أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - المُغنّي والزعيم... وشعبٌ مثقف














المزيد.....

المُغنّي والزعيم... وشعبٌ مثقف


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 4968 - 2015 / 10 / 27 - 11:01
المحور: الادب والفن
    



كل ده كان ليه؟ أم كلثوم أم جمهورها؟ الرئيس المثقف فنيًّا أم الفنان أم الشعب؟ من يصنع من؟
هل ثقافةُ المجتمع تُفرز القاماتِ الفكريةَ والفنية الرفيعة؟ أم العكس؟ أي القامات الرفيعة هي التي تنهض بالمجتمع وتجعله مثقفًا مستنيرًا؟ مَن الذي جاء بمَن: أم كلثوم هي التي أنتجت جمهورَها الراقي، أم ذلك الجمهور الراقي هو الذي أوجد أم كلثوم؟
جميعُنا نجلس أمام شاشات الأبيض والأسود لنتأمل حفلات أم كلثوم، ننصت إلى صوتها ونلمح على عجل فستانها وإيشارب يدها، ثم نبدأ الطقس المحبب في مشاهدة جمهورها الأنيق المحتشد بقاعة سينما ريڤ-;-ولي. تتفرّس عيونُنا في الوجوه المصرية النظيفة التي تركت دفء بيوتها من أجل عيون الفن الرفيع. نتأمل ذلك الجمهور المدهش الذي كأنه من كوكب آخر. نتفحّص الفراءات المنسدلة على أكتاف الحسناوات اللواتي أنيقاتٌ في فساتينهن الساحرة، ونشخُص في تسريحات الشعر المنمقة فوق الأعناق المرفوعة في كبرياء المرأة حين تدرك جمالَها، ونكاد نشمُّ عطورهن الباريسية تنثرُ أريجها في المكان. أولئك الجميلات وأزواجهن الجالسون جوارهن، ليسوا حالة استثنائية من المجتمع المصري آنذاك في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، إنهم وحسب المحظوظون الذين فازوا بمقاعد في حفل أم كلثوم الشهري. أما بقية الشعب المصري فيتحلّق الآن حول أجهزة الراديو في كل مكان ليتابعوا الحفل بآذانهم. مَن أسعده زمانُه بشراء راديو، يحقُّ عليه واجبُ استضافة جيرانه وأقربائه في بيته لينتظروا معًا صوت شادية العصور وكوكب الشرق والغرب في أغنيتها الجديدة في الخميس الأول من كل شهر، في طقس فنيّ مدهش يعرفه من يعيشون بيننا اليوم من الأجداد والجدّات. مَن البطلُ في حفلات أم كلثوم؟ هي أم الجمهور؟ أم كلاهما؟ أم الملك الذي شجّع الفن الرفيع ودعمه، ثم خليفته رئيس الجمهورية الذي كرّس احترام الفنون إلى درجة أن طلب من النجمين المتنافرين: أم كلثوم وعبد الوهاب، أن يجتمعا في عمل واحد، فكان لقاء السحاب الذي دشّنته: أنت عمري؟
بعد نجاة الرئيس جمال عبد الناصر من حادث المنشية الإخواني الخسيس العام 1954، أقامتُ القوات المسلحة حفلا طربيًا احتفاءً بفرحة الشعب المصري والعربي بنجاة الزعيم من الاغتيال. حفلٌ تاريخيّ أحياه الموسيقار محمد عبد الوهاب، في حضرة جمال عبد الناصر وبقية أعضاء مجلس قيادة الثورة. شدا عبد الوهاب أغنيتين، الأولى وطنية كُتبت خصيصًا عن نجاة الرئيس يقول مطلعُها: "تسلم يا غالي ألفين سلامة/ لياليك ليالي مجد وكرامة"، والثانية عاطفية هي الأشهر من بين أغنياته: “كل ده كان ليه/ لما شفت عينيه". في الكوبليه الثاني من الأغنية، منح عبد الوهاب جمهوره الاستثنائي خمسَ عشرة دقيقة وثلاثين ثانية كاملة من الارتجالات الطربية الأسطورية التي لو لم يفعل عبد الوهاب غيرَها طوال حياته، لأكفته وزادت لينال لقب مطرب الكون الأول. استعرض خلال تلك الدقائق الغالية كل تنويعات الفنون الطربية عازفًا على عوده الثمين، ومن وراءه فرقته الموسيقية الذكية يحاول أعضاؤها اللحاق به ودوزنة نغمات آلاتهم الموسيقية على وقع ارتجاله الذي لا يعرفون مسبقًا أين سيحطّ رحاله في الجملة الموسيقية التالية. يطير من مقام إلى مقام، ومن قرار إلى جواب، ومن مساحة صوتية إلى أخرى، على الطريقة الوهابية الشهيرة التي تحار كيف يمتزج "الدلع التطريبي" باللعب الفوكالي وبالرجولة الصوتية الجادة في صوت ذلك الرجل الفذ! انطلق من مقام البياتي، ثم راح يحطّ رحال صوته على ما يقارب المقامات الموسيقية العشرة من صبا وحجاز ورست وعجم ونهاوند وسيكا وغيرها، ليعود في الأخير إلى مقام البياتي بعد تلك الرحلة الشائقة الشاقّة.
رابط المقطع الارتجالي المدهش للموسيقار عبد الوهاب
https://www.youtube.com/watch?v=6kC32yJDiDg

البطل في هذه الدقائق الخمس عشرة، ليس وحسب الموسيقار الكبير، ولا التخت المثقف الذي يلهث وراءه بخبرة ووعي بحيث تظن أن ذلك الارتجال المستحيلَ منظمٌ يسير على خطة مسبقة، وإن انتظم ما عاد ارتجالا، إنما البطل كذلك كان ذلك الجمهور "السمّيع" (بما فيهم ناصر ورفاقه)، الذين يعرفون كيف يتذوّقون الفنّ الرفيع ويعرفون متى يُنصتون بهدوء كأنهم في صلاة، ومتى ينفجرون في وصلة تصفيق حادة حين يفوقُ الجمالُ قدرتنا على التحمّل. في جلساته الخاصة، اعتاد عبد الوهاب منح مستمعيه تلك المتعة الإصغائية العظيمة مع لعبة التنقّل بين المقامات الموسيقية، ثم العودة في الأخير إلى المقال الأول الذي انطلق منه، هنا، يهتف الجالسون حوله: “حمدلله ع السلامة يا أستاذ"، فهم من الثقافة الموسيقية الواعية بحيث يعرفون أولا أنه عاد إلى مقامه الأولى عند هذه اللحظة، وثانيًا يدركون جيدًا صعوبة العودة إلى مقام نقطة الانطلاق حين يهيم الصوت بين عديد المقامات.
كانت تلك اللعبة الصعبة كذلك إحدى السمات الأثيرة الآسرة للمقرئ الجميل الشيخ مصطفى إسماعيل الذي كان يجيد التنقّل بين المقامات الموسيقية المختلفة أثناء تلاوة القرآن الكريم مثل عصفور يرتحل من شجرة إلى شجرة، دون أن يسقط أو يزلّ أو يلحنَ صوته الشجي.
حلّل الموسيقار عمار الشريعي أداء الشيخ مصطفى إسماعيل وهو يتلو قوله تعالى: “فدعا ربَّه إني مغلوبٌ فانتصر، ففتحنا أبوابَ السماءِ بماءٍ منهمر"، حيث قرأ هاتين الآيتين مراتٍ خمسًا دون أن تتشابه مرّةٌ مع أخرى في أسلوب التلاوة. ينطلق من مقام الصبا الحزين الشجي ثم يجول بين المقامات الموسيقية ليعود بعدئذ إلى مقام الانطلاق، فينفجر الجمهورُ المثقف تكبيرًا وتهليلا مدركًا صعوبة وعبقرية ما فعله المقرئ العظيم.
ونعود إلى سؤالنا الإشكالي الأول: مَن صانع مَن؟ القوى الناعمة العالية هي التي تُشكّل ذائقة الشعوب، أم هي الشعوب الذوّاقة المثقفة التي تصنع نجوم الطرب والأدب والتلاوة والتشكيل والموسيقى والعمارة والنحت والمسرح والسينما، حتى يكون بوسعنا أن نشير بإصبع ثابتة ونقول: هنا مجتمعٌ مثقف، هنا شعبٌ يستحق أن يعيش؟!



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عسل أسود
- المال مقابل الكرسي
- جمال الغيطاني... خذلتني
- قانون مكافحة التجهيل العمدي
- هكذا الحُسنُ قد أمر
- ما العلمانية؟
- سجينة طهران
- السلطان قابوس والاستنارة
- حزب النور سنة 1919
- السيف والرمح والقرطاس والقلم
- المراجعات على نهج ناجح إبراهيم
- أرجوحةُ الخَدَر ودولةُ الحاجة
- الأوغاد لا يسمعون الموسيقى
- حوار شامل مع الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت حول التيارات المتطر ...
- صباحُ الخير يا زينب
- الكارت الخائب
- أنا أغنى امرأة في العالم
- مسيحيو حزب النور
- بيان إلى السلفي ناجح إبراهيم من فاطمة ناعوت
- إحنا آسفين يا خروف!


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - المُغنّي والزعيم... وشعبٌ مثقف