أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عماد عبد اللطيف سالم - قراءة اقتصادية للمقاربة والمنهج والسياسات التدخليّة لتحقيق الأهداف الأنمائية في تقرير البنك الدولي عن التنمية في العالم ( 2015 )















المزيد.....


قراءة اقتصادية للمقاربة والمنهج والسياسات التدخليّة لتحقيق الأهداف الأنمائية في تقرير البنك الدولي عن التنمية في العالم ( 2015 )


عماد عبد اللطيف سالم

الحوار المتمدن-العدد: 4952 - 2015 / 10 / 11 - 00:20
المحور: الادارة و الاقتصاد
    



أولاً : الأطار المنهجي والمقاربة التحليلية للتقرير .
يمكن بهذا الصدد ، تقديم قراءة اقتصادية ، لرصد الملامح والخطوط الرئيسة للمقاربة والمنهج والسياسات التدخليّة لتحقيق الأهداف الأنمائية ، كما وردت في هذا التقرير ، بما يأتي :
1 - يعكس عنوان هذا التقرير ، وهو : ( العقل والمجتمع والسلوك ) نمطاً للتفكير بمقاربة جديدة للمشكلات , تساعد على تصميم وتنفيذ السياسات والاجراءات التدخلية ذات الصلة بالمهمات الرئيسية للتنمية البشرية التي تستهدف اختيارات البشر وأفعالهم ( سلوكهم ) . وبهذا يعتقد كتاب التقرير بأن الوقت قد حان لإعادة تصميم السياسات الانمائية لكي تهتم بالعوامل البشرية ( السلوكية ) .
2- ينبغي فهم التأثيرات النفسية والاجتماعية والثقافية العملية أتخاذ القرار والسلوك البشري ، لان لها أثراً ملموسا على نتائج التنمية .
3 - من الممكن تسخير تلك التأثيرات لتحقيق الاهداف الانمائية حول الصحة والفقر والبيئة والتعليم والمساواة بين الجنسين .
4- أن الرؤية المتعلقة بكيفية اتخاذ الناس لقراراتهم يمكن ان تؤدي الى أجراءات تدخلية جديدة تساعد الأسر في أدخار المزيد من المال . وتساعد الشركات في زيادة الانتاجية . وتساعد المستهلكين على توفير الطاقة . وتساعد الآباء في تحسين التنمية المعرفية لأطفالهم .
5 - وهذا المنهج يوسّع نطاق مجموعة الادوات والستراتيجيات الهادفة الى تشجيع التنمية ومكافحة الفقر . كما انه يعزز من فهمنا لكيفية تطور السلوك الجماعي ( مثل شيوع الثقة او تفشي الفساد ) وزيادة ترسخه في المجتمع .
6- وبقدر تعلق الامر بالشأن الاقتصادي فان المنهج المستخدم في هذا التقرير , يدفع الى إعادة النظر بمسلمات علم الاقتصاد التقليدي ، التي تضع الادراك البشري والدوافع السلوكية المرتبطة به في " صندوق أسود " ليبسّط بذلك عن عمد الافعال الداخلية الغامضة للأطراف الفاعلة ، وذلك بأستخدام نماذج تفترض في اغلب الاحيان أن الناس يأخذون بنظر الاعتبار جميع التكاليف والعوائد الممكنة من منظور المصلحة الذاتية , ثم يتخذون بعدها قراراً منطقياً مدروساً سيكون لمصلحتهم الشخصية وللمصالح العامة على حد سواء .
أن هذا المنهج في تناول الموضوعات لـ " علم الاقتصادي التقليدي " يمكن ان يكون مفيداً في تحليل ودراسة الكثير من القضايا والموضوعات , لكنه يتجاهل المؤشرات النفسية والاجتماعية للسلوك البشري . فالبشر ليسوا آلات محايدة أو " نماذج " قياسية للتنمية تقوم بعمل محدد ضمن نسق محسوب بدقة رياضية عالية . بل هم كائنات انفعالية تتسم بالقدرة على التكيف . وهم يتأثرون عند اتخاذ قراراتهم بالمحفزات المرتبطة بالتنمية , والعلاقات والاعراف الاجتماعية المحلية , والنماذج الذهنية والسلوكية المشتركة . وكلاً من هذه العوامل تمارس دوراً في تحديد ما يراه الافراد مرغوباً أو ممكنناً فيما يتعلق بحياتهم .
