|
في الموت – قراءة ثالثة، من العبثية حتى الحتمية.
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4529 - 2014 / 7 / 31 - 21:01
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تمهيد ------ قراءة من سفر يشوع بن سيراخ، الفصل الأربعين، الآيات الأولى حتى الثامنة.
1 جهد عظيم خلق لكل إنسان، ونير ثقيل وضع على بني آدم، من يوم خروجهم من أجواف أمهاتهم إلى يوم دفنهم في الأرض أم الجميع.
2 فإن عندهم انزعاج الأفكار، وروع القلب وقلق الانتظار ويوم الانقضاء.
3 من الجالس على العرش في المجد، إلى المتضع على التراب والرماد.
4 من اللابس السمنجوني والتاج، إلى الملتف بالكتان الخشن. وزد على ذلك الغضب والغيرة والاضطراب والجزع وخوف الموت والحقد والخصومة.
5 وفي وقت الراحة على الفراش نوم الليل، الذي يكدر خاطر الإنسان.
6 فهو في راحة قليلة كلا شيء، وبعد ذلك في الأحلام كما في يوم المراقبة.
7 يرتعد من رؤيا قلبه، كالمنهزم من وجه الحرب، وعند نجاته يهب ويتعجب من زوال خوفه.
8 هذا حال كل ذي جسد من الإنسان إلى البهيمة، وللخطأة من ذلك سبعة أضعاف.
في عبثية الوجود و حتمية الموت و معنى الحياة و ما بينهم ---------------------------------------------------------- أقصد ُ من قولي "عبثية الوجود" تبيان غياب الغاية التي يمكن أن نعتبر الوجود بشكل ٍ عام، و البشريِّ بشكل ٍ خاص كائنا ً من إجل تحقيقها، و هنا عندما أقول الغاية أعني وجود هدف لا يتحقق إلا إذا كان هذا الوجود كائنا ً، أي أن الوجود يشبعه و يعطيه تحقيقه و إتمامه و يُكمله و يُظهره و يُجليه و يكون في عظمته و قوته و سموه مفسِّرا ً لكل هذه الدمامة ِ و البشاعة ِ و القذارة ٍ و الدونية ِ و الانحطاط التي يحملها الوجود في كيانهِ و آليات أُطر الوعي التي يأتي بها.
فإننا حين ننظر ُ في وجود ِ الكائن الحي سنكتشف ُ بسهولة ٍ شديدة إذا أمعنا النظر أننا أمام إفراز ٍ بيولوجي لاتحاد جاميتات بشرية ٍ بشقيها الأنثوي و الذكري لاستكمال متطلبات الحياة الجينية كي تبدأ الخلية المحتوية ُ على ست ٍ و أربعين كروموسوما ً عمليات ٍ انشطارها و تكاثرها و تناسُخها ثم تخصَّصها إلى أعضاء َو أنسجه لكي يتخذ الإطار الوجودي شكله البشري بحسب خصائص الأشرطة الكروموسومية و أجزائها الجينات.
أي أن عملية "الوجود" البشري ما هي إلا عملية ٌ بيولوجية ٌ بحتة ناتجة ٌ عن موقف ٍ عاطفي ٍ مشحون بين ذكر ٍ و أنثى يرغب كل منهما في تمرير نفسه من خلال خلق جيل ٍ جديد. و تكفي نظرة بسيطة إلى الأطفال اللقطاء ضحايا العلاقات غير الناضجة أو إلى الأطفال الذين يتكونون في أحشاء أمهات ٍ تم اغتصابهن َّ في الحروب، لكي نعلم أن تكوين الطفل ما هو إلا إتمام ٌ لمتطلبات ٍ بيولوجية بطريقة آلية، لا تخضع لموافقة أخلاقية أو قانون إلهي يضمن نقاءها، فإن التكوين و الوجود ما هو إلا التقاء ُ الحيمن الذكري بالبويضة الأنثوية.
