أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد جمعة - فراشات بديلة














المزيد.....

فراشات بديلة


خالد جمعة
شاعر ـ كاتب للأطفال

(Khaled Juma)


الحوار المتمدن-العدد: 5107 - 2016 / 3 / 18 - 13:42
المحور: الادب والفن
    


ولأنّك أمي، فقط لأنكِ أمي، أحاطت بي جوقةٌ من العازفين في خروجي إلى المدرسة وسرب من الكناري في عودتي منها...
لأنك أمي، أشعر أن هناك من يحمي ظهري في حروبي مع الحياة...
لأنّك أمي، ولِدتُ أسمعُ ما تقوله الأشجار، وأكلمها...
ولأنّكِ أمي
عرفتُ الله

كأيّ طفلٍ، كانت العتمة تخيفني، ليس فقط لأنني لم أكن أتمكن من الرؤية في ظلام المخيم، بل لأن خيالاتٍ بأشكال غريبة تبدأ في التشكل، لونها أسود تسبح في سواد، لم أكن أعرف كيف يمكن لشكل أسود أن يظهر في قلب مجال أسود كذلك، لم يكن يطمئنني إلا صوت أمي حين تقول: يا ربي ينام يا ربي ينام، وادبحلو جوز الحمام، فيختفي الخوف من العتمة، ولكني أبدأ في التفكير في إنقاذ "جوز الحمام" من الذبح...

وكنتُ، كلّما طارت الفراشةُ المطرّزةُ على ذيل الثوبِ أبكي، فتطرّز لي أمي فراشةً أجمل، فأضحكُ، كانت تُجلسُني في حِجرِها، وتداعب شعري القصير، وتقول: لا شيءَ يستحق حزنَكَ هذا، خبئ حزنَكَ لأيامٍ آتية، وكنتُ أسألُ بسذاجة الصغار: إذا حزنتُ الآن، هل سأفقدُ قدرتي على الحزن في الأيام الآتية؟ كانت تبتسم وتقول: كلُّ عمرٍ وله حزنه، الآن، وفيما أنت ما زلت طفلاً، عبئ قلبك بالفرح قدر ما تستطيع، لأنك كلما كبرتَ دقيقةً صرتَ شيئاً آخر، لم أكن أفهم بالطبع، وهي تتركني أغزو غابات النوم، وتطرّزُ مزيداً من الفراشات وتخبئها في ثنايا ثوبِها تحسّباً لفراشاتٍ ستطيرُ وأبكي عليها، كانت دائماً جاهزة بفراشاتها البديلة.

وكلّما مرَّ العمرُ يزدادُ الأولادُ في قلبي، يتفرّعونَ إلى أنهارٍ وضحِكات، أحياناً لا يعودون بريئين مثلما تكذبُ الكتبُ بشأنهم، لكنّهم يظلّونَ كما هم، لا يتشقّقون على الأقل، نحنُ نكبُرُ ونجفُّ ونتشقَّقُ وننقسمُ إلى كائناتٍ خارجَ التصنيف، محظوظٌ أنا لأنّ الله استجابَ دعوةَ أمي، فأصبحَ كلُّ شقٍّ في روحي يرمِّمُهُ طفلٌ يولدُ من نكبةٍ ما، مرةً يأتي كقصيدةٍ ومرةً كأغنية، ومرةً يسيلُ كأولِ حكايةِ لا أعرفُ إلى أين ستأخذني، هؤلاء الأطفال الذين يولدون فيَّ، لا يكبرون مثلما أكبرُ أنا، لذلك فهم لا يموتون، بل يتكاثرونَ كميرمية متروكة على الجبل لم يقطفها أحد، ومع ذلك فهي لم تفقد رائحتها إلى اليوم.

ولأني لا أشبه الأحجارَ التي وضعوها للزينة على مدخل البلاد، فقد تحوّلتُ مليون مرةٍ من شجرةٍ إلى غرابٍ إلى بئر ماءٍ إلى عاصفةٍ إلى توازن مفقود بين فصلين، إلى علاماتٍ مدرسيّة لطفلة في السادسة، إلى تهليلة أم لا تحفظ غيرها، إلى عروقٍ في يد سيّدةٍ حرثت حقول العالم، إلى لثغة في فم ولدٍ في عامه الأول، إلى رائحة قهوة في مساء صيفي على سطح بيت طيني، إلى كلمات رقية على جبين امرأة تهذي، تحوّلتُ حتى صرتُ فرقاً بين حالتين، وما زلت لا أعرف أيهما أنا...

ولأني لست وقتاً، فلم أنضبط على ولادة طفل، أو وفاة عجوز، لا على شروق ولا على غروب، ولأني كذلك لست مكاناً، فلم يسكنّي أحد، وخارج الوقت والمكان، كنت دائماً أمنية معلقة في الهواء، لم يتمنّ أحد تحقيقها، وبالتالي، لم يستجب لها أحد...

ناديتُ، لم يبقَ لديّ نداءٌ إلا وأطلقتُهُ، طرقتُ أبوابَ البيوتِ كذلكَ، حتى تلك التي يبدو أنّ أحداً لم يسكنها منذ ألف سنة، درتُ حول الحدائق التي جفّت، بحثتُ عن أعشاشِ عصافير افترضتُ وجودَها، أو نقطةَ ماءٍ تدلُّ على أية حياة ممكنة، سربَ نمل، بقايا جمرة، لم يكن هناك شيء بالمطلق، وحينَ أردتُ أن أغادر، أطلّت من تحت جذعٍ جاف، يداها تشبهان تجاعيد الجبل، صلبتان وعتيقتان، ووجهها حكاية معقّدة وطويلة، ونظرةُ عينيها بقايا معركة لم يؤرّخها أحد، ابتسمت لي، بأسنانٍ كاملة، وأخرجت من عبّ ثوبها المحروس بالآلهة عقداً من النحاس والفضّة، ومدّت يدها فخرخش العقد كآلاف العصافير الهابطة إلى نبع ماء، وأفقتُ من كلّ هذا، وكان العقد في يدي، ولم يكن أحد أو شيء هناك، هل يمكن أن يخرج عقد من نحاس وفضة من حلم؟

ذكَّرتُكَ قبلَ أن تحضرَ إلى الحفلِ مشنشلاً بأزهارٍ بنفسجيّةٍ وبعطرٍ من النعناعِ البرّي، أن الموتَ لن يعطيكَ جمالاً أكثرَ مما أنتَ عليه، خدعتَني وقلتَ إنّكَ ذاهبٌ لتصيُّدِ زهرِ البرتقالِ قبلَ أن تفطنَ إليه النحلاتُ، لم تعرف، ولم أعرف، أن الجنود يختبئون تحت الأشجار، وأنّهم كانوا يحاولون أن يعبّئوا ذكرياتٍ ألّفوها داخل زهرَ البرتقالِ، ولأنها ما كانت معركةً واضحةً مثل تلك التي تحدثُ كلَّ يوم، لم يفطن أحد إلى اليوم، ورغم مرور شلالاتٍ من الوقت، أنّ موتَكَ كان، وما يزال، السبب الوحيد في أن برتقالَنا ما زال يحتفظ بذاكرته وذاكرتنا، أعذرهم فهم لم يعرفوك، أعذرهم، ولا تغضب، فأنا أعرف غضب الميتين الذين لا يذكرهم أحد...

شهِدتُ طقسَكَ وأنت تتركُ المصطبةَ أمام البيت، وتذهبُ إلى حقلِ ألغامِكَ الذي لا يُعيدُ أحداً، تنسى أثراً في الهواء، وبحزنٍ تردِّدُ:
سيروا إلى حتفكم، وابتسموا، بدّلوا أمهاتِكم بلبؤات جائعات، واحفظوا كل حكايات الغولة...
اشتموا من يضيء لكم عتمة القلب، وقولوا إن ضوءه يعمي أعينكم فلا تبصرون...
اذبحوا الأشجار والعصافير، واحرقوا أعشاش القبّرات على الأرض...
لا تنصتوا إلى الموسيقى فهي تهدئ الروحَ، وأنتم بحاجة إلى الثورةِ، حتى لو على أنفسكم، صِموا آذانكم كي لا تدخلها الموسيقى مصادفةً...
بيعوا ممتلكاتِكم، أو تبرعوا بها لكافرٍ ما زال يؤمن بالحياة، ولا تخشوا شيئاً فمملكة الربِّ فيها كلّ شيء...

يا أبي: أَخرج عصافيرَكَ من رأسي، أردتُ أن أطلقها منذ أعوامٍ مضت، لكنّكَ تطعمُها حَبَّ روحِكَ فترفض أن تغادر، كفّ عن التمليس على ريشها بيدٍ من ضوء، وتوقف عن تعليمِها الغناء، فرأسي لم تعد تحتمل...



#خالد_جمعة (هاشتاغ)       Khaled_Juma#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوم قال الناس إن اليأس سيد المكان
- يا جلالة الملك
- موجة حزينة وخجولة
- عشر نساء
- الذئب الذي عاش وحيدا
- حين رأيناك
- دلنا على جثتك كي نصدق موتك
- دع الريشةَ وتعال
- دو ري مي فا
- غزة، الولد الذي سيترك وحيداً بعد أن تنتهي الحرب...
- عندما تنتهي الحرب
- التعب/ الثعلب
- ستبكين أكثر
- في الطريق إلى هناك
- أيُّها الطائرُ الغريبْ
- لماذا تضحك وأنت ميتٌ جوعاً؟
- لا أريدُ شيئاً من هذا العالم...
- مملكة جرجيريا قصة للأطفال
- ربَّما يَحْدُثُ شيءٌ كهذا...
- كلبٌ أعمى


المزيد.....




- إبراهيم نصرالله ضمن القائمة القصيرة لجائزة -نوبل الأميركية- ...
- على طريقة رونالدو.. احتفال كوميدي في ملعب -أولد ترافورد- يثي ...
- الفكرة أم الموضوع.. أيهما يشكل جوهر النص المسرحي؟
- تحية لروح الكاتب فؤاد حميرة.. إضاءات عبثية على مفردات الحياة ...
- الكاتب المسرحي الإسرائيلي يهوشع سوبول: التعصب ورم خبيث يهدد ...
- من قال إن الفكر لا يقتل؟ قصة عبد الرحمن الكواكبي صاحب -طبائع ...
- أروى صالح.. صوت انتحر حين صمت الجميع
- السعودية تخطط لشراء 48 فدانا في مصر لإقامة مدينة ترفيهية
- هل يشهد العالم -انحسار القوة الأميركية-؟ تحليل فالرشتاين يكش ...
- التمثيل النقابي والبحث عن دور مفقود


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد جمعة - فراشات بديلة