أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - هذا نجيب محفوظ، وهذه جدتي














المزيد.....

هذا نجيب محفوظ، وهذه جدتي


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 5012 - 2015 / 12 / 13 - 22:50
المحور: الادب والفن
    


حين شاهدتُ نجيب محفوظ لأول مرة في حياتي، كنت حول التاسعة من عمري ربما. كان ذلك في كازينو "قصر النيل"، الذي اعتادت أمي أن تصحبنا إليه، أخي وأنا، لكي تكافئنا بكأسين من الكاساتا المثلجة. أومأت أمي صوب إحدى الطاولات البعيدة وقالت: “اللي قاعد هناك ده نجيب محفوظ، الكاتب الكبير.” شببتُ على أطراف أصابعي لأميّزه بين مجالسيه الذين سأعرف بعد ذلك بسنوات أنهم الحرافيش. التقطتْ عيناي تلك "الزبيبة" الكبيرة على يسار أنفه، فيحاول عقلي الطفل أن يربط بين "الزبيبة الكبيرة" وبين "الكاتب الكبير”، وفق ما تقول أمي. كان ذلك في منتصف السبعينيات من القرن الماضي. بعد ذلك بعقد ونيف سوف يحصد جائزة نوبل في الآداب. لكنه كاتبٌ كبيرٌ قبل نوبل بدليل أن أمي قالت ذلك. أدفسُ وجهي في كأس الكاساتا بالفراولة والڤ-;-انيليا، وأشبُّ بين الحين والآخر على قدمي كي أحدّق في الكاتب الكبير. هل يختبئ الإبداعُ الكبيرُ داخل هذه الزبيبة الكبيرة؟ حين أعود إلى البيت، أركض إلى غرفتي وأواجه المرآة في تسريحتي، وأبحث في وجهي عن علامة الإبداع، فلا أجد زبيبة. كبيرة كانت أم صغيرة. يعني لن أكون كاتبة كبيرة أبدًا!
لم أكن قد قرأت له حرفًا. وحين أكبر قليلا سأبدأ بقراءته "الثلاثية" وأحبها، رغم أن شيئًا ما يؤرقني بها، لن أستطيع تحديده إلا بعد نضوجي. وبعد عدة سنوات أخرى سأكون قد قرأت معظم ما كتب وأصبحت جاهزة لتكوين ملاحظاتي على رواياته بشكل عام. سأبني وجهة نظر تجعلني أحمل بعض "النقمة" على الكاتب الكبير. سأتحفّظ مثلا على طريقته في رسم شخصية المرأة المصرية في أوائل القرن الماضي. المرأة لدى روايات محفوظ إما "ساقطة" بإرادتها: (زبيدة)، أو "فاضلة" رغم أنفها: (أمينة)! يعني هي فاضلة حين لا تستطيع أن تسقط! ولماذا لا تستطيع؟ لأن رجلا ما قد حبسها وقيّد حريتها فصارت فاضلة! تسييرًا لا اختيارًا. فاضلة بسبب قبضة الرجل المسيطر على معصمها. أين إذن جداتنا وأمهاتنا اللواتي اخترن الفضيلة اختيار لا قسرًا؟ ومحفوظ نفسه يحكي عن أمه أنها كانت مثقفة دون كتاب ولا معلّم، ترتاد المتاحف وتستمع إلى الطرب الرفيع!
سطّر نجيب محفوظ تاريخَ مصر كما لم تكتبه كتبُ التاريخ الزائفة والمؤرخون المرتزقة. لم أعرف العصر التي عاشته مصر بعد ثورة 19 وقبل ثورة يوليو 52 إلا من روايات العم نجيب. لذلك كان حزني شديدًا لأنني لم أر نموذج المرأة الذي كنت أحلم أن أراه. المرأة المثقفة بفطرتها، الفاضلة باختيارها، الواعية بحقها الخاص بعيدًا عن عباءة الرجل وقبضة يده الغاشمة. المرأة المصرية العظيمة لكونها مصرية. هل حرية المرأة دون قبضة رجل بالضرورة تعني سقوطها؟ هن نساء عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي؟ يعني مجايلات لجدتي مثلا؟ أكلهنّ كنَّ إما زبيدة أو أمينة؟ طيب أين جدتي يا ترى؟ جدتي "فاطمة هانم إبراهيم سليمان" لم تكن زبيدة الساقطة، ولا أمينة الفاضلة رغم أنفها. جدتي كانت تقرأ الأدب والشعر والفلسفة وتعزف البيانو وتحفظ الشعر وتتكلم الفرنسية وتحفظ القرآن وتقيم الصلوات في مواعيدها، وكانت صاحبة عصمة ولها زوج يحبها لا يقمعها. كانت تلبس الفساتين الأوروبية وتخرج وترى الحياة، لكنها لم تسقط، لأنها اختارت أن تكون فاضلة. فلماذا لم أر جدتي في رواياته؟ أعلم أنه اختارَ أن يفضح سلبيات المجتمع، وأنه كان داعيةً لحرية المرأة رغم نماذج بطلات رواياته، لكنني رغم ذلك كنت أبحث عن نموذج جدتي بين سطوره، ولم أجده!
لكنني أحببته، وسوف أضع كل حبي له في آخر قبلة قبّلتها لرأسه في آخر لقاء جمعني به في أبريل 2006 قبل طيرانه للسماء بأربعة أشهر فقط. قبّلته كأنما أعتذر له عن موقفي من موقفه من المرأة. موقفي الذي لم يتغير إلى الآن وحتى إشعار آخر.
أحببتُ عمّ نجيب لأنه يضعني رأسًا أمام المثال الذي أحبُّ أن أعود إليه كلما آلمني حالُ مصرَ والمصريين. فهو النموذج الأجلى لفراعين مصر. حيث دقّة العمل واحترام الوقت وتنظيم الحياة إضافة إلى الإبداع الملهم. مصر بتركيبتها الحضارية والثقافية الثرية. أين هي الآن وما هذا الذي آلت إليه؟! كلما أخذني القنوط تأملتُ نماذجَ على شاكلة محفوظ ومجدي يعقوب وأحمد زويل وطه حسين وزكي نجيب محمود وحسن فتحي وغيرهم الكثير. أتأملهم فيعود إليّ اتزاني وثقتي بالحياة. ما معنى أن يقضي رجلٌ ما يزيد عن ثمانين عامًا من عمره يعمل دون توقف؟ لا سيما إذا كان عمله هو "الإبداع"، الذي اشتهر أن أصحابه لابد وأن يكونوا بوهيميين فوضويين يحيون خارج الزمن، دون نظام أو ترتيب. ينتظرون الإلهام و"يفوضوون" حياتهم بحجة الفن والانطلاق من الأرض والثوابت. كان العم نجيب يجلس إلى مكتبه كل يوم من السادسة حتى التاسعة صباحا، حتى يبرمج عقله على استجلاب المادة الكتابية في هذه الساعات تحديدا. حيلة تعلمها من نظرية الارتباط الشَّرطيّ لدى الروسي إيڤ-;-ان بافلوف، ونجح بالفعل في أن "ينظّم" ما لا انتظام فيه، وأن يبرمجَ مَلَكةً هي في الأساس عصيةٌ على البرمجة ونقيضٌ للتنظيم. حتى بعدما يدٌ جاهلةٌ طعنته في عنقه من دون أن تقرأ له حرفًا في أوائل التسعينيات، ظلَّ يحلم ويكتب ولم تقعده العاهةُ عن الإبداع، إذ أيُّ عاهةٍ تعيق الحلُم؟! طعنه شاب جاهل مُسطّح لأنهم "قالوا له" إن رجلَ "أولاد حارتنا" كافرٌ ملحد! لكنه ظلَّ يكتب والخنجر مغروس في عنقه دليلا دامغًا على تسطحّ الوعي لدى كتلة راهنة من المصريين، وعلى انهيار منظومة التعليم في في مصر. عاش محفوظ زمن ازدهار مصر الذي لم أره وليس من شاهد لي عليه إلا حكايات الجدة والأفلام الأبيض والأسود.
أمس 11 ديسمبر، كان عيد ميلاد الرجل الذي وضع نوبل للآداب في كأس مصر والعرب لأول مرة في التاريخ. عظيمة هي مصر، عظيمة بحضارتها وبحداثتها رغم كل الانهيارات الطارئة الراهنة. أتمنى على الله أن تكون طارئة، وكل عام وأنت طيب حيث تكون يا عم نجيب.



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نجيب محفوظ... لقاء أول... لقاء أخير
- أسعد امرأة في العالم
- ضد مجهول ضد الإنسانية
- المرأة وخلط الدين بالسياسة
- حكاية الرجل الشرير
- في ذكراها الأولى: صباح الخير يا صبوحة
- إنهم يكرهون المادة 53
- الشاعر والبرلمان... الطيارة والقطار
- مشاهداتٌ من دفتر الانتخابات
- الشارع لنا... يا مسز نظيفة!
- خيط رفيع بين الضحية والإرهابي
- سقطة الكردوسي
- صوتُ الرئيس ونفيرُ البارجة
- طفلٌ أصمّ في الجوار
- هَدْرُه علَّمَ الجشَع
- أصل الحدوته
- مصر زعلانة منك
- شاهدْ الهرم... ثم مُتْ
- مَن كان منكم بلا إرهاب، فليضربنا بحجر
- محاضرة من القرون الوسطى


المزيد.....




- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - هذا نجيب محفوظ، وهذه جدتي