أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جواد بشارة - تيار السينما الذاتية عند شاعر السينما الراحل اندريه تاركوفسكي















المزيد.....



تيار السينما الذاتية عند شاعر السينما الراحل اندريه تاركوفسكي


جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)


الحوار المتمدن-العدد: 4983 - 2015 / 11 / 12 - 20:05
المحور: الادب والفن
    


تيار السينما الذاتية عند شاعر السينما الراحل اندريه تاركوفسكي:
في التاسع والعشرين من شهر ديسمبر من عام 1986، تلقت الأوساط السينمائية نبأ فاجعة وفاة شاعر السينما المتميز المخرج الروسي اندريه تاركوفسكي. لقد اختار تاركوفسكي الرحيل الأبدي الذي بدأه عبر شخصياته وأفلامه باحثا عن الحقيقة والخلاص، عن التطهير والسمو الروحي. إن هذا السينمائي المبدع يشكل ظاهرة فريدة تخرج عن جميع المعايير النقدية والتقويمية المتعارف عليها سواء في السينما الروسية أو في السينما الغربية، لقد خلق لوحده اتجاها سينمائيا مستقلا ظل يمارسه ويطوره حتى آخر يوم في حياته الابداعية والشخصية عرف بـ"التيار الشعري للسينما الذاتية " وهو تيار له جوانبه ومعاييره الشكلية والمضمونية والجمالية، يتناول المواضيع الكونية التي تهم كل شعوب الأرض وتهم الانسان أينما كان ومهما كان عرقه وأصله ودينه وثقافته. لقد بلغ تاركوفسكي مكانة لا تضاهي في داخل بلده روسيا وخارجها وتمتع باحترام وتقدير كبيرين. وقد وفرت له امكانيات لم تتوافر لأي سينمائي غيره من جيله فيما كان يسمى بالاتحاد السوفييتي.
حاز المخرج تاركو فسكي في أول تجاربه السينمائية - وهو فيلم التخرج - على ثقة القائمين على عالم السينما من فنيين وإداريين، كما تمكن من كسب ثقة مطلقة من جانب العاملين في قطاع السينما في كل مكان رغم مضايقته ببعض القرارات الإدارية البيروقراطية التي لا علاقة لها بالتوجه السينمائي الخلاق والايجابي الذي كان سائدا عموما في الاتحاد السوفييتي سابقا.
وعلى الرغم من ذلك، ونظرا لحساسيته الفائقة وتوقه للحرية المطلقة، دفعه هذا الموقف الإداري المزعج الى الغربة القاسية واقتلعه من جذور الإبداع الراسخة في أعماقه والمعجونة في صميمه، لذا هاجر منفيا الى الغرب المادي ليخرج آخر أفلامه قبل أن يودعنا منذ ما يقارب ثلاثة عقود. كان أول توجهه الى ايطاليا حيث أخرج فيلمه الخارق "الحنين" وهو رائعة وتحفة سينمائية تتحدث عن حنين وغربة الفنان الروسي المنفي الممزوجة بحب الأرض والوطن الجارف، وخصوصا عندما يكون هذا الكائن المفرط الحساسية منفيا رغما عنه، أيام ديكتاتورية حكم القياصرة، وذلك من خلال الربط بين ماضي الإنسان المنفي وهو شاعر كبير، وبين حاضر إنسان روسي معاصر يقتفي آثاره وهو بدوره فنان وموسيقي يعد دراسة عن الشاعر المذكور في محاولة لإعادة الاعتبار إليه وترسيخ مكانته وقيمته كفنان مخلص لإنقاذ ما تبقى منه، أي ذكراه، من جوف العالم المتدني حيث تنطلق صرخة الاحتجاج من قلب الغابة الغريبة المتوحشة التي تأكل الإنسان وتسلبه إنسانيته كل يوم (مشهد الفيلسوف المجنون الذي يحرق نفسه في أحدى ساحات روما احتجاجا وعلى أنغام سيمفونية بتهونن التاسعة). ثم يأتي فيلمه الأخير في الغربة هو فيلم "التضحية" الذي أخرجه عام 1986، أي قبل وفاته بأشهر قليلة، في السويد. وكما كان منتظرا من هذا العملاق السينمائي، جاء فيلمه قفزة نوعية جديدة في عالم الإبداع حققها هذا المخرج الفذ في عالم جماليات الإخراج الطليعي في تيار السينما الشعرية الذي صار أحد قادته إلى جانب بازوليني وبيرغمان وراوول رويز والان تانر وغيرهم..
يتحدث فيلمه "التضحية" عن كل شيء وعن اللاشيء، عن الوجود وما قبل الوجود وما بعده، عن معناه وسره، عن العدم وما يفرزه من عبث وضياع وبحث عن المجهول بلا جدوى وعما يقف فيما وراء الطبيعة متخذا شكل الإيمان أو الخرافة. انه قصيدة للإنسان عن الإنسان، عن معنى وهدف وجوده في هذه الحياة الغامضة. كل شيء في الفيلم قائم بذاته، متكامل التكوين والتنفيذ، لم يترك شيئا للصدفة كل شيء متناسق ومتناغم، الصوت والصورة والألوان، الزمان والمكان والتكوين والأشياء والفراغات، ما يوجد داخل الكادر وما في خارجه، والكتل، الحركة والجمود، السرعة والإيقاع، السكون والضوضاء، الصمت... الصمت هو المناخ السائد في هذا الفيلم المعجزة. لقد جاء الفيلم بحق تكريما لسينمائي خلاق آخر هو انغمار بيرغمان الذي كان وراء إنتاجه بهذه الصورة، مما يذكرنا برائعته وتحفته الخالدة "الصمت" لقد قال بيرجمان عن فيلم "التضحية" لتاركوفسكي قبل عرضه التجاري: "لقد صنع تاركو فسكي ما كنت أحلم بصنعه طيلة تاريخي الفني بأسره ولم أفلح، إنه أعظم فيلم لم يخرجه بيرغمان بعد".. من البديهي أنه لا يمكننا تلخيص أحداث هذا الفيلم الجميل والتي تدور في مكان بعيد مقفر وموحش لكنه جميل وساحر باعتباره قطعة من الطبيعة النقية المنعزلة والبعيدة عن التلوث "الحضاري"، حيث يعيش هناك الكسندر، الممثل سابقا والكاتب والمفكر حاليا، مع طفله الصفير الذي يسميه طيلة الفيلم "الصبي" دون أن يذكر اسمه، والصبي المذكور أبكم لا ينطق بكلمة واحدة طيلة أحداث الفيلم إلا في نهايته حين نراه قرب الشجرة التي زرعها مع والده في بداية الفيلم، وهو يردد جملة والده الفلسفية التي وردت في الكتاب المقدس "في البدء كانت الكلمة".
التضحية - التطهير :
يبدأ الفيلم بلقطة بارعة الجمال بتكوينها ودقة تنفيذها وبراعة تصميمها والمدة التي تستغرقها على الشاشة، حيث يبدو الكسندر وطفله الصغير من بعيد وهما يغرسان شجرة يابانية نادرة والأب يروي للصبي حكاية فلسفية من التراث الياباني. وبعد قليل تدخل إلى الكادر شخصية أخرى غريبة الأطوار هي شخصية ساعي البريد الذي يمزح معهما ومع الطفل خاصة، ويتحدث بكلام غير مفهوم وغير مترابط، حيث يستمر بذلك عبر جميع مشاهد الفيلم الغامضة إلى جانب بقية شخصيات الفيلم - أفراد عائلة الكسندر - حيث يرمز كل منهم إلى واقع أو إلى فئة من الناس أو ناحية من نواحي المعضلة الكبرى التي تتلخص بجملة واحدة (ما هو الإنسان والى أين يسير؟) يقوم الكسندر في نهاية الفيلم، بعد وقوع "الكارثة" التي نسمعها ولا نراها - قد تكون انفجارا نوويا أو زلزالا كونيا -، بحرق بيته والـ "تضحية" بوعيه وعقله ويتجه متعمداً وطوعاً الى عالم الجنون إراديا ليحتمي به من كل ما يجري في عالم الواقع أو بين الحلم والواقع، وبين الخيال والحقيقة، إذ لا يمكن الفصل بينهما البتة.
وذلك يذكرنا بالفكرة الرائعة التي قالها فردريك انجلز بشأن الفن حين قال: "يكون الأثر الفني ذا مستوى رفيع عندما تكون الفكرة والرسالة التي عبر عنها ويريد إيصالها مدفونة في أعمق الأعماق، حيث من الأفضل أن تكون مخفية يكتشفها المتلقي بدلا من أن تكون مباشرة وواضحة تثير نفوره"... وهذا هو المبدأ الذي يقود تاركو فسكي في اختياره لأسلوبه السينمائي ولبناه عالمه الفني.
البحث الدائم :
ما الذي يثيرنا أو يقلقنا أو يستهوينا ويهمنا في هذا الفيلم الأخير لتاركوفسكي كما هو الحال في بقية أفلامه الأخرى؟ هل هو استمرار المؤلف - الفنان، الاستثنائي في طريقه السينمائي الفريد والمتميز؟ هل هو ذلك الإصرار الواثق على تأكيد ظاهرة تاركوفسكي وابتكاره لتيار السينما الذاتية - الشاعري التي عرفت بمفرداتها التعبيرية الخاصة على صعيدي الشكل والمضمون ؟ أم هو الاستمرار في إيصال رسالته السامية إلى الإنسانية كلها وبحثه الدائم عن الجوانب الروحية والجوانب الخفية والمجهولة لعالم يسكنه الشر، وتسيطر عليه المادة ويسير من سيء إلى أسوأ، ليصل بالبشرية إلى حافة الكارثة والخواء، ومواجهته بلا كلل ولا تعب لعالم غارق في القيم المادية والنفعية البحتة والمجبول بالأنانية الفردية ؟ هل هو أسلوبه الذي يستحيل تقليده حتى بوجود التنويعات الظاهرية في مضامين أفلامه؟ هل هو استبدال اللقطات الكبيرة والمقربة التي طبعت مرحلته الإبداعية الأولى من حياته السينمائية ووسمت بها أفلامه الروسية والتي أتحفنا فيها بروائع وتحف من أمثال “سولاريس “ وميله إلى استخدام أكبر عدد من اللقطات العامة والبعيدة جدا؟
قد يكون كل ذلك مجتمعا، وشيء آخر نحسه ولا نعرفه أو لا نستطيع صياغته لفظيا أو التعبير عنه ماديا، شيء ما تتسم به جميع أفلامه وسينماه الشخصية يمكننا أن نسميه بـ”نفس تاركوفسكي”. فلقطاته طويلة زمنيا، خصوصا إذا كانت مأخوذة من زوايا غريبة وشاذة، أو تكون بعيدة وعامة لتتيح للمتفرج الوقت الكافي للتمعن في محتوياته وجمال تكويناتها البلاستيكية تبدأ لقطاته عادة ساكنة ثم تتخللها حركات ترافلنج (ميكانيكي أو بصري، أو الاثنان معا ويتزامن خلاق) جانبية أو أفقية أو عميقة (انقضاضية أو ارتدادية) كاللقطة التي ختمت فيلم “التضحية “ حيث تابعت الكاميرا بإصرار ودقة شديدتين الكسندر في قمة لحظاته النفسية المتوترة إبان توغله في عالم الجنون حارقا بيته خلفه إلى أن أخذته سيارة الإسعاف. هل يمثل ذلك وسيلة للتعبير عن حالة البحث الدائم عن الحقيقة المطلقة المختفية في أعماق الكائن البشري وعندها لا يكون للسينما دور سوى الكشف عن العالمين (الخارجي والداخلي) للإنسان وهو في حالة عري تام، حيث يتكفل الفنان بمهمة التعرية لهذا الكيان بأكمله قبل أن ينظر إليه باعتباره واقعا مباشرا لا سبيل لسبر أغراره، حيث تحل عين السينمائي - الرجل محل نظرة إنسان الحياة اليومية ؟
تتجسد عبقرية تاركو فسكي في أنه يضعنا في كل فيلم من أفلامه، بل وحتى في كل مشهد من مشاهده، أو حتى في كل لقطة من لقطاته، أمام اختيار جمالي يثير فينا هذا الإشكال الدائم الذي يكتسي هيئة التناقض. لكل شيء قيمته ومكانته ودوره سواء أكان موجودا داخل الكادر أو خارجه. فمفردات لغته السينمائية محسوبة بدقة متناهية لا شيء مجانيا على الإطلاق ولا توجد هناك زيادة ولا نقصان. فلقطة الافتتاح في فيلم “التضحية “ كانت لقطة - مشهد طويل جدا جعلتنا نشعر وكأنها سوف لن تنتهي بل ولا نريدها أن تنتهي حيث تبقى الشخصيات داخل التكوين البلاستيكي الجميل والمتوازن لهذه اللقطة بعيدة جدا عن الكاميرا التي تتابع حركاتهم البطيئة وتراقبهم وتلاحقهم وتحيط بهم عن بعد في عمق المجال الصوري، كلما انتقلوا من مكان لآخر لفترة طويلة نسبيا، وكلما خرجوا من الكادر تلحقهم وتعيدهم سجناء داخل التكوين التشكيلي الرائع الجمال والبالغ الإتقان، وكأنه لوحة لرسام من عصر النهضة وقد أخذت اللقطة من مكان قصي لحقل فسيح يقع على ضفاف بركة مياه واسعة. إن الشخصيات موضوعة عمدا على هذه المسافة حتى لا يتمكن أحد من تشخيص ملامحهم والتفرس بسحناتهم لأطول فترة ممكنة أو محتملة من قبل المتفرج. أي أنهم يبقون كأنهم ملامح مبهمة غارقة في خط الأفق البعيد لا نستمع إلا إلى أصواتهم ابتداء من مونولوج الأب الكسندر وهو يزرع شجرة الأمل ويتلفظ بكلام مبهم فلسفي الأبعاد يشبه كلام المتصوفة. وتضم اللقطة نفسها الشخصية -اللغز، الثانية وهي شخصية الابن أو “الصبي” الصامت والغامض الذي لا يتكلم حتى يقتنع المشاهدون أنه أخرس. ثم يقتحم اللقطة نفسها ساعي البريد وهو شخصية غريبة يشق بدراجته الهوائية طريقا يشبه الطريق الذي سلكته شخصيات فيلم “ستالكر” لنفس المخرج.، ويتصف هذا الطريق بنفس الغرابة والغموض. يخوض ساعي البريد نقاشا غير مفهوم مع الكسندر لا ينتهي إلا في نهاية الفيلم وعلى نفس الوتيرة وتنتهي اللقطة الافتتاحية العجيبة أخيرا باقتراب الكاميرا من الشخصيات لتحتويها ضمن مسافة تقليدية معتادة في السينما الكلاسيكية، لكن المتفرج يبقى في وضع غير مريح ومقلق، ويتساءل باستمرار ماذا يريد مني المخرج أن أرى؟ الوجوه غير واضحة وبعيدة والحركات عادية يومية ومألوفة والطبيعة، رغم جمالها، سرعان ما تبعث على الملل، إذ يكفي للمتفرج بضع ثوان لأن يلم بتفاصيل المنظر الطبيعي في أية صورة أمامه، وبعد مرور فسمات الهواء التي تحرك الأعشاب وتهز أوراق الأشجار والمنزل القابع في البعد وحيدا، والأشجار الكثيفة وأعماق البحيرة الخ.. وماذا بعد؟ ليس هذا هو المهم. إذن أين تكمن قوة هذه اللقطة السحرية ؟ ربما في كل تفاصيلها مجتمعة، وفي الكلمات التي ترافقها وما تطرحه من طروحات فلسفية وتأملات فريدة مستقاة من فلسفة نيتشة والفلسفة اليابانية القديمة التي تبدو منعكسة كالصدى الخاوي في الفراغ ماذا بقي بعد كل هذا؟ الانتظار... انتظار أن يضع المخرج حدا لحالة التوتر التي تدفع بالمشاهد اليقظ إلى حالة أخرى هي الاستغراق في ما يشبه الذهول كأنه نائم مغناطيسيا وفاقد الإرادة، أو إلى نفور تام قد يرغمه على الخروج من الصالة، ولد حدث هذا الأمر وغادر عدد من المتفرجين صالة العرض خلال لقطة الافتتاح لأنهم أصيبوا بشعور هو أقرب إلى الاختناق. إن هذه اللقطة - النموذج، مختزنة لكثير من الرموز والإشارات الفلسفية، ومتخمة بالمعاني والأبعاد الفكرية وما يفسر محتواها وما يليها من مشاهد ولقطات، والتعرف فيما بعد على جميع الشخصيات وسبب وجودها وما تفعله الآن وما فعلته في ماضيها وما سيكون عليه مستقبلها والعلاقة بين أقوالها وأفعالها، مما سيساعد المتفرج على استيعاب سيكولوجيتها وسلوكها.
إن حالة المتفرج إزاء هذه اللقطة الإعجازية هي نفس حالة متفرج السينما الأول أيام ما كانت عليه السينما في زمن لوميير، متبصر برؤية الواقع المعاش. وتاركوفسكي يشوق المتفرج ولكن ليس على طريقة هتشكوك، بل هو تشويق تأملي ذو مستوى شكلي رفيع. إن أقرب فيلم لتحفة تاركوفسكي “التضحية “ هو فيلم “ستالكر” المليء هو أيضا بالإشارات والرموز، والذي يدعو المتفرج للبحث والتأمل والمشاركة الذهنية الفعالة والتفسير والبحث عن المعاني الفائرة بين رفات النسيج الدرامي، ابتداء من استعراضه بلقطة جميلة للوحة دا فنشي ورسومات الإيقونات الروسية وانتهاء بلقطة الختام التي سبق ذكرها.
السينما الذاتية – الشاعرية، تيار أم ظاهرة
قد يتساءل المتلقي عن حقيقة هذه المدرسة أو الاتجاه الجمالي السينمائي الذي أسميناه بالسينما الذاتية - الشاعرية وهل هو تيار راسخ الجذور أم هو ظاهرة عابرة مرتبطة باسم مبدعها؟
في سنة 1956 وبعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي تحررت السينما نسبيا وبصورة مؤقتة أو لفترة قصيرة من الزمن، من التطبيق الضيق والمتحجر لمنهج (الواقعية الاشتراكية) الذي فرضه ستالين على عملية الإبداع الأدبي والفني. فتخلص الفنان والأديب، والمثقف عموما في جميع المجالات، من حالة التنفيذ الجامد والميكانيكي لهذا المفهوم وصار المبدعون يبحثون عن أساليب وطرق وأشكال تتناسب مع هموم ومشاكل واحتياجات الإنسان، سواء أكان فردا أو جماعة على حد سواء. وفي المجال السينمائي تمكن الجمهور العالمي عامة والغربي خاصة، من مشاهدة روائع سينمائية وأفلام متطورة شكلا ومضمونا أمثال (الطلقة الواحدة والأربعون لغريغوري تشوخراي، وعندما تطير الغرانق لميخائيل كلاتسوف وغيرها)، والتي جسدت بأحسن الأشكال والصور فترة الانفراج الجديدة التي أعقبت عام 1956 دون أن تخشى السينما تهمة الغرق بالشكلية والاستعراضية البرجوازية وخيانة المبدأ الجوهري للواقعية الاشتراكية، أو الخوف من أن تلصق بهم تهمة تقليد الحركات الفنية البرجوازية الطاغية في الغرب على شكل صرعات وموضات وقتية عابرة وعبثية. فقد بدأ الفنانون والسينمائيون يعالجون في جو من الحرية وببعض الاطمئنان، مواضيع جديدة ويتطرقون إلى مشاكل وثيمات كانت محظورة عليهم في السابق، كما اتجهوا إلى ممارسة أبحاث وتجارب وأساليب جديدة وطليعية لم تكن مألوفة أو مقبولة قبل هذا التاريخ. وبحلول عام 1965 استعادت قوى البيروقراطية والجمود العقائدي مواقعها من جديد وبادرت إلى فرض القواعد والقيود التي أعاقت نضوج وتواصل هذه التجارب الفنية الثائرة المتعددة، وكبحت جماح البعض من المبدعين ممن وصلت عندهم عملية الخلق الفني إلى طرق مسدودة، وتوغلوا كثيرا في الذاتية الفارغة وتمرغوا بمفاهيم العقلية البرجوازية الغربية فيما يخص مفهوم الثقافة والفن وقيمهما الجمالية ووظيفتها الاجتماعية، وكانت تعبيرا عن حالة الغرق في مستنقع نظرية "الفن للفن" التي غمرت وطبعت بقوانينها أغلب الإبداعات الحديثة، وأخضعت الفنان لمعايير لا تقل قساوة وعسرا، ولقوانين قسرية أكثر صرامة وقسوة من قيود الواقعية الاشتراكية الأيديولوجية. أصبح الفنان الغربي في ظل قوانين السوق التجارية أسيرا للقيود المالية وللتركيبة الاقتصادية للإنتاج الفني وخضوعه لمبدأ الربح السريع والسهل لتحقق أكبر قدر ممكن من المردودات المالية والتجارية وبأ قصر وقت ممكن. برز في فترة الانفراج الروسية المقصودة، جيل من السينمائيين البارزين أبرزهم المخرج الراحل تراكوفسكي ومعه كوكبة من الفنانين اللامعين كجيورجي دانييللا وكليب بانفيلوف وكيلم اليموف وأوتار أيوسيلاني واندريه مخيائيلكوف والاخوين كونتشالوفسكي والراحل سيرغي بارادجانوف الذي أصبح هو الآخر صاحب أسلوب يقرب الى المدرسة المنفردة الذي قدم روائع مثل جياد النار وسيات نوفا أو لون الرمانة وأسطورة قلعة سوران وغيرها.
تراكوفسكي ابن هذا الجيل المضطرب الذي اعتبر أحد أعظم سينمائيي العالم المعاصرين والأكثر ثراء وعمقا وصعوبة في نفس الوقت. ولذلك فهو أكثر من ظاهرة عابرة بل هو مؤسس تيار سينمائي كان رائده ويحمل اسمه ويسير على خطاه العديد من مخرجي العالم الطليعيين هو تيار السينما الذاتية - الشاعري.
ولد تاركوفسكي في سنة 1932 على ضفاف الفولغا وقد هجر والده بيت العائلة عندما بلغ الطفل تاركوفسكي عامه الثالث. وكان والده أحد كبار الشعراء الروس الذي بقي أمينا على حبه للمرأة التي تركها لأسباب خارجة عن إرادته. واصل الشاب دراسته المتنوعة فمن الموسيقى الى الرسم مرورا بدراسة اللغة العربية وآدابها كما درس البحوث الجيولوجية وعمل كخبير جيولوجي في سيبريا بين 1954 و1956 وفي هذه السنة انضم "تاركو فسكي الشاب الى معهد الدولة السينمائي «فغيك » ودرس فن الاخراج السينمائي لمدة أربع سنوات تحت إدارة واشراف المخرج السوفيتي المخضرم ميخائيل روم، الذي ربى ووجه ورعى هذا الجيل المتميز من المخرجين وانشأهم على حب التقاليد الانسانية السامية، وكان تأثيره لا يفتأ بالظهور عبر هذا المشهد أو ذاك في أفلام هؤلاء المجددين، وقد لمحناه بوضوح في أكثر اللمسات الشاعرية وجودا ضمن فيلم التخرج الذي نفذه تاركوفسكي عند انتهاء دراسته التخصصية عام 1960 وهو بعنوان "العجلة الضاغطة والكمان" ويبلغ طوله 42 دقيقة أي متوسط الطول، ويتحدث موضوعه عن قصة صبي في الثانية عشرة من عمره يتعلم العزف على الكمان لكنه لم يكن موهوبا ولا متعلقا بهذا العمل كما أنه لا يهواه أو يفضله. وعندما يلتقي بسائق العجلة الضاغطة في أحد الشوارع الحديثة التبليط يكتشف حياة العمل والعمال وثراءها وصعوبتها فيرتبط بعلاقة صداقة وإعجاب بهذا العامل -السائق الذي يعامله بود واحترام ويعلمه أصول مهنته التي صارت تستهوي الصبي أكثر من العزف على الكمان. ولكن بعيدا عن الأسلوب المباشر والخطابية الفجة. فهذا الموضوع ذو النوع التعليمي - الأخلاقي والتوجيهي المثقف، يأتي لنا بوصف واقعي لحي شعبي في موسكو حيث تجري الأحداث. ينجح تاركوفسكي بمهارة وحذق في امتلاك ناصية الموضوع رغم واقعيته اليومية، وبصورة بارعة تدعو للإعجاب، ويتمكن بفطنة وقدرة نادرة من إدخال مشاهد شاعرية - رمزية تصل إلى حدود الحلم، تكمن فيها المعاني المجازية الكثيرة والمكتنزة، وفي هذا الفيلم "المدرسي" يكشف لنا تاركو فسكي عن قابلياته التقنية وامتلاكه لأدوات لغته الفنية والتعبيرية وأسس جمالياته الإخراجية القادمة، ونلاحظ أيضا ذلك عن طريق الصور التي تضاعف وجه الصبي عدة مرات أو عن طريق تصوير بعض الأشياء وإضفاء أهمية خاصة عليها أو إبرازها بكل مركزوفي كافة الانتقالات بين المشاهد واللقطات "كتركيزه على التفاحة قبل وبعد أكلها" أو بواسطة حركات الكاميرا الرشيقة أو في عرض تفصيل محدد لأحد جوانب الديكور في نفس الإطار الصوري “الكادارج “ والآثار المحيطة بالصورة.
وبعد هذه التجربة الدراسية الناضجة يبرز المخرج للعالم طبعه ومزاجه الحقيقي كشخصية ناضجة ونادرة ويبرهن على قدرة ذات صفات فنية وفلسفية حقيقية من خلال فيلمه الروائي الطويل الأول وهو بعنوان “طفولة ايفان “ الذي انتزع بجدارة الجائزة الأول، وهي الأسد الذهبي، في مهرجان فينيسيا - البندقية - سنة 1962 بالتقاسم مع فيلم "نهار خاص" للمخرج المعروف فاليريو زورليني. ويتحدث فيلمه الأول عن “صبي” في عمر الثانية عشر تقريبا، ذبحت عائلته ونكل بكل أفرادها على أيدي النازيين، واغتال الألمان والدته بعد اغتصابها أمام عينيه وقتلوا والده أيضا قبل ذلك. فانخرط الصبي في صفوف المقاومة ليناضل وهو بهذا العمر على طريقته الخاصة ضد أعدائه كعميل سري مدني للمخابرات العسكرية التابعة للجيش الأحمر ليصبح أحد أحسن العناصر لجمع المعلومات المهمة للجيش السوفييتي وتحمله هذه المسؤولية الكبيرة وهذه المخاطرة التي تتجاوز إمكانيات سنه حيث كان عليه العبور يوميا خلف خطوط العدو لكونه طفلا لا يشتبه به أحد بسهولة وبصورة بديهية وهو يؤدي مهمته الصعبة. وهنا نتقابل أيضا من جديد مع موضوع الحرب الوطنية جريا على العادة في السينما السوفييتية آنذاك. إلا أن هذه المسألة عولجت عبر مجموعة من الشخصيات الانفرادية “أي البطولة الفردية لا الجماعية “ كما تقتضي الصيغ التقليدية للبطل الجماعي في السينما الاشتراكية. شارك في البطولة في هذا العالم الغريب والجميل نهر طيني غريب الأجواء والمناخ كان يعتبر الخط أو المنطقة الحرام الفاصلة بين خطوط العدو ومواضع الجيش السوفييتي المقاوم، ويخدم كنقطة عبور وتسلل سرية حيث نرى من حين لآخر دورية ألمانية من بعيد في وسط غابة من أشجار الكستناء صورت بطريقة خلاقة ورائعة وبزوايا متنوعة غنية بالتباين والتناقض بين الأبيض والأسود. أي كان للمكان والفضاء السينمائي دور فعال ورئيسي.
وداخل شرنقة هذا الحدث الأخاذ نفسيا، يفتح المخرج هنا قوسا ليسرب لنا قصة عاطفية بلا رتوش أو تفاصيل مجانية، تعمل كخلفية دراسية، وهي علاقة نشأت بين كابتن في الجيش يحاول إغراء وكسب ود وحب ممرضة في الجيش برتبة نائب عريف بينما يوجد في الجيش زميل له يرأسها ويشرف على خدماتها يحبها هو الآخر بصمت ويغار عليها ويتبع خطواتها متسكعا بألمه تحت أشجار غابة الكستناء التي صورتها الكاميرا بمهارة فائقة وبطريقة مبتكرة. يحلم الصبي ايفان في بعض الأحيان بسعادته الطفولية القديمة التي سرقها العدو النازي منه ودمرها بالعنف والقوة والموت الوحشي الذي مزق عائلته وقد قدم المخرج نزعة الحلم والتوق إلى تلك السعادة الضائعة بهالة غنائية بديعة ورائعة خصوصا في اللقطات التي نرى فيها كميات هائلة من التفاح تتساقط من عربة منطلقة نحو الأفق في طريق على حافة الشاطئ لتأتي عليها الجياد بالأكل، وتصاحب المشهد موسيقى من نوع خاص جدا ومؤثر لتجعل من حقد وثورة الطفل أمام الرعب والهول الذي سببه له النازيون التيمة الأهم في المشهد، ويتحول هذا الشعور الطفولي المغتصب إلى قوة تخيلية ذات تأثير هائل على تصرفاته وسلوكه وعناده وإقدامه وقوة إرادته. وكان الفيلسوف الفرنسي المعروف جان بول سارتر قد أحب هذا الفيلم كثيرا ومدحه ودافع عنه دفاعا حارا أمام هجمات النقاد الذين أساءوا فهمه أو فسروه بصورة خاطئة وخاصة النقاد اليساريين في صحيفة «اليونيتا» لسان حال الحزب الشيوعي الايطالي وأخذوا عليه غرقه بالشكليات وإهمال الموضوع الرئيسي. وهو بنظرهم بطولات وكفاح الشعب والجيش السوفييتي، فرد سارتر في معرض دفاعه عن الفيلم في رسالته الشهيرة التي نشرت مرات عديدة: “ايفان طفل غريب الأطوار يتراءى للبعض انه مجنون، وحشي الطباع، هذا ما يبدو ظاهريا، إلا أن ايفان بطل صغير، وفي الحقيقة انه الكائن الأكثر براءة والضحية المتضررة أو الأكثر تضرراً من أية شخصية أخرى من شخصيات الفيلم. فهو الأكثر إصابة ومساسا في أعماق ذاته ونفسيته الطرية. هذا الصبي الذي لن يتمكن أحد من منعه عن أداء مهمته وتحقيق شيء كان قد سحقه وشوهه العنف وحدده في مسار واحد هو الانتقام الذي اختزنه في أعماقه. الشعب السوفييتي لا يتجسد داخل وحدة جماعية فقط ولكن بحب الحياة والتعلق بالحرية التي هي على علاقة وثيقة بهيئة ووضعية الإنسانية ومكانة الطبيعة “..
وبين عامي 1965- 1966 بدأ تاركوفسكي تصوير تحفته الفيلمية الروائية الطويلة الثانية “اندريه روبليف “ ويتحدث الفيلم عن قصة راهب ورسام إيقونات في القرن الخامس عشر. شارك في كتابة السيناريو السينمائي الشاب أنذاك ميخائيلكوف كونتشالوفسكي، وكان هذا المشروع الهائل (كأنه لوحة جدارية، فخمة، ملحمية الخصائص، قد حظي بإمكانيات مادية ضخمة مهمة جدا ولكن بعد الانتهاء من تنفيذه لم ير المسؤولين عن جهاز السينما في الاتحاد السوفييتي سابقا ضرورة السماح به للعرض التجاري في نفس سنة انتهائه وإكماله، ولم يوافقوا أول الأمر على المشاركة به في المهرجانات السينمائية الدولية التي تنظم في الغرب لأنه على حد زعمهم “لم يكتمل بعد فنيا ويحتاج إلى إدخال بعض الرتوش والتعديلات والحذف والإضافات وان مونتاجه لم ينته بعد ويحتاج لبعض التقصير والتشذيب الخ “. وذلك بالطبع عكس رأي المخرج وقراره. وأخيرا سمح له بالخروج المحدود والمشروط للمشاركة في مهرجان كان لسنة 1969 خارج المسابقة الرسمية ومع ذلك حاز على جائزة النقاد العالمية وأخيرا تم عرضه داخل الاتحاد السوفييتي بشكل محدود في عدد قليل من الصالات عام 1972. لم يعرف أحد إلى الآن أسباب هذه المحاربة الرسمية وهذا التأجيل والتأخير المستمر للفيلم فما هو الجانب المقلق والمزعج للسلطات السياسية في هذا الفيلم ؟ بالتأكيد ليس مستواه الفني أو ما يعالجه المخرج في هذا الفيلم الملحمي الكبير ولا بقصور مفترض يؤثر على مستواه الفني أو التقني أو لغته الجمالية والتعبيرية وجدية أسلوبه وتمجيده للطبيعة وتغنيه بها وتفاعله مع مكوناتها كالماء، والسماء والأمطار والأشجار والثلوج التي عرضها كما يعرض الشاعر قصيدة تتغنى بالطبيعة، ولا مضمونه المعادي فقد أثبت المخرج من خلال فيلمه تعلقه بالثقافة الوطنية المولودة في الحقبة التي كانت فيها روسيا لا تعدو أكثر من مقاطعة كبيرة يحكمها الدوقات، خاضعة لسيطرة وسطو التتر. ان تردد السلطات الرسمية تجاه الفيلم ومعاداته يرجع بلا شك إلى تجاوزاته الوهمية والماورائية وملامحه الشعرية والغيبية وتحليقا ته الغنائية وأسلوبه الفذ المغرق بالرؤية الذاتية للأحداث ولما يعتريه من طروحات - مثالية - وملامح روحية ورمزية أو مجازية المظهر، وبالذات عندما تبدر عن فنان متمرد وقوي الشخصية يرفض أي عمل مفروض عليه أو تنفيذ أعمال حسب الطلب وتحت الأوامر ولمناسبات محددة ومعنية سلفا.
بقي المخرج تاركوفسكي صامتا منطويا على نفسه، خازنا آلامه في دواخله لا يبوح لأحد بمعاناته فقد يكون هو الوحيد الذي يعرف في أعماقه أسباب المنع والعراقيل التي تعرض لها فيلمه وظل معارضا ومقاوما للحزن فمعاناة الروح الروسية مرت من هنا أيضا.
إن إخراج هذا الفيلم الفريد من نوعه وما واجهه من مشاكل وأحداث جعل من هذا الفنان أحد أعظم سينمائيي العالم، وجعل من اسم تاركو فسكي أشهر مخرج في المحافل الدولية. ففي المشهد الخالد من هذا الفيلم الإعجازي عندما نرى شخصية الفيلم الرئيسية “اندريه روبليف “ يرمي بكتلة من الطين وبصورة عشوائية على جدار ناصع البياض، فهو يخلق هنا بشكل ما لوحة تجريدية متمردة تصور رفضه لتحقيق عمل أو خلق إبداع رسمي طلبه منه القائمين على الدين الرسمي ورجاله لتزيين الكنائس. ومن هذا المشهد وحده بمجازيته وإيحاءاته تتضح لنا معالم المشكلة الأزلية العويصة المعاصرة والحساسة، وهي مسألة - العلاقة بين الفن والسلطة - وقد سجل تاركوفسكي هذا الموقف عبر بطله في نفس الوقت الذي رفع فيه كل من بوريس باسترناك وسولجنستين راية الانشقاق والمعارضة والدفاع عن المثقفين وحرية التعبير والمطالبة بمنحهم الحرية الكاملة في الخلق والإبداع ليعبروا عن أنفسهم وعن العالم، والرفض التام لأي تدخل من قبل الدولة والحزب الحاكم وبرمجتهما لأعمال وآثار الفنانين والمبدعين كما حصل قبل ذلك للمخرج الكبير سيرغي ايزنشتين مع الجزء الثاني لفيلمه ذائع الصيت “ايفان الرهيب“ الذي منعته السلطات الرسمية في عهد ستالين من العرض وأجبرت مخرجه الفنان المرهف، على كتابة نقد ذاتي، ونشر اعتذار رسمي وشعبي علني أمام الرأي العام والجمهور السوفييتي متضمنا نقدا ذاتيا قاسيا وبلا ملابسات، ففعل ذلك مرغما وصاغرا لا حول له ولا قوة.
أما تاركوفسكي فقد وجه إليه اللوم والانتقاد اللاذع والتثريب بل والتهديد المبطن، وحوسب على تفسيراته الذاتية للحقائق التاريخية وتأويلاته الشخصية للأحداث التي جسدها سينمائيا وجاءت مخالفة لفهم المسؤولين السياسيين والإداريين الذين اتهموه بأنه أدخل عليها كثيرا من التشويهات التاريخية والتعديلات التي غيرت الوقائع وفق مفاهيم فردية، وجاءت النتيجة في عرضه لكثير من الحوادث مغايرة لما كانت عليه في مصادر التاريخ الرسمي المكتوب خصوصا وأنه لم يعشها بنفسه أو يتأكد من جريان ,وقائعها فقدمها بقالب ذاتي بحت. وفي هذه الحالة بقي الجدال بينه وبين الجهاز الرسمي غائما وغير واضح المعالم يلفه الغموض والإبهام والتهديد المبطن كأنه حوار طرشان. هم يصرون على التقيد بالتاريخ الرسمي وهو يصر على حقه في تقديم رؤية ذاتية للأحداث، أما أبعاد الفيلم ورسالته الحقيقية فقد بقيت مخفية على أعضاء الرقابة المتوجسين من نوايا المخرج. فرحلة وتطواف بطل الفيلم ذات السمات المقنعة والمستورة، والمسيرة الروحية لرسام الايقونات الراهب، والمسائل التي يطرحها حول الحقيقة الجمالية والأخلاقية والعقلية لأثره وعلاقته بالحياة، لا تفعل فعلها على سطح الأحداث أو خارج واقع الفيلم ولا تثير سوى موجا ت هادئة صغيرة من التأمل.
بقي المخرج اندريه تاركوفسكي مركونا في الظل فترة قصيرة دون ان يسنده أحد، لكنه ما برح أن عاد بمشروع أخر لا يقل قيمة وطموحا عن مشاريعه السابقة وكان فيلم “سولاريس “ وهو من النوع الخيالي العلمي الذي يخلد ويعظم أفكارا فلسفية من خلال. التطور العلمي و التقدم التكنولوجي ومسؤولية الإنسان في استغلاله واستخدامه للكون بعامليه الفضائي والأرضي. وقصة هذا الفيلم الأخاذ بالغة التعقيد والبساطة في آن واحد. يتحدث الفيلم عن التحاق عالم نفسي بطاقم مركبة فضائية تقوم بأبحاث وتجارب على كوكب اسمه "سولاريس " وتقع فوق محيط هذا الكوكب الغامض الذي تكمن فيه قوة خيالية غريبة باستطاعتها تحقيق وتجسيد جميع أماني وأحلام وذكريات طاقم المركبة الفضائية لتحولها إلى حقائق ملموسة وفيزيائية. وهنا يظهر للبطل زوجته التي يحبها ومازال يعبدها، لكنه تركها فانتحرت واعتبر نفسه السبب في انتحارها. فعندما تعود إليه بفعل هذه القوة الخفية يتعلق بها أكثر ولا يريد أن ينفصل عنها رغم إصرار زملائه غريبي الأطوار هم أيضا. وخلافا للتعليمات التي لديهم، ويمتزج كل ذلك بالذكريات الحقيقية والطفولة التي عاشوها.. الخ.
اشترك تاركوفسكي بهذا الفيلم ممثلا لبلده رسميا هذه المرة في مهرجان كان لسنة 1972 وحصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة.
جاء عام 1974 ليثير عاصفة لم تهدأ بسهولة، وكانت هزة كبيرة عندما عرض فيلم “المرآة “ الصعب جدا بالنسبة لمستوى وأذواق ذلك الوقت. كان الفيلم ذا خطاب فيلمي غير مرتب على أصول تقليدية متعارف عليها، وذو نص محطم للتسلسل الانتقالي والتواصل الكلاسيكي، تتشابك فيه وتتداخل الذكريات الذاتية لشخصيات الفيلم، تجري فيه الأحداث ببطء وبسرعة في نفس الوقت، وتتدفق بل وتفيض في الصور والمشاهد التي تتناوب فيها الألوان مع الأبيض والأسود ضمن حركية ليست عفوية بالمرة، بل بطريقة مدروسة ومبرمجة ومتعمدة وبدقة متنامية. أما الألوان شبه البنية - سبيا - فقد وسمت وصبغت الأحداث التاريخية - الوثائقية - المعاصرة والقريبة من الذاكرة البشرية، كهجرة اللاجئين الأسبان وفرارهم من الحرب الأهلية، والحرب ضد هتلر، والوقائع التاريخية الأخرى كانفجار القنبلة النووية في هيروشيما والتوتر الصيني السوفييتي الخ.. ثم ادخل المخرج، عن طريق وسيلة استحضار واستدعاء الذكريات الشخصية للبطلة الرئيسية، أسلوب الترابط بين الحدث العالمي بمختلف مستوياته الزمنية، والحدث الذاتي الفردي بمستوياته الشخصية والعامة. كان المخرج في هذا الفيلم قد ذهب بعيدا في استقلا ليته وانتهاك أو خرق ومخالفة كثير من التعليمات والقيود الرسمية التي فرضتها الدولة وتجاوز عليها وتحرش بالطروحات الرسمية المفروضة على كل مسألة،خصوصا تلك المتعلقة بأحداث التاريخ المعاصر لكنه قام بذلك بدون قصد استفزاز أو سوء نية. ثم قام بتقصي وتحقيق إفرازات الذاكرة ومراحل كينونة ووجود معين لكائن - فرد - يمتزج فيه الماضي بالحاضر وينتظمان في نسيج واحد حول حياة “امرأة “ نموذج ورمز للأم والزوجة (لعبت الدورين نفس الممثلة بطلة الفيلم وهذه ليست مصادفة)، مما أدى إلى تكوين ما يشبه الكاليودوسكوب “المشكال“ -أي الجهاز الذي تختلط فيه الألوان والأشكال والتكوينات التي يصعب فرزها والتثبت منها -الا أن هذا الأسلوب بعيد كل البعد عن الفن الجماهيري الذي ترعاه الدولة وتشجعه. ومع ذلك فان كل ذلك لم يمنع خروج الفيلم في عدد قليل من الصالات المتفرقة في مختلف أنحاء الاتحاد السوفييتي وقد اشترت شركة غومو الفرنسية حقوق توزيعه واستثماره وعرضه في فرنسا في بداية 1978.
كان فيلما بالغ الجمال والتعقيد ويمكننا لمس الرؤية الجمالية المتطورة واللغة التعبيرية المتقدمة في كل لقطة والتفاتة. لكل شيء مكانه وأهميته ودوره في هذا الأثر الفني البديع الذي خلقه فنان ذو حساسية مفرطة وتواضع جم، سحرته الحياة وامتزجت بروحه وأعماقه فأصبح شفافا ورقيقا يكن هياما وتعلقا كبيرا بالأرض والروح الروسية والطبيعة المخضوضرة وغنائيتها وعشقه لمعمارية "الأبسة" أي المساكن الخشبية التي يقطنها فلاحو روسيا الشمالية. بما توفره من دفء عائلي، واهتمامه بالنار والماء على تناقضهما وضرورتهما للحياة ولديمومة البشرية، ثم أخيرا عرضه لانفعالات طفل ولسعادته المسروقة والهاربة منه في عمر النضوج أو البلوغ. هذه اللوحة الحياتية قدمت مزوقة بقصائد للشاعر السوفييتي "آرسني تاركوفسكي” وهو والد المخرج، كواجهة للواقع الملموس واللاواعي الرابض في داخل النفس. كل شيء في هذا الفيلم يأخذنا إلى روسيا وتاريخها وثقافتها، إنه قصيدة حب مهداة للوطن ومجسدة لحب المخرج وقلقه الشديد على وجوده.
أعتبر هذا الفيلم عملا نخبويا في الاتحاد السوفييتي، وضع للنخبة المثقفة ولا يخدم رسالة جماهيرية.لكن بعض الأصوات انطلقت محتجة على هذا التقييم، وكانت لها كلمة مسموعة لتقول “ولم لا ؟” أليس من حق هذه الشريحة الاجتماعية أن تجد من يعبر عنها ويعرض عالمها ومشاكلها ومعاناتها ؟” الكل كان يشجع هذا المخرج ويكيل له الثناء لمواهبه وطاقاته الخلاقة وصدقه اللامتناهي على المستويين الشعبي والرسمي، رغم ابتعاده عن نغمة “الواقعية الاشتراكية الجديدة “، إذ هو في الواقع لا يقف ضدها ولم يحاربها على الإطلاق إلا أنه لا يطبق تعليماتها وقوالبها الجامدة وصيغها الجاهزة وأساليبها الجمالية الساذجة، بحرفية تقيده في إبداعه وابتكاراته الأسلوبية والمضمونية. هنا تكمن حالة الغموض والإبهام الزائد عن اللزوم التي تلف حياة تاركوفسكي الشخصية ومواقفه الفكرية والسياسية. عندما أراد إخراج فيلمه “ستالكر أو الدليل “ استطاع بعد جهود مكثفة ومضنية الحصول على موافقة عمله لهذا الفيلم، وكان قد انتزعها عنوة من أيدي وأفواه حفنة من البيروقراطيين الذين حاولوا عرقلة وإعاقة تنفيذ وتحقيق هذا المشروع الرائع وبعد إتمامه للفيلم واجه المخرج مرة أخرى حملة من الرفض والمحاربة له ولفيلمه لم يكن لها مبرر. وقد شارك بهذا الفيلم في مهرجان كان خارج المسابقة الرسمية ونال عنه جائزة تقديرية سنة 1980.
يتحدث فيلم “ستالكر” عن سر رحلة ميتافيزيقية طويلة في مكان يدعى “المنطقة “ وهو مكان محظور وخطر جدا يمنع الولوج إليه. نجد ثلاث شخصيات غريبة التصرفات والهيئة، وهم على التوالي كاتب وعالم فيزيائي وستالكر أو الدليل - ليس لهم أسماء - ستالكر الدليل يقود الآخرين عبر طرق ومتاهات مجهولة بين الأنقاض والأعشاب البرية والمستنقعات والخرائب، حيث يهيمن على المشاهد مناخ مائع، مائي خال من النزاع الظاهر، رطب ومغلق ومخيف. كذلك نكون على موعد مع العناصر الصورية والمفردات المجازية والجمالية المعمقة والمعروفة في لغة تاركوفسكي الإخراجية، مثل تركيزه العميق على الكتل والطبيعة الجامدة واللقطات الكبيرة للأشياء والأدوات القديمة المهشمة والمكسورة أو الغائصة والغارفة في الوحل أو مياه المستنقعات وأوراق الأشجار المتيبسة أو الطافية على صفحة المياه، وحيوانات من مختلف الأنواع وبالذات الكلب من جنس الذئب والأمطار والمياه والقاذورات وصفائح التنك أو القصدير الصدئة والكلب الأسود التائه الذي يلاحق الجماعة أينما ذهبوا. يسير الأشخاص الثلاثة نحو جهة غير معلومة وبحذر شديد والتقيد بجملة من القيود والقواعد القاسية التي ينبغي الخضوع لها بصرامة إذا أرادوا الوصول إلى الهدف وبلوغ “غرفة معزولة “ وسط الفراغ من يدخلها يتحقق له كل ما يتمنى أو يطلب على الفور، ولكن المشكلة انه لم يسبق لأحد أن تمكن من الدخول إليها. وبعد تحمل هؤلاء الثلاثة كل تلك المشاق والمخاطر والمغامرات اللامرئية، يتردد الثلاثة في الدخول إلى الغرفة ويحاول العالم تفجيرها بعبوة ناسفة،لأنها برأيه خطر على الإنسانية لو دخلها كائن متعطش للسلطة والعنف. هذا هو الموضوع الرمزي - المجازي - الشائك الذي كان يمكن أن يموت على الورق على شكل سيناريو لو لم تنتجه مؤسسة موسفيلم الرسمية، وهي الجهاز الوحيد الذي كان قادرا على إنتاج وتمويل هذا النوع من الأفلام ومنح مخرجه الحرية الكاملة في التنفيذ يحسده عليها أساطين السينما العالمية كفلليني وبيرغمان وارسون وليز الذي قال ذلك بنفسه في حفل توزيع الجوائز في مهرجان كان لعام 1983.
لقد تعرض تاركوفسكي لكثير من الإغراءات والضغوط عندما جاء للمشاركة في مهرجان كان بفيلم ستالكر وعرضوا عليه طلب اللجوء السياسي ومعارضة نظام بلده وإدانة مواقفه تجاه الفنانين والمثقفين المنشقين، وفي مقابل ذلك سيوفرون له كل الإمكانيات التي يريدها لعمله وفي أي وقت يشاء إلا أنه رفض واحتج بأدب على هذا التدخل السافر رغم المرارة التي مازالت في جوفه من تصرفات المسؤولين عن قطاع السينما في بلاده حياله.
خرج تاركوفسكي من الاتحاد السوفييتي بمحض إرادته وبمعرفة الحكومة السوفييتية وموافقتها على المشاركة في إنتاج فيلمه الذي صوره في ايطاليا لأسباب تقنية وجمالية تتعلق بطبيعة الموضوع وأماكن أحداثه وهو فيلم "الحنين " الذي جاء أوفى وأفضل تعبير عن حالة التطواف والتسكع الطويل بعيدا عن منابع الإلهام والجذور الأصيلة للإبداع، وقد جسد المخرج بصورة مدهشة ومؤثرة حالة النفي والغربة أو الهجرة الروحية لذات الفنان المعجونة بحب الوطن لتنبعث من جديد من بين خلايا الذاكرة، راسمة روح وعواطف وصورة روسيا، الأرض المعطاء الخصبة والحنونة ذات الانفعالات الوجدانية كان هذا الفيلم هو بداية المنفى الاختياري للمخرج لأنه لم يعد بعدها إلى وطنه حتى يوم وفاته،وكان المخرج عندما قدم رحلة الباحث الروسي الذي يعد دراسة عن الشاعر المنفي الذي تغرب عن وطنه منذ سنوات طويلة وأوصى قبل موته أن يدفن جثمانه في وطنه الأصلي، كأنه يتحدث عن نفسه وتجربته المؤلمة إذ كان قد أوصى هو الأخر أن يدفن جثمانه في وطنه بعد موته. تتبع بطل فيلم “الحنين “ نفس خطوات حياة الشاعر المنفي وراح يطأ نفس الأماكن والعوالم حتى اختلطت عليه وقائع حياة الشاعر بوقائع حياته الحقيقية والمتخيلة أو المنتقات واختلط حنين شاعره بحنينه هو إلى الوطن، وغرقه في أوهامه وأحلامه وتخيلاته، مشتبكة مع قدرته على تخيل لبعض ما عاشه، أو يمكن أن يكون قد حدث لشاعره الروسي الذي كان بصدد اكتشافه بمساعدة مترجمة ايطالية يقع في حبها، وقد صاغ تاركوفسكي هذا العالم بقالب جمالي فريد لا يشذ عن أسلوبه ولغته الإخراجية وعالمه السينمائي المتميز الذي لا يمكن لغيره أن يقلده.
مفردات التعبير الفيلمي عند تاركوفسكي:
قد يتاح للمرء معرفة واستيعاب أثر فني وجمالي معين من تكامل وحداته التكوينية وارتسام معالم مناخه وعالمه الشكلي - الأسلوبي، وأبعاد مضامينه وموضوعاته ورسالته إن وجدت، وبروز خصائص شخصية مبدعه. الطفولة هي أحدى المقومات الأساسية في تكوين الخالق - الفنان وإبداعاته، وهذا ما نلمسه بوضوح عند تاركوفسكي كموضوعة - ثيمة - رئيسية ومكررة بأشكال وصور مختلفة، ابتداء من عازف الكمان الصبي في فيلم التخرج “العجلة الضاغطة والكمان “، ومرورا بإيفان الصبي في فيلم “طفولة ايفان “ والصبي الصانع لجرس أو ناقوس الكنيسة الهائل في فيلم “اندريه روبليف" والأطفال في فيلم “المرآة “ والطفلة العاجزة ذات القوى الخارقة في فيلم “ستالكر” وكلهم ليسوا إلا صورا متنوعة وتناسخا لطفولة تاركوفسكي نفسه التي طبعت وتأثرت إلى الأبد بغياب الأب في وقت مبكر - لم يتجاوز تاركوفسكي سن الثالثة بعد - عندما اختفى أو ابتعد والد تاركوفسكي، خصوصا اذا كان أبا شاعرا مشهورا يكن حبا عظيما وأزليا لزوجته حتى بعد فراقه القسري لها. وفيلم "المرآة " يعرض لنا بجلاء هذه الصدمة العنيفة والعميقة في نفس المخرج والتي لم يتمكن من تجاوزها عندما أصبح رجلا مبدعا وفنانا حساسا أضيفت إلى رحلة حياته جروح وصدمات أخرى لا تقل أهمية “مثل انتحار زوجته الأولى. وهو يقول بهذا الصدد "إن الجروح التي تحدث لنا ابان الطفولة لن تلتئم أبدا” وان ما يترتب على مثل هذه النتائج المأساوية منتشر بين ثنايا جميع أفلامه المغلفة بالطابع الذاتي الذي يحكي قصة حياته عبر مجموعة من الأشخاص كأدوات موصلة للخارج وعبر وسيلة التقابل والتمازج بين الذاكرة الذاتية الفردية والذاكرة الجماعية للمحيط، وهو يواصل قوله بهذا الصدد: "ان أعظم جوانب الموهبة مكون من الذكريات وإننا باستمرار، وبلا توقف، نشاهد الماضي يطفو ويفزر الحاضر مثيرا الأفراح والأحزان والآلام والندم وتبكيت الضمير وهذه أمور لا ينبغي تجاهلها أو رفضها أو إنكارها". نجد مثلا بطل “سولاريس “ قد عثر على الراحة والاطمئنان بقبوله فكرة كونه المذنب في اختفاء زوجته التي انتحرت وذلك بلجوئه إلى الماضي. ويقوم تاركوفسكي بربط انفعالاته بجذوره وأصوله العرقية والعائلية والوطنية عن طريق نموذج مركز هو “الأم “ الضحية باستمرار، المقتولة من قبل النازيين، في “طفولة إيفان “ أو التي هجرها زوجها في فيلم “المرآة “ أو المصلوبة مع طفلتها الكسيحة في فيلم “ستالكر”.. وهي أيضا حاجة وآلة لإشباع الشهوات والغرائز ومنح الحب إلى جانب النفور والاشمئزاز وفي فيلم “التضحية أو نوستالجيا” أهديت إليها سمة أخرى هي صورة الأم - الرحم. “الحنين “ هو الحنين للأم الحقيقية وللوطن الأم. والعنصر السائل أو المائع هو الغالب على مناخ أفلامه كما ذكرنا قبل قليل وهو رمز بديهي للأمومة عندما يقول تاركوفسكي بهذا الصدد "أنا لا أرى مطلقا الطين فالذي أراه ليس إلا ترابا ممزوجا بالماء، أي الغرين أو الطمى، الذي ولدت وتولد منه الحياة. أنا أحب الأرض عموما وأرضي أنا على الأخص “أي روسيا” السد الضعيف والرقيق لكنه الضروري لحراسة وحماية وإنقاذ الحضارة الغربية في الأمس وفي اليوم كما في الغد، كما شهدنا في “اندريه روبليف “ و” المرآة “ وكما هو قدر روسيا في إيقاف وصد البربرية النازية، تقع على الفنان مهمة الحديث بلسان شعبه وصوته ليكون المعبر عنه في هذا العالم الطامس في الحضارة المادية، ليقول بالضبط ما يشعر به وما يحسه من قلق وغموض وليجسد الأمل والمثل الأخلاقية والسمو. يكون الفن واقعيا حينما يحاول التعبير عن مثل أعلى وغاية روحية ".
هذه هي الصورة التي أراد اندريه تاركوفسكي تقديمها عن بطله "اندريه روبليف “ الذي يحمل اسمه الأول “اندريه “ نفس الاسم الأول للمخرج.
ورغم هذه الطروحات ذات المنحى الديني - الكاثوليكي البديهي، فان تاركوفسكي لا يبحث عن الله كهم أساسي لأنه “أكثر غموضا وتعقيدا وسعة من مداركنا الحسية “ ولأنه مطلق يشق طريقا من الآلام والإيمان يقبع في انتظاره “فكل الأفراح والماسي، الإلهام والوحي المبدع والخلاق، كلها مؤسسة على المعاناة وتعتمد على تحمل الآلام والصبر صغر أو كبر” خصوصا لكائن "لا يتمكن من الخروج من أصله وانتمائه الروسي وهي معاناة تزيد على معاناة التغرب والهجرة والمنفى". الملاحظ هنا شيء روسي في الجوهر، في الخصائص والأعماق، في الإصرار على تحمل الألم، يتم التعبير عن ذلك بالتعلق المهووس بالوطن والأرض التي يولد عليها الفنان. أليس غوغول هو الذي كتب “الأرواح الميتة" في روما وديستوفسكي قد صاغ "الأبله " في فلورنسا، وها هو تاركوفسكي قد صور في توسكا الإيطالية تحفته الحنين“ فهو حتى لو لم يكن مرتاحا في بلده فهو غريب، ممزق وضائع هنا في أرض الغربة المؤقتة، على غرار أبطاله، يرمي وراءه الشرق والغرب معا. فالتفكير والتأملات الأيديولوجية موضوعة ومستندة دوما إلى التفكر والتأمل في الألم. فالأيديولوجية تؤدي إلى التخدير “الاجتماعي”، ومبدأ “المتعية “ المعاصر ما هو إلا “صورة مغلفة للشيوعية “. أليس هو المذهب الذي يقول بأن اللذة والمتعة والسعادة هي الخير الأساسي أو الرئيسي وهو المذهب القائل أيضا بأن كل نشاط اقتصادي قائم على إرضاء طبقات المجتمع وتحقيق أكثر ما يمكن من رغباتها؟ فما هو وجه التناقض في ذلك مع النظرية الشيوعية التي تبدأ بمناداة تحقيق هذه المرحلة نحو الوصول إلى مجتمع اليوتوبيا الخالي من الطبقات حيث السعادة “المطلقة “، والحال إن الشيوعية تسعي إلى تأمين استمرارية مذهب “المتعة “ في مستقبله الطوباوي. أما الغرب فهو لا يعد بتحقيق الجنة على الأرض وإنما يعد بتوزيع تفاح جنة عدن في كل مكان، وعلى الجميع، بمطالبته بالمقابل المدفوع أي بالمال، وبهذا تلتقي الأفكار وتصبح الفروق ضئيلة وهامشية وان اختلفت الوسائل والطرق في تحقيق السعادة. فنحن لم نفتأ بالتوغل في المادية كما يفعل الذباب مع العسل، وسيموت الإنسان إن لم يجد توازنه. وبهذا الصدد يقول تاركوفسكي “وبتواضع كبير أرغب وأسعى في أن أساهم وأساعد هذا الإنسان أن ينهض قليلا” وكل فيلم من أفلام تاركوفسكي يقوم بمهمة، وهو بحث ورحلة عقلية ونفسية أكثر منها واقعية، وان كانت مرئية، إلا أنها مجازية ويكون فيها البطل “أي المخرج هو القائد والدليل والمعبر المختار (مشعل ستالكر الواضح هو نفسه مشعل الشاعر في الحنين)، في مواجهة الشك والتردد والعداء، ولكن من المعروف أن العبقري الذي يتخطى مجتمعا سيتهم بالجنون لأنه سيدخل في معركة ضده ولأنه فهم الأشياء قبله “ فعلى الفنان ألا ينتج مسودات بل أفلاما مهمة وهذا ما طبع أفلام تاركوفسكي جميعها منذ فيلم التخرج حتى آخر إبداعاته السينمائية قبل رحيله الأبدي.
يواصل تاركوفسكي خطابه الجمالي بالقول “الفيلم يصنع لحظة التصوير، وأنا أجبر نفسي على متابعة انسياب الزمن في اللقطة الواحدة والإيقاع الذي هو جوهر اللقطة، يولد من التوتر الزمني في داخل كل لقطة على حدة، والمونتاج يقرب ويربط ويوصل التسلسل والتتابع بين اللقطات المشحونة بالزمن وليس بالمفاهيم. وأنا لا اعتبر بأن أساس ومعنى وجوهر السينما هو في تقابل وإدماج مشهدين لخلق مفهوم جديد ومعنى ثالث كما قال بذلك ايزنشتين بل على العكس تبدو لي نفس اللقطة كأنها قمة وخلاصة لجميع اللقطات التي سبقتها. هكذا يتكون ويتألف معنى وجوهر اللقطة عندي وذلك بعلاقتها الجدلية وليس الميكانيكية مع ما سبقها من لقطات وهذا هو مبدأ المونتاج عندي”.
هذا فيما يخص الشكل الإخراجي والأسلوبي للغة تاركوفسكي السينمائية أما منحاه المضموني فهو يعلن صراحة انتماءه وتأثره بفلسفة وتحليلات وطروحات فردريك انجلز الذي قال "ان أي أثر فني، من مستوى معين، يكون عميقا وبمستوى الفكرة والرسالة التي يطرحها اذا تجنب المباشرة وأصبح مستترا بصورة أعمق " ومن هنا يأتي التفسير في التجاء تاركوفسكي لكثير من الاشارات والاستفادات الأدبية والفنية كالشعر بصفة خاصة (شعر والده بالذات)، والرسم والموسيقى والتلاعب بالنور والظل والألوان والأبيض، والأسود والاستعمال الواعي والمتجدد للصوت كعنصر تعبيري مستقل. وللكلمات مكانتها وأهميتها المعطاة مثلما هي لدور الأشياء ومكونات الطبيعة التي شكلت وركبت بعناية داخل كل كادر لتوحي بمعان وإيحاءات وبث الكثير من التنويهات والإشارات: ويقول بهذا الخصوص : " يمكننا أن نعبر عن العالم الموجود في الواقع بطريقة شاعرية أو بهيئة وصفية بحتة أما أنا فأفضل أن أعبر بصيغة مجازية وأصر على تعبير مجازي بدل الرمزية لأن الرمز يحوي في داخله معنى محددا وصيغة مثقفة بينما المجاز هو الصورة بعينها عكس الرمز، وللمجاز معنى غير محدد ولا معرف إذ نشعر فجأة بغبطة وارتياح حقيقي عندما نفهم أنه ليس بوسعنا استهلاك ومعرفة مكامن الصورة “ ويقول تاركوفسكي انه يتوجه الى الجانب اللاعقلاني عند الإنسان أكثر من الجانب النقلي والعقلي المنطقي. وينتمي الى ديستوفسكي أدبيا والى دوفجينكو سينمائيا وتأثره بسينماه الحميمية الساحرة ومن تغلب الجانب التجريدي عليها. وان أشخاصه وأبطاله هم عبارة عن معان مجردة وماهيات متسكعة ومتجولة عبر الزمن عندما تمشي تترك وراءها الأفكار والتساؤلات.



#جواد_بشارة (هاشتاغ)       Bashara_Jawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وقفة مع شاعر السينما الراحل كريستوف كيسلوفسكي:
- الإستراتيجيات الدولية في الشرق الأوسط وصراع الدول العظمى سور ...
- شرخ كبير في نسيج العلاقات بين الجالية العراقية والسفارة العر ...
- حتى لا يدعي العالم بالقول أنه لم يكن يعلم الحقيقة عن داعش
- السينما عندما كانت فن ورسالة
- هنا حوارية اليوم مع الأستاذ د. جواد بشارة حول ( الانسان بين ...
- الحقيقة الظاهرة والحقيقة الخفية لداعش 2-1
- كون واحد أم عدد لامتناهي من الأكوان؟
- فرنسا بين نارين
- الله والكون جدل العلم والدين
- كمبيوتر المستقبل : هل هو الحاسوب الكمومي أو الكوانتي ؟
- الكون المرئي في سطور خلال قرن
- هل سيتعرى الكون أمام أعين البشر يوما ما ويكشف عن نفسه؟
- دورة الحروب الحديثة التي لا تنتهي في العراق
- حرب التحالف الدولي على داعش تبدأ بالمخابرات
- الواقع الظاهر والوقع الخفي في الكون المرئي 2
- الواقع الظاهر والوقع الخفي في الكون المرئي 1
- داعش بين صورتها الحقيقية وقصور الإعلام 1
- الغرب ينظر إلينا بعين واحدة
- نقاط القوة والضعف في كينونة القوة القائدة للعالم


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جواد بشارة - تيار السينما الذاتية عند شاعر السينما الراحل اندريه تاركوفسكي