بولس – 8 – بولس وإنجيل مرقس

حسن محسن رمضان

الحوار المتمدن-العدد: 4690 - 2015 / 1 / 13 - 17:11
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    

(الجانب المظلم لإنجيل مرقس)
نورمان بيرن

قبل البدء في موضوع المقالة ومناقشة ما يسمى بـ (الجانب المظلم لإنجيل مرقس) وتأثير بولس عليه، يجب أن نضع أربع مقدمات ضرورية أمام القارئ الكريم. إذ من دون تلك المقدمات قد يصبح الإطار العام للموضوع مبهماً لبعض القراء.


المقدمة الأولى:

أول إنجيل كُتب من حيث التاريخ هو إنجيل مرقس. وقد كتبه كاتب (مجهول الاسم والهوية) في حوالي سنة 70 ميلادية. أما نسبة الإنجيل إلى (مرقس) بالذات فقد تم إضافتها في القرن الثاني الميلادي، أي بعد حوالي قرن من وفاة الكاتب. وهذا الإنجيل يُسمى بين الباحثين المعاصرين بـ (إنجيل الحرب) أو (إنجيل زمن الحرب) بسبب أن كاتبه كتبه في زمن الحرب الرومانية – اليهودية التي انتهت بسقوط القدس (أورشليم) وهدم المعبد اليهودي. وهذا الإنجيل ذو (أهمية فائقة) في البحوث المعاصرة لعدة أسباب، إلا أن أهمها هو أن هذا الإنجيل هو أول محاولة، من حيث تاريخ التدوين، لكتابة قصة حياة يسوع وذلك على الرغم مِنْ أن كاتب الإنجيل كتبه من وجهة نظر عقائدية بحتة وليست تاريخية، فهو (لم يتحرى دقة الحدث ولا سلامة الوقائع)، وكان (متأثراً بعقائد بولس بالتحديد ونظرته ليسوع وصراعه مع تلامذته). فهذا الإنجيل من المراحل المبكرة، وإن لم تكن الأولى، في تطور العقيدة المسيحية كما نراها اليوم. كما أن كاتب إنجيل مرقس قد استخدم إلهه يسوع، وبكل رحابة صدر وأريحية، ليضع على لسانه هموم حياة أتباع كنيسته المعاصرة مُمنياً إياهم، على لسان يسوع، وداعياً. ومِنْ أشهر تلك النصوص التي وضعها مرقس على لسان يسوع هو هذا النص:

(وابتدأ بطرس يقول له [أي ليسوع]: ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك. فأجاب يسوع وقال: الحق أقول لكم: ليس أحد ترك بيتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً، لأجلي ولأجل الإنجيل، إلا ويأخذ مئة ضعف الآن في هذا الزمان، بيوتاً وإخوة وأخوات وأمهات وأولاداً وحقولاً، مع اضطهادات، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية، ولكن كثيرون أولون يكونون آخرين، والآخرون أولين) [مرقس 10: 28-31]

الذي (فضح) ممارسة كاتب إنجيل مرقس هو عندما كتب: (الآن في هذا الزمان) [مرقس 10: 30] على لسان إلهه يسوع. فيسوع كان هو وأتباعه من الفقراء المدقعين الذين كانوا يعيشون من المساعدات المالية التي تقدمها النساء لهم [لمناقشة وظيفة المرأة ضمن جماعة يسوع، انظر الهامش رقم 1] إلى درجة أنهم في بعض الأحيان كانوا يدخلون الحقول من دون استئذان أصحابها ليقطفوا سنابلها ويأكلوها بسبب الجوع [مرقس 2: 23]، وكانوا في صراع واضح جداً مع عائلاتهم يعكسه إنجيل مرقس نفسه إما على لسان يسوع أو في وصف الحال وهي كثيرة ومتنوعة، ولكن أشهرها أقرباء يسوع (ولمّا سمع أقرباؤه خرجوا ليمسكوه لأنهم قالوا إنه مختل) [مرقس 3: 21] أي كانوا يعتقدون أنه مجنون، كما رفض يسوع استقبال أمه وأخوته في إنجيل مرقس والأناجيل المترادفة [مرقس 3: 31-35]، و (لأن إخوته أيضاً لم يكونوا يؤمنون به) [يوحنا 7: 5]. إلا أن ما كتبه مرقس في تلك الرواية أعلاه هو: (إلا ويأخذ مئة ضعف، الآن في هذا الزمان، بيوتاً وإخوة وأخوات وأمهات وأولاداً وحقولاً، مع اضطهادات)، وهو بالفعل يعكس حال المسيحيين الأوائل خلال الحرب الرومانية – اليهودية، زمن كتابة إنجيل مرقس، والتي لم يكونوا طرفاً فيها. (فكانت لديهم أموال وممتلكات وكنائس وعوائل)، ولكن كان الشك الروماني في سلامة معتقدهم "الغريب" وطقوسهم "العجيبة" في يسوع يطالهم بالاضطهاد. فكاتب إنجيل مرقس كان يعكس حال مجتمعه هو وحال أتباع كنيسته ولكن كان يضعه على لسان يسوع. وتسمى هذه الظاهرة في الدراسات النقدية الحديثة بـ (صوت الكنيسة)، أي أن النص يعكس موقف الكنيسة وعقائدها وحالها مع أتباعها التي كان يكتب لها كاتب الإنجيل، ولكن يتم وضع هذا الموقف على لسان يسوع وكأنه يخاطب أتباعه.

فالخلاصة من المقدمة الأولى هي أن نص إنجيل مرقس، أول نص من حيث تاريخ الكتابة لسيرة يسوع، (لا يعكس تاريخاً حقيقياً وقعت أحداثه بالفعل)، وإنما هو (نص عقائدي)، (وهمي أسطوري) في كلياته ولكن باستخدام شذرات من الحقيقة التاريخية كنواة أولية للنص، وقد تمت كتابة الإنجيل لهدف واحد ووحيد وهو (ترسيخ عقيدة محددة في يسوع مع لاهوت محدد مصاحب له في ذهن القارئ). أحد جوانب هذه العقيدة التي كان يريد كاتب إنجيل مرقس أن يرسخها في ذهن قراءه، وتغيب عن القارئ العابر الذي تعرض لتكييف عقائدي وفكري مسبق إما بواسطة الكنيسة أو العقيدة أو المجهود الدعائي، هو ما يتم الإشارة إليه بـ (الجانب المظلم لإنجيل مرقس).


المقدمة الثانية:

إنجيل مرقس، عندما كتبه كاتبه، (قد أنهى إنجيله) عند [مرقس 16: 8]، أي عند خروج النساء خائفات من قبر يسوع لأنهن لم يرين جسد يسوع فيه (ولم يقلن لأحد شيئاً). أي أن إنجيل مرقس قد انتهى عند:

(فخرجن سريعاً وهربن من القبر، لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن. ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات) [مرقس 16: 8]

وكل ما بعد ذلك من آيات عن قيامة يسوع وظهوره وغيرها، أي مِنْ [مرقس 16: 9] إلى [مرقس 16: 20]، هو (من إضافة واختراع) ما بعد (القرن الخامس الميلادي). وكل المخطوطات القديمة، (ومنها مخطوط سانت كاترين)، أتت خالية تماماً من كل الآيات التي أتت بعد [مرقس 16: 8]. فنص إنجيل مرقس الأصلي (لا وجود فيه إطلاقاً) لقصة قيامة يسوع في اليوم الثالث وظهوره للمجدلية أولاً، ثم لتلميذين ثانياً، وثم أخيراً لتلامذته ثالثاً، ولا وجود لتكليف يسوع تلامذته بالكرازة لـ (جميع الأمم) وتعميدهم وأن يخرجوا الشياطين ويتكلموا بألسنة [لاحظ تأثير عقائد بولس التي كان يمارسها في كنائسه على النص] أو يحملون معهم حيّات وأفاعي ويشربون سماً ولا يضرهم (!!!) كما هو موجود في النص المضاف [لاحظ تأثر الكاتب الذي أضاف تلك العبارات بمناخ السحرة والحواة الذي كان دارجاً ضمن المجتمع الروماني في القرون الأربعة الأولى]. هذا كله إضافة (متعمدة) أتت بعد 400 سنة على الأقل من قتل يسوع. وجميع الترجمات الحديثة لإنجيل مرقس تضع هامشاً تقول فيه عن تلك الإضافة العبارة الآتية: [المخطوطات القديمة المعتمدة تُنهي الكتاب عند الآية 8]، والبعض من الترجمات الأخرى تضيف لتلك العبارة السابقة تكملة هي: [المخطوطات التي تضيف الآيات فيما بعد 8، تضيف لها إشارة "مشكوك فيه"]، انظر على سبيل المثال وليس الحصر ترجمة (NRSV). إلا أن مَنْ زوّر تلك الإضافة في إنجيل مرقس (قد تأثر أيضاً بما يُسمى بالجانب المظلم لإنجيل مرقس) وعكس ذلك في تزويره تلك الإضافة، كما سوف نتناوله بإسهاب في المقالة القادمة.

ما يهمنا هنا هو التأكيد أن كاتب إنجيل مرقس قد أنهى إنجيله (من دون وجود أية قصة لقيامة يسوع أو ظهوره لأي أحد). إنجيل مرقس، (أول إنجيل من حيث التاريخ)، انتهى بهروب النساء من القبر ولم يقلن لأي أحد شيئاً. (فعلى حسب إنجيل مرقس) لم يَرَ أي أحد من تلامذة يسوع أو أتباعه من النساء يسوع بعد قيامته. يسوع، على حسب إنجيل مرقس، مِنْ دون الإضافات المزورة، (لم يظهر لأي أحد بعد قيامته).


المقدمة الثالثة:

بعد كتابة إنجيل مرقس [سنة 70 م أو بعدها بقليل]، أتى كاتبي إنجيلي متّى [حوالي سنة 80 م أو بعدها بقليل] ولوقا [ما بين 85 – 110 م] ليكتبا إنجيليهما. ولكنهما حتى يفعلا ذلك (استخدما نسخة مكتوبة من إنجيل مرقس لينقلا منها). ولكنهما (اصطدما بمشاكل متعددة في إنجيل مرقس عند نقلهما منه). هذه المشاكل المتعددة كان بعضها من (الخطورة بمكان بحيث اضطرتهما لأن يمارسا التعديل والحذف والإضافة على إنجيل مرقس). هذه الممارسة (المتعمدة) على إنجيل مرقس من جانب كاتبي إنجيلي متّى ولوقا هي التي قامت على أكتافها فرع متخصص في علوم النقد المعاصر يُسمى اليوم بـ (Redaction criticism) أو (النقد التحريري) [بمعنى التحرير الكتابي، أي الحذف والإضافة والتعديل على النص]. فإنجيلي متّى ولوقا يمثلان تطوراً في العقيدة في يسوع (لاحقة على إنجيل مرقس)، ولكنهما من جانب آخر، وهو ما يهمنا في هذه المقالة، يمثلان (معياراً لدرجة الحرج العقائدي الذي كان يشعر به المسيحيون الأوائل بخصوص بعض ما ورد في إنجيل مرقس، أو بخصوص الإطار العام لهذا الإنجيل، أو العقيدة التي أراد كاتب إنجيل مرقس أن تترسخ في أذهان قرائه). هذا هو الدافع الحقيقي لذلك التعديل والحذف والإضافة في إنجيلي متّى ولوقا على قصص إنجيل مرقس.

ما يهمنا في هذه المقالة هو أن أحد مواضع الحرج الشديد عند المسيحيين الأوائل في رواية إنجيل مرقس عن حياة يسوع هو ما يُسمى بـ (الجانب المظلم لإنجيل مرقس) وهو ما سوف نتطرق له بالشرح في المقالة القادمة، وهو أحد الدوافع الحقيقية التي دفعت كاتبي إنجيلي متّى ولوقا على التعديل والحذف والإضافة على نسخة إنجيل مرقس التي كانا ينقلان منها قصصهما عن إلههما يسوع. وبواسطة مقارنة ما فعلاه في إنجيلهما مع الرواية الأصلية في إنجيل مرقس نستطيع أن نتتبع بدقة مواضع الحرج العقائدي أو تطور العقيدة المسيحية في يسوع أو اللاهوت المصاحب له.


المقدمة الرابعة:

إنجيل مرقس تمت كتابته (بعد كتابة بولس لرسائله) المقطوع بصحة نسبتها إليه (بحوالي خمسة عشر سنة) على أقل تقدير. فترتيب العهد الجديد (لا يعكس إطلاقاً الترتيب التاريخي لأسفاره من حيث تاريخ الكتابة). فرسائل بولس (المقطوع بصحة نسبتها إليه)، هي الأقدم من حيث التاريخ في أسفار العهد الجديد، وكل الأناجيل هي أحدث من حيث التاريخ، وأتت لاحقة على كتابة بولس لتلك الرسائل.


بعد هذه المقدمات الأربع، نحن الآن في موضع يؤهلنا أن ندخل في صلب موضوع المقالة، أو (الجانب المظلم لإنجيل مرقس)، وهو ما سأفعله في المقالة القادمة.

............ يتبع




هـــــــــــــــــــــوامـــــــــــش:

1- يسوع والمرأة السورية – 3

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=418532

#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات