أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - كيف سقط كتاب الجغرافيا رمياً بالرصاص؟















المزيد.....

كيف سقط كتاب الجغرافيا رمياً بالرصاص؟


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 4715 - 2015 / 2 / 9 - 21:37
المحور: الادب والفن
    


حدث له مراراً أنْ لوّن الأسماء والكلمات في مخيلته قبل لفظها .. كانت تسليته المفضّلة حينما يذهب للنوم أو طالما يجلس وحيداً .. شغفه بالألوان هو امتداد للطفولة حين بدأ يتعلم كتابةَ اسمهِ .. فلم يجد آنذاك إلا لوناً واحداً هو لون الرصاص .. قلم الرصاص الرخيص.

كانَ يَفتتِحُ طقوسَ التلوينِ باستعراضِ اسمهِ ثلاثي الأحرفِ .. يلونُ أحرفه بشتى الألوانِ .. ينظرٌ إليها من كل الزوايا .. يتسامرُ معها ويغمزها .. تتهرب من نظراتهِ .. تستحي وتبتسم كمنتورةٍ مغناجة .. يسري خدرها اللذيذ بجسدهِ الرشيق .. يغمضُ عينيهِ الحالمتين ويطلقُ سراحَ العينِ ويُلْحقهُ باللام والياء .. تتراقصُ الكائنات الثلاث وتحلقُ بهيةً في أرجاءِ غرفته الصغيرة .. تتدللُ الياء حبيبةَ اللامِ بخبثٍ متباهيةً بإنوثتها وحوضها الخصب .. وترجو إلباسها ألواناً تشبه سحنتها .. تشبه شبقها .. يأتي اللام خلفها راجياً بدوره إلباسه بما يتناسب ولون حبيبته الياء .. يُلونهما من جديد بطيبة خاطر.

وحدهُ العين لا يرضى .. يغضبُ ويحردُ كصبي بليدَ الظل .. يهرب من دائرةِ الألوانِ إلى أقصى زوايا الغرفةِ .. يختبىء هناكَ وينهمرُ بالعويلِ رافضاً العودة .. مرت الليالي ومازال العين يتدلى من الزاوية بعنقهِ الملتوي وعينيهِ المغمورتين بالدمعِ .. وذات مساءٍ صيفي سئما اللام والعين غربة الصبي العين .. سافرا إليه وأقنعانه بالعودة .. وافقهما بعد أن قطعا عهداً له .. بأن يرتدون لوناً واحداً يجمع في عَبقهِ كل الألوانِ .. فكانَ لون غروب الشمسِ .. ومذ ذاك المساء البهي ولون علي يشبه لونَ الفضاء .. إذ تستأذن شمسُ النهارِ غاربةً.

حالما أتقّنَ فنَ اللونِ وزخرفةَ الأسماءِ .. بدأ يلونُ الأرقام والأيامَ .. لَوّنَ السبت أول أيامِ الأسبوعِ بالأزرقِ الغامق .. والأحد بالبني والإثنين بالأصفر الفاتح .. والثلاثاء بالأسود والأربعاء بالأبيض .. والخميس بالأحمر القانيء .. لون النزف الشرياني النابض .. وأهدى يوم الجمعة لوناً رمادياً كلون الجوامع.

كل من تعرف إليهم أَحبوا أسماءهم .. تغزلوا بها .. رسموها ودللوها .. عندما كان يشتري كتبَ الدراسة ممن يكبرونه زمناً .. إذْ كانت العرض الأرخص .. كان يتلهف لتقليبِ الصفحاتِ وقراءةَ الأسماءِ والمفردات والرموز وأبياتَ الشعرِ والغزل التي دوّنها من كان يكبره بعامٍ أو أكثر.

كان الكتاب المدرسي يشبه دفتر المذكرات اليومية .. وكان يفرح إذ يجد بقايا من وردة ياسمين يابس صُبِرت بين صفحاته .. في الصفحة الأولى تستوقفه أسماءَ مَنْ امتلكَه قبله .. جميعهم لم يوفروا جهداً .. حولوا أسماءهم إلى لوحاتٍ تلعب في ساحاتها الألوان .. جميعهم كتبوا وجسموا وظللوا ولونوا عبارة .. الحب عذاب والحبيب كذاب.

كانت أخته التي تصغرهُ .. من عشاق اسمها .. من عشاق الديمة .. من المتحمساتِ لمادة الجغرافيا .. على صفحاتِ كتاب الجغرافيا لم تكن لتوفر مساحةً بيضاء .. إلا وتشغلها بكلمة الديمة .. ثلاثية الأبعاد .. جميلة التهشير .. وإن تغرقْ في بحر أفكارها .. تراها .. ترسم كلمات إضافية تعانق سحر الديمة .. ديمة للجمال .. ديمة للورد .. ديمة للسفر .. ديمة للمطر .. يمازحها ويكتب لها سراً .. محلات الديمة لقطع التبديل .. حدث كثيراً أن انتزع معلم مادة الجغرافيا .. السيد نصر الله .. الكتاب من بين أصابعها الغارقتين في حلم التجسيم والتلوين والتكوين .. ينظر بين طيات الكتاب .. يستشيط غضباً .. يقذفه في الهواء .. ويصرخ: الله أكبر .. الله أكبر .. "قَالْ ديمة قَالْ" .. يضحك التلاميذ .. فتضحك ديمة.

وكانَ علي بدورهِ مُولعاً بمادةِ الجغرافيا .. وكانَ في الصّفِ التاسع .. وكان المرحلة تعني الكثير .. إنها الشهادة الإعدادية .. حيث يحلم كل تلميذ وتلميذة بالنجاح .. وكل مجتهد ومجتهدة بتحصيل القدرِ الأكبر من العلامات النهائية .. وبعضهم يحلم بصحون الباقلاوه التي سَتُقَدم للمهنئين والمهنئات بمناسبة التفوق أو النجاح الخفيف .. وكان كتاب الجغرافيا مليئاً بذكرياته وذكريات من سبقوه .. أيام معدودات ويأتي موعد الامتحان النهائي لمادة الجغرافيا .. ثم يأتي الصيف.

نائل ولد .. أهملَ المدرسةَ والجغرافيا .. هو جار الطفولة ويكبر علي بعامين ونيف .. ماكراً وأنانياً وحسوداً .. طالما اعتاد أن يكتب أوراقاً صغيرة يخفيها بين ثيابه يوم الامتحان .. اكتشفَ نائل قبلَ خمسةِ أيامٍ من موعدِ الامتحان في عام 1984 .. بأن ما يسمونه كتاب الجغرافيا .. لم يكن بحوزته.

جاء إلى علي وطلبَ منه استعارةَ الكتابِ لمدةِ ثلاثة أيام .. كي يستطيع التحضير جيداً للامتحان .. ويا غافلاً ليس لك إلا الله .. إنْ ترفض تلبية طلبه .. لأن أمهُ سَتفضحكَ على قارعة الطرق بجانب شجر السرو .. وستتّدعي حتماً وفي كل مكانٍ .. خاصةً أمام أفران الخبز .. بأنكَ وأنانيتكَ وحُقدكَ .. مَنْ تسبب في رسوب ولدها للمرة الثالثة .. تناول علي الكتاب من محفظته .. انكمشت الذكريات ذعراً .. وقدمه لجار الطفولة نائل .. راجياً إعادته بأقصى سرعة .. وعدَ نائل وذهبَ.

مرَ اليوم الأول والثاني والثالث دونَ أنْ يفي نائل بوعده .. بقي يومين على موعدِ الامتحان المحدد يوم الخميس .. في تلك الليلة .. ليلة الثلاثاء الأسود .. لم يغمض له جفناً .. هاجمته الكوابيس حيث الأسماء والكلمات تنزف ألماً .. في اليوم التالي التقى جاره نائل صدفةً بعد أن بحثَ عنه في كل مكان .. رجاه أن يُعيد الكتاب .. غاب نائل قليلاً وعاد يحملُ بقايا كتابٍ .. مُثقّباً كغربال برغل .. أما بقية الصفحات فقد فارقت الحياة.

سألَهُ علي والخوف يعتريه .. ما الأمر؟ .. ماذا حل بالكتاب؟ .. من أينَ أتتْ تلك الثقوب الكثيرة؟ .. ضَحكَ نائل ضحكتهُ المعهودة ذاتَ اللونِ الأصفر .. وأجابَ: لَقدْ بَدأتُ البارحة أتعلمُ صيدَ الضّبان والجرابيع بالبارودة الجديدة.

قاطعهُ علي سائلاً: وماعلاقة كتاب الجغرافيا بالضّبان والجرابيع؟
أجاب هازئاً: عندما عجزتُ عن إصابتهم .. عندما عجزتُ عن فهم الكتاب .. قررت إعدامَ الجغرافيا وخرائطها وكتابها وامتحانها .. وضعتُ الكتابَ كنيشان صيد .. بين غصنين من أغصانِ شجرة زيتونٍ عجوز .. وأوقعتُ عليهِ عقوبةَ الإعدامِ رمياً بالرصاص حتى موت الذكريات .. بعد إدانته بقلةِ الأدب و صعوبة المفردات.



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هواجس فيسبوكية -G-
- هواجس فيسبوكية -F-
- روضة بسنادا والمكدوسة البرميلية
- كي تصير كاتباً؟
- حكاية لن تكتمل قبل سقوط القمر
- هواجس فيسبوكية -E-
- كيف أصبح كيس الطحين الفارغ بطلاً في الكاراتيه
- خربشات بسندلية -B-
- خربشات بسندلية -A-
- هواجس فيسبوكية -D-
- طلائع البعث بصل يابس
- سهرة سوسنية
- وحده .. يغني الصمت
- سَوْسَنات بسندلية
- هواجس فيسبوكية - C -
- منتورة بسنادا
- المنجنيق والأحلام الميتة
- هواجس فيسبوكية -B-
- سحريات من اللاذقية
- هواجس فيسبوكية -A-


المزيد.....




- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - كيف سقط كتاب الجغرافيا رمياً بالرصاص؟