أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد جمعة - غزة، الولد الذي سيترك وحيداً بعد أن تنتهي الحرب...















المزيد.....

غزة، الولد الذي سيترك وحيداً بعد أن تنتهي الحرب...


خالد جمعة
شاعر ـ كاتب للأطفال

(Khaled Juma)


الحوار المتمدن-العدد: 4534 - 2014 / 8 / 5 - 18:50
المحور: الادب والفن
    


سينتهي العدوان، اليوم، أو غداً، أو بعد شهر، ستنتهي، ستتوقف آلة القتل التي أتخمت بالجثث والبيوت والشوارع وأعمدة الكهرباء والأراضي الزراعية والمستشفيات والمؤسسات، وقتها سيخرج من تبقى على قيد العيش، يخرج بقدمٍ بطيئة وعيونِ لا ترى جيداً من مفاجأة الضوء، ويبدأ بتفقد العالم حوله، أو بمعنى آخر سيبدأ العدوان بشكل آخر بعد أن انتهى دور العدوان بشكله القديم.

أول ما سيلاحظه الأحياء الباقون، هو المسافة التي يمكن أن يبصروها، وهي أبعد مسافة يمكن للعين أن تبصرها، فلا بيت ولا شجرة يمكنها أن تحجب رؤيتك، دمار، دمار، دمار، مساحات هائلة من الركام في كل زاوية، آلاف الأطنان من الأحجار، من الشبابيك المخلوعة، من خشب الأبواب، من الزجاج، من حديد التسليح، من ورق الحوائط، من عتبات البيوت، من رخام المطابخ، من الثلاجات، من الغسالات، أفران الغاز، خزانات المطابخ، أواني المطبخ، أدوات الحمامات، الكتب، الأقلام، الملابس، ألعاب الأطفال، كل هذا مختلط في تركيبة غريبة لمشهد لم يُرَ من قبل، وسيبحث الناس عن بيوتهم، ربما كان بيتي هنا، لا لا، ربما هنا، أظنه كان إلى اليسار قليلاً، لا يا حجة، بيتك كان في تلك الحارة على بعد سبعين متراً من هنا، أنا قدمت من هناك للتو، والله يا إبني إنه يشبه بيتنا، يضحك الشاب: أعرف يا حجة، فبعد صاروخ الطائرة كل البيوت تشبه بعضها، كلها نفس تفصيلة الركام.

بعد أن يفيق الناس من صدمة المشهد الجغرافي، يبدأون بالبحث عن أقربائهم، عن أولادهم أولاً، ثم أخوتهم ومعارفهم ثانياً، ثم أصدقاءهم وهكذا إلى أن يصلوا إلى بائع الحلوى أمام باب المدرسة، وسيذهلون، سيشلهم الذهول عن الكلام، فسكان غزة فقدوا بين شهيد وجريح 1% من تعدادهم، وعلى اعتبار أن كل شخص في الحياة يعرف على الأقل 100 شخص آخر، إذن فمن المحتوم أن يعرف كل شخص في غزة شهيداً أو جريحاً أو صاحب بيت مهدوم إذا لم يكن أكثر، وسيبدأون بالسؤال عن طريقة استشهادهم أو طريقة إصابتهم، وأين كانوا لحظة قصف البيت، وستختلط الأمور في ذهن السائل، ويروي بعد ذلك القصص ناسباً هذه الحادثة إلى ذلك الشخص، فيعدل له شخص آخر الحكاية، ويقول لا إن محمد هو الذي انهار البيت عليه، أما أحمد فقد كان شهيداً قبل ذلك حين منعه العمى من رؤية طريق الخروج، وسيبكون ويقولون: حسبي الله ونعم الوكيل، ويمضون ليعيشوا حياة بُتر نصفها المبتور أصلاً من نصفه المبتور.

بعد عدة أيام أو أسابيع، أو شهور، حسب عدد الشهداء الذين ما زالوا ينتظرون أن يعثر عليهم أحد، سيتم وضع القائمة النهائية، وسيتعرف الناس إلى الشهداء مجهولي الهوية، وقد تُنسب جثة إلى اسم غير اسمها، وستبكي أم فيما تبقى من عمرٍ على قبرٍ قد يحوي قدم ابنها ورأس جارها ويد زوجها وهي تظن أنه قبر ابنها، وسيبدأ الأطفال بتفقد أصدقائهم ويصبح لديهم فراغات في الذاكرة، سيبحثون كذلك عن بيوتهم ومدارسهم، ويسألون أسئلة صعبة الإجابة، وسيثور الأهل في وجوههم، ويخرسونهم بكلام غير مفهوم أغلبه من فصيلة: إحنا في ايش وانتو في ايش...

سيمر الوقت، وتترسخ الفجيعة في أرواح الناس بعد هذا الفقد، سيقولون في البداية: سنعود لحياتنا الطبيعية، وسيكتشفون أن الحياة لم تكن طبيعية يوماً، الحياة الطبيعية هي أن تقابل أصدقاءك، حسناً، لا أصدقاء، أن تعيش في بيتك، حسناً، لا بيت، أن تصلي في المسجد، حسناً، لا مسجد، أن تذهب إلى المدرسة، حسناً، لا مدرسة، أن تقبل يد أمك صباحاً، حسناً، لا أم ولا صباح، أن تسقي شجرة البرتقال في الحديقة الصغيرة، حسناً، لا شجرة، أن تلاعب أولادك وقت المساء، حسناً لا أولاد ولا مساء، سيكتشف الناس أن الحياة لم تعد حياة، وأنه من المبكر أن يفكروا في الماء والكهرباء والغاز والبنزين، فغزة ببساطة وكما كتب أحمد بعلوشة ذات يوم: عادت إلى عام 2014 قبل الميلاد، بكل ما تحمله هذه العبارة من معنى.

سيمر الوقت أكثر، ويكتشف الناس أن جميع من هللوا وطبلوا لغزة، ونادوا بصمودها، ووضعوها موضع الآلهة، قد عادوا لحياتهم، وأصبح العدوان على غزة تاريخ مجرد من قيمته الإنسانية الحزينة، سيكتب هكذا، استمر العدوان من إلى، وينتهي الأمر بتعداد الشهداء... أما أهل غزة، فسيبدأون من سيبيريا من مئة درجة تحت الصفر، وسيناضلون ألف عام كي يصلوا إلى درجة الصفر.

سيمر الوقت، ويشفى الجرحى القادرون على الشفاء، أما أولئك الذين غابوا عن الوعي، والذين ذهبت أطرافهم مع من ذهبوا، فسيعيشون بقية أعمارهم دون أيدي، دون أرجل، دون قدرة على السمع، دون القدرة على الرؤية، سيبقون في عالمهم، وربما يسأل عابر مصادفة بعد عشر سنوات: كيف فقدت ساقك، وقبل أن يبدأ ذو الساق بالرواية سيكون السائل قد أدار وجهه ومضى ليتفقد شيئاً آخر، سيصبح هؤلاء معاقين، ولن يصبحوا أبطال حرب في نظر الناس، سيفكر رجل ألف مرة قبل أن يزوج ابنته لشاب قطعت ساقه في الحرب، وستفكر بنت ألف مرة قبل أن تبادل شاب دون يدين نظرات الإعجاب، هؤلاء في الغالب ستنتهي حياتهم إلى نظرات الشفقة من الآخرين، وسينسى الجميع تقريباً سبب إصابتهم.

سيمر الوقت، وتتكشف جراحات أكبر في جسد المدينة، سيكتشف الناس كذلك أهمية أشياء ما كانوا يهتمون بها من قبل، خاتم الزواج الذي ذهب مع القصف حين وضعته المرأة على الحوض قبل أن تضطر لترك المنزل، دفتر مذكرات البنت التي كانت تعتبره أعز أصدقائها، قميص أهداه أب لولد ثم مات، كوب على شكل قلب أهداه شاب لفتاة قبل أن تأكله الصواريخ، مليون من التفاصيل التي سيكتشف الناس لاحقاً كم هي الحياة فارغة دونها، وستموت أجزاء منهم مع فقدان كل شيء من هذه الأشياء.

سيكتشف الناس أن أزمتهم خلال الحرب لم تكن تظهر كما يجب، وستبدأ الأزمات بالظهور، رعب الأولاد من أي صوت، خوفهم من أي طائرة حتى لو كانت مدنية، صراخهم في الحلم، أشباحهم التي تظهر حتى وقت الصحو، سيكتشف الناس أن غزة لم تعد المدينة التي تركوها في مخيلتهم، لا البحر هو البحر، ولا السماء هي السماء، ولا الأرض هي الأرض، وستستمر حربهم هذه إلى أكثر مما يتوقع أي محلل سياسي، وأي عراف، وأي قارئ كفوف...

في النهاية سيكتشف الناس بعد أن ينتهي كل هذا، أن الشهداء لم يعودوا من موتهم، وأن العدوان لم ينتهي حين توقفت الطائرات والدبابات والبوارج والمدافع عن القصف، بل في الحقيقة، أنه في هذه اللحظة بالذات، قد بدأ.

الخامس من آب 2014



#خالد_جمعة (هاشتاغ)       Khaled_Juma#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عندما تنتهي الحرب
- التعب/ الثعلب
- ستبكين أكثر
- في الطريق إلى هناك
- أيُّها الطائرُ الغريبْ
- لماذا تضحك وأنت ميتٌ جوعاً؟
- لا أريدُ شيئاً من هذا العالم...
- مملكة جرجيريا قصة للأطفال
- ربَّما يَحْدُثُ شيءٌ كهذا...
- كلبٌ أعمى
- أقلُّ من بلادٍ قليلةٍ وأقلّْ
- على من سأبكي أولاً؟ قصة قصيرة
- وجاء في كتابِ البلاد
- محمد عساف: أذهب بعيداً حيث يحلق البلبل
- خالد يطلق العصافير قصة للأطفال
- مثل كركزانٍ حزين
- غْزِيْزْلِة وخْنِيْنِص قصة للأطفال
- أنا من سرقتُ الخيلَ
- سامر العيساوي، لم أرَ من قبلُ جيشاً في نظرةِ عين...
- استشهد ميسرة أبو حمدية، ماذا عن الآخرين؟


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد جمعة - غزة، الولد الذي سيترك وحيداً بعد أن تنتهي الحرب...