست سيلر ــ في الأدب ، فنجاح كتاب معين في المكتبات يعني ضمان نجاحه في القاعات المظلمة كما هو الحال مع أسطورة نجاح فيلم " ذهب مع الريح" من إخراج فيكتور فيلمنغ التي يوازيها نجاح كتاب مارغريت ميتشيل الذي يحمل نفس العنوان، والسينما ميالة عادة إلى الاستحواذ على كل رواية ذات مردود تجاري كبير ومبيعات واسعة لأن القاريء بطبعه يحبذ دائماً ويغريه أو يجذبه دوماً أن يجد على الشاشة العناوين والحكايات والمواضيع والشخصيات والأبطال الذين أحبهم وتعلق بهم أثناء قراءته للكتب أو حتى السماع بهم ممن قرأها قبله وأشاد بها «*.
القاعدة تقول أن فيلماً سيئاً لا يؤثر مطلقاً عل أية رواية سواء كانت جيدة أو رديئة والعكس هو الصحيح فيمكن للفيلم الجيد أن يكسب قراء جدد ليس فقط للرواية المعنية التي حولت إلى فيلم وإنما إلى جميع مؤلفات الكاتب الأخرى لتشكل فضول لدى المشاهد ـ القاريء لمعرفة عالم المؤلف وكتاباته الأخرى. وهذه نتيجة مثبتة من مراجعة أرقام البيع والتوزيع بعد خروج أي فيلم ونجاحه إذا كان معداً عن رواية منشورة, وهناك روايات كانت شبه منسية أو مجهولة استفادت من الأفلام التي أعدت عنها لإعادة طبعها على نطاق أوسع بعد أن نقلت إلى الشاشة. وقد تواجه رواية ما المجد والشهرة التي لم تلاقيها عند أول خروجها على شكل كتاب وكأمثلة على ذلك " مصعد للمشنقة" ل نويل كاليف و " الكلبة" ل جورج دو لا فورشاديه و " أشياء للحياة" ل بول كويمار و " فوشوا" و " هروب سجين محكوم بالإعدام" ل أندريه دوفيني الخ.. وإذا كانت هناك قيمة رمزية لفيلم فولكر شلوندورف فهي إنه أول من أخذ المخاطرة لنقل مارسيل بروست إلى السينما مما سيجلب حتماً قراء جدد لهذا الكاتب وللفيلم فضل الريادة وهو ليس فيلماً سيئاً بل على العكس.

* يمكننا ذكر روايات ذائعة الصيت وذات مبيعات مهولة تجاريا مثل سيد الخواتم وهاري بوتر وإسم الوردة وغيرها أعدت للشاشة ولقيت نجاحاً تجارياً منقطع النظير في الوقت الحاضر













#جواد_بشارة (هاشتاغ)       Bashara_Jawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تطورات الكون المرئي فيزيائياً وثيولوجياً
- قراءات في كتب
- الله بين العلم والدين
- أنشودة الكون الأنيق
- الكون المرئي من كافة جوانبه
- تيار السينما الذاتية عند شاعر السينما الراحل اندريه تاركوفسك ...
- وقفة مع شاعر السينما الراحل كريستوف كيسلوفسكي:
- الإستراتيجيات الدولية في الشرق الأوسط وصراع الدول العظمى سور ...
- شرخ كبير في نسيج العلاقات بين الجالية العراقية والسفارة العر ...
- حتى لا يدعي العالم بالقول أنه لم يكن يعلم الحقيقة عن داعش
- السينما عندما كانت فن ورسالة
- هنا حوارية اليوم مع الأستاذ د. جواد بشارة حول ( الانسان بين ...
- الحقيقة الظاهرة والحقيقة الخفية لداعش 2-1
- كون واحد أم عدد لامتناهي من الأكوان؟
- فرنسا بين نارين
- الله والكون جدل العلم والدين
- كمبيوتر المستقبل : هل هو الحاسوب الكمومي أو الكوانتي ؟
- الكون المرئي في سطور خلال قرن
- هل سيتعرى الكون أمام أعين البشر يوما ما ويكشف عن نفسه؟
- دورة الحروب الحديثة التي لا تنتهي في العراق


المزيد.....




- فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي
- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جواد بشارة - السينما والأثر الأدبي وجهاً لوجه