عبدالامير الركابي
الحوار المتمدن-العدد: 4930 - 2015 / 9 / 19 - 10:59
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ليس صحيحا بالمطلق ان التمايزات الاجتماعية والطبقية حتمية في كل المجتمعات البشرية، فتاسيسات حضارة العمل اليدوي والالي منذ عصر انتاج الغذاء،قامت على شكلين من اشكال الاجتماع، احدهما واقدمهما "مجتمع لادولة مشاعي"، والاخر تمايزي، غير ان العلوم البشرية تركز حتى الان على واحد من هذين النمطين، فتعمد لاضفاء خاصيات نموذج بعينه يتميز بتوزع الاختصاص والصراع الطبقي، معتبرة تمايزاته الداخلية دليل كمال ونضج جدير بالتعميم، متجاهلة تعدد النماذج داخل النموذج الواحد، فالتراتبية وتقسيم العمل يمكن ان يوجدا ضمن حالة "نموذجية" متميزة بذاتها، والمدينة العراقية الامبراطورية مثلا وجدت مع سرجون الاكدي محكومة بنشاط اساسي، هو النشاط التوسعي الحربي، مانجد انعكاسه واضحا وحاسماعلى بنية ومصير ومالات مجتمع المدينة الامبراطورية المستقل بذاته، وليس صدفة ان يكون سرجون مؤسس الامبراطورية الاكدية، هو اول من قال في التاريخ:"انا حاكم زوايا الدنيا الاربع"، فبعض من تحروا تاريخ هذا الامبراطوريقولون ان سطوة الاكديين تجاوزت مصر الى ليبيا غربا، وتظهر في مثل هذه الحالة ثنائية عمل حربي متعاكس الاتجاهات، الاول الى جنوب "المدن الدول" المحصنة المسلحة، والثاني شمالا، تحركه ديناميات الصراع الحادة مع الاسفل اي مع مجتمع اللادولة الزراعي المنتج المنتج.
من هذه الدينامية الثنائية يتولد احيانا وخلال لحظات تاريخية وضع مديني يمتاز بالازدهار بشرط توفر اسباب الامتداد الامبراطوري، فارض السواد ومع انها من اكثر البقاع خصوبة وهي مؤهلة لان تكون اساسا لقيام حضارة زراعية رفيعة، الا ان شروط الانتاج والحكم لاتسمح للدول المدن بالسيطرة على المنتجين في تلك المنطقة، لابل هي تبقى في حالة احتراب معهم لاحل له لانه تكويني بنيوي، ولهذا تظل تبحث عن منافذ تؤمن لها الاستقلالية الكلية او النسبية عن الحيز الاسفل المنتج، فبغداد على سبيل المثال وصلت ذروة الازدهار لان الافق الامبراطوري الشرقي كان مفتوحا وقتها بسبب انتشار الاسلام والفتح المنجز قريبا، ما اتاح حصول ثورة تجارية نقطة انطلاقها ومركزها بغداد، فتهيأ للعاصمة الامبراطورية العربية الاسلامية التحرر الى حد بعيد من ضغوط ارض السواد، ووتهيأت بهذا المقومات الضرورية للنهوض الذي عرفته في حينه، وصدام حسين امتلك من وسائل "الاستقلالية" عن المجتمع، الريع النفطي، لهذا بادر الى تاميمة عام 1972وسط ظروف لاتتيح التمدد الامبراطوري سواء وفق ماهو متاح له من اسباب القوة وقتها، او بفعل القوانين الدولية الحديثة، لهذا فان موضوع الريع النفطي ووظيفة النفط في العراق لعبت وظيفة مختلفة كليا عن اي حالة ريعية اخرى معروفة في المنطقة وخارجها، وقوة المحرك الامبراطوري الداخلي وديناميته عادت لتخضع صدام حسين لقوة فعلها، خاصة بعد الحرب العراقية الايرانية، حين حلت على العراق حالة من "الريع المفقر" فحرب السنوات الثمان مع ايران، استهلكت موارد النفط العراقية التي دخلته من الثلاثينات حتى نهاية الثمانينات، ماوضع صدام امام شبح مرعب، عانى منه كل الحكام على مرتاريخ العراق، فضيق مدى استقلالية دولته عن المجتمع، واحتمالات عودة فعل الحيز الاسفل للانتعاش من جديد، كانت ستفقد نظام صدام الريعي العقائدي المستند لنواة قرابية، امتيازه ومقومات استمراره.
والارجح ان هذا ماكان، في العقل الباطن لصدام حسين وهو يتجه لاحتلال الكويت، مع ملاحظة تغير وجهة التوسع العراقي جنوبا بدل الغرب او الشرق والشمال، مايشير الى تغير الحوافز والاهداف، فمع ظهور النفط في العصر الحديث كما نعلم، حصل متغير خطير في مصادر الريع والثروة، مع انه لم يلغ على اهميته، ثابتا تاريخيا، وخاصية عراقية ظلت تتمثل في النزوع الامبراطوري "لدول المدن" العراقية. بمقابل ذلك، ومع قوة واصالة النزعة الامبراطورية في حضارة مابين النهرين، تلفت النظر ايضا ظاهرة"الكونية المفهومية" مجسدة في اجمالي المنجز التاسيسي الملحمي الاول، وصولا لكماله "الابراهيمي"، الذي شكل مع الزمن الملامح المفهومية والحضارية للمنطقة المعروفة بالعربية، ناهيك عن امتداداتها العقيدية.
اغرب مايلاحظ في المقاربة الاستعمارية الغربية والايديلوجية المستعارة الحديثة للعراق، تهافتها امام كينونة وخاصيات بنيتة العراق، وفي موضع عرف التشكلات الامبراطورية لسبع مرات خلال تاريخه، تصر هذه المناهج على اعتبار العراق موضعا "وطنيا" عاديا،مع انه لم يكن قد تحقق وطنيا على الاطلاق، ولم يحدث ذلك الا في سياق "صيروراته" الامبراطورية، ذلك مع كل ماتتضمنه هذه المفارقة في التحقق من تباينات تكوينية في مجال التشكل والاليات وتعدد "الوطنيات" الداخلية، خاصة بين "مواطن المدينة الدولة" ومواطن "دولة اللادولة" كفاعلين مجتمعيين من نمطين مختلفين ومتصارعين، فابن بابل او بغداد، هومواطن دولة مدينه تراتبية اكراهية مركبة فوق عالم المشاعات الزراعية، بينما مواطن "دولة اللادولة" منتج ضمن شروط لاتتيح مجالا لظهور تباينات اجتماعية، او افراز سلطات منفصلة، وهو في حالة صراع داخل ممارسته الانتاجية مع الطبيعة المجافية، ومع قوى التسلط من الخارج، اي من دول الاكراه المديني، وهو كائن لايستطيع قبول الاكراه لامن داخل "مجتمع اللادولة"، ولا من خارجه خصوصا، فالشيوع هنا هو طبيعة موافقة لسلامة عملية تحصيل المعاش، من دونها تختل العملية الانتاجية، وتتعثر لابل وتصل الى الكارثة، هذا بينما ابن بغداد يسمي مواطن المشاعة ب "الشروكي"، وابن المشاعة يطلق على سكان المدن تعابير مثل "اهل الحميض"، مايكرس بقوة احتدام حضور"الآخر المختلف" لدى الطرفين، ولاتشبه حالة الحيزين المذكورين في الجوهر حالة "السيبة" و "المخزن" المغربية، مع انها تذكر بها، فآليات الصراع في الكيان العراقي الامبراطوري تنطوي على تنازع نمطين متباينين كليا، موحدين ومحكومين لديناميات حادة ووجودية، تجعل كل منهما معنيا ببلورة تامة لملامحه وخواصه كمعطيات عضوية تنتظم عملية صراعيه دينامية داخل كيان واحد موحد بقدرما هو متعدد، كل حيز فيه يحقق ذاته بالصراع مع نقيضه، فيتشكل الكيان النموذج، ولايتماثل هذا الكيان مع مشابهات له في الظاهر، مثل الامبراطورية الرومانية، او الفارسية، او العثمانية، المحكومة لاليات مختلفة، والتي تظهر في التاريخ لمرة واحدة، لاكايقاع متكرر وبنيوي ويشمل ذلك الامبراطوريات "الامبريالية" المعاصرة المتعاقبة، من الهولندية والاسبانية والبرتغالية والبريطانية، الى الامريكية.
بعد كل هذا التمييز، يصح السؤال عن مصير تلك الاليات، بالاخص بعد ان خضعت لقرابة قرن من الزمن وهي تحت اكراه المنظور "القومي" او ترجمته "الوطنية" الاوربية، وبما ان حال "امة مابين النهرين" الراهنة، هو حال كارثة واضطراب مفهومي اقصى، اذن فلا بد من اجابات تاتي ضمن سياق التحديات الصعبة، لابل العسيرة على اسئلة ظلت مطوية في قلب التاريخ، فهل التاريخ ينتقل الان الى مابعد الراسمالية الصناعية وحضارة العمل اليدوي والالي، اي ان البشرية في حالة انتقال دهري، كما الانتقال من مرحلة وعصر اللقاط الى عصر انتاج الغذاء، وهل ان نموذج امة مابين النهرين الامبراطورية الكونية،هي مدخر التاريخ و "سره" المهيأ لتدشين نمط الحضارة الجديدة، اي الانتقال الى الانتاج "المعرفي"؟ كما حصل في بداية الانتقال من اللقاط الى الزراعة، عند ظهورها في هذا المكان؟ وهل سيبزغ هنا بدل الكتابة وصناعة الدولاب وكل التاسيسات المفهومية التي وضعت اسس عقلنة العالم والكون، نظام يتوخى استقلال العقل عن الجسد، بحكم التحرر من قيد العمل اليدوي؟
لن يعبر العراق واهله ضياعهم واختناقهم الراهن بين المفاهيم التي غادرت وولت، ولم تكن في يوم من بنات حقيقة هذا المكان، الا اذا وعوا دورهم ازاء وجودهم والعالم، وعلموا انهم "امة" غائبة في قلب القرون، وجودها كان يقصر عنه العقل الذي آن له الاوان كي يعاود الانطلاق في رحاب الكون من جديد.
ـ مستل من كتاب قيد الانجاز
#عبدالامير_الركابي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