لا دور لهدف ٍ سماوي أو خطة إلهية أو تشريع غيبي في هذا اللقاء، فيكفي أن يتواجد الذكر و الأثى و أن ينتصب القضيب و يبتل َّ المهبل، و يستقبل الثاني الأول، و يلتحم الجسدان و تتصاعد الآهات و يشد َّ الجسد ُ الجسد َ إليه حتى تبلغ الدورة ُ ذروتها بالقذف ثم لتُكمل البيولوجيا و الكيمياء الدورة و تسري قوانين الطبيعة و يتكون الجنين.
إن الوجود عبثي ٌ بلا هدف، و تخضع ُ كل البشر ِ لقانونه العبثي أو قل لعبثيته التي تتخذ شكل القانون الحتمي بدون القدرة ِ على تغيره أو استبداله أو إنهائه أو الإتياب بأفضل أو حتى أسوأ منه، فهذه العبثية في ظهور الكائن لا سبب لها سوى الخاصية المطبوعة في الجينات و هي نزعة الاستمرار و رفض الموت، حتى عندما يكون الاستمرار هو نقل صفة الحياة بخلق حياة جديدة، لها وعي جديد لا شأن له بالوعين الخالقين للوعي الجديد، الأخير ُ هو وعي الطفل و الأولان هما وعيا الأبوين الخالقين.
لكن خلق الحياة ِ الجديدة لا بد َّ و أن يكون له تبعات، و هي استحقاقاتُه التي يجب أن يتعامل معها الوعيان الخالقان، و هي استحقاقات التربية و الإعالة و الحماية، و أما للوعي المخلوق فهي استحقاقات التفاعل مع الحياة و قوانينها و إدراك قسوتها و معاندتها و مشاكستها لحاجاته الأساسية من معيشة و أمان و تحقيق للذات و تميز. و سينجح كثيرون بدرجات ٍ متفاوتة في التعلم و التأقلم و التغلب و الكينونة المعقولة، و بدرجات، و سيفشل ُ كثيرون في التأقلم أيضا ً بدرجات، و سيتأرجح ُ الجميع ُ بين نجاح ٍ و فشل ٍ حتى يأتي اليوم الذي تُنهي فيه الحياة دورتها في الجسد البشري الذي هو الإطار ُ الوجودي العاقل المُعبِّر ُ عن نفسه، لتتم إعادة ُ تدوير عناصر الجسد في الطبيعة و يعود إليها ليساهم في تكوين ِ أُطر ٍ وجودية جديدة، بعضها بشري و الآخر لا، مع فناء وعيه و شخصيته.
تتجلى قسوة ُ العبثية في غياب الهدف الواضح و الدافع الجلي، فلذلك كان على الإنسان أن يخترع المنظومة الدينية ليجعل لنفسه هدفا ً، أن يكون حبيب الإله و قرة عينه و شغله الشاغل، حتى إنَّه قد جعل من الإله أبشع متغطرس ٍ و أسوأ َ مُحتال ٍ و أفشل َ كينونة ٍ يمكن أن تتخيلها، فقط من أجل أن يجعل من نفسه محور التركيز و نواة الدوران الإلهي، و القصد الأعلى لمن هو أعلى منه بدون حدود.
لقد وعي الإنسان غياب الهدف فاخترع الإله و الدين و النص ثم جعل الشيطان و الملائكة َ و الإله جميعَهم مشغولين به، موجودين من أجله، يتقاتلون عليه، يتسابقون إلى حمايته و إغوائه، و رصد أفكاره، و تسجيل تحركاته، حتى إذا ما جاء الموت، جاء بيد ملاك ٍ ينزع روحه و يصعد بها لكي تنعم بفردوس ٍ و ملكوت ٍ أبدي لا يزول، أو تتعذب بتعذيب ٍ سادي ٍ وحشي قذر ٍ مريض ٍ لا ينتهي. و في الحالتين يبقى الإنسان ُ شغل الإله الشاغل يسعده و يدلـِّـلُـهُ و يرفه عنه و يخلق له كل ما يجب أن يجعله في قمة السعادة في خموله الأبدي، أو يُحرِّقـه و يشوهه و يدميه و يغليه و ينتهكه أيما انتهاك ٍ في العذابات الجهنمية، أي أن الإله سيبقى المشغول و الإنسان سيبقى الشاغل،و ستبقى دورة الشاغل و المشغول دليلا ً على عبثية الوجود حينما اكتشف َ الإنسان َ هذه التفاهة َ و العدمية َ التي تحيط ُ بكيانِه فلم يجد أفضل َ من أن يجعل الكمالَ الإلهي سبب الوجود، و الكمال إلهي المآل و المُنتهى، و إلا فلا معنى.
إن هذه العبثية َ الوجودية تتواجد ُ في المنظومة ِ الدينية بحضور قاس ٍ لكن دون اسمها، فلكل ما يقوله الإله و دينه و نصوصه هو عدو العبثية و الترس ُ المُتقي لها و الدرع المُشرَّع ُ في وجهها، و الذي تتلقى به الضربات ِ تباعا ً من الحياة و ديناميكيتها و تغيرها و نتائج تفاعلاتها و شروط شبكة العلاقات ِ الوجودية، دون أن تستطيع َ تلك المنظومة أن تُزوِّد المؤمن َ بإشباع ٍ سليم ٍ سوى التخدير الذي يُعطِّل ُ دماغه و يمنعه من التفكير، بشلِّه ِ بالخوف و الرُّعب و الترعيب و الإرهاب من الفكر و نتاجِه و الاختلاف و منهاجه، لكي يكون الجواب الوحيد على العبثية ِ - التي لا يمكن إخفاؤها إلا كإخفاء ِ الشمس ِ بقطعة ٍ قماش ٍ شفاف - أن َّ الوجود هدفه العبادة و التقوى و الطاعة، مع أن العبادة وسيلة و التقوى قناعة و الطاعة آلية ُ حياة و نظام ُ وجود، فكأن الدين يقول بل يقول ُ فعلا ً أن الوجود يجب أن نعيشه بالقناعة ِ و الرضى و انعدام الطموح و غياب التساؤل و نبذ الفضول حتى نستطيع َ أن نقبله و نحتضنه.
لن يستطيع َ الفرد ُ أن يقبل َ المنظومة َ الدينية و عبثية الحياة و حتمية َ الموت إلا إذا ألغى عقله و عطَّل التساؤل و قبل التناسي و رضي بإهمال المراقبة، و عندها فقط ستتحقق له السعادة، فهو ينتظر عالما ً آخر، و الحياة ُ في هذا العالم مجرَّد ُ رحلة، و الرحلة غير مهمة، و الموت هو نهايتُها فإذا ً أهلا ً و سهلا ً بالموت ما دام هو حُسن الختام، لا بل حسن َ البداية التي تشبه الختام لكن شبها ً كاذبا ً شبها ً غير خادعا ً، فالألوهة قالت و الدين قال و النص قال أن هذا الموت هو بداية ُ السعادة. لن يستطيع َ المؤمن أن يقبل الموت إلا هكذا و بغير هذا سيسقطُ إيمانه و سيتحول ُ إلى "إنسان طبيعي" و هذا ما لا يحتمله و لا يعرف ُ كيف يتعاملُ معه أو يدركه و قد يُجنّ.
أما في المنظومة ِ اللادينية فإن الفرد َ يُدرك دورة َ الحياة ِ كما هي، و يعلم أن الموت َ هو نهايتها و لذا لا يدخر ُ جهدا ً في استغلالِ كلِّ دقيقة ٍ من هذه الحياة في عمل شئ ٍ مفيد، له و لأحبائه، و بيته و عائلته و أصدقائه، و يدفعه هذا الاعتراف الواقعي بطبيعة الدورة إلى احتضانها و قبولها و المشاركة الفعالة في مجتمعه فردا ً مُنتجا ً فاعلا ً له صوت و تأثير و حضور، بنّاء، حضاري، جميل، و كريم.
يبرز ُ جمال المنظومة اللادينية في قدرتها على صقل الشخصية ِ الإنسانية و تقويتها لجعلها براغماتية واقعية سليمة الإدراك منسجمة مع استحقاقات الوجود و حتمية الموت، فتستشرفُ أفعالها و قرارتها الممكنات الواقعية بحسب قوانين و طبيعة شبكة العلاقات، و يستطيع اللاديني تذوق الحياة و التفاعل معها، دون خوف الموت مع أنه يدرك ماهيته تماما ً.
يتعلم اللاديني أن الحياة ليست عبثية، كيف؟ لأنه يخلق المعنى لنفسه، و يساعد الآخرين على اكتشاف المعاني الشخصية و تكوينها و صقلها، و تتفاعل هذه المعاني المخلوقة ليتشكل وعي أعظم للمجتمع و معنى ً سام ٍ له و للبشرية جمعاء، من معان ٍ فردية شخصية، تجعل من عبثية الحياة شيئا ً جميلا ً لأنه يتبدى فضاء ً واسعا ً مرنا ً قابلا ً كل شئ ٍ في ذاته بدل أن يكون قدرا ً مكتوبا ً ضيقا ً يكتبه الإله و تصيغه الملائكة و الشياطين.
نحن نخلق المعاني و نسعد ُ بقدر ِ ما ننجح ُ في خلقها مُناسبة ً جميلة ً قابلة ً للحياة ثم تحقيقها ِ و إشباعها، كما و نأسى و نتألم ُ بقدر ِ ما نفشل ُ في الخلق ِ و التحقيق ِ و الإشباع.
عبثية ُ الحياة هي عجينة ُ النجاح أو الفشل و إننا الخابزون و الآكلون ُ، و لكل ٍ منا ما قدَّم لنفسه بيده.
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من وحي قصة حقيقية - يا سادن الحبِّ.
-
في الموت – قراءة ثانية من حيث الموقف الإنساني الواعي.
-
غزة - 4 - بقلم الملكة رانيا
-
وباء السلفية التكفيرية و ضرورة الاستئصال.
-
غزة - 3 – أربعة أطفال و قذيفة.
-
في الموت – قراءة أولى كأحد وجهي الوجود.
-
غزة – 2 – إستمرار جرائم الحرب الإسرائيلية و ردود الفعل الشعب
...
-
غزة – وضاعة استباحة الحياة و ازدواجية الاعتراف بالحق الإنسان
...
-
قراءة في اللادينية – الإلحاد كحركة دينية مُجدِّدة.
-
من سفر الدين الجديد – الفصل الأول - آمر لي مارهو
-
قراءة في جدلية ما بين المنظومة الدينية و الواقع– المعجزات و
...
-
في نفي دونية المرأة – 4 – الانسجام الجيني الأنثوي مع حاجة حف
...
-
من سفر الله – 3 – في جدلية تنافر الطبيعة البشرية مع التكليف
...
-
قراءة في مشهد– من وحي محاضرة في علم الفلك و الفضاء – الممارس
...
-
من سفر الله – 2 – في الدين و الإلحاد – تمظهرات العداء و الاج
...
-
بوح ٌ في جدليات – 4 – امتداد الوعي الكوني، فرضية.
-
قراءة في الوحشية – 2 – منهج الذبح عند السلفية الجهادية نموذج
...
-
بوحٌ في جدليات – 3 – حين أنطلق
-
قراءة في ظاهرة التنمُّر المدرسي – مريم المغربية و وليم الأرد
...
-
قراءة في الإنسان – 4 – في الصواب السياسي و توظيفه لخدمة الإب
...
المزيد.....
-
مصدر لـCNN: مدير CIA يصل القاهرة لإجراء مزيد من المحادثات بش
...
-
-من المهم أن تفهم أن آخر شيء أريد فعله هو وضعك في السجن-
-
بيلاروس تجري اختبارا مفاجئا لحاملات الأسلحة النووية التكتيكي
...
-
زاخاروفا: روسيا قد تضرب أهدافا عسكرية بريطانية في أوكرانيا و
...
-
بوتين يؤدي اليمين لولاية دستورية جديدة
-
تقارير إعلامية تتحدث عن آخر النقