أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - جواد بشارة - تطورات الكون المرئي فيزيائياً وثيولوجياً















المزيد.....



تطورات الكون المرئي فيزيائياً وثيولوجياً


جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)


الحوار المتمدن-العدد: 5093 - 2016 / 3 / 4 - 16:54
المحور: الطب , والعلوم
    



تطورات الكون المرئي فيزيائياً وثيولوجياً
جواد بشارة
[email protected]

منذ أن ظهر الدين على وجه البسيطة، طغت على أذهان البشر أطروحة الخالق والموجد لكل شيء، وقدرته اللامتناهية وخلقه للكون ومن فيه بإرادته وبطريقة كن فيكون، حيث كل شيء فيه منظم ومصمم على نحو دقيق أوغاية في الدقة والإحكام ولا مجال للصدفة أو الإحتمالية أو التطور الطبيعي المستقل عن الاختيار الإلهي.
غاص مفكرون وفلاسفة وعلماء وفقهاء، على مدى قرون طويلة، صراعاً مريراً بين هاتين الرؤيتين أو الأطروحتين العلمية والدينية، الفيزيائية والميتافيزيقية، المادية والغيبية أو الماورائية.
الصدفة، وما يرتبط بها من مفردات ومفاهيم من قبيل، الضرورة والقدر والمكتوب والحظ والمصير والحتمية والفرصة، هل هي التي تحكم حياتنا ومعتقداتنا أم لا وجود لها على أرض الواقع؟ نحن نتعاط مع هذه المفردة بمعناها الجوهري العميق وليس اليومي المبتذل، والذي نسميه المصادفة، كأن نلتقي مصادفة بشخص لم نره منذ سنوات طويلة وطرأ على الذاكرة وفجأة يحصل اللقاء " مصادفة" لذا يعتقد الكثير من المفكرين والعلماء ورجال الدين أنه لا وجود للصدفة فكل شيء مكتوب ومصمم ومدروس ومنظم سلفاً ومنذ الأزل، من قبل قوة أو قوى، نجهل ماهيتها وطبيعتها وحقيقتها تستعص على مداركنا المحدودة ، ولا تدركها عقولنا، هي التي تتحكم بمصائرنا. وكان الفيلسوف الفرنسي جون غويتون Jean Guitton ، قد صرح في مقابلة معه في كتاب " الله والعلم" للشقيقين التوأمين إيغور و غريشكا بوغداونف :" إن ما نسميه صدفة ليس سوى جهلنا أو عجزنا وعدم قدرتنا على فهم درجة معينة من النظام العلوي الذي لا نراه".
كان عالم الرياضيات الفرنسي العبقري هنري بوانكاريه يعتقد، في بداية القرن العشرين، إن بوسع العلم أن يضع نهاية، يوماً ما، لما نعرفه عما نسميه الصدفة"، وكتب في مذكراته :" قد يكون هناك سبب أو علة صغيرة تفلت من مداركنا عندما تحدث ولكن سيكون لها تأثير عظيم ومهم لايمكننا إلا أن نشعر به وندركه لكننا لا نفهم سبب وقوعه فنعزيه لما نسميه الصدفة . ولكن لو عرفنا على نحو دقيق قوانين الطبيعة وحالة الكون المرئي الذي نعيش فيه، في لحظة التأسيس والنشأة الأولية l’instant initial ، فسوف يكون بإمكاننا أن نتوقع أو نتكهن بدقة الوضع أو اللحظة اللاحقة زمنياً، أي المستقبل". وهو الأمر الذي كان يؤمن به إسحق نيوتن في القرن الثامن عشر ولابلاس فيما بعد في العهد النابليوني. بيد أن الواقع يحتم علينا أن نتقبل فكرة أن ما وراء جدار الصدفة يوجد شيء ما غامض ومجهول أو لغز يستعص على الحل. آينشتين نفسه قال بهذا الصدد في مقابلة أجريت معه في 26 أكتوبر سنة 1929 من قبل ج, س, فيريك G.S.Viereck :" إن كل شيء مصمم من قبل قوى لا نستطيع السيطرة عليها فكل شيء محدد ومصمم بدقة من الحشرة إلى النجم . فكلنا ، نحن البشر والنباتات وأغبرة النجوم، نرقص على إيقاع لحن غريب وغامض يعزفه عازف بعيد عن مداركنا، عازف ناي غير مرئي"والحال أنه لا يمكن أن تكون الصدفة هي هذا العازف المجهول لأن الأشياء لا تنتظم بفعل الصدفة كما يعتقد البعض ويضرب آينشتين على ذلك مثله الشهير :" إن الإعتقاد بفكرة أن النظام والتنظيم الدقيق للكون المرئي في كل جوانبه وحالاته التي لا تعد ولا تحصى، هو نتيجة صدفة عمياء، ليس لها أية مصداقية إلا إذا تقبلنا الفكرة العبثية التي تقول أنه بعد إنفجار مطبعة فإن كل الحروف سوف تسقط على الأرض وفق نظام وتسلسل القاموس" كما ورد في كتاب العلم والأخلاق والدين حسب آينشتين . أو إن القول بظهور الكون هكذا فجأة بالصدفة هو كما لو اعتقدنا أن طائرة بوينغ 747 سوف تتجمع وتتشكل لوحدها بعد مليارات السنين صدفة من الأغبرة الكونية الموجودة في حزام الكويكبات، كما صرح جيمس غاردنر James Gardner أحد أشهر منظري فكرة التعقيد". أو كما قال عالم الفيزياء والأستاذ في الكوليج دي فرانس كريستيان مانيان Christian Magnan في كتابه هل إن كوننا منظم على نحو لا يصدق من الدقة Notre Univers a-t-il été réglé de façon incroyablement précise ? ، بخصوص التنظيم الهائل لخصائص ومعطيات الكون في لحظة الإنفجار العظيم:" إنه ترتيب أو تنظيم شيطاني من الصعب أن يعزى للصدفة وحدها". فإحدى هذه القوانين الجوهرية الأربعة للكون هي الجاذبية أو الثقالة Gravitation، التي بفضلها نبقى ملتصقين بالأرض وبالكرسي الذي نجلس عليه ولا نطير في الهواء، والتي عند حسابها وجدنا أنها أضعف بنسبة 1040 مرة من القوة الكهرومغناطيسية وهي القوة الثانية من القوى الكونية الجوهرية الأربعة التي تسير الكون المرئي، فماذا يعني ذلك؟ ببساطة أنه في لحظة حدوث الإنفجار العظيم لم يكن لدى الكون الناشيء فرصة واحدة من 10000 مليار المليار المليار المليار أن يقع على القيمة التي حسبناها للثقالة أو الجاذبية لو استند على الصدفة. أو لو تخيلنا الأرض برمتها وقد تحولت إلى رمال بسمك عشرة أمتار وإن حبات الرمال كلها من لون واحد عدا حبة واحدة حمراء فإن فرصة العثور على هذه الحبة من هذا الكم المهول من حبات الرمل بحجم الكرة الأرضية من أول نظرة واحدة هي نفس فرصة وقوع الكون بعد الانفجار العظيم على القيمة الحقيقة اللازمة والثابتة للجاذبية أو الثقالة التي وجدناها بالحسابات الرياضية. وهناك عدد كبير من الثوابت والقيم الجوهرية التي تحكم وتسير الكون منذ 13 مليار و 820 مليون سنة فمن أين جاء هذا التنظيم الدقيق والحسابات الدقيقة اللازمة لصيرورة الكون؟ ولقد زودتنا تجارب مسرعات ومصادمات الجسيمات الدقيقة الأولية كـــ LHC وأمثاله والتلسكوبات المتطورة كتلسكوب بلانك الفضائي ، بمعلومات مذهلة تنهي مرة وإلى الأبد عامل الصدفة في نشوء الكون. من هناء جاء تصريح آينشتين الشهير في 29 أكتوبر 1927 إبان مؤتمر علماء الفلك والفيزياء والكونيات في بروكسل :" إن الله لا يلعب بالنرد " ورد عليه آنذاك زعيم الفيزياء الكمومية أو الكوانتية نيلز بور :" توقف عن أن تملي على الله ما يجب عليه أن يفعل". وهذا العالمان هما القائدان لفيزياء اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر، وعنهما وبسببهما عاش البشر سجالات عقيمة عن أصل الكون المرئي ومصيره وهل هو مخلوق من قبل خالق أم أزلي وأبدي موجود كما هو بلا بداية ولا نهاية، على مدى قرن من الزمن ونيف؟.
الجولة الثانية التي خاضتها البشرية كانت في مجال البيولوجيا أو علم الأحياء وأصل الإنسان. فكل الكائنات الحية تتسم بصفات مشتركة مما دفع عالماً مثل تشارلز داروين Charles Darwin للتفكير بأنه قد يكون لجميع الكائنات المنظمة التي عاشت على الأرض أصل واحد أولي نفخت فيه الحياة نتيجة لتفاعلات معقدة ، وإنه لو تأكدت صحة فكرته عن أصل الأنواع، فسوف يفتح ذلك طرقاً للبحث في أصل الإنسان . ولقد دون في مذكراته سنة 1837 إن الكائنات الحية تعرضت لتعديلات وتطورات وطفرات تطورية وليس هناك ما يمنع أن يكون الإنسان نفسه قد تعرض إلى نفس هذا القانون الطبيعي." أثيرت نقاشات صاخبة بعد صدور كتاب داروين الموسوم " أصل الأنواع L’Origine des espèces وأشهر تلك النقاشات المدوية كان في جامعة أوكسفورد إبان الاجتماع السنوي للجمعية البريطانية لتقدم العلوم سنة 1860 الذي كان داروين غائباً عنه بسبب حالته الصحية وكان المدافع عنه وعن نظريته عالم الأحياء توماس هنري هكسلي Thomas Henry Huxley ضد اتهامات وتهكم الكنيسة ممثلة بشخص أسقف أوكسفورد صاموئيل ويلبيرفورس Samuel Wilberforce الذي هاجم نظرية داروين في الانتخاب الطبيعي وأصل الأنواع وتوجه لهكسلي بالسؤال الاستفزازي التالي :" هل تنحدر يا سيد هكسلي من القرد عن جدك لأبيك أم جدك لأمك؟" فرد عليه هكسلي متهكماً وبغضب :" لايوجد عار في أن أنحدر من أصل قرد لكن العار هو من أمثالك من الجهلة الذي يقحمون أنفسهم في مسائل العلم البعيدة كل البعد عن عقولكم الغارقة في الظلام والمسلمات الدينية الغبية".
في سنة 1871، بعد مرور إثني عشر عاماً على صدور كتاب أصل الأنواع، أصدر تشارلز داروين كتابه "ذرية الإنسان والانتخاب المرتبط بالجنس La Descendance de L’homme et la Sélection liée au sexe"، والذي طور فيه موضوع التكاثر عن طريق الجنس عن البشر وأمثاله من الحيوانات ودور الانتخاب الجنسي في تطور البشر وقدم من خلاله رؤيته وبوضح وعرض مفهومه عن الأصل الوحيد للحياة مستبعداً حدوث فعل منفصل للخلق بالنسبة للإنسان، أي قام بنسف لأسطورة خلق آدم وحواء كأصل للبشر. فالبشر ليسوا ثمرة لخلق خاص فهم ينحدرون من أصل حيواني. لكنه عقب في خاتمة كتابه بالقول :" علينا أن نعترف أن ما يتمتع به هذا الإنسان من ذكاء متسامي أتاح له إمكانية اختراق سر حركة وتشكل النظام الشمسي ، بيد أنه يحمل في طياته البصمة التي يتعذر محوها عن الأصل الذي انحدر منه" وما حدث ليس سوى تطور علمي محتوم على غرار التطور الكوني. فكما فعل كوبرنيكوس عندما أنزل الأرض من عليائها وجعلها كوكباً تافهاً عادياً كغيره من مليارات الكواكب، تدور حول شمسها مع بقية كواكب المنظومة الشمسية ، واضعاً الإنسان في موقعه الحقيقي بعد أن كان يعتقد أنه يشغل مركز العالم وإهتمام خالقه، استمر داروين في نفس الطريق سارداً قصة الإنسان في سياق سلسلة طويلة من التطورات والقفزات أو الطفرات التطورية التي شهدتها كل الكائنات المنظمة، والحال أن داروين كان قد اتخذ مسافة مبتعداً عن الدين حتى قبل نشره لكتابه أصل الأنواع.
نشبت معارك فكرية طاحنة اتسمت في بعض مراحلها بالعنف والوحشية، بين رؤية الأديان الميثولوجية عن قصة الخلق والرؤية العلمية الفيزيائية والبيولوجية عن نشوء الكون والبشر. وما تزال تدور رحاها إلى يوم الناس هذا لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية التي ينشط فيها تيار أتباع الخلق المباشر Les créationnistes الذين يريدون محاربة نظرية التطور والانتخاب الطبيعي لداورين وفرض الرؤية الدينية عن الخلق في المدارس والمناهج التربوية. يعتمد أنصار الخلق الرباني créationnisme على النص الحرفي الوارد في الكتاب المقدس بشقيه التوارة اليهودية والأناجيل المسيحية وكذلك أتباع الديانة الإسلامية، ويستبعدون أية فكرة عن التطور البيولوجي للكائنات الحية ولا يقبلون بأي نقاش مع من يدعون أن الاعتقاد بوجود الخالق يمنع أي إمكانية للتفكير والتأمل في العالم ، مثلما حرموا العالم غاليله غاليلو قبل أربعة قرون بأن يفكر بحرية عندما رد عليهم أن نية الروح القدس هي أن تعلمنا كيف نذهب للسماء وليس كيف هي حال السماء، فهذه مهمة العلم".
هناك تيار آخر يحارب نظرية التطور والإنتخاب الطبيعية الداروينية وهو تيار التصميم الذكي intelligent design وبالفرنسية dessein intelligent وهي حركة منظمة وتتمتع بإمكانيات كبيرة ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية في سنوات التسعينات من القرن العشرين وفتنت بعض الأوساط الإسلامية بها لا سيما في تركيا. وهذه الحركة لا ترفض على نحو قاطع مبدأ التطور الطبيعي و لا تجعل من عمر الكون مسألة مركزية مقدسة لكون تحددت ولادته في النصوص المقدسة بستة أيام لكنها ترفض الاعتراف بالحدث الطاريء والصدفة في آلية التحولات التي تحدث للكائنات الحية ، وتضم الحركة عدد لا بأس به من العلماء والبيولوجيين والكيميائيين والأطباء والصيادلة وعلماء الرياضيات والفيزياء والفلاسفة والمفكرين الذي يرفضون فكرة الانتخاب الطبيعي غير الموجه وبدون التصفيات والتوجهات النهائية وإن كل تاريخ الحياة والكينونات الحية يخضع لهدف ومشروع ونية عاقلة، ويختلفون عن أتباع الخلق المباشر des créationnistes، الذين ينطلقون من النصوص الدينية لتفسير العالم والحياة، حيث لا يعنيهم ما ورد في الميثولوجيات الدينية ويأخذون بعين الاعتبار الفرضيات والنظريات العلمية والنتائج العلمية للتجارب البيولوجية الحديثة لكنهم يؤولوها باتجاه الهدف النهائي. ويعتقدون أن الكائنات الحية من التعقيد بمكان لا يجعلها مجرد ثمرة من ثمرات الصدفة فالمشروع الأسمى والتصميم الذكي هو وحده القادر على تفسير صفات ومزايا وخصائص الكون ومحتوياته الحية والعاقلة والذكية والمفكرة التي تمتلك وعياً . أي أنهم يستندون إلى العلة الذكية ويرفضون دور الصدفة العمياء في السيرورات أو العمليات الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية التي تقود إلى عملية الانتخاب الطبيعي في تعقيد البنى البيولوجية التي يتعذر رفضها خاصة المعلومات الدفينة المعقدة والخاصة التي تحتويها الشيفرة الوراثيةADN .
الاستمرار
كتب المبدع والفنان الفرنسي المتميز بجنونه وجرأته ومخيلته الخصبة، وصاحب تيار مسرح القسوة، ومؤلف كتاب المسرح وقرينه، أنطونان آرتو، في كتابه الملحمي " صرة النسيان ":" لم يكن المركز سوى فسيفساء من الشذرات، نوعاً من المطرقة الكونية الشاقة، ذات الثقل المشوه، تتهاوى بلا انقطاع كجبهة فوق الفضاء، ولكن بضوضاء مقطرة . وحيث الالتفاف والإحاطة الصوفية للضجيج احتوتا اللحظة البليدة وتوغل النظرة الحية". وكأنه يتحدث هنا عن كونه السوريالي المتخيل ، ولكن علينا أن نتحدث عن كوننا الواقعي فما هو؟
قد يكون الكون الذي نعرفه برمته، هو كل ما يحيط بنا ، ما كان وما سيكون، من أصغر الجسيمات إلى أكبر المحتويات، الموجات والكلمات، الطاقات والأشياء، ونحن منها بطبيعة الحال، هذا الكل الهائل، ليس سوى تفصيل تافه وجسيم أصغر من اللا متناهي في الصغر، نسبة للمطلق الوحيد الذي يسبح في فضائه عدد لا متناه من الأكوان، وهو حتماً سيكون في ذروة التطور الكوني الأشمل . ثم علينا أن نتساءل هل تلك الذرات أو الجسيمات ـــ الأكوان متداخلة أو متجاورة في نفس الفضاء، أم في خلاءات متعددة لا تعد ولا تحصى، متشابكة أو متوازية، تقودنا لنتخيل نوعاً من البنية الدولابية لعوالم مهولة أحدها في بطن الآخر؟ إنها صورة تخمينية افتراضية متخيلة تضاربية في ناحية، أو عقلانية قابلة للتصور في ناحية أخرى، وفق ما تقترحه علينا الفيزياء المعاصرة وعلم الكونيات في أحدث طروحاته. إنها على الأقل إحتمالية تتوافق مع كل ماهو معروف ومفهوم ومتقبل.
قد لاتكون الفيزياء التي تتعاط مع هذا الموضوع فريدة أو موحدة بذاتها بقدر تفرد وتوحد العوالم التي تصفها. والحال إن التفكير العقلاني يواجه اليوم تنوعاً لا سابقة له في هذا المضمار. هل سيتفكك لوحده أم يعيد تطوير نفسه إلى درجة تستدعي إعادة تطوير الأسس القائم عليها التعاطي الجديد مع الكون؟
إن تاريخ العلوم، في جزء كبير منه، هو قصة التدرب والتعلم والتجريب والتواضع. أطلق عليه سيغموند فرويد مصطلح" الجراح النرجسية" فسقوط عرش المركزية الأرضية لم يكن بالأمر الهين أو السهل. فكانت عملية فهم وتقبل أن الأرض لم تعد هي المركز للكون وقطب الاهتمام ، كما كانت تقول الأطروحات الثيولوجية ــ الدينية في سفر التكوين في التوارة وفي القرآن " خلق الله الأرض في ستة أيام"، وتصورتها الكنيسة المسيحية على غرار تصورات بطليموس، مسطحة كالقرص ، وعلى سطحها تعيش الكائنات والجبال والأنهار والبحار والنباتات والبشر والحيوانات وفوقها قبة السماء، تزينها مرصعة بالنجوم لإضاءتها والشمس في خدمتها لتدفئتها، وهي التي تدور حولها مع باقي الكواكب والنجوم ـــ وكان ذلك بمثابة تطور ومخاض مؤلم لا بد منه. ومن ثم بات على العقول أن تتقبل أمراً آخر أكثر مشقة وهو إنزال الإنسان من عليائه واعتباره حيواناً من بين حيوانات أخرى، ولم يكن حتى من أبناء عمومة القرود أو منحدراً من سلالة أحد القرود العليا، بل هو أحد القرود المتطورة وهو ما لم يهضمه الناس بسهولة في القرون المنصرمة. لقد أغلقت دائرة السجال حول هذا الموضوع منذ زمن طويل بعد أن فرضت نظرية التطور والانتخاب الطبيعي لتشارلز دارون نفسها ورسخت جذورها في الساحة العلمية ولم يعد هناك شك في الأوساط العلمية الجادة بصحتها، والحال إن التفكير بالإنسان داخل الطبيعة وليس متعارضاً معها بات اليوم ضرورة أخلاقية بقدر ما هو بديهية بيولوجية، ومع ذلك ما تزال بعض الشكوك تحوم بين الفينة والأخرى إلى يوم الناس هذا. وهي إشارات تفوح منها روائح عفنة ناجمة عن دوغمائيات المركزية البشرية أو بقاياها على الأقل، والمعتقدات المتمركزة والمهيمنة على العقول، والمستقرة في غطرستها المتعجرفة . لذا ليس من المثير للدهشة القول إن فكرة حرمان الكون المرئي نفسه من قاعدة التمثال التي يستند عليها ألا وهي فرادته، يثير نوعاً من الامتعاض لدى التقليديين من العلماء إن لم نقل المعارضة الجلدية كالطفح الجلدي على شكل بثور يبثها الجلد على سطحه دلالة على الرفض.
هناك معنى جلي وواضح جداً لتطور تصوراتنا وتمثلاتنا للكون وتجلياته في عقولنا. في البدء كانت الرؤية ذات مركزية قطبية او استقطابية، مانحة الأرض موضعاً متميزاً جداً ومفضلاً على كل ما سواها. ثم غدت تمحورية إهليجية أو هليو ـ محورية ، معطية للشمس دوراً غالباً ومسيطراً . ومن بعد أصبحت مجرية ــ مركزية مانحة أهمية قصوى لعناقيد وحشود النجوم التي تشكل المجرات ومنها مجرتنا درب التبانة أو الطريق اللبني، حيث اعتقدنا أن الكون لا يتعدى حدود مجرتنا، ولاحقاً باتت الصورة كونية مركزية معتبرة كوننا المرئي هو الكل ولا شيء غيره و لا يوجد ما وراء أفقه شي. واليوم تهتز هذه الصورة وتتشوش ويعاد طرح مسألة إمكانية حدوث تطور كوني جديد بفضل التقدم العلمي والتكنولوجيا المتقدمة والنظريات العلمية، وها نحن نخطو خطورة أخرى ــ قد لا تكون الأخيرة قطعاً ــ نحو لا مركزية راديكالية لكوننا المرئي ونزوع نحو الوسطية، وربما إلى الانتشار القاطع والحدي للأكوان ، بمفهوم مشترك ، علمي وفلسفي، يتوزع بين النسبي والمطلق. فكل شيء نسبي و لا يوجد سوى مطلق واحد هو الوجود الكلي الشامل الحي الذكي وفي حالة تطور دائم.
في كل مرحلة كنا نعتقد ونؤمن أن كل بنية سابقة هي وحيدة وفريدة من نوعها وبالتالي مركزية واليوم وصلنا إلى أننا يجب أن نعتبر كوننا المرئي، الذي لا نعرف منه سوى 5% فقط من المادة والطاقة المعلومة و 95% منه لا يزال مجهول لدينا ومخفياً عنا لا نعرف عنه شيئاً على الإطلاق سوى تكهنات وافتراضات وحسابات رياضية مجردة، رغم ما نعرفه عن مئات المليارات من المجرات ومئات المليارات من النجوم في كل مجرة تنتشر على مدى 42 مليار سنة ضوئية من المسافات. فليس بوسع أحد أن يعرف اليوم على وجه الدقة أين ذهبت المادة المضادة في كوننا المرئي ولا ما هي طبيعة وماهية المادة السوداء أو الداكنة والطاقة السوداء أو المعتمة في كوننا المرئي ذاته فما بالك بمكونات الأكوان الأخرى؟ ولم يعد كوننا المرئي في نظر العلماء اليوم سوى نموذج بسيط وعادي غائص في محيط بلا قاع ولا حواف ممتد إلى اللانهاية من المكان الذي يحتوي على عدد لا متناه من الأكوان ــ الجسيمات.
يمكن أن يتجلى التعدد الكوني ويتفاعل على نحو ضعيف، داخل حيز مكاني لا محدود و لا نهائي تتغاير وتتنوع فيه الظواهر من عالم لآخر، ولكن تبقى القوانين المسيرة لها هي ذاتها، واحدة متشابهة، أو على نحو قوي، على شكل فقاعات كالتي تشكلها رغوة الصابون، وهي الفقاعات ــ الأكوان، لا تحكمها ولا تسييرها نفس القوانين ولا نفس المبادئ الفيزيائية.
إن التنوع المفترض لما يمكن أن ينتشر قد يتجاوز الخيال. فبعض التخمينات والتوقعات أو التكهنات تتعلق بوجود تعدد أكوان تمتلك مصداقية كبيرة نظراً لكونها ناجمة عن نظريات علمية رصينة ومعروفة ومختبرة تجريبياً وهي جزء من نماذج طاغية ولو بطريقة غاوية. وهي تكتفي بالتفحص على نحو أفضل واستغلال ما هو معروف ومتداول أصلاً، والبعض الآخر المبني على عدد من التكهنات والتوقعات، فهي على العكس تخمينية وافتراضية بدرجة قصوى لكونها ناتجة من نماذج كونية ، مهما كانت جذابة وأنيقة ومغرية، إلا أنها لا تتمتع باي سند تجريبي. وينبغي تمييزها بدقة متناهية.
إن هذا النوع من الأكوان يطرح العديد من الأسئلة الجوهرية بشأن طبيعة العالم وطبيعة العلم وحقيقتهما ، وحول معنى أساطيرنا وخرافاتنا ، بل وحتى حول إمكانية تقديم تعريف لهذا المعنى أو الجوهر.
ومهما كانت الاستنتاجات التي سنستخلصها من المجابهة مع هذه التصورات إلا أنها تثير تساؤلات لا تسبر أغوارها والتي تسعى بعض الممارسات التقنية والفيزيائية إلى إخفائها أو وضعها طي النسيان أو حتى تجاهلها أو نسيانها بل وربما حذفها. ومن ميزاتها أنها تثير الحنق واللغط والامتعاض. ويمكنها أن تشكل محركات غير مكتملة قد تقودنا نحو اكتشافات لا سابق لها أو عودة الإنسحار أو الانبهار بما كنا نعرفه معرفة سطحية ولم ندرك أبعاده الحقيقية . وبكل الأحوال فإن ملامح العالم موضع الاهتمام سوف يعاد رسمها وتحديدها من جديد.
الكون النسبي والوجود المطلق:
أي عالم؟ وهل هو واحد أم متعدد؟ هناك تضارب في المصطلحات والمفاهيم وخلط وإبهام ينبغي الوقوف عنده لبرهة. هناك الإستحالة والإمكان، وهناك الإرداف الخلفي وهناك تناقضات في التعبير. فلو كان الكون univers هو كل شيء، فهو بحكم هذا التحديد وحيد وكلي. وباللغة اللاتينية نقول universum وهو تعبير مركب من uni و versum، ويوحي بأنه ينحو نحو الواحد، يتجه لما هو جوهرياً موحداً في قاعدة هدفه ومصبوباً بنفس الاتجاه ومتمكناً من مفرداته. تقدم لنا اللغة الإغريقية تعبيراً آخر هو cosmos كوسموس، والكلية معنية بهذا التعبير أيضاً، وهي فكرة عن النظام تحمل نفس الطبيعة وبصيغة معقولة ومريحة وذات هارمونية وتناغم واتساق ومقبولية ، صورة ذات جمالية خفيفة تكاد تكون عقيمة، لكن الوحدة تبقى هنا أساسية .
يدعونا الإطار العلمي لإعادة النظر والاعتدال في هذه المقبولية لمفهوم الكون univers ، فالمنهج العلمي لا يقدم تعريفاً واحداً جامداً وغامضاً أو مبهماً بل يفرض علينا، على نحو ما، حصر مدى سعة هذا المفهوم.
من المعتاد في الكوسمولوجيا الفيزيائية إطلاق تسمية كون univers على المنطقة المكانية المرتبطة بنا سببياً، بعبارة أخرى، كل ما يتضمن تفاعلاً معنا، مما يعني تعريف الكون على أنه ما يوجد في كرة يتناسب نصف قطرها مع المسافة الأبعد التي يمكننا رؤيتها من خلال استخدامنا لأكبر وأقوى التلسكوبات، والقادرة على رصد كل أنواع الكيانات الموجودة. وبسبب محدودية سرعة الضوء وثباتها على 300000كلم/ثانية، فإن المسافات التي يمكننا رصدها تقنياً ليست لامتناهية البعد وكل ما وراء الأفق الكوني المرئي تلسكوبياً يبقى خفياً وغير مرئي مهما تطورت أجهزتنا الرصدية ومسابرنا الفضائية . ففي ما وراء ذلك يقبع المجهول بعينه ولا يمكننا التعاطي معه إلا من خلال الخيال العلمي، وما يجري هناك ليس له أي تأثير على مجريات وتفاعلات الكون المرئي ولا حاجة علمية لإدراج هذا الماوراء شبه الغيبي في مفردات ومكونات وبنية وهندسة كوننا المرئي فهذا الأخير محدود بما نعرفه عنه من الناحية المبدئية.
ومهما كان تعريفنا التقريبي في هذه المرحلة، فإنه مع ذلك يشهد على حدوث تطور جوهري مقارنة بما كنا نعرفه وما كونا عنه من رؤية في المرحلة الابتدائية أو الأولية التأسيسية، فلم نعد نتحدث عن الكون بالمطلق بل عن كوننا المرئي أو المنظور والمرصود، فالرؤية ليست إطلاقية بل نسبية وفق من يصيغها، وموقعه في الكون المرئي، ولهذه الحالة معنى علمي للكون حيث بإمكاننا أن نجري عليه التحقيقات والحسابات والقياسات اللازمة مباشرة على نحو واضح ومكرر وممكن دوماً. وهو أيضاً مفتوح أو قابل للفتح ، أي بمعنى آخر هناك إمكانية لوجود أكوان أخرى مجاورة له أو متداخلة معه أو موازية له في الفضاء المفتوح.
من هنا نستطيع القول أن مفردة كون بمفهومها النسبي أعلاه، لا تشمل مجمل ماهو فيزيائي وميتافيزيائي في الوجود اللامحدود . وفي نفس الوقت لايوجد سبب يدعونا للإعتقاد بعدم وجود شيء ما خارج حدود كوننا المرئي المفترضة، كما هو حال المحيط الممتد حيث لا ترى السفن الطافية فوقه ماذا يوجد وراء الأفق الخاص بها، ومن المعقول والمقبول أن نفكر ونعتقد بأن الفضاء لا ينتهي و لا يتوقف عند حدود كوننا المرئي الاعتباطية والنسبية.
وبالإمكان وضع تعريف آخر لمفهوم الكون ليشمل ، ليس فقط كل ما هو مرئي أو قابل للرصد والمشاهد والقياس اليوم، بل وكذلك كل ما سيكون ممكنناً اكتشافه في المستقبل البعيد و غير المنظور ، بل ويمكننا القول أن مجموع الفقاعات ـــ الأكوان التي تكون فيها القوانين الفيزيائية مماثلة لما يوجد في كوننا المرئي، تدخل في تعريف الكون univers ، الذي يبقى ، مع ذلك، نسبياً .
يعتقد علماء الكونيات الكوسمولوجيا وعلماء الفلك والفيزياء النظرية أن التضخم الكوني الذي حدث في الماضي السحيق للكون المرئي، أي التوسع المتسارع وتمدد المسافات، يمكن أن يخلق تلك الفقاعات ــ الأكوان المتعددة، التي يستحيل التنقل بينها في الوقت الحاضر على مستوى تقدمنا العلمي شبه البدائي مقارنة بالحضارات الفضائية والكونية العليا المتقدمة علينا بملايين السنين.
الاستنتاج العلمي يقول بوجود تعددات كونية أو أكوان متعددة، على الأرجح ، لا متناهية العدد وغير متشابهة ، وإن هذا التنوع والتعدد ينهي أسطورة الإنسان كأفضل مخلوقات الله، والأرض، التي طرده الله من الجنة بسبب خطيئة ساذجة، ليقيم فوقها باعتبارها المعبر الدنيوي الفاني للأجساد المادية، في حين خلد الأرواح، التي مثواها الأبدي سيكون، إما في الجنة أو في النار وفق أطروحة العقاب والثواب الربانية الدينية .
المواصلة


السبب والنتيجة، العلة والمعلول، الصدفة والضرورة، الأصل والمصير، القبل والبعد، البداية والنهاية، المتناهي واللامتناهي، الخ.. من الثنائيات التي بقيت لغزاً على مر الزمن في الفلسفات والأديان وحاولت كل منها تقديم بعض الإجابات غير الكافية وغير المقنعة تماماً إلا لمن اختار أن يؤمن بلا قيد أو شرط بالمسلمات المعطاة له من قبل المؤسسات الدينية ، ثم جاء العلم ليقحم نفسه في هذه المتاهة ويخوض في تلافيفها، فهل نجح في تقديم إجابات وافية وشافية عنها ؟
من البديهي القول أن مفهوم البداية كان الشغل الشاغل وما يزال للأديان ، وهو الآن موضع اهتمام وأولوية للعلم كذلك. ونردد القول بأن نظرية البغ بانغ أو الانفجار العظيم التي تقول أن الكون المنظور أو المرئي، قد ولد بفعل ذلك الانفجار العظيم قبل 13.820 مليار سنة وفق آخر الحسابات الفلكية والكوسمولوجية الأخيرة التي زودنا بها تلسكوب بلانك الفضائي، وفي نفس الوقت ولد المكان والزمان التقليديين اللذين نعرفهما، وهي النظرية الأفضل حالياً الموجودة على الساحة العلمية للتعاطي مع الكون المرئي وتاريخه وأصله ومصيره، في حين هناك فلسفات ونظريات تعترض على ضرورة وجود بداية. قد تكون هناك بداية لكوننا المرئي كما أخبرتنا بذلك نظرية البغ بانغ، لكنها بداية نسبية، فالكون المرئي ليس وحيداً في الوجود. فالانفجار العظيم الذي تقول به الفيزياء المعاصرة، هل هو حدث منفرد في تاريخ الوجود أم مجرد حالة متكررة بلا بداية ولا نهاية على نحو متعاقب ودوري يتكرر كل ــ كذا ــ عدد من مليارات المليارات المليارات من السنين ، مولداً عدداً لانهائياً من الأكوان ، أحدها هو كوننا المرئي؟ وهل يستطيع الوعي البشري بمستواه الحالي، أن يتعامل مع مفهوم البداية أو عدم وجودها؟
لابد في البدء أن نعرف أن هناك في الفيزياء ما يعرف باللامتناهي في الكبر واللامتناهي في الصغر. ولنبدأ بالأول، أي بما هو ما "فوق الذري" إذ أن الثاني هو مجال "مادون الذري".
باختصار شديد، يعتقد العلماء أن الكون المرئي ولد قبل 13.820 مليار سنة بما أصطلح عليه بتسمية الانفجار الكبير أو العظيم البغ بانغ انطلاقاً من حالة لا يمكن تخيلها من نقطة غاية في الصغر وغاية في السخونة والكثافة وبسبب غير معروف ، يعزى إلى تقلبات وتخلخلات أو ترجرجات كمومية أو كوانتية، حصل هذا التغيير والانفجار، الذي أوجد في نفس الوقت الفضاء أو المكان والزمان، ثم تبعه على الفور حدوث توسع هائل وما يزال الكون المرئي في حالة توسع وتمدد ويبرد أكثر فأكثر. فرضت هذه النظرية نفسها بعد أن أعلن العالم الفيزيائي الأمريكي إدوين هابل سنة 1929 أنه لاحظ بأن أغلب المجرات البعيدة تبتعد عن بعضها وعن مجرتنا درب التبانة كما لو أن مجرتنا مصابة بالطاعون وينبغي الابتعاد عنها. وكلما كانت المجرة بعيدة كلما كانت سرعة هروبها أكبر ويعتقد أن جميع المجرات استغرقت نفس الفترة الزمنية لتبلغ مواقعها الحالية انطلاقاً من نقطة البداية والأصل أي الانفجار العظيم وما تلاه. وهكذا أدرج مفهوم الأصل والبداية في العلم الحديث، بديلاً لمفهوم الخلق الفوري المباشر على يد خالق عظيم موجود خارج الكون المرئي. وكان الراهب البلجيكي جورج لوميتر هو أحد الأوائل ممن تحدث بهذا السيناريو، وتحدث عن الذرة البدائية، والعالم الأمريكي من أصل روسي جورج غاموف وصف بالتفصيل هذه الفرضية حتى قبل تحولها إلى نظرية علمية وقال أن درجة حرارة وكثافة الكون المرئي في لحظة الفرادة وما بعدها بثلاث مائة ألف سنة 300000 ، كانت من القوة بمكان، مما منع تشكل أياً من البنى الفيزيائية المعروفة اليوم كالمجرات والنجوم والكواكب والحياة، ولم يكن هناك سوى محيط من الجسيمات الأولية التي انطلقت منها أشعة بدائية أولية ساخنة وذات طاقة هائلة آنذاك ما تزال آثارها موجودة ومنتشرة في محيط الكوني المرئي إلى اليوم والتي عرفت فيما بعد بالأشعة الأحفورية المكروية المنتشرة واحتاجت لمليارات السنين لكي تصل إلى مجرتنا وإلى نظامنا الشمسي وإلى كوكبنا الذي نشأت فوقه حياة عاقلة وذكية ومفكرة ووعي بشري تمكن من اكتشافها و رصدها وقياسها بالصدفة سنة 1965 . اعترض عدد من العلماء على هذا التشخيص بسبب تجيير المؤسسة الكنسية الكاثوليكية لها واعتباره دليلاً على وجود الخالق كما فعل البابا بنديتكت الثاني عشر سنة 1951، لأن الحديث عن بداية للكون وللزمان والمكان من العدم أو اللاشيء أو من نقطة لامتناهية في الصغر تعني لدى رجال الدين والثيولوجيين أن هناك مسبب أول، مستقل، وراء وقوع هذا الحدث . وكذلك لأن هذه النظرية جاءت لتدحض نظرية كوسمولوجية سابقة لها كان يقول بها عدد من العلماء من أمثال البريطاني هيرمان بوندي وتوماس غولد وفريد هويل وغيرهم، ومن بينهم آينشتين في بداياته العلمية وهي نظرية الكون الساكن و والثابت والمستقر والأزلي والأبدي univers stationnaire – Steady state، والتي تتيح لهم تفادي ضرورة وجود خالق وعملية خلق . بيد أن عمليات الرصد والمشاهدة زعزعت هذا اليقين وأطاحت بنظرية الكون المستقر والثابت على حالته . ثم أتاحت التكنولوجيا في سنوات الستينات اكتشاف الكوازارات، وهي أجرام سماوية ناصعة و بعيدة جداً وساطعة تتواجد في التخوم البعيدة للكون المرئي وتبث طاقة مهولة في حجم مركز جداً ، واكتشاف المجرات الراديوية التي تبث طاقتها على شكل موجات راديوية. وبات واضحاً إن أعداد هذا النوع من الأجرام والمحتويات الكونية تنخفض كلما تقدم الكون المرئي بالعمر، وهذا التشخيص العلمي يناقض فرضية الكون الثابت والمستقر على حاله. لكن مسألة العلة والسبب الأول لم تحل لأن هناك من يتساءل من الذي أحدث الانفجار العظيم وما هو السبب ومن هو المسبب؟ la question de la causalité، أي مسألة العلية. هناك فلسفة دينية لكنها ليست سماوية وهي البوذية تقول أن الزمان والمكان ليستا سوى مفاهيم مرتبطة بتصورنا لعالم الظواهر و لا يوجد لها وجود مستقل خاص بها، وبالتالي لا شيء، حتى الزمان والمكان، يمكن أن يتجلى للوعي بلا سبب و لا شروط مسبقة ، بعبارة أخرى لا شيء يمكنه أن يتحول من اللاموجود إلى الموجود وبالعكس، ومن هنا لا يمكن للانفجار العظيم إلا أن يكون مرحلة ما من بين عدد لامتناهي من المراحل داخل استمرارية أزلية أبدية متعاقبة لا بداية لها ولا نهاية. وفي علم الفيزياء تسمى هذه الحالة بحالة ما قبل الانفجار العظيم، وهذا ينافي مسلمة أن الزمن ظهر مع حدوث الانفجار العظيم ولم يكن هناك زمن " قبل" . فمعلوماتنا ووسائلنا وإمكانياتنا العلمية الحالية تمنعنا من الذهاب إلى لحظة البدء، بسبب وجود جدار مانع يتوقف عنده كل شيء وهو المعروف بجدار بلانك le mur de Planck، على إسم عالم الفيزياء الألماني والأب الحقيقي للميكانيك الكمومي أو الكوانتي، ماكس بلانك Max Planck ، الذي كان أول من تصدى لهذه المعضلة. فهناك ما يسمى زمن بلاك وقيمته 10-43 من الثانية ، أي الرقم واحد يأتي صفر ثم فاصلة ثم يليها ثلاثة وأربعون صفراً ، عندما كان الكون بحجم يقل بمقدار عشرة ملايين المليار المليار أو أصغر بهذا المقدار من ذرة الهيدروجين ونصف قطره يساوي طول أو مكان بلانك وقيمته 10-33 من السنتمتر، ولا أحد يعرف على وجه الدقة لماذا هذا القدر الدقيق من الأبعاد والحسابات ولماذا هذه الحدود القطعية ، وهل هي قيم قطعية مطلقة أم قابلة للتغيير، بكل الأحوال يخبرنا العلم الحديث أنه يستحيل علينا اليوم أن نجتاز حائط أو جدار بلانك.
يعكس عجزنا حالة ودرجة جهلنا لأننا لا نعرف كيف نوحد الدعامتين الأساسيتين للعلم الحديث وهما الميكانيك الكمومي أو الكوانتي والنسبية الآينشتينية. وكل واحدة منهما تتخصص بمجال :الأولى باللامتناهي في الصغر والثانية باللامتناهي في الكبر، وكلتاهما صحيح رغم تناقضهما الظاهر. الأولى توصف سلوك وتصرفات الذرات ومادونها والضوء عندما لا تلعب الثقالة أو الجاذبية دوراً يذكر في مجال اللامتناهي في الصغر، والثانية تصف سلوك وتصرفات الأجسام ما فوق الذرية وتتيح لنا فهم الكون المرئي وبنياته وهيكيليته على المستوى الكوني الشاسع ، عندما لا تلعب القوى الجوهرية الثلاثة الأخرى، أي الكهرومغناطيسية والنووية الشديدة والنووية الضعيفة، أي دور يذكر في باليه تراقص وتفاعل المجرات والنجوم داخل الكون المرئي. والحال أننا لا نعرف كيف نصف سلوك المادة والضوء عندما تكون القوى الجوهرية الكونية الأربعة متساوية أو على قيد المساواة وهي الحالة التي كانت موجودة في زمان ومكان أو طول بلانك عند لحظة الفرادة الكونية la singularité cosmique .
إن جدار بلانك لا يجب أن يشكل بحد ذاته حدوداً جوهرية مطلقة لا يمكن تجاوزها لكنه يشكل اليوم علامة أو إشارة على عجزنا وعدم قدرتنا على تخطيه من خلال الجمع بين الميكانيك الكمومي أو الكوانتي والنظرية النسبية بمعادلة واحدة. فهناك خلف جدار بلانك يوجد واقع آخر يستعص على فهم الفيزيائيين والعلماء. وهناك تكهناك وتخمينات وافتراضات عديدة لما يمكن أن يوجد خلف هذا الجدار. فالزمان والمكان المندمجان في كوننا المرئي وفي واقعنا الحالي الملموس داخل نسيج واحد سماه آينشتين " الزمكان" ، قد يكون محطماً في واقع ما قبل أو ما وراء جدار بلانك. والبعض الآخر يقول أن الزمان غير موجود بالمرة هناك وبالتالي لا معنى للقبل والبعد. أما المكان المعزول عن توأمه الزمان فيغدو مجرد رغوة كمومية أو كوانتية عشوائية أو اعتباطية في توبولوجيتها وانحناءاتها، يتعذر وصفها إلا بمنطق الإحتمالية أو وفق مبدأ الإحتمالية la probabilité، الذي هو بطبيعته عشوائي واعتباطي.
توجد فئة أخرى من العلماء ممن يعملون حالياً على نظرية الأوتار الفائقة ، يؤكدون بدورهم أن لا وجود للرغوة الكمومية أو الكوانتية، ويتقدمون باقتراح آخر حسب نظريتهم، يقول أن الجسيمات الأولية للمادة تنجم عن ترددات vibrations لحبال ما دون مجهرية أو أوتار لا متناهية في الصغر يساوي طولها طول بلانك، و لا يوجد ما هو أصغر أو ما دون هذه الأوتار الفائقة وبالتالي لم تعد تطرح مشكلة تقلبات أو تخلخلات fluctuations المكان أو الفضاء في ما تحت هذا البعد المكاني، مما يعني أنها تقدم إمكانية واعدة للجمع أو للتوحيد بين الميكانيك الكمومي أو الكوانتي مع نظرية النسبية ، لكن نظرية الأوتار الفائقة معقدة ومغلفة بمتاهة من المعادلات الرياضياتية الصعبة على غير المتخصصين، ولم يتسن بعد وضعها موضع التجربة والاختبار أو لم تختبر تجريبياً بعد. فلا أحد يعرف ما ذا كان يوجد وراء وقبل جدار بلانك وكم استغرق من الوقت لكي يتحول إلى وجود مادي إثر الانفجار العظيم. فزمن بلانك الذي قيم بــ 10-43 من الثانية ليس قيمة قطعية فرضتها قوانيننا الفيزيائية المعروفة باتجاه حساب الزمن صفر أو الصفر المطلق، بل فقط أن القوانين تتوقف عن العمل فيما وراء هذه القيمة حسب معلوماتنا الحالية ليس إلا. فالفيزياء المعروفة تبدأ باللحظة 10-43 من الثانية بعد الانفجار العظيم. ويعقب الفيزيائيون أن الكون المرئي ولد من " الفراغ" لكنه ليس الفراغ الذي نعرفه ، أي المكان الذي لا يوجد فيه شيء. فهو ليس فراغاً هادئاً وساكناً وخالياً من أي محتوى أو جوهر أو ماهية أو نشاط أو فعل يتعذر علينا تخيله، بل هو فراغ كمومي أو كوانتي vide quantique متخم بالطاقة، حتى لو كان خالياً من المادة التي نعرفها. فالفضاء الذي نعتقده فارغاً يخترق باستمرار بكافة أنواع المجالات والحقول الطاقوية التي يمكن وصفها بصيغة الموجات. ومن هنا يعتقد العلماء أن طاقة الفراغ الكمومي أو الكوانتي الأولية أو الأساسية هي التي أطلقت الكون من الفرادة في حالة انفجار وتوسع مهول مفاجيء سماه علماء الفيزياء التضخم " inflation " الذي أدى بدوره إلى مضاعفة حجم الكون المرئي في زمن لا يمكن تخيله في قصره قيمته 10-35 من الثانية بعد الانفجار العظيم أي عشرة ملايين المليار المليار مرة أصغر من ذرة الهيدروجين إلى ما يقارب حجم برتقالة كبيرة. واستمر الكون المرئي بالبرودة والتمدد مما ساعده على تسريع تركيبته ، من البسيط إلى المركب، فهو كان عبارة عن نقطة لامتناهية السخونة والكثافة بحيث لا يسمح لأية تركيبة كانت أن تتشكل في طياته، ولكن بفضل التضخم والتوسع والبرودة قيض للكون المرئي أن يظهر بمظهره المادي الذي نراه اليوم. ولقد تدخلت طاقة الفراغ مرة أخرى لتولد المادة التي صاغها آينشتين بمعادلته الشهيرة وهي مفتاح لفهمنا لعلاقة المادة بالطاقة وهي : الطاقة تساوي الكتلة مضروبة بمربع سرعة الضوء E=mc2 . بتعبير آخر يمكن لكمية من الطاقة أن تتحول إلى كتلة، أي إلى جسيمات مادية والعكس صحيح . فالجسيمات الأولية مثل الكواركات والإلكترونات على سبيل المثال لا الحصر، تنبث من الفراغ التأسيسي وتتفاعل فيما بينها وتتجمع على نحو يؤدي إلى تشكل الذرات والجزيئات وفيما بعد النجوم والمجرات والكواكب ونحن البشر. تتجمع النجوم بمئات المليارات مكونة مجرات وهناك مئات المليارات من المجرات في كوننا المرئي وحده. وفي إحدى هذه المجرات ، وهي مجرة الطريق اللبني أو درب التبانة،" la voie lactée، هناك نجم عادي متواضع و متوسط الحجم يقع في أحد أطرافها أو ضواحيها إسمه الشمس وحوله كواكب متنوعة الحجم والطبيعة والتكوين، غازية أو صخرية، من بينها كوكب صخري إسمه الأرض تواجدت في محيطاته ومياهه جزيئات تجمعت وتفاعلت بمساعدة الماء وضوء الشمس وعناصر أولية كالكاربون والأوكسجين زودتنا بها النجوم المتفجرة، وتحولت إلى جزيئات عضوية حية على شكل تشكيلات حلزونية أو سلسلة الحوامض الأمينية الــ ،ADN ، التي قادت بدورها إلى ظهور الحياة على الأرض. ومن ثم تطورت هذه بدورها وفق نظرية التطور والانتخاب الطبيعي على مدى ملايين السنين ، لتوجد النبات والحيوان والإنسان ، ولتزود هذا الأخير بالوعي وملكة التفكير la conscience، الذي منح الإنسان القدرة على التفكير والتساؤل والتأمل في الكون المرئي الذي يعيش فيه وبما فيه من محتويات.
لا يمكننا تطبيق الفيزياء وقوانينها التي نعرفها في مرحلة ما وراء جدار بلانك كما يعتقد الكثير من العلماء، فمن الممكن أن يكون هناك زمن لا نهائي من نوع آخر سماه البعض الزمن الخيالي قبل الانفجار العظيم، أو ربما غياب وعدم وجود للزمن ، على الأقل بصورته التي نعرفها وندركها بحواسنا. أو أن لكل فترة أو حلقة تعاقبية يظهر فيها انفجار عظيم يولد كونه الخاص به وبالتالي زمانه الخاص به ومكانه الخاص به أيضاً وقوانينه الجوهرية الخاصة به التي قد تكون نسخة طبق الأصل لما يوجد في كوننا المرئي أو مخالفة لها كلياً، وبالتالي لم تعد تطرح مشكلة نشوء الزمن من خدش في التركيبة الأساسية أو من الزمن صفرtemps Zéro ، وهي طريقة لاستئصال وإنهاء مشكلة الخلق، لكنها تظل مجرد افتراضات ومضاربات خيالية أو تخيلية لا أساس علمي راسخ لها، ولا تأكيد علمي لها من خلال التجربة والمشاهدة والاختبار. إذ يجادل المعارضون ، خاصة رجال الكهنوت وقادة الثيولوجيا الدينية ويطرحون السؤال التعجيزي المكرر دوماً :" من الذي خلق أو أوجد الفراغ الذي تتحدثون عنه أو العدم إذا كان هناك عدم مقابل الوجود ؟ ويرد عليهم الماديون :" لو افترضنا جدلاً بوجود خالق عظيم يكون هو السبب الأول للوجود فمن الذي خلق أو أوجد هذا الخالق أو المهندس الأول أو القوة المولدة الأولى ، حسب مختلف التسميات للعلة الأولى؟ لنتذكر تفصيل طريف في هذا الصدد يتعلق بعالم الرياضيات والفيزياء الفرنسي الكبير في القرن الثامن عشر بيير سيمون لابلاس عندما قدم لنابليون كتابه الموسوم " بحث في الميكانيك السماوي" وسأله الإمبراطور بعد أن قرأه :" لماذا لم تذكر ولا مرة واحد المهندس والمصمم الأول لهذا الصرح الكوني؟ فرد عليه لابلاس :" سيدي لا حاجة لي بهذه الفرضية". بيد أن السؤال يظل مطروحاً لماذا يوجد كون؟ ولماذا توجد قوانين جوهرية ثابتة؟ ولماذا وجد الانفجار العظيم؟ كما طرح الفيلسوف الشهير ليبنز Leibinz تساؤله الفلسفي الذي كان له صدى كبير لدى العلماء:" لماذا يوجد شيء بدلا من لاشيء؟ فاللاشيء أسهل من الشيء لأنه يحسم الأمر مرة وإلى الأبد ويغلق باب النقاش، ولكن علينا أن نجد الإجابات عن هذه الــ " لماذا" ، لماذا توجد الأشياء بهذا الشكل وليس على نحو آخر؟
كان الحل الوحيد الممكن للخروج من هذا المأزق الفلسفي والوجودي علمياً هو عدم اعتبار البغ بانغ" الانفجار العظيم"، هو البداية الوحيدة والمطلقة للكون بل مجرد مرحلة أوجدت كوننا المرئي الذي يسبقه عدد لا متناه من الأكوان المتعاقبة التس سبقته وسوف تعقبه، وحيث يوجد معه الآن وفي نفس وقت وجوده عدد لا متناه من الأكوان الموازية والمتداخلة معه في أبعاد خفية غير مرئية . فلو كان كوننا المرئي يحتوي على قدر كاف من المادة فبإمكان القوة الجاذبة في ثقالة هذه المادة في وقت ما، وقف التوسع الكوني وكبحه وعكس حركته واتجاهه، من التوسع إلى الإنكماش والتقلص ودفع المجرات بدلا من الهروب والابتعاد عن بعض ، إلى الاقتراب من بعضها البعض، عندها سنحصل على بغ بانغ معكوس حيث ستتركز كل المادة في نقطة فرادة جديدة غاية في السخونة والكثافة بفعل الإنهيار والإنكماش والتقلص الكبير Big Crunch، حيث ستتبخر النجوم وتتفكك المادة إلى جسيمات أولية في حرارة مهولة وسيجد الكون المرئي نفسه في حالة تأليه ضوئي مذهل وفنطازي، مكثف في حيز مكاني لا متناه في الصغر يسميها العلماء درجة الكثافة الحرجة، وفي درجة حرارة قصوى تسمى بالدرجة الحرجة ويختفي الزمان والمكان المألوفين مرة أخرى ولكن تبقى المعلومة l’information حية باقية لا تفنى ، وبعد مرحلة إنهيار الكون المرئي على نفسه، تأتي مرحلة إعادة إنبعاث كون مرئي جديدة كما هو حال العنقاء التي تبعث من جديد من رمادها كما تقول الأسطورة ، ليبدأ مرحلة جديدة ربما بنفس قوانين الفيزياء الجوهرية السابقة أو بقوانين فيزيائية جديدة ومختلفة تماماً، فنحن لا نمتلك أية معطيات علمية دقيقة ومثبتة عن حدود وخصائص وماهية ما وراء جدار بلانك.
معضلة الزمن

لا توجد ديانة و لا توجد فلسفة ولا يوجد علم، ما لم يواجهوا معضلة الزمن. ولقد عبر عن ذلك بأناقة الفيلسوف والكاتب الفرنسي غاستون باشلار Gaston Bachelard بجملة الشهيرة:" إن التأمل في الزمن هو المهمة الأولية لأية ميتافيزيقيا ". لأن الميتافيزيقيا هي الحجر الأساس للتفكير البشري إلى جانب الواقع والطبيعة. فالفيزياء المعاصرة تمكنت من التحرر من مفهوم الزمن المطلق والشامل الذي صاغه إسحق نيوتن بقوانين الميكانيك الطبيعي وقيدت نفسها بمفهوم الزمن النسبي المطواع الذي صاغه ألبرت آينشتين وهو زمن يمكن أن يتباطأ أو يتسارع حسب حركة المراقب أو كثافة مجال أو حقل الثقالة أو الجاذبية الذي يتواجد فيه الزمن. وبالتالي فهو لم يعد شمولياً وكونياً، بل متغيراً. فماضي واحد من الناس قد يكون مستقبلاً لآخر . وهناك فرق بين الزمن الفيزيائي الذي يتعامل معه العلم والزمن النفسي أو السيكولوجي الذي يتعامل معه الناس ويشعرون به. وحتى اتجاه سهم الزمن المألوف الذي ينطلق باتجاه واحد ثابت لا يتغير ولا يمكن عكسه، لم يعد صالحاً فهو ليس أكثر من ملصق أو عنوان معنوي ونفسي ليس إلا.
ليس من السهل الإحاطة بوضوح بمفهوم الزمن، كما لمس ذلك الفيلسوف المسيحي القديس أوغسطين في القرن الرابع الميلادي حين قال:" ما هو الزمن؟ إذا لم يسألني أحد عنه فأنا أعرف، ولكن ما أن يسألني أحدهم عنه، ويطلب من أن اشرحه له، فإني أجهل ما هو ولم أعد أعرف كيفية مقاربته". وللزمن أهمية في الفيزياء وفي الميتافيزيقيا، وما أن يبدأ العلماء بدراسة الطبيعة حتى يصطدموا بمعضلة الزمن إذ أن هذا الأخير يحسب ما هو موجود أو ما هو سريع الزوال والحال إن العلماء يبحثون عن القوانين الدائمة، أي العلاقات اللامتغيرة الراسخة وغير القابلة للتنوع والتي تفلت من مصيدة التبدل.
كان غاليلو غاليله أول من أدخل الزمن كبعد فيزيائي جوهري لتنظيم وربط حساباته رياضياً، خاصة تلك المتعلقة بحركة الأشياء، وذلك منذ القرن السادس الميلادي. ثم جاء نيوتن في القرن السابع عشر ليصيغ أول تعريف واضح للزمن في إطار قوانين الميكانيك النيوتني. فهو يحدد حركة الأجسام في الفراغ بتحديده لموقعها وسرعتها في أوقات متعاقبة. فالزمن النيوتني ، بهذا المعنى، فريد من نوعه، مطلق، وشامل، ولا يتغير ولا يـتأثر بمحيطه، أي مستقل عن الأشياء والمكان. فهو يجري بنفس الطريقة بالنسبة لأي شخص ولأي مراقب في الكون المرئي، حيث الجميع يتقاسمون نفس الماضي والحاضر والمستقبل. فالزمن والمكان متميزان ومنفصلان عن بعضهما على نحو صارم وقطعي. فالزمن يجري ويمضي دون أن يتأثر بأي تفاعل مع المكان .
وفي بداية القرن العشرين، وبالتحديد سنة 1905، تم الطعن بهذا المفهوم الجامد للزمن المطلق على يد آينشتين في نظريته النسبية الخاصة. لقد فقد الزمن جموده وتصلبه وطابعه الشمولي والإطلاقي الذي منحه إياه نيوتن. فلم يعد غير مبالي بالكون المرئي الذي يجري فيه على نحو ثابت كما كان يعتقد الناس، بل بات مطاطياً مطواعاً وتبين أنه يعتمد على، ويخضع إلى، حركة وسرعة المراقب، وكثافة المحيط المكاني الذي يحتويه. فكلما أسرعنا كلما تباطأ الزمن، وهو المبدأ الذي ورد في نسبية آينشتين الخاصة ، أي تباطؤ الزمن مع السرعة. فالشخص الذي يسافر على متن مركبة فضائية تسير بسرعة 87% من سرعة الضوء سيلمس أن زمنه ينخفض للنصف ويشيخ بمقدار النصف عن توأمه الذي بقي على الأرض. إن هذا التباين في الزمن حقيقي ومثبت علمياً بالتجربة المختبرية بفضل الساعات الذرية البالغة الدقة. ولقد أطلق العالم الفيزيائي الفرنسي لانجفان Langevinعلى هذه الظاهرة الفيزيائي العلمية تسمية " مفارقة التوأم" لكننا لا نشعر به في حياتنا اليومية نظراً لضآلة السرعات التي نمارسها لكنها تبدو واضحة للعيان كلما اقتربنا من سرعة الضوء وهي 300000 كلم/ثانية، فلقد أظهرت الحسابات الكومبيوترية أن الزمن يتقلص سبع مرات إذا سرنا بمعدل 99% من سرعة الضوء، ويتباطأ بمقدار 22.4 مرة إذا سرنا بمعدل 99.9% من سرعة الضوء ويصبح الزمن صفراً إذا بلغنا سرعة الضوء.
التطور الجوهري الآخر الذي أصاب مفهوم الزمن هو أنه لم يعد مستقلاً عن المكان، فآينشتين جعلهما زوجين مرتبطين معاً إلى ألأبد. فالمكان يغدو هو الآخر بدوره مطاطاً ومطواعاً، فسلوك الزوجين، المكان والزمن، متكامل، ولهما نسيج واحد سماه آينشتين " الزمكان" فعندما يتمدد الزمن ويغدو أبطأ فإن المكان بدوره يتقلص. فلو غادر أحد التوأمين الأرض على متن سفينة فضائية تطير بسرعة 87% من سرعة الضوء فإنه سوف يشيخ بمقدار نصف المدة التي سيشيخ فيها شقيقه الباقي على سطح الأرض لأن الزمن يتباطأ بالنسبة له بمقدار النصف ، كما ستبدو السفينة الفضائية بالنسبة للشقيق الباقي على الأرض كأنها تقلصت إلى نصف حجمها، فالتشوهات والتغيرات التي تمس الزمان والمكان يمكن اعتبارها بمثابة تحولات للمكان إلى زمان وبالعكس. فالمكان الذي يتقلص يقابله تمدد واستطالة في الزمان وبالعكس. من هنا اعتبر آينشتين أن للكون أربعة أبعاد ثلاثة مكانية هي الطول والعرض والارتفاع والرابع هو الزمن، ولتحديد إحداثيات أي جرم سماوي في الكون المرئي يجب إعطاء الأبعاد المكانية الثلاثة والبعد الزماني الرابع .
كما إن الزمن يتباطأ أيضاً ليس فقط بفعل السرعة فحسب ، وإنما كذلك بفعل الجاذبية أو الثقالة كما أعلن آينشتين ذلك سنة 1915 في نظريته النسبية العامة. فالجسم الموجود بالقرب من ثقب أسود ضخم يتأثر بجاذبية الثقب الأسود المهولة ويسير الزمن بالنسبة له ببطء شديد أما في داخل الثقب الأسود فالزمن يصبح صفرا ويندمج الماضي والحاضر والمستقبل في لحظة واحدة وهو أمر يصعب إدراكه أو تصوره من قبل الإنسان العادي. فالزمن ليست متشابهاً لكل شخص. فحاضري يمكن أن يكون ماضي لشخص آخر ومستقبل لشخص ثالث في حال كونهما متحركين بالنسبة لي ومرتبطين بحركتهما بي. لأن مفهوم التزامنية يفقد معناه، ومفردة " الآن" تغدو غامضة وبلا معنى. فمرور الزمن حسب آينشتين ليس إلا وهم.
لابد من تمييز الزمن النفسي أو السيكولوجي وهو ذاتي subjectif، عن الزمن الفيزيائي الذي من المفترض أن يكون موضوعياًobjectif ويمر بالتساوي أو يجري على نحو غير منتظم وغير متماثل ولا يعتمد على وعينا وغير مرتبط به. فالزمن الفيزيائي هو زمن الساعات Horloges . ونقيسه وفق حدوث حركة منتظمة كتذبذبات ذرة أو حركة دوران الأرض على نفسها الخ.. لذلك فإن الحديث عن الزمن أو المكان قبل ولادة الكون المرئي ليس له معنى، لعدم قياس أية حركة تذكر آنذاك. ففي نظرية الانفجار العظيم البغ بانغ، ولد الزمن والمكان في آن واحد بالتزامن مع ولادة الكون المرئي. ولقد عبر القديس أوغسطين عن ذلك بحذاقة قائلاً :" إن الزمن ظهر مع ظهور العالم، ومن السخافة بمكان التفكير بأن الله انتظر زمناً لانهائياً قبل أن يقرر خلق العالم. فالزمن والعالم ظهرا معاً في نفس الوقت:" فالعالم خلق ليس داخل الزمن بل مع الزمن" وهو ما أكدته المعارف الحديثة في علم الكونيات الحديث أو الكوسمولوجيا المعاصرة.
بيد أن هذه المقاربة تنطوي على مفارقة وهي : هل إن الله موجود خارج الزمن أم داخله أم وجد معه في نفس لحظة خلقه للكون والزمان والمكان؟ هل الله موجود زمانياً قبل خلق الكون؟ و ما هو الزمن المناسب له قبل ظهور الزمن الفيزيائي المخلوق على يديه ؟
هناك الزمن النفسي وهو يطول ويقصر حسب الحالة النفسية والسيكولوجية وشعور المرء ومكان تواجده فتارة تبدو اللحظات تجري ببطء شديد وتارة أخرى تبدو وكأنها تجري بسرعة كبيرة حسب علاقاتنا بالطبيعة والمحيط والظروف السيكولوجية لكل واحد منا . وهذا هو الزمن الواقعي وهو نسبي وبسيط حيث الماضي مليء بالذكريات والمستقبل مليء بالانتظارات والتمنيات، فنشاطنا العقلي والدماغي هو الذي يجعلنا نشر بمرور الزمن. وهناك الزمن المركب وهو زمن متخيل أو خيالي وله وجود رياضي وتجريدي وهو النوع الذي يمكن أن يكون موجوداً قبل الانفجار العظيم الذي يسميه البعض بالزمن الإلهي. فداخل الكون المرئي لا توجد كينونة واحدة للزمن فهو مختلف في كل مكان فنحن على الأرض نتلقى الضوء القادم من نجوم بعيدة جداً لكنه عندما يصل إلينا يكون قد استغرق وقتاً طويلاً، ولو كان ينقل لنا صوراً عن الحياة داخل تلك النجوم فإنه سينقل لنا ماضيها البعيد لأنها قد تكون ماتت واندثرت منذ مليارات السنين عندما يصل ضوئها إلينا، في حين يكون وصول الضوء الصادر من تلك النجوم إلى أنظمة شمسية قريبة منها ينقل ماضيها القريب جداً وربما حاضرها لو كانت تلسكوبات تلك الكواكب ترصدها على نحو مباشر كما نرصد نحن القمر ومن الممتع مشاهدة فيلم انترستيلر interstellaires لأخذ فكرة عن موضوع تباين الزمن حسب الحركة والسرعة والاقتراب من الثقب الأسود.

الكون باعتباره تركيبة أو بنية وكينونة رياضياتية

ماتزال معلوماتنا ومعرفنا محكومة بحسابات نظرية الاحتمالات بالرغم من تقدم وسائل الرصد والمراقبة والمشاهدة وتطور التكنولوجيا المرتبطة بها، لكنها لم تصل بعد إلى حلول وتفسيرات ناجعة ومقنعة فيما يخص قانون العلة الأولى، وأبدية القوانين الكونية الجوهرية، وحقيقة المنظور الاحتمالي للعالم . وعند التمعن في الطبيعة وفي ماهيتها الحقيقية والتأمل في سرها وجوهرها يطرأ على أذهاننا التساؤل التالي، وهو ليس بالبريء، ماهي الآلية العلمية والنظرية الملائمة لوصف الطبيعة؟ لايوجد لدينا وسيلة أخرى غير الرياضيات وهل يمكن أن نوصف الطبيعة بغير الرياضيات التي هي لغتها الحقيقية؟ بل يمكننا القول أكثر وأبعد من ذلك، فماذا لو كانت الطبيعة هي ذاتها ليست سوى ماهية رياضياتية؟ أو بنية رياضياتية une structure mathématique؟ والمقصود هنا ليس بضعة جوانب من الطبيعة بل جوهرها ذاته بما فيه مكوناتها التأسيسية ونحن جزء منها بالطبع . هذه فرضية علمية لم تثبت بعد مختبرياً بل فقط رياضياتياً لكنها تستند على دعامتين: الأولى ، فرضية تقول بوجود واقع خارجي مادي ملموس يرمز له بــ HRE وهي الحروف الأولى من Hypothèse de la réalité externe . بعبارة أخرى يوجد واقع خارجي مستقل تماماً عن الكائنات البشرية وهو موجود قبل ظهور الكائن البشري بمليارات السنين. والثانية، هي فرضية الكون الرياضي أو على نحو أدق الرياضياتي والذي يرمز له بــ HUM وهي الحروف الأولى من Hypothèse de l’univers mathèmatique، بتعبير آخر هو إن واقعنا الفيزيائي الخارجي ما هو إلا مجرد بنية رياضياتية غير مرتبطة بالكائن البشري. كما ذكر ذلك العالم السويدي المقيم في الولايات المتحدة والمدرس في معهد MIT معهد ماسوشوسيتس للتكنولوجيا الشهير وهو ماكس تغمارك MAX TEGMARK في كتابه الرائع " كوننا الرياضياتي :notre univers mathèmatique . وعند العثور على تعريف منطقي ووافي ومقنع لصيغة البنية الرياضياتية فإن الدعامة الأولى ستتضمن وتنطوي على وجود الدعامة الثانية الحتمي ، والحال أن أغلب العلماء يتفقون بنحو أو آخر على وجود واقع خارجي مستقل عنا نحن البشر لكنهم يترددون بقبول الفرضية أو الدعامة الثانية. بل حتى الدعامة الأولى تغدو أحياناً محل جدل بين أنصار التفسير الميتافيزيقي للواقع والذي لايعترفون بوجود واقع منعزل عن البشر، يضاف إليهم بعض من جماعة تفسير كوبنهاغن من مشاهير نظرية الميكانيك الكمومي أو الكوانتي لأنهم يعتقدون بعدم وجود واقع خارج فعل الرصد والمشاهدة. فالواقع الذي نعرفه غير موجود من وجهة نظرهم إلا إذا وقع عليه فعل رصد ومراقبة ومشاهدة وتفاعل معه .
لو افترضنا وجود واقع خارجي فإن النظريات الفيزيائية ستتكفل بمهمة وصفه وشرح طريقة سيره وعمله، بيد أن أفضل نظرياتنا الراسخة والتي ثبتت صحتها وصلاحيتها تطبيقياً ومختبرياً ، وهي النسبية العامة لآينشتين والميكانيك الكمومي أو الكوانتي، لا تصف إلا على نحو جزئي غير كامل هذا الواقع المستقل عنا. فالنظريتان تصفان على نحو منفصل، الجاذبية أو الثقالة كالنسبية، وسلوك الجسيمات الأولية وما دون الذرية كالنظرية الكمومية أو الكوانتية. والحال يحتاج الأمر لوجود الكأس المقدسة Le Graal في الفيزياء النظرية المعاصرة، أي صياغة نظرية موحدة وجامعة وشاملة بمعادلة واحدة تقدم لنا وصفاً وتفسيراً شاملاً وكاملاً وناجعاً ووافياً للواقع .
المفارقة المطروحة هي لو أننا افترضنا وجود واقع خارجي مستقل عن الكائن البشري، فلا بد من إيجاد وصف كامل وتام لهذا الواقع، وذلك لابد أن يتم بواسطة كائنات ليست بشرية أو مخلوقات فضائية ذكية وعاقلة ومتطورة ، أو آلات وكومبيوترات متطورة ومتقدمة جداً ،ذكية وعاقلة ومفكرة وتتجاوز قدرات البشر بكثير، يمكنها أن تتجاهل كلياً المفاهيم البشرية . أي إن مثل هذا الوصف ينبغي أن يكون خالياً من المفاهيم البشرية المألوفة وذو مظهر مفرغ تماماً من الأمتعة البشرية المتراكمة عبر العصور من المفاهيم والأسماء كالجسيمات والمشاهدة وغير ذلك من المفردات البشرية.
العقبة التي تواجهنا هي أن جل النظريات الفيزيائية المتوفرة لدينا تتضمن معادلات رياضية وضعها البشر مع المتاع المتراكم لديهم من المفردات والمصطلحات والمفاهيم اللغوية البشرية لكي تفسر لنا كيفية تشخيص المعادلات الرياضية لما نرصده ونراقبه ونشاهده بأدواتنا البشرية ونتعاط معه حسياً وحدسياً. فعندما نضع نظرية ما ندخل إليها ، إلى جانب ما يتواجد من حصيلة سابقة، مفاهيم جديدة وكلمات ومفردات لغوية تعبر معانيها عن هذه النظرية مثل فوتونات، بروتونات، الكترونات، ذرات،جزيئات،خلايا، نجوم، ومجرات الخ..دون أن ننسى أمراً مهماً وهو أن الكائنات البشرية هي التي اختلقت وأوجدت هذه المفاهيم ومعانيها وشروحاتها. كما يمكن أن يتم ذلك من خلال الحسابات المجردة دون اللجوء إلى تلك المفاهيم والمفردات ، بل نستخدم فقط الأرقام والأعداد والإشارات والرموز الرياضياتية لكنها أيضاً من صنع البشر. وبإمكان كمبيوتر عملاق ونموذجي أو مثالي يفوق البشر بكثير أن يقوم بحساب التطورعبر الزمن الذي شهده كوننا المرئي دون الحاجة لترجمة نتائجه بعبارات بشرية ، وذلك من خلال حساب وتقويم كل الجسيمات الأولية المكونة أو التأسيسية للكون المرئي دون أن نسميها بهذه التسمية ، أو حساب التنويعات والمتغيرات التي تحدث لدالة الموجة La fonction d’onde.
ولتوضيح الفكرة أكثر، لنأخذ جرم سماوي، على سبيل المثال أحد النجوم في الفضاء، سوف ندرك أن كلمة نجم هي مفردة بشرية باللغة العربية، ولها تنويعات لغوية في كل لغات العالم عند البشر الذين يسكنون الكرة الأرضية. ولكن يمكن أن نشير إليها بطريقة أخرى ونقول عنها مثلاً أنها كينونة أو مجموعة من المكونات تحتوي على ما يزيد عن 1075 من الذرات المرتبطة ببعضها ثقالياً ومحكومة بأربعة قوانين جوهرية، وإن جزء من هذه الذرات يقوم بتفاعلات الاندماج النووي وهذه العبارة تنطبق على الشمس التي هي إحدى النجوم. والحال أن الطبيعة تحتوي على عدد هائل من الكينونات التي تبحث عن تسميات من قبل البشر الذين يتحدثون لغات مختلفة لمعنى واحد مشترك بينها جميعاً. وهذا ينطبق أيضاً على حضارات فضائية أو كونية غير بشرية تعيش في أنظمة شمسية أخرى خارج نظامنا الشمسي وربما في مجرات أخرى خارج مجرتنا درب التبانة حيث يمكنها أن تبتكر مسميات خاصة بها ليست بالضرورة لغوية أو صوتية بل قد تكون مجرد إشارات ورموز لما نسميه نحن النجوم والمجرات في حال كانت تتواصل فيما بينها بالتخاطر وليس بلغات صوتية. ما أريد قوله هو أن بالإمكان دائماً التكهن رياضياتياً بوجود تلك الكينونات دون أن نسميها وذلك بالاعتماد على معادلات رياضية تتحكم بأجزائها من أصغر شيء في اللامتناهي في الصغر إلى أكبر شيء في اللامتناهي في الكبر وما على البشر فيما بعد سوى اختلاق تسميات تضفى عليها في كافة المستويات . ولنأخذ مثالاً بديهياً عن ذلك. فلو تمكنا من حل معادلة شرودينغر لخمسة كواركات أو أقل لنقل ثلاثة، فلن نتوصل سوى إلى طريقتين لضبطهما وجعلهما مستقرين. فإمكان أن يكونا كواركين علويين UP وواحد سفلي down أو العكس إثنين سفليين وواحد علوي ويمكننا تسميتهما بالبروتونات والنيوترونات . وهناك في الطبيعة ، وفق معادلة شوردينغر، ما يربو على 257 طريقة للضبط والتنظيم لتلك المكونات والعناصر التي تفرزها الطبيعة والتي منحها البشر تسميات مثل الهيدروجين والهليوم والنتروجين الخ.. وذلك وفق نواها الذرية ses noyaux atomiques ، كما تعلمنا معادلة شوردينغر كيف نحسب كافة الطرق لتنظيم وتجميع الذرات للخروج بأشياء أكبر نطلق عليها أسماء مثل كرستال ، ماء ، غرافيت، جواهر، الخ.. المشكلة أننا تعرفنا على النجوم قبل أن نعرف أنها مكونة من ذرات تتفاعل، واكتشفنا الذرات قبل أن نعرف أنها مكونة من إلكترونات وبروتونات ونيوترونات، وعرفنا النيوترونات قبل أن نكتشف أنها مكونة من كواركات. فكل النظريات العلمية التي في حوزتنا لديها معادلاتها الرياضياتية ومصطلحاتها التي تفسر لنا كيف تتطابق هذه الأشياء مع ما نرصده ونشاهده ونراه . فالميكانيك الكمومي أو الكوانتي يمتلك معادلة شوردينغر ومعها مسلمات جوهرية عرفت كمصطلحات ومفاهيم مثل اختزال حزمة الموجة réduction du paquet d’onde التي سنتطرق إليها لاحقاً في دراسة قادمة.
بقي أمامنا أن نكتشف الكأس المقدسة للفيزياء النظرية Le Graal التي يطلق العلماء عليها تسمية نظرية كل شيء ToE وهي الحروف الأولى للتسمية االإنجليزية theory of Everything وبالفرنسية Théorie du Tout والتي من شأنها الجمع والتوحيد بين الجاذبية أو الثقالة مع الميكانيك الكمومي أو الكوانتي في نظرية واحدة بمعادلة واحدة بمقدروها أن تقدم لنا وصفاً كاملاً وشاملاً للطبيعة والواقع الفيزيائي الخارجي على أن يكون متحرراً وخالياً من المتاع البشري الجاهز أي بدون مفاهيم بشرية وما هي سوى مسألة وقت ليس إلا.

هناك عدة نظريات فيزيائية معاصرة تتنافس للفوز بلقب نظرية كل شيء ولقد تكرست ثلاثة منها وهي : نظرية التناظر الفائق، ونظرية الأوتار الفائقة، ونظرية الثقالة الكمومية أو الكوانتية الدورية أو المتعاقبة . La super symétrie, Les super cordes, La gravité quantique à boucle . وعند التمعن في تفاصيل هذه النظريات الثلاثة ودراسة معادلاتها الرياضية سوف نطرح على أنفسنا السؤال التالي: هل من الممكن حقاً أن نكتشف مثل هذا الوصف الكامل للواقع الخارجي من خلالها بدون الحاجة للتراكم والمتاع المعرفي والمفهومي البشري في هذا المجال بما فيه من مفاهيم ومصطلحات ومسميات؟ وفي هذه الحالة، هل من المفترض أن يكون مثل هذا الوصف للواقع الخارجي وعلاقاته التبادلية، تجريدياً تماماً parfaitement abstraite بحيث تكون كل كلمة وكل رمز أو إشارة فيه لا تعدو كونها سوى علامة خالية من أي معنى مسبق أو مصمم مسبقاً préconçu ، وإن الميزات و الخواص أو الخصائص المرتبطة بهذه الكينونات هي تلك التي تجسد العلاقات المتبادلة فيما بينها؟ للإجابة عن هذا السؤال يتعين علينا أن نعرف على وجه الدقة ما هي البنيات أو التركيبات الرياضياتية Les Structures Mathématiques والتي يمكن اختصارها بالقول أنها مجموعة كينونات مجردة أو تجريدية تتمتع بنوع من العلاقات فيما بينها، مثل الأعداد التامة أو الكاملة Nombres entiers والأشكال الهندسية Objets Géométriques كالهرم والمضلع والمكعب والمسدس، و السطوح الثنعشرية ، والتي كانت تحظى بالتفضيل لدى الفيثاغوريين.
لقد تطورت الرياضيات المعاصرة للتعامل مع المسائل الأكثر عمومية. فالرياضيات المعاصرة هي دراسة شكلية رسمية للتراكيب والبنيات المجردة أو التجريدية أو التي يمكن أن تعرف على نحو تجريدي محض بدون تسميات أو مسميات بشرية كالقول أن 4X2 =2 ، والحقيقة أننا لا نبتكر التراكيب أو البنى الرياضياتية بل نكتشفها، ومن ثم نختلق التصنيف لوصفها كما هو الحال في الأشكال الهندسية المعروفة كالمخروط والهرم والمضلع والرباعي الوجوه ، والمكعب والمسدس، والمجسم الثماني، و السطوح الثنعشرية، و الشكل العشروني الوجوه الخ ، والتي تعرف بالفيزياء باسم الأشكال الخمسة الصلبة لأفلاطون Les Cinq Solides de Platon، وهي يمكن أن تكون أشكال للأكوان المختلفة.
فالقول بنظرية الكون الرياضي تفرض علينا تساؤلات عديدة من قبيل: 1 ـ ما هي التركيبة أو البنية الرياضياتية بالضبط؟ 2 ـ كيف يمكن لعالمنا الفيزيائي أن يكون بنية أو تركيبة رياضياتية على وجه الدقة؟ 3 ـ وهل سيتيح لنا ذلك أن نقوم بتكهنات وتوقعات وتنبؤات قابلة للاختبار وخاضعة للتجربة؟ . وللإجابة على كل سؤال من هذه الأسئلة نحتاج إلى كتاب كامل لشرحه والإجابة عليه وهو متعذر في الوقت الحاضر لضيق الوقت والمساحة المحددة لهذه المقالة. ولكن نقول باختصار شديد ، لو كانت فرضية الكون الرياضي صحيحة فإن ذلك سينطوي بالضرورة على القبول بمسلمة أن كوننا ما هو إلا بنية أو تركيبة رياضياتية بحتة ، وانطلاقاً من وصفها رياضياً على يد عالم رياضيات فذ وعبقري ، نستطيع أن نحيد جميع نظرياتنا الفيزيائية بعد أن نقوم بحساب التناظرات لهذه البنية أو التركيبة الرياضياتية كأول خطورة ضرورية . من هنا تجرأ بعض العلماء على القول أن واقعنا الفيزيائي الخارجي ليس مادياً سوى في ظاهره وما هو إلا تركيبة أو بنية رياضياتية مجردة ليس إلا. وهذا سيقودنا حتماً إلى نمط أو نوع جديد من تعدد الأكوان Multivers كما تصوره العالم ماكس تغمارك في كتابه الرائع الكون الرياضي، وهو أوسع وأشمل من أي نوع من أنواع العوالم والأكوان المتعددة . ولكن هناك مفارقة علينا توضيحها وهي أن عالمنا الفيزيائي الذي نعرفه، يوجد في حالة تطور دائم في حين أن التركيبات والبنيات الرياضياتية ثابتة ، فهي موجودة فحسب، فكيف لهذه الأخيرة وبهذه الخاصية أن تمثل عالمنا أو تجسده وتجسمه؟ بعبارة أدق، كيف يمكن لواقع فيزيائي أن يكون تركيبة أو بنية رياضياتية؟ لنعد لمفهوم الواقع الزماني ولمفاهيم النسبية العامة التي قدمها لنا آينتشين ونستعين بها فهذا العالم الفذ علمنا أن هناك طريقيتين لإدراك الواقع الفيزيائي: إما كمنطقة ثلاثية الأبعاد نسميها المكان espace، والتي تتطور فيها الأشياء في سياق الزمن وداخله، أو كمنطقة رباعية الأبعاد سماها الزمكان حيث الزمان ليس مستقلاً عن المكان بل جزء أساسي من هذه الصيغة أو النسيج المسمى الزمكان غير المخلوق وغير القابل للفناء. فالمكان هنا ليس موضع توجد بداخله الأشياء والمحتويات الكونية، والزمان ليس عنصراً مستقلاً يجري دون أن يؤثر عليه شيء، بل وحتى الزمكان لا يتواجد داخل المكان والزمان بل العكس أي الإثنان يتواجدان فيه وبالتالي يمكننا القول أن الواقع الفيزيائي الخارجي المذكور أعلاه هو تركيبة أو بنية رياضياتية وهي كينونة تجريدية ثابتة بطبيعتها وجوهرها، خارج المكان والزمان التقليديين النيوتنيين وقوانين نيوتن عن الحركة والجاذبية، أي كالفيلم داخل قرص الـ د ف د DVD فالزمكان يضم ويحتوي كل الأوضاع والأوقات فلا توجد لحظة مشتركة للجميع ولا مكان مشترك للجميع ، ولهذا قال آينشتين بهذا الصدد:" أن التمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى وهم مهما كان عناده" وشدد آينشتين على حقيقة أن أي من هذه المفاهيم لا يمتلك معنى موضوعي في الزمكان. فالمفاهيم المكانية والزمانية التقليدية، من قبيل هنا وهناك، وقبل وبعد، وفوق وتحت، والآن، وغيرها، تفقد معانيها في الزمكان الاينشتيني ويتداخل المكان والزمان والحاضر والمستقبل والماضي ويتحول أحدهما للآخر، كما جاء في كتاب العالم الفيزيائي بريان غرين في كتابه الرائع " الواقع الخفي La réalité cachée.
من هنا يمكننا القول أن الزمن ليس وهماً بل جريانه الذي نشعر به بحواسنا هو الوهم. ونفس الشيء بالنسبة للتغيير، ففي الزمكان، يكون المستقبل موجود لكن الماضي لايختفي وينتهي أبداً. وعندما نجمع بين الزمكان الآينشتيني التقليدي مع الميكانيك الكمومي أو الكوانتي نحصل على تعدد الأكوان والأكوان المتوازية ما يعني أنه يوجد أنواع متعددة للماضي وكذلك للمستقبل وكلها حقيقية وواقعية كما جاء في الفيلم الرائع " إسمي لا أحد my Name Is nobady. وأخيرا أتاح لنا تقدم العلم والتكنولوجيا أن ندرك معنى تحول الأشياء المادية إلى بنيات وتركيبات رياضياتية، فالنصوص والرسوم والصور والأفلام يمكن أن تمثل أو تجسد رياضيايتاً ورقمياً بواسطة الكومبيوترات ويجري نقلها وتحويلها عبر المسافات البعيدة وبسرعة هائلة بواسطة الانترنت على شكل إيقونات ورموز رياضياتية معلوماتية ورقمية فعندما أطبع مفردة " كلمة"يخزنها الكومبيوتر على الشكل التالي " 109111116". ويترجم كل حرف فيها إلى رقم رياضي مثل a=97,m=109 وهكذا. وهذا ما قادنا في السنوات الأخيرة إلى تقنية المحاكاة المجسمة الثلاثية الأبعاد وطباعتها بطابعات ثلاثية الأبعد أي تحويلها من رموز رياضياتية رقمية إلى واقع مادي والعكس ممكن أيضاً.
أخيراً تمكن العلماء في أواسط شباط 2016 من اكتشاف الموجات الثقالية وهي خطوة جبارة تماثل في أهميتها اكتشاف إشعاعات الخلفية الميكروية الأحفورية للكون المرئي CMD التي تعود إلى مرحلة الانفجار العظيم وسيترتب على ذلك تطورات مهمة في عملية فهمنا للكون المرئي وإدراكنا لحقيقته. فبعد اكتشاف موجات الجاذبية التي تنبأ بها آينشتين بات من الممكن رؤية ولادة الكون في لحظة الانفجار العظيم وتقديم الدليل العلمي على وجود الثقوب السوداء المنتشرة في كوننا المرئي لأن رصد هذه الموجات الثقالية نجم عن اندماج الثقبين الأسودين على بعد أكثر من مليار سنة ضوئية عن الأرض، حيث أنتج هذا الحدث طاقة هائلة تزيد أكثر من ثلاثة أضعاف كتلة الشمس بيد أن هذه الطاقة تتخذ هيئة موجات ثقالية وتنتج ضوءاً يزيد بكثير عن الانفجارات الناجمة عن مجمل المستعرات العظمى ـ السوبرنوفا ـ الموجودة في كوننا المرئي مما يشكل في حد ذاته حدثًا كونيًا هائلًا، حدث في أعماق الكون.
يلمس العلماء اليوم أن أغلب ما يتحقق من اكتشافات في مجال علم الكونيات والفيزياء النظرية وفيزياء الجسيمات الأولية كان آينشتين قد تنبأ بها في نظريته النسبية الخاصة والعامة وكذلك ماكس بلانك وبيتر هيغز وكورت غودل، وغيرهم من العلماء الأفذاذ. بالرغم مما واجهوه من اعتراضات ورفض وسخرية وتعنت من قبل المؤسسة العلمية التقليدية، التي عدت أفكارهم نوعاً من الهراء والهرطقة.
يعتبر كورت غودل Kurt Gö-;-del أكبر عالم رياضيات في عصرنا الحديث وهو العقل الموازي لعقل آينشتين في الفيزياء وهو صديقه الشخصي أيضاً.
كان غودل الطفل يمتلك موهبة فذة وفضول علمي نادر لدى أقرانه فهو يريد أن يعرف أي شيء وكل شيء ويطرح مئات الأسئلة في نفس الوقت مما أثار ذهول والديه ومعلميه في المدرسة وكان دودة مكتبات يقرأ كل ما يقع بين يديه وقد التهم مؤلفات الفيلسوف أوغست كانط دفعة واحدة ولم يبلغ بعد مرحلة النضوج. ولقد طرح على رفيقه داخل إحدى المكتبات الضخمة في ألمانيا قائلاً :" هل يوجد شيء ، بعد كل هذه الجهود والمؤلفات والكتب والأبحاث لا يمكننا معرفته بعد ذلك؟" . وفي عام 1930 وفي خضم بحثه عن أجوبة عن تساؤلاته الوجودية والفلسفية، وحيداً أو في إطار حلقة تفكير هي " حلقة فينا الشهيرة" التي كانوا يناقشون فيها موضوع " الوضعية المنطقية positivisme logique " حيث كان الهم الأكبر لديهم هو استنطاق المنطق ولا شيء غير المنطق لمعرفة سر الوجود، نبتت بذور نظريته الرياضية عن اللاتكامل l’incomplétude أو عدم الاكتمال. وهذه النظرية هي أعقد وأكمل وأغنى وأصعب نظرية رياضية إلى اليوم ولا يعادلها سوى النسبية والكموم أو الكوانتوم في الفيزياء المعاصرة. وقد تبلورت أفكاره الرياضية المنصوص عليها والمعلن عنها في مرحلة مبكرة من حياته العلمية، في دراسة نشرها سنة 1931 في إحدى المجلات العلمية المتخصصة في الرياضيات وأحدثت صدمة لدى المتخصصين في هذا العلم من أمثال عالم الرياضيات الكبير هيلبرت Hilbert الأستاذ في جامعة غوتنغين Gö-;-ttingen وفحواها يقول:" إن كل نظام منطقي هو بالضرورة وعلى نحو لا مفر منه لا متكامل أو غير مكتمل وهو أمر مثبت رياضياً " مما ينسف كافة الجهود السابقة على مدى قرون التي حاولت أن تجعل من الرياضياات نظاماً كاملاً وقادراً على حل كافة المشاكل والمعضلات مما قوض حلم المعلم الكبير هيلبرت، في حين كانت النظرية قد أسرت لب آينشتين وإعجابه. ولكن عندما وصل هتلر للسلطة سنة 1933، تغير كل شيء فغادر آينشتين إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتبعه بعد فترة قليلة كورت غودل بعد أن تعرض للاعتداء عليه من قبل ميليشيات الحزب النازي الحاكم باعتباره يهودياً. التحق بصديقه آينشتين في برينستون في معهد الدراسات المتقدمة وبدأ تعاونهما العلمي الذي استمر عقوداً طويلة.
كان آينشتين ضعيفاً في الرياضيات مقارنة بالفطحل كورت غودل. وكانت معادلات غودل المليئة بالرموز غير المفهومة شديدة الصعوبة بالنسبة له، ومع ذلك ، وبفضل هذه النظرية الرياضية، أراد آينشتين أن يثبت أن الصدفة ليست هي سيدة الطبيعة و لا يمكنها أن تكون كذلك محاولاً أن يثبت بأن الميكانيك الكمومي أو الكوانتي ناقص وغير مكتمل، من خلال تحديه لنيلز بور بأطروحته الموسومة مفارقة EPR، مع زميليه بوريس بودولسكي Boris Podolsky وناثان روزين Nathan Rosen. فآينشتين يصر على وجود حالة واقعية للجسيم الأولى حتى قبل المباشرة بقياسه أو رصده على النقيض من نيلز بور Niels Bohr، وأتباعه الذين يعتقدون أن الطبيعة غير معروفة وغير محددة indéterminée إلا حين يتم رصدها. يعزو آينشتين ذلك إلى كون الطبيعة غير مكتملة وبالتالي علينا أن نأخذ في الحسبان عامل " التنوعات أو المتغيرات الخفية variables cachées، فالجسيم الأولي يتصرف بطريقة تبدو لنا عشوائية أو اعتباطية لكنها في واقع الأمر تخضع لقوانين خفية لا نعرفها هي التي أطلق عليها آينشتين المتغيرات الخفية".
كان عالم الرياضيات الشهير جون فان نيومان John Von Neumann أحد أكثر المتحمسين لنظرية غودل الرياضية في اللاتكامل أو عدم الكمال و اللاإكتمال l’incomplétude وأحد أقطاب نظرية رياضيات الصدفة mathématiques du hasard، وكان أستاذ غودل في مدرسة البولتكنينك في زيورخ وقال عنه في مذكراته" إنه الطالب الوحيد من طلابي الذي كان يرهبني ويثير أعصابي بذكائه وموهبته، لقد كان سريعاً في حل المسائل على نحو مذهل" لذلك كان نيومان مأخوذاً ومسحوراً بجمال وحقيقة وصحة نظرية كورت غودل وقال بإمكانية تطبيقها على الظواهر المرصودة على المستوى الكمومي أو الكوانتي. ونشر دراسة ي هذا المجال سنة 1932 وقال فيها ما معناه إن الأحداث التي تقع في مستوى الجسيمات الأولية تبدو لنا غامضة وغير واضحة ويتعذر سبرها ولكن في واقع الأمر يعود ذلك لكون معلوماتنا ومعرفنا هي القاصرة والناقصة أو غير الكاملة وبالتالي ينبغي أن ننظر للصدفة على إنها نوع من اللاتكامل أو عدم الاكتمال الأساسي أو الأولي. فلا فائدة و لا معنى لأية محاولة في أن نكون دقيقين عندما لا نعرف عماذا نتحدث ". فكل ما فعله نيومان هو تطبيق نظرية غودل الرياضية على الواقع الفيزيائي في مستواه اللامتناهي في الصغر. ولتدعيم رؤيته لجأ في نفس الوقت إلى نظرية المعلومة الحاسوبية de l’information théorie وطرح تساؤله الجريْ :" كيف نفهم ما يدعى بالصدفة في ظاهرة كمومية أو كوانتية؟ والجواب هو بمساواة الصدفة مع شكل الفوضى البادية على أية ظاهرة كمومية أو كوانتية، أي بغياب المعلومة اللازمة الناجمة عن اللاتكاملية أو عدم الاكتمال الغودلي، الذي يسمى في الفيزياء الأنثروبي. فالأحداث التي تقع في مستوى اللامتناهي في الصغر ، أي المستوى الكمومي تبدو عشوائية أو اعتباطية كما أوضح ذلك مبدأ الريبة أو اللايقين principe d’incertitude، لهيزنبيرغ، لكن ذلك لا يعني أنها تحدث بفعل الصدفة بل وفق نظام غير مرئي لا نعرفه أو لم نكتشفه بعد. والأمر الأكيد الآن هو أن معلوماتنا العلمية بشأن مثل هذه الظواهر قاصرة وناقصة وغير مكتملة وهي النتيجة التي توصل إليها العالم الفرنسي برنارد إسبانيات Bernard d’Espagnat الحائز على جائزة تمبلتون سنة 2009. ولقد أثبت تجربة آسبيه Aspect حول الانتقال الكمومي أو الكوانتي الآني téléportation quantique صحة مبدأ هيزنبيرغ مختبرياً، حيث يبدو الواقع محجوباً وسيبقى كذلك لأن ما يبدو منه للعيان ليس سوى جزء ضئيل من حقيقته. ولقد أشار كورت غودل نفسه إلى أن معلوماتنا عن الواقع كانت وستظل ناقصة وغير مكتملة. بسبب اللاتعيين أو اللاحتمية الكمومية أو الكوانتية l’indétermination quantique. ويبدو أن آينشتين لم يكن مخطئاً كلياً عندما خالف بور وقال أن هناك شيء ما ينقص الميكانيك الكمومي أو الكوانتي التقليدي المعروف وإن هناك متغيرات خفية يمكن لقيمها الحسابية، لو عثرنا عليها وتمكنًا من حسابها، أن تتحكم هي بالذرات الأولية وتقرر متى يجب أن تتفكك. وبهذا الصدد كتب أحد منظري الصدفة الكمومية أو الكوانتية hasard quantique وهو العالم كريستيان كلود Christian Claude من جامعة أوكلاند في مقال شهير له نشر سنة 2005 :" إن مبدأ اللايقين أوالريبة الهيزنبيرغي l’incertitude ينطوي على الصدفة التي تنطوي بدورها على مبدأ اللاإكتمال أو عدم الإكتمال الغودلي l’incomplétude ".
إن المعلومات الرقمية أو الحاسوبية للعالم الفيزيائي تجد منبعها في العالم التجريدي ذو الجوهر الرياضياتي. وهناك تركيبة خفية ومجهولة في الوقت الحاضر هي التي تتحكم بالعلاقات بين العالم الفيزيائي le monde physique والعالم الرياضي le monde mathématique . وليس بوسع المعلومات التي توسم الظواهر الفيزيائية أن تعدل أو تغير أبداً المعلومات الخاصة بالعالم الرياضي مما يترتب على ذلك وجود قانون حفظ المعلومة Loi de conservation de l’information الذي يجعل من المعلومة الرياضية مجالاً ثابتاً invariant لا يتعرض للتغيير .
نستخلص من ذلك إن الصدفة كما توجد في حقيقتها التي نلمسها في حياتنا، ما هي إلا مجرد إنعكاس في العالم الفيزيائي لشيء ما مدرج في ذلك العالم المستقل التجريدي المتسامي أو المتعالي المعروف بالعالم الرياضياتي le monde mathématique .
إن هذا العالم المتعالي موجود في الــ " الهناك " أو الماوراء، في اللامكان L’Ailleurs، وهذا الحيز المكاني التجريدي لا يحتوي على المادة ولا على الطاقة المعروفين لدينا وكل ما يحتويه هو المعلومة الافتراضية الرقمية الحاسوبية L’information informaticienne ، والتي هي ماهية لا مادية essence immatériel أو جوهر غير مادي لا يتواجد في المكان الإقليدي ولا في الزمان الواقعي le temps réel، بل في ما يسميه علماء الرياضيات الزمن الخيالي أو المتخيل le temps imaginaire المركب الذي يحسب بالأعداد الخيالية les nombres imaginaire حيث تقبع الصدفة المحكومة بنظام غير مرئي يتعدى بكثير نظامنا الواقعي المحسوس. حيث ينهار الــ " هنا " والــ " هناك " كما يقول عالم الرياضيات جون بيل John Bell صاحب مبدأ كليات بيل الرياضية intégralités de Bell . الذي يوضح لنا إن جسيمين أوليين ماديين منفصلين عن بعضهما، كما يبدوان لنا، لكنهما في واقع الأمر مرتبطين ببعضهما على نحو غامض بشيء مجهول غير مرئي يوصل المعلومة بينهما بأسرع من الضوء بكثير على نحو آني متزامن تماماً مهما كانت المسافة التي بينهما ، حتى لو كاناً على طرفي الكون المرئي المتقابلين، أي على تخوم الكون المتباعدة بمليارات السنين الضوئية. بعبارة أخرى نستشف من ذلك إن البنى أو البنيات الرياضياتية structures mathématiques هي التي تأمر وتتحكم بالظواهر.
ذلك يعني أن ذاكرة الكون المرئي محفوظة إلى الأبد على شكل بايتات معلوماتية حاسوبية هي بمثابة الشفرة الوراثية الكونية L’ADN Cosmique، على غرار ما يوجد في الحامض النووي لدى البشر.



#جواد_بشارة (هاشتاغ)       Bashara_Jawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءات في كتب
- الله بين العلم والدين
- أنشودة الكون الأنيق
- الكون المرئي من كافة جوانبه
- تيار السينما الذاتية عند شاعر السينما الراحل اندريه تاركوفسك ...
- وقفة مع شاعر السينما الراحل كريستوف كيسلوفسكي:
- الإستراتيجيات الدولية في الشرق الأوسط وصراع الدول العظمى سور ...
- شرخ كبير في نسيج العلاقات بين الجالية العراقية والسفارة العر ...
- حتى لا يدعي العالم بالقول أنه لم يكن يعلم الحقيقة عن داعش
- السينما عندما كانت فن ورسالة
- هنا حوارية اليوم مع الأستاذ د. جواد بشارة حول ( الانسان بين ...
- الحقيقة الظاهرة والحقيقة الخفية لداعش 2-1
- كون واحد أم عدد لامتناهي من الأكوان؟
- فرنسا بين نارين
- الله والكون جدل العلم والدين
- كمبيوتر المستقبل : هل هو الحاسوب الكمومي أو الكوانتي ؟
- الكون المرئي في سطور خلال قرن
- هل سيتعرى الكون أمام أعين البشر يوما ما ويكشف عن نفسه؟
- دورة الحروب الحديثة التي لا تنتهي في العراق
- حرب التحالف الدولي على داعش تبدأ بالمخابرات


المزيد.....




- النسخة الأميز.. مميزات وخطوات تنزيل ببجي نيو ستيت PUBG New S ...
- كيف تنظم نومك في رمضان؟ عادات صحية بين الفطار والسحور
- جهاز مميز يعيد اسم Sharp لعالم هواتف أندرويد
- الحلويات ليها شروط صحية.. تعرف على أفضل وقت لتناولها
- 5 نصائح لعلاج تنميل اليدين .. متى تلجأ للطبيب؟
- دنيا المصري تزرع بقلب أبيها الشكوك في حق عرب.. نصائح للتخلص ...
- معلومات تردد قناة شدى المغربية الفضائية على القمر الصناعي نا ...
- تردد قناة مدرستنا 3 التعليمية على القمر الصناعي نايل سات بآخ ...
- منهج الترغيب الجديد لحسن الصباح ..حيل نفسية لاستعطاف -الحشاش ...
- الصحة العالمية تحذر من أسوأ موسم لحمى الضنك في أميركا اللاتي ...


المزيد.....

- المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B / أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
- ‫-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط ... / هيثم الفقى
- بعض الحقائق العلمية الحديثة / جواد بشارة
- هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟ / مصعب قاسم عزاوي
- المادة البيضاء والمرض / عاهد جمعة الخطيب
- بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت ... / عاهد جمعة الخطيب
- المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض / عاهد جمعة الخطيب
- الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين / عاهد جمعة الخطيب
- دور المايكروبات في المناعة الذاتية / عاهد جمعة الخطيب
- الماركسية وأزمة البيولوجيا المُعاصرة / مالك ابوعليا


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - جواد بشارة - تطورات الكون المرئي فيزيائياً وثيولوجياً