أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - هل تحب الغُراب؟














المزيد.....

هل تحب الغُراب؟


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 4813 - 2015 / 5 / 21 - 16:49
المحور: الادب والفن
    


تقف الآن في مواجهتي ممشوقةَ القِدّ تفصلني عنها سبعةُ أمتار. تشخصُ، بعينيها الزرقاوين، في عينيّ بتحدٍّ سافر. جناحاها مضمومتان، لكن منقارها البرتقالي الأنيق يشي بأنها على وشك أن تفردهما وتطير نحوي، من حيث تقف فوق طاولة بعيدة أسفل صورة أمي في ثوب زفافها، إلى حيث مكتبي الذي أجلسُ عليه الآن، لتحطَّ مباشرة بين وجهي وبين شاشة الحاسوب، حتى تمنعني من كتابة هذا المقال. فهي ترفضُ أن تكون مادةً للنقاش بين بني الإنسان، أو بطلا لمقال أو قصيدة. كبرياؤها يجعلها تظنّ أنها فوق النقد والتقييم.
إنها البومة الحسناء المصنوعة من شرائح الصدف والمحار والخشب. دفعتُ من أجل اقتنائها مبلغًا ضخمًا، إذ وقعتُ في غرامها بمجرد أن وقعت عيناي عليها في أحد محال الأنتيكات السياحية بمصر القديمة. أحبُّها كما أحبَّها الأستاذ "عباس محمود العقّاد" وتفاءل بها ووضعها تمثالاً في بيته.
وهذا الشاعر الأمريكيُّ "إدجار آلان بو" يقولُ في قصيدته الشهيرة "الغراب": "لكنَّ الغرابَ لا يفتأ يُغوي روحيَ الحزينةَ لكي تبتسم"! كيف للبومةِ والغراب، اللذين يتشاءم منهما الناسُ، أن يكونا مصدرًا للتفاؤل والإغواء والبهجة والابتسام؟! هل بوسعنا أن نحبَّ ما يكرهه الناس؟ نعم. يمكن؛ لو حرّرنا الروحَ والعينَ من إرثهما القديم حول الأشياء. ثم نحاول أن ننظرَ إلى تلك المخلوقات البريئة بشيء من الحياد غير المُثْقَل بالمفاهيم النَّقْلية التقليدية المتوارثة عبر الأزمنة والحكايات.
أتكلمُ عن مفهوم "الجمال" بوصفه حُكمًا نسبيًّا على الأشياء، لا خَصِيصَةً ثابتةً فيها. فلا شيءَ جميلٌ في ذاته أو قبيحٌ في ذاته. الجمالُ أو القبحُ هما فكرتنا الخاصة حول الشيء، وليس الشيء نفسه. لهذا السبب يهوى بعضُ الناس تربية الفئران والثعابين والزواحف، تلك التي ينفر منها البعضُ الآخرُ من الناس، ويرتعب.
وبالمثل في عالم البشر. حين يكرهُك إنسانٌ، فهو في الواقع لا يكرهك أنت إنما يكره تصوره الخاص عنك. قد يراك بخيلا، مثلا، وأنت غير ذلك. فإن كرهك لأنك بخيل، فهو يكره الصورة الخاطئة التي كونها عنك، وهذه الصورة ليست أنت.
مع الستينيات الماضية، بدأ العالَمُ يتمرّد على الثوابت الكلاسيكية حول مفهوم الجمال والأناقة. فصار الأثرياءُ يلبسون الچينزَ الأزرق، ملابسَ رعاة البقر وطبقة البروليتاريا من العمّال الكادحين. وتمادوا في ذلك فمزقوا بناطيلهم وبهّتوا ألوانَها وتعمّد مصممو الأزياء أن يبرزوا الخياطات التي كانت تتخفى في الداخل. واحتلّتِ الملابسُ الكتّانيةُ المكرمشة، التي استخدمها الفراعينُ في تكفين الموتى، قائمةَ أغلى المنتجات وأرقاها في العالم. وصارتِ النسوةُ حريصاتٍ على إضفاء السمة الرعوية البريّة لشعرهن، بتجعيده على نهج الأفريقيات قاطنات الأحراش. فلم يعد الشعرُ المنسدلُ الناعم حُلمَ الفتيات كما كان دومًا في القديم التقليدي. حتى في العمارة؛ بدأ المعماريون يصممون مبانيَ تبدو مائلةً أو مهشّمة، أو يبرزون الأحجارَ والكمراتِ الخرسانيةَ والأعمدةَ التي كانت دائمًا تتخفى وراء دهانات الملاط الملونة في التصميمات القديمة الكلاسيكية.
كذلك في الأدب. لم يعد الشعراءُ والروائيون مشغولين بالكتابة عن النجم اللامع والقمر المضيء والشمس الوهّاجة والسماء الصافية والوردة اليانعة، فكلها تيماتٌ استهلكها الشعراءُ وقتلوها استلهامًا. بل راحوا يكتبون عن "الأرض الخراب"، والأحراش والعشش الصفيح والجوعى والصرعى والمجزومين والعميان؛ لأن بكل ما سبق جمالاً من نوع فريد ونادر غاب عن السَّلف القديم إدراكُه. لم يعد بطلَ الحكي هو القائدُ هكتور والفارسُ أخيل والمقاتلُ الَمشّاء الأعظمُ أوديسيوس الإلياذة. ولم يعد أيقونةَ المادة الإبداعية الناصر صلاحُ الدين، بل أبسطُ جنديّ مجهول يقف في الجبهة يذودُ عن الوطن بصدره العاري من الأوسمة. حتى إذا ما شقَّت هذا الصدرَ رصاصةُ العدو، دُفن دون اسم في نُصُبٍ تذكاريّ يحمل أجساد أولئك الجنود المجهولين الذين جادوا بأعمارهم دونما مجدٍ سيحصّله القادةُ والزعماءُ الذين يديرون المعارك من غرفهم المحصّنة. ومثلما حلَّ الجنديُّ محلَّ الفارس، حلّتِ الخادمةُ والعاملةُ وبائعةُ الخضر والجواربِ محلَّ النبيلة والأميرة المُترفة، وحلّت عبيطةُ القرية برثِّ ثيابها محلَّ سيدة الصالون الأنيقة التي تجلس في بهو قصرها إلى الپيانو تعزف مقطوعةً لشوبان.
حلَّ المعطوبُ محلَّ الغَّضِّ، والناقصُ محلَّ المكتمل. لأن الفنانين والفلاسفة والأدباء أدركوا أنَّ في العطبِ جمالاً، وفي النقص اكتمالاً. حلَّ الذي "غبارٌ عليه"، محل الذي "لا غبارَ عليه"، لأن الناسَ سئموا معايير الجمال التقليدية الخاملة، التي استهلكها الشعراءُ في مدوناتهم القديمة، فحاول المجددون الكشفَ عن مناطقَ خبيئة متوارية من الجمال البرّيّ النافر، الذي يشذُّ عن المفاهيم الراسخة القديمة لـ"مازورة" الجمال القديم. هل بوسعك الآن أن ترى في البومة والغراب، جمالا؟



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- “بَسّ- اللي فيها كل العِبر
- هل قرأ وزيرُ العدل -أفلاطون-؟
- ميكي يجيدُ العربية
- والله وبكّيت فاطنة يا عبدُ الرُحمن
- سَحَرةُ الكُرة … وفرسانُها
- النسخةُ الأجمل منك... في المرآة
- المايسترو صالح سليم
- لستُ يهوديًّا ولا مسيحيًّا ولا مسلمًا
- هل جئتَ في الزمن الخطأ؟
- أصول داعش في جذور مصر
- هاني شاكر، الطائر الحزين
- غدًا تتحرر سيناء
- الراقدةُ في غفوتِه
- العروس
- هل أنت واحد أم كثير؟!
- أيام الإرهاب الوسطي الجميل
- هل تذكرون راتشيل كوري؟
- الذهبُ الزائفُ على قمم التلال
- درسُ الثراء للصغار
- نحنُ أبناءُ الحياة


المزيد.....




- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - هل تحب الغُراب؟