|
أسعد امرأة في العالم
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 5010 - 2015 / 12 / 11 - 16:10
المحور:
الادب والفن
“حين تمضي/ مع الضبابِ والهجرْ/ وعدتْني الشمسُ/ أن تهجرَ أرضي/ وتمضي مع أطفالِها/ ووجوهِها المبعثرة في كوكبِ الله/ ثم تتكاثفُ في شعاعٍ واحدٍ/ كأنهُ الكوكبُ المهجورْ/ وتخرجُ من غرفتي/ ومن قلبي..”
*** يا تُرى كم امرأة في العالم تتمنى أن تكون محلّ تلك المرأة سعيدة الحظ؟! السيدة ذاتُ الوعد التي رافقت أعظم عقل رجل عرفته مصرُ على مدار قرون. ويا تُرى كم بالمائة تحملُ تلك السيدة من إرث نجاحه وتفرّده الذي يشارف المعجزات؟ وكم، بالمقابل، حملتْ هي من أسباب هذا النجاح والتفرّد؟ ويتجددُ تردُّدُ السؤال في أعماقي، كلما شارفتُ تخومَ هذا العالم المدهش، عالم مكفوفيْ البصر. اقتربتُ من هذا العالم وأنا بعدُ في طفولتي الأولى. حدث أنْ سقطَ جَدّي في بئر المصعد لتنفصل شبكيتُه، فدخل بابَ العتمة الأبدية، بعدما كانت عيناه كلَّ زاده في الحياة، بسبب حبّه المفرط للقراءة، والحياة. وحدث أنْ أصبحتُ أنا عينيه؛ أقرأ له، وأتعلمُ منه "فنَّ" القراءة. فالقراءةُ فنُّ يصْعُبُ فنَّ الكتابة. علّمني كيف أقرأُ أغاني الأصفهاني والشوّقيات والقرآنَ الكريم والأناجيلَ والزرادشتيات وغيرها، دون أن ألحنَ في القول؛ فاستقام لساني، بعدما استقامتْ أذني مع بحور الخليل. كنتُ أنظرُ إلى دماغه أودُّ لو أشقّها لأسرقَ الكبسولةَ التي تحوي تلك العلومَ والفنونَ والمعارف، ثم أزرعها في دماغي. هكذا ببساطة! تماما مثلما ننقلُ شريحةً صغيرةً مُحملّة بالمعلومات من هاتف خلويٍّ إلى آخر. وتحوّل حسدي إياه رغبةً مُلحّة في أن ألجَ عالمَه المظلم. فأعودُ إلى غرفتي، بعد درس القراءة، أغمضُ عينيّ نصفَ ساعةٍ كاملةً، ثم أحاولُ أن أمارس طقوسَ يومي المعتادةَ دون عينين. في محاولة مستميتة لأقبض على شعور جدي الأعمى. ثم أنخرطُ في البكاء وقد أسقطتُ الكوبَ من فوق المكتب، وتعثرتُ في السجادة فانخدشَ أنفي. ولما أخفقُ في البحث عن قطعة قطنٍ لأوقفَ خيطَ الدم النازف، أفتح جفني قليلا لأسترقَ النظرَ، ثم أضمدُّ جرح أنفي، وأضمدُّ معه شعوري المرير بالذنب. ليس، وحسب، لأنني فتحتُ عيني وغششتُ في اللعبة الوجودية اليومية، بل هو شعورٌ بالذنب لأنني مبصرةٌ بينما الآلافُ حول العالم لا يبصرون. وكبرتُ ولم يبرحني السؤالُ: كيف يدبر هؤلاء النبلاءُ يومهم؟ النصفُ ساعةٍ الصعبةُ، التي أرهنُها من يومي للعتمة، هي أنصافُ ساعاتٍ، وساعاتُ، وأيامٌ، وشهورٌ، وسنواتٌ طوالٌ، وأعمارٌ، لدى أولئك الذين انطفأ عنهم نورُ البصر! فكيف يعالجون الأمر؟ والسؤالُ الأخطرُ: كيف وصل طه حسين إلى ما وصل إليه من معرفةٍ تملأ الأطلسيّ نورًا، وهو لا يكادُ يميّز بين زُرقةِ البحر وخضرة الشجر؟!
أسعد امرأة في العالم في تقديري هي السيدة سوزان طه حسين التي قال فيها عميدُ الأدب العربي: "بدونكِ أشعرُ أنني أعمى حقًّا. أمّا وأنا معكْ، فإني أتوصّلُ إلى الشعور بالأشياء التي تحيطُ بي." هكذا كتبَ طه حسين لزوجته الفرنسية وبعدما مات ردّتْ عليه، في كتابها الفاتن: "معكَ"، الصادر عن دار المعارف 1982، تقول: "ذراعي لن تُمْسكَ بذراعك مجددًا، ويداي تبدوان لي الآن بلا فائدة!"
يرنُّ هاتفي الآن. يخبرني الصحفي "على الفاتح" أنه قد وصل مقهى "كوستا" الذي اتفقنا على اللقاء فيه ليُجري حوارًا صحفيًّا معي. ويعاودني الشعورُ بالذنب؛ إذْ اخترتُ مكانَ اللقاء على مرمى حجر من بيتي، بينما كان عليه أن يقطعَ المسافةَ من بيته بحدائق القبة، إلى الحي النائي حيث أنا، مُصاحِبًا، لا أحدَ، سوى عتمتِه. كيف له، وهو من أولئك النبلاء، أن يعرفَ طريقَ المترو بزحامه وأنفاقه وجسوره وأخطاره، ثم الباص الذي سيوصله حدّي؟ لكنه عرف. ووصل في الموعد! يقول لي في الهاتف وهو يضحك: "هاعرفك ازاي؟ أنا مش باشوف! بصي، أنا لابس قميص لبني ومعاي شنطة سمسونايت حمراء، فيقاطعه أحدٌ بجواره مُصحِّحًا، فيستطرد الفاتح ضاحكًا: قميصي يا ستي طلع كاروهات وشنطتي سودا، وأنا جالسٌ، أظن، في مقدمة المقهى و.." فأقاطعه بارتباكٍ: لا تقلق يا صديقي أنا هاعرفك!". وأذهب إليه. وأعرفه. أصافحه بحرارة وحب وإكبار، فيبادرني: إن لم يخني السمعُ، هل جئتِ بدراجة؟" فأحسدُ فراسته، وأصدق أن الحواسَ الأخرى تصبحُّ أحدَّ من شعرة معاوية؛ لذلك هم أقوياءُ! يستحقون الحسد والتقديرَ، وأيضًا، الفرحَ والخُيلاء بأن لنا أصدقاءَ مثلهم يحبوننا ويسعون إلى لقائنا، رغم المشقّة. رغم العتمة. *** والمقطع الشعري من ديوان (الأوغاد لا يسمعون الموسيقى) دار (العين) 2016
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ضد مجهول ضد الإنسانية
-
المرأة وخلط الدين بالسياسة
-
حكاية الرجل الشرير
-
في ذكراها الأولى: صباح الخير يا صبوحة
-
إنهم يكرهون المادة 53
-
الشاعر والبرلمان... الطيارة والقطار
-
مشاهداتٌ من دفتر الانتخابات
-
الشارع لنا... يا مسز نظيفة!
-
خيط رفيع بين الضحية والإرهابي
-
سقطة الكردوسي
-
صوتُ الرئيس ونفيرُ البارجة
-
طفلٌ أصمّ في الجوار
-
هَدْرُه علَّمَ الجشَع
-
أصل الحدوته
-
مصر زعلانة منك
-
شاهدْ الهرم... ثم مُتْ
-
مَن كان منكم بلا إرهاب، فليضربنا بحجر
-
محاضرة من القرون الوسطى
-
تعليم خفيف الظل
-
أيوا مصر بتحبك
المزيد.....
-
جينيفر لوبيز وجوليا روبرتس وكيانو ريفز.. أبطال أفلام منتظرة
...
-
قراءة في ليالٍ حبلى بالأرقام
-
-الموارنة والشيعة في لبنان: التلاقي والتصادم-
-
-حادث بسيط- لجعفر بناهي في صالات السينما الفرنسية
-
صناع أفلام عالميين -أوقفوا الساعات، أطفئوا النجوم-
-
كلاكيت: جعفر علي.. أربعة أفلام لا غير
-
أصيلة: شهادات عن محمد بن عيسى.. المُعلم والمُلهم
-
السعودية ترحب باختيارها لاستضافة مؤتمر اليونسكو العالمي للسي
...
-
فيلم من إنتاج -الجزيرة 360- يتوج بمهرجان عنابة
-
-تاريخ العطش-.. أبو شايب يشيد ملحمة غنائية للحب ويحتفي بفلسط
...
المزيد.....
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
المزيد.....
|