مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 5028 - 2015 / 12 / 29 - 02:51
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
من قبل لم تجد ما تسمي نفسها بالمعارضة السورية أية مشكلة في تطييف الثورة السورية , ثم في أسلمتها , أسلمتها سنيا , و أخيرا ها هي اليوم تنضم إلى جوقة غير كبيرة و ذات صوت غير مسموع لكنه لا يختلف عن الخطاب "السائد" أو الدارج على الفضائيات و منابر المساجد و في الشارع , يصور الصراع بين المهاجرين , السوريين بأكثريتهم , و اليمين المتطرف في بلاد اللجوء على أنه "صراع حضارات" .. يبدو و كأن هذه المعارضة قد تحولت فجأة إلى كائن أشبه بعنكبوت الأرملة السوداء التي تأكل ذكرها , أو الغراب الذي قال أجدادنا أن نعيبه يبشر بالخراب فقط .. لكن للإنصاف يجب أن نقول أنه من غير الصحيح أبدا اتهام هذه المعارضة بأي من هذه "الأخطاء" أو الكوارث , الحقيقة أن دور المعارضة السورية كان دائما تافها و هامشيا في أفضل الأحوال , و أن كل هذه المصائب أتت في الواقع من دواخلنا , أن نفس الأسباب التي أنتجت الأسد عادت و أنتجت داعش و أخواتها , و بقية الظواهر و التفاصيل الأخرى السوداء في الثورة السورية .. إذا كان من قول ينطبق على الثورة السورية فهي كلمات جان بول سارتر عن معاق يمشي على عكازين يشارك في سباق للبشر الأصحاء , على هذا الإنسان أن ينتصر في السباق , و إذا لم يفعل فإن هذا سيكون ذنبه هو .. لم يفهم شخص مثل الشيخ المعاصر عدنان إبراهيم معنى ما قاله سارتر , و اعتبره كلاما قاسيا أو مجحفا , أما الحقيقة فهي أنه ليس الكلام هو القاسي , الواقع هو القاسي , إذا لم يتغلب ذلك المعاق على إعاقته و يلحق بالأصحاء فإن مصيره سيصبح بيد غيره , سيكون عليه أن ينتظر الشفقة و الإحسان من الآخرين , أن يتحول إلى متسول , هذا في أفضل الأحوال .. كان الشعب السوري مضطهد جدا , لكن أيضا كان مكبلا بكتلة هائلة من الإعاقات التي هزمته بسهولة , فأصيب بهسيتريا جماعية طهرية و هو اليوم يتقدم نحو الانتحار الجماعي , سواء في "وطنه" أو في "المنفى" , ظنا منه أنه كان مخيرا فقط بين الإخصاء المحمدي ( الإسلامي ) و الإخصاء الأسدي , اختار البعض الإخصاء الأول معتقدين أنهم أصبحوا بذلك أحرارا ( من الإخصاء الثاني , الأسدي ) ليفسروا عبوديتهم لسادتهم الجدد , من أمراء حرب و شيوخ داعش و أشباهها , على أنها "حريتهم" , و اختار البعض الآخر الإخصاء الثاني معتقدين أنهم بذلك يدافعون عن وجودهم أو عن بعض الامتيازات الغبية التافهة التي توهموا أنهم يملكونها فعلا , أنهم يدافعون عن سوريا الطائفة العلوية التي توهموا أنهم يملكون و لو جزءا ما فيها مهما كان متواضعا , بينما كانت سوريا الأسد هي التي تملكهم و تستعبدهم , و تضحي بهم أخيرا بكل مجانية و عبث , كحال "إخوتهم" "السنة" مع سادتهم الجدد .. المعارضة , كما النظام , تعبر أساسا عن تلك الإشكاليات الكبرى التي تكبل السوريين , المضطهدين تحديدا منهم , سنة و علويين و مسيحيين و أكرادا الخ .. هذا هو الشيء الذي نشترك فيه جميعا , نقتسمه بكل عدالة , تلك الثقافة القطيعية - التشبيحية التي تجمعنا , يجمعنا الإيمان بها لتفرقنا في الواقع , ليس فقط مناطقيا أو وطنيا أو طائفيا , بل أساسا في أنها تضع المضطهدين في مواجهة بعضهم البعض , دفاعا عن سادتهم , دفاعا عن أسباب اضطهادهم , عن أسباب و أصنام خنوعهم و استعبادهم .. تعبر المعارضة كما النظام بأصدق ما يمكن عن تلك الإشكاليات , عن ذلك المأزق الداخلي الذي يعيشه السوريون العاديون , الذين اختاروا , طواعية إلى حد كبير , أن يخلقوا سيدا أو أسيادا جددا ما أن لاحت تباشير فجر تحررهم من سجن الأسد , و أن يسجدوا لأصنام جديدة ما أن استجمعوا قواهم و تمكنوا أخيرا من تحطيم أصنام الزعيم الخالد .. هناك أسباب قوية لاعتبار أن محدودية خطاب آدونيس و صادق جلال العظم ( و أمثالهما ) و تهافته و تفاهته و انعدام أي بعد تحرري فيه و سيطرة الغرائزية الطائفية عليه تأتي أساسا من محدودية الطاقة الشعبية الكامنة على التحرر و الانعتاق عند الجماهير السورية , أنهما على تهافت و ابتذال ما يقولانه مذنبين فقط بالتصريح عما في داخلنا من نزعة للخنوع و السجود لأي سيد أو أي مغامر أو وقح أو عكيد , لأي أفاق أو مخادع .. من الصعب على إنسان آمن بالثورة طريقا وحيدا للتغيير أن يقول مثل هذا الكلام , لكنه وحده الذي يمكنه تفسير انحطاط الثورة السورية إلى ظواهر مثل داعش و النصرة و الائتلاف و هيئة التنسيق و هستيريا القتل و الكراهية الطائفيين , و تحول السوريين العاديين إلى شبيحة لإردوغان و سلمان و تميم أو خامنئي و "سماحة السيد" نصر الله , لتفسير تحولات أبطالها الحقيقيين كالساروت و أبو حاتم من ساحات الثورة إلى أحضان داعش .. صحيح أن المعارضة السورية "العلمانية المدنية الديمقراطية" "الليبرالية أو اليسارية أو التقدمية" الخ قادرة جدا على دفع الناس للكفر بها و بكل ما تؤمن به , بسبب تخاذلها و جبنها و انتهازيتها , لكن هذا التطورات كما يبدو أكبر من هذه المعارضة بكثير , أكبر من مجرد رد فعل على خطابها المبتذل الذي بقي في الواقع أسير صفحات الجرائد و مواقع النت و بعض الإطلالات الفضائية .. إن مسيرة عبد الباسط الساروت من أغانيه المشتركة مع الممثلة"العلوية" فدوى سليمان في ساحة الخالدية إلى مبايعته لداعش تختصر الثورة السورية الحقيقية , و مثله انحطاط طقوس الثورة , من طقوس احتفالية صاخبة نصف ماجنة , أحيانا على الأقل , تذكرنا بالاحتفالات المجنونة لعبيد روما و أثينا بأعياد إله الخمر إلى طقوس جمعية قطيعية لتمجيد أو عبادة إله أو زعيم شرير , طقوس لا تختلف كثيرا عن الطقوس البعثية أو النازية أو طقوس عبادة آلهة الآزتيك الدموية .. هذا بالتحديد ما أحاول فهمه هنا .. كان على هذا الكائن المعاق , من داخله , المكبل من داخله بقيود تشده إلى نير العبودية , أن يجترح المعجزة , لم يكن أمامه بديل آخر : أن لا يسابق الأصحاء كان يعني أن يصبح مشلولا , مقعدا , ثم أن يتحول إلى نصف ميت , و ربما إلى جيفة , كما حدث له اليوم .. لأن هذا العالم لا يرحم الأغبياء و الضعفاء , كان على السوريين العاديين أن يقاتلوا فقط لأنفسهم , بأنفسهم , هكذا فقط كان يمكن لهم أن "ينتصروا" , أن "يفعلوها" , لكن هذا لم يحدث , و بدلا من تلك الحركة و ذلك النضال , لأنفسهم بأنفسهم , أصابهم الشلل , و مع الشلل جاءت هذيانات العظمة و الاضطهاد , بدلا من أن يروا واقعهم بشجاعة الثوار المتعطشين للحرية , صاروا "يرون" هذا الواقع بعين عصابهم ثم هذيانهم الجمعي الجديد : حربا بين السنة و الشيعة , بين إيران المجوسية و السعودية و تركيا السنيتين أو داعش الأكثر سنية , و أخيرا : بدلا من الحرية حصلوا على "بعض جوائز الترضية" : جنة داعش و حورياتها , و أحيانا : بعض السبايا , أو مقاما رفيعا في جنة آل بيت النبي , أو مجرد البقاء على قيد الحياة , لكنها في النهاية : حياة تليق فقط بالعبيد الأغبياء .. و بدلا من الحرية و الاستبداد , صار صراعهم بين جهاد النكاح و نكاح المتعة ... قد يمكن التساؤل فيم إذا كان سيتغير أي شيء لو أن النخبة المعارضة كانت أقل جبنا و نذالة , لو أنها حملت السلاح و قاتلت كما فعل الإسلاميون , المتعطشون للسلطة , أو لو أنها على الأقل تشجعت و قالت للسوريين العاديين الحقيقة كما هي , حقيقة ما كانوا يفعلونه بأنفسهم , هل هذا كان ليغير أي شيء , عدا طبعا عن تسجيل موقف "للتاريخ" .. صحيح أن هذه المعارضة اكتفت بمغازلة هذا الكائن المعاق بأن أكدت له أوهامه , بأن أكدت له أن إعاقته بالتحديد هي أجمل ما فيه , و أنه لأجل تلك الإعاقة يحسده الجميع , و أنه مشكلة صنعها بشر آخرون و مؤامرات كبرى , و أن على الآخرين أن يحلوا مشاكله تلك , و أنه غير مذنب عندما طأطأ رأسه أربعين عاما لجلاوزة الأسد , و لا عندما فعل ذلك مرة أخرى للصوص و أمراء الحرب أو شيوخ داعش , أنه مسير و ليس مخير في مسيرته نحو مجزرته الكبرى , نحو انتحاره الجماعي , طالما كان المعارضون السوريون أصدقاءا حقيقيين لهذا المعاق و أعداءا حقيقيين لمضطهده , على طريقة صداقة ماركس للبروليتاريا , كما وصفه برتراند راسل , عندما أكد أن ما كان يدفع ماركس في صداقته تلك هو أساسا كرهه لأعدائهم و أعدائه و أن يعاقب هؤلاء على أفعالهم الشريرة , بينما لم يكن يكترث كثيرا بما كان ليحدث لأصدقائه البروليتاريين , طالما كانت المعارضة السورية صديقة خطيرة بهذا الشكل للبروليتاريا السورية المضطهدة , لكن المعاق نفسه هو السبب في أنه لم يفز بالسباق كما قال سارتر , في هذا العالم الله , أو القدر , ليس إلا تبريرا , ستارا , لخيارات حقيقية نرتكبها بأنفسنا , كما قال سارتر أيضا .. عندما "انتصرت" النازية , و رفع العمال و البرجوازيون الألمان , الصغار و الكبار , هتلر إلى مصاف الآلهة و أبدوا استعدادهم لينتحروا جماعيا في سبيل هذياناته , رأى فيلهلم رايتش أن هذا "الانتصار" كان انتصارا للأسرة الأبوية و "أخلاقها" الصارمة , و خوف العمال الألمان من غرائزهم و ترددهم في تحطيم تابوهاتهم , ليجعل هتلر منهم عبيدا , شبيحة , جنودا , قتلة , و انتحاريين , أغبياء .. هذا بالتحديد , على ما يبدو , أنه ما جرى للسوريين العاديين أيضا , سنة و علويين و مسيحيين و شيعة و أكرادا الخ .. و الآن ؟ هل من مخرج ؟ يمكن دائما لأقلية الأقلية الثورية أن "تعزي" نفسها ببعض الأفعال العنيفة ضد أي من هؤلاء السادة , لتسجيل موقف "للتاريخ" , أو "لتبرئة ذمتها أمام الجماهير أو التاريخ" ( مرة أخرى ) , دون أن يكون لهذا الفعل أي تأثير جدي على الأحداث , ربما لو فعلت ذلك مبكرا لتغير شيء ما , لا أحد يدري الآن , لكن الآن أصبح الوقت متأخر جدا إلا على بعض الأفعال اليائسة من كل شيء , ضد كل شيء .. أما بالنسبة للناس العاديين , فيصعب على المرء أن يتخيل كيف يمكن أن ينهضوا من جديد دفاعا عن أنفسهم , و قد أعادوا للتو إنتاج قيودهم بأنفسهم .. كان لذلك المعاق عكازين أو شيء من حظ في أن يفعلها , الآن و قد حطم عكازيه و ساقيه و معهما رأسه يصعب تصور قيامته من جديد .. بعينين مغلقتين و دماغ مستلب عاجز عن الخيال و ربما عن التفكير و يدين مغلولتين دون حتى أن يشعر بقيوده , يحتاج هذا المعاق لمعجزة أكبر بكثير لكي ينهض من جديد , ليقاوم صمته و إعاقته و كل هؤلاء الحراس و السادة الذين يختصمون على دمه الآخذ بالتعفن , و لأن الغد يخلق الآن , يبقى أي شيء ممكن دائما , ربما تكون الخطوة الأولى في أن يفتح هذا الإنسان عينيه مرة أخرى ليرى حوله من جديد , كلحظة ولادة جديدة , أو أن يضم قبضته و يحركها ليكتشف أنه ما يزال قادرا على الفعل و الحياة , لكن الأكيد من دون شك أنه من دون أن يركض بعكازيه ليسابق الجميع , من دون أن يكون أكبر من كل عقده و قيوده , تلك التي داخله و خارجه , لن يركض , لن يربح , لن يهزم الجميع , و يكسب نفسه في النهاية .................
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