7- أما بالنسبة لراسمي السياسات التنموية والقائمين بها , والمسؤولين عنها , فأن تحديد المؤثرات النفسية والاجتماعية على السلوكيات , وبناء سياسات تعمل لصالحهم ( لا ضدهم ) ، يتطلب نهجاً أكثر صرامة واختباراً عند تصميم السياسات . ولأن اتخاذ القرار البشري هو على هذا القدر من التعقيد , فان التنبؤ بكيفية استجابة المستفيدين لأجراءات تدخلية بعينها يمثل تحدياً . ومن شأن عمليات رسم وتنفيذ السياسات الانمائية أن تستفيد من التشخيص الدقيق للمحركات والدوافع السلوكية , واخضاع عملية تصميم البرامج الانمائية للكثير من عمليات الاختبار والتجريب المبتكرة , بحيث يمكن توقع الاخفاقات , وايجاد قنوات تفاعلية ثنائية الاتجاه , و بما يسمح بالقائمين بالعمل في الشأن التنموي بتحسين تدريجي ومستمر لقدرتهم على رسم السياسات والتدخلات المرغوبة .
8- أن هذا المنهج الجديد في العمل التنموي يقوم على منهج جديد لعلم الاقتصاد ذاته . أن النماذج الاقتصادية التقليدية , التي تنظر الى الفاعل الاقتصادي الفردي .. كما لو أنه يتصرف كعنصر بلا عواطف , ويحكمه المنطق , ولا تحركه سوى المصلحة الذاتية .. لم تعد وكأنها معتقدات مسلّم بها . فالناس لا يتخذون قراراتهم آخذين بنظر الاعتبار جميع التكاليف والمنافع . ان الناس يريدون التوافق مع ما يتوقعه المجتمع منهم . وليس لدى الناس أذواق لا تتغير , أو تتغير بصورة اعتباطية . وتعتمد تفضيلاتهم على البيئة التي استدعتها , وعلى المؤسسات الاجتماعية التي شكلت الاطر التفسيرية التي يرى الافراد العالم من خلالها . ومن هذه المقاربة بالذات بدأت عملية إعادة اختراع علم اقتصاد يقوم على المزيد من الفهم الواقعي للدوافع البشرية .
ولم تنطلق عملية إعادة الاختراع هذه من فراغ ، بل استندت الى قدر ضخم من الادلة التجريبية , من مختلف العلوم السلوكية والاجتماعية , فالعقل على نقيض الكومبيوتر ، هو " كيان سيكولوجي" ، وليس كياناً " منطقياً " . وهو مرن وليس ثابت . ومع انه من المنطقي ان تتم معاملة المشكلات المتطابقة بصورة متطابقة , لكن الناس لا يفعلون ذلك غالباً . فاختياراتهم تتغير عندما تتغير الخيارات الافتراضية أو يتغير ترتيب الاختيارات . والناس يستمدون خياراتهم من نماذج ذهنية ( وليس من نماذج قياسية - كمية ) لتفسير التجارب واتخاذ القرارات .
وهذا التقرير يعمل على وفق هذا المنهج بالذات . ويبين ان من الممكن لمنظور متعدد الاختصاصات فيما يتعلق بسلوك البشر , أن يؤدي الى تحسين القدرة التنموية لعلم الاقتصاد , ويوفر أدوات جديدة للسياسات الانمائية .
ثانياً : المنظور السلوكي والاجتماعي للسياسات
في الكثير من الحالات يمكن لفهم اكثر تكاملاً لعملية اتخاذ القرار البشري , أن يساعد على تحقيق اهداف مشتركة ، مثل الحد من الفقر ، عن طريق استخدام حوافز لزيادة الادخار ، أو الحصول على خدمات تعليمية وصحية افضل ، وبالتالي زيادة انتاجية ورفاهية الافراد .
ويطرح التقرير نماذج للاجراءات التدخلية تعتمد على وسائل بسيطة للتواصل مع المستفيدين , ويقدم وصفاً للأدوات المستخدمة فيها , وللنتائج المترتبة عليها . وتؤكد الدراسات التجريبية المعتمدة في التقرير على أنه يمكن للأستعانة بالرؤى المستمدّة من العلوم السلوكية والاجتماعية الحديثة أن تخلق انواعاً جديدة من الاجراءات التدخلية يمكن أن تكون ذات تكاليف قليلة جداً .
وبقدر تعلّق الأمر بالأهداف الأنمائية ، فانّ أهمّ المجالات التي يمكن استخدام هذه الأجراءات فيها ، هي :
1 - تنمية مهارات ومعارف الأطفال وأدراكهم .
في جميع البلدان التي شملتها الدراسات ( سواء كانت من البلدان المنخفضة أو المتوسطة أو المرتفعة الدخل ) يوجد انحراف بدءأ من سن الثالثة , في المهارات الادراكية وغير الادراكية ، بين أطفال الاسر في أدنى سلّم توزيع الثروة القومية ، وبين الأسر التي تقع في قمّةهذا السُلّم . ويأتي هذا التفاوت ، جزئياً ، من مشكلات يمكن للسياسات أن تعالجها .
2- الحدّ من الفقر
تشير البحوث النفسية والانثروبولوجية ، إلى ان الفقر يخلق " نموذجاً ذهنياً " يرى الفقراء من خلاله انفسهم , كما يتعرفون من خلاله ايضاً على الفرص المتاحة لهم . وبشكل خاص فان " هذا النموذج الذهني " يمكن أن يُثبط قدرة الفقراءعلى تخيّل حياة افضل .
وتظهر الكثير من الدلائل بهذا الصدد أن تصميم الاجراءات التدخلية ، والسياسات التي من شأنها تغيير هذا النموذج الذهني , يمكن أن تساعد الناس على معرفة امكانياتهم الخاصة بسهولة أكبر . أو من شأنها ،على الاقل ، ألا تذكّر الفقراء بحرمانهم ، وبما يمكن ان يترتب على هذا الحرمان من معطيات . وبذلك فأنها يمكن أن تساعد على تحقيق نتائج تنموية هامة ، مثل تعزيز أهمية التحصيل الدراسي , ورفع القدرة على الاستجابة لمتطلبات سوق العمل ، والمشاركة الاوسع في برامج مكافحة الفقر .



-3 تنظيم مالية الاسرة
أن أتخاذ قرار مالي صائب هو أمر صعب . فهو يتطلب من الافراد فهم التكلفة المستقبلية للمال . والتركيز على المكاسب والخسائر على حد سواء . ومقاومة أغراء الافراط في الاستهلاك " المظهري " . ويمكن لنا بكل بساطة فهم الصعوبات التي ينطوي عليها هذا الامر ( في أطار رؤى سلوكية واجتماعية تقليدية , كتلك السائدة في العراق ) .
وغالباً ما ترتفع الديون الاستهلاكية بسبب شكل معيّن من اشكال " التفكير التلقائي " , حيث يمنح الافراد وزناً للاستهلاك الحالي من خلال الاقتراض , أكثر بكثير مما يمنحوه لخسائر الاستهلاك القادم ، وذلك عندما يضطرون مستقبلاً الى سداد ما أقترضوه . ويمكن لتدخلات يقوم بها المجتمع المحلي ( من خلال توجيهات تصدرها القيادات التقليدية في هذا المجتمع ) ، أو من خلال حملات توعية اعلامية , أن تعمل على تنمية " حسّ التناسب " لدى الناس ، بحيث لا يميلون للاقتراض من المصارف لشراء سيارة حديثة , بينما لا توجد في بيوتهم مرافق صحية صالحة للاستخدام البشري .
كما يمكن لأنواع معينة من القوانين المالية أن تساعد المستهلكين في تأطير قراراتهم بشأن الاقتراض ضمن سياق أوسع يتضمن ما هو أكثر من توقعات ونتائج الاستهلاك الفوري . وهذا النوع من التنظيم ( مدعوماً بإجراءات تعريفية ومواد أيضاحية تقوم البنوك بتقديمها للمقترضين ) ، يمكن ان يساعد الافراد على اتخاذ قرارات مالية , وخيارات للإنفاق يمكن أن يفضلونها على الارجح , إذا ما فكروا فيها ب " تدبّر " لا بشكل " تلقائي " .
4- الانتاجية
يمارس " التفكير التلقائي " , و " النماذج الذهنية " , والحوافز الاجتماعية ، دوراً كبيراً في تحفيز العاملين , وفي اتخاذ القرارات الاستثمارية للمزارعين ، واصحاب مشاريع العمل الحر . وحتى عندما تكون الحوافز النقدية مرتفعة , فقد لا يبذل الافراد القدر المطلوب من الجهد , الا تحت ضغط الحاجة الملحة , أو عندما يصبح يوم الدفع وشيكاً . وعلى سبيل المثال فان العاملين قد يضعون قرار العمل بإنتاجية أكبر ودخل أعلى , في إطار آني " لحظي " ضيق . ومن البديهي أن يضيّع عليهم ذلك فرصة تحقيق اهدافهم . وهذا هو ما يسمّى بـ " الفاصل بين النيّة والعمل " . وبقدر تعلق الامر بمفهوم ودلالات الانتاجية في العراق , فأنّ ذلك يرتبط بمنظومة إدراك اجتماعية – قيمية , ذات صلة رئيسة ومباشرة بطبيعة العقد الاجتماعي القائم منذ عقود بين الدولة الريعية – الراعية في العراق , وبين رعاياها . ويمتد ذلك الأدراك الى تحديد طبيعة ودور الدولة ذاتها . والى دور مؤسسات الدعم والحماية الأجتماعية والأقتصادية ، والى دور وطبيعة الضريبة ، وتأثيرها على بعض اشكال التنظيم الديموقراطي ( كمقايضة الريع النفطي بالصوت الأنتخابي ، وظاهرة الركوب المجاني للخدمات العامة ، وما يرتبط بكلّ ذلك من ممارسات ، وسلوكيّات ، وانماط ادارة وتصرّف ذات طبيعة خاصّة بالموارد الوطنية ، والمال العام .
وكلّ هذه المحدّدات ، والاشتراطات ، وانماط الفهم والقيم والسلوك المجتمعيّة ، تجعل هدف رفع الانتاجية يحتّل مرتبة متدنيّة في سلم اولويات السياسة العامة ، واكثرها صعوبة عند صياغة السياسات التدخلية الخاصة بها , لان هذا يتطلب تغييراً جذرياً لنمط الادارة السياسية والاقتصادية برمته .. وليس ترقيعا للنتائج المترتبة عليه فقط ( كما يحدث الآن ) .
5- الصحة
أن ما يتخذه الناس من قرارات بشأن صحتهم وسلامتهم الجسدية ، يأتي من معلوماتهم الخاصة والعامة بهذا الصدد . وهو يقوم أساساً على مدى توفر السلع والخدمات الصحية واسعارها . كما يعتمد على الاعراف والضغوط الاجتماعية والنماذج الذهنية الشائعة عن اسباب المرض . ومدى الاستعداد لتجربة اجراءات تدخلية معينة . ومن خلال ادراك هذه المجموعة العريضة و المتنوعة من العوامل البشرية , يمكن للسياسات المتعلقة بالصحة أن تؤدي في بعض الحالات الى تحسين نتائجها تحسيناً هائلاً .
6- التغيّر المناخي
تشكل مواجهة ظاهرة التغيّر المناخي أحد التحديات الحاسمة في عصرنا الراهن . وتعد البلدان والمجتمعات المتخلفة والفقيرة ( بشكل عام ) أكثر عرضة للتأثر بمشاكل تغير المناخ , كما انها تتحمل ايضاً تكاليف كبيرة اثناء مرحلة التحول الى اقتصاديات تتسم بتدني معدلات انبعاثات الكاربون .
ولا تعتمد متطلبات معالجة تغيرات المناخ من قبل الافراد والمجتمعات على التغلب على التحديات الاقتصادية والسياسية والتقنية والاجتماعية المعقدة فقط , بل يتطلب الامر ايضاً التخلص من الكثير من الأوهام و التحيّزات الادراكية ، والقيمية ، بهذا الصدد .
أن الافراد في المجتمعات المختلفة يشكلون أراءهم بشأن المناخ استناداً الى تجربتهم مع الطقس خلال مدة قصيرة , وقريبة . وقد تؤدي الانتماءات الايدولوجية والاجتماعية الى تأكيد تحيّزات واحكام مسبقة بهذا الصدد , بحيث يميل الافراد الى تفسير وتمييز المعلومات بأسلوب يدعم ويؤيد تصوراتهم الاولية , واقتراحاتهم بصدد معالجة المشاكل ذات الصلة . وينزع هؤلاء الافراد عادةً الى التجاهل او التهوين من شأن المعلومات والمؤشرات المطروحة في شكل احتمالات مستقبلية , بما في ذلك التوقعات الخاصة بهطول الامطار , والمتغيرات الاخرى ذات الصلة بالمناخ . فاهتمام البشر في هذه المجتمعات بالحاضر ، هو اكثر بكثير من اهتماماتهم بالمستقبل . ومع ان الكثير من أسوء آثار التغير المناخي لن تأتي الا بعد سنوات عديدة من الان .. فان الناس في المجتمعات المتخلفة يميلون الى تفادي التحرك في وجه ما يطرحه المستقبل من تحديّات , والانحياز بدلاً عن ذلك الى خدمة المبادئ التي تخدم مصالحهم . وبصدد التدخلات المطلوبة فأن المنظوران النفسي والاجتماعي يوسعان من نطاق قائمة الخيارات المتاحة لمعالجة تغير المناخ . ومن هذه الخيارات الاستعانة بالسياسات في خلق عادات جديدة في استخدام الطاقة .
ثالثاً : عمل المهنيين العاملين في مجال التنمية .
ان المهنيين العاملين في مجال التنمية هم ذاتهم أكثرعُرضةً للتحيزات والاخطاء التي يمكن ان تنشأ عن التفكير التلقائي , أو التفكير الاجتماعي ، أو وفق نماذج ذهنية معينة . ولكي تكون تدخلاتهم حكمية ومنطقية وذات جدوى , ينبغي عليهم أن يكونوا أكثر وعياً بهذه التحيزات . وينبغي على المؤسسات المعنية بعملهم أن تقوم بتنفيذ أجراءات للتخفيف من آثارها .
ان التحديات المتشابهة يمكن أن تكون لها أسباب وجذور كامنة مختلفة . والحلول الرامية الى التغلب على تحَدٍّ ما ، في سياق معين ، قد لا تفلح في غيره . ونتيجة لذلك فأن ممارسة العمل في مجال التنمية تتطلب عملية اكتشاف وتعلم مستمرة .
ومع أن الهدف الرئيس من عملية التنمية ، هو القضاء على الفقر ، فان المهنيين العاملين في مجال التنمية لا يجيدون دائماً التنبؤ بكيفية تأثير الفقر على تشكيل العقول , او على كيفية تفكيرها . وهكذا ، فعندما أجرى فريق اعداد تقرير التنمية في العالم 2015) ) إستقصاءاً عشوائياً لفحص قدرات خبراء البنك الدولي على الحكم على الامور واتخاذ القرار .. لاحظوا أن 42 بالمئة من خبراء البنك تنبأوا بأن معظم الفقراء في العاصمة الكينية ( نيروبي ) سيوافقون على القول بأن المصول واللقاحات مبعث خطر لأنها قد تسبّب " العقم " .. في حين تبيّن من نتائج استقصاء مماثل بين السكان ، أنّ 11 بالمئة فقط من عينة الفقراء التي شملها الاستقصاء توافق بالفعل على هذه المقولة .
وبالمثل فقد تنبأ خبراء البنك ، بأن عدداً اكبر من فقراء جكارتا ( اندونيسيا ) ، وليما ( بيرو ) , سيعبّرون عن شعورهم بالعجز ، والافتقار للأدوات والسبل اللازمة للسيطرة على مستقبلهم . وهو ما لم يحدث في الواقع , استناداً الى نتائج الاستقصاء الذي اجراه فريق اعداد التقرير . وتدل هذه النتائج على أن المهنيين العاملين في مجال التنمية قد يفترضون ان الفقراء ربما كانوا أقل استقلالية , واقل شعوراً بالمسؤولية , واضعف أملاً وأقل معرفةً وادراكاً لإمكاناتهم ، مما هم عليه في الواقع . ومثل هذه " المعتقدات " والأحكام المُسبقة ، بشأن سياق الفقر ، ستؤثر حتماً ، وبالضرورة ، في تشكيل خيارات السياسات . ولذا فأن من المهم جداُ فحص " النماذج الذهنية " في مقابل المعطيات الملموسة على أرض الواقع .
ومن اغرب نتائج الاستقصاء التي اجراها فريق اعداد التقرير على خبراء البنك الدولي ، هي تلك المتعلقة بدراسة السبل التي يؤثر من خلالها المنظور الايديولوجي والسياسي لآفاق المستقبل ، على كيفية تفسير خبراء البنك الدولي للبيانات . فقد عُرضت على من شملهم الاستقصاء بيانات متطابقة في سياقين مختلفين . ثم طلب منهم تحديد النتائج المرجحة التي تؤيدها تلك البيانات . وتم في احد السياقين استخدام تأطير محايد سياسياً وايديولوجياً . وكان ذلك في شكل دراسة عن نوعين من انواع كريم البشرة ، وأيهما اكثر فاعلية . أما السياق الثاني فكان مشحوناً اكثر من الناحيتين السياسية والايدولوجية ، وكان حول مدى تأثير قوانين الحد الادنى للأجور في تخفيض اعداد الفقراء .
وتبين من الاستقصاء أن خبراء البنك كانوا أكثر قدرة على معرفة الاجابة الصحيحة في السياق المتعلق بكريم البشرة , مما كان عليه الحال في سياق الحد الادنى للأجور .. مع ان البيانات كانت هي ذاتها في كليهما . وربما يميل المرء الى القول ، أن هذا يحدث ( والمفروض به أن لا يحدث ) ، على الرغم من ان الكثير من العاملين في البنك الدولي هم من الخبراء المتمرسين بالفقر . لكن الحقيقة ان هذا حدث لان خبراء البنك الدولي متمرسون في موضوع الفقر , لا بالفقر ذاته . وهكذا فعندما واجه هؤلاء حسابات تتطلب الكثير من الجهد , فانهم قاموا بتغيير البيانات الجديدة بأسلوب يتسّق مع أراءهم ، وأحكامهم ، وتصوراتهم المُسبقة , والتي يشعرون أزاءها بالثقة والاطمئنان .

رابعاً : ملاحظات ختامية
1- يمكن للعديد من العوامل السلوكية والاجتماعية أن تؤثر في نجاح سياسة ما , لذا فأن ممارسة عملية التنمية تتطلب عملية اكتشاف وتعلّم مستمرة . وهذا ينطوي على ضرورة تقسيم الموارد ، من وقت ومال وخبرات ، على عدة دورات خاصة بالتصميم والتنفيذ والتقييم للسياسات التدخلية ذات الصلة بالتنمية .
2- أن افضليات الافراد واهدافهم المباشرة لا تنجح دائما في تحقيق مصالحهم . فالأفراد قد يختارون اشياء مختلفة بطرق تتسق اكثر مع أعلى سقفٍ ممكنٍ لطموحاتهم , أذا ما اُتيحت لهم فرصة تحقيق ذلك .
3- أن الوقائع على الارض لم تثبت مطلقاً أنه عندما تمتنع الحكومات عن التحرك فان الافراد سيحددون خياراتهم بحرية , وبشكل متسق مع ما فيه افضل مصالحهم , دون أن يتأثروا بأحد . فهناك عدد لا يحصى من الاطراف ذات المصلحة التي تستغل ميل الناس الى التفكير التلقائي والاذعان للضغوط الاجتماعية , والتعويل على النماذج الذهنية ( ومن بينها المُقرضون والمُعلنون والنُخب بكل انواعهم ) . وفي هذا السياق فأن تراخي الحكومة وتراجع دورها لا يترك بالضرورة مساحة مفتوحة ومطلقة للحرية الفردية , بل قد يرقى الى اللامبالاة بفقدان هذه الحرية .
4- مع ان هذا التقرير يسعى الى التأكيد على ضرورة الاسراع بتطبيق الرؤى الجديدة من خلال خطوات عملية في مجال اتخاذ القرارات ورسم السياسات الانمائية , ألا ان امكانيات وحدود هذا المنهج ليست معروفة تماماً بعد .
أن الموضوعات التي يتناولها هذا التقرير تندرج في إطار البحث في حقول – معرفية – استقصائية لا تزال نشطة ومتغيرة , وغير مستقرة .
ومع ذلك فأن موضوعات ومحاور هذا التقرير تقدم اضافة نوعية جديرة بالاهتمام والدراسة بصدد كيفية إحداث تغيير في حقل اقتصاديات التنمية , والبحث عن وسائل وادوات تعزز فعالية السياسات والاجراءات التدخلية لتحقيق الاهداف الانمائية الوطنية ، بأعلى درجة من النجاح الكفاءة .



#عماد_عبد_اللطيف_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قانون تقاعد خام برنت
- في هذا المساءِ المُلَفّق
- شيءٌ من الأسف .. في سيرة الأسف العظيم
- مثلُهُم .. تقتلني الأسئلة
- عندما نذهبُ أنا و أمّي .. إلى الجنّة
- أعداءُ أمّي .. وأعداءُ الحكومة
- كوليرا .. كوليرا
- جورج الوحيد
- شهيق .. شهيقٌ عميق
- أنا اتذكّركَ الآن . أنا أراك
- عندما يبقى مكانكَ فارغاً .. في قلبِ روحي
- أمّي .. في العيد
- العيدُ نساءٌ .. و مُدُن
- إي والله .. وهاي هيّة !!!!
- في العيد .. في العيد
- بغداد .. كاتيوشا
- كاتيوشا
- بغداد .. كوليرا
- رائحةُ الياسمين .. التي تملأُ السيّدة
- عن صراعات الماء والكلأ ، في مراعي الموازنة العامة للدولة


المزيد.....




- وزير اقتصاد إيران يزور الرياض الأسبوع المقبل
- رويترز: توقع انخفاض النمو الاقتصادي للسعودية في 2024
- المصرف الوطني السويسري يزيد في متطلبات الاحتياطي النقدي للبن ...
- أرباح -بنك وربة- الكويتي تنمو 10.3% في الربع الأول من 2024
- أرباح -جنرال موتورز- الأميركية تقفز 25% بالربع الأول من 2024 ...
- شركة هونغ يوان دينجلي للطاقة الجديدة بالصين تحضر القمة العال ...
- التنمية الاقتصادية الروسية تقدم توقعات جديدة لأداء الاقتصاد ...
- مصر تعلن حجم الأموال من صفقة رأس الحكمة في خزانة الدولة
- السيارات الكهربائية تغزو شوارع الأردن.. ما مصير محطات الوقود ...
- كيف غيّر ميسي وجه الاقتصاد الرياضي الأميركي بانتقاله إلى إنت ...


المزيد.....

- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى
- جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك ال ... / الهادي هبَّاني
- الاقتصاد السياسي للجيوش الإقليمية والصناعات العسكرية / دلير زنكنة
- تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف ومدى ... / سناء عبد القادر مصطفى
- اقتصادات الدول العربية والعمل الاقتصادي العربي المشترك / الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عماد عبد اللطيف سالم - قراءة اقتصادية للمقاربة والمنهج والسياسات التدخليّة لتحقيق الأهداف الأنمائية في تقرير البنك الدولي عن التنمية في العالم ( 2015 )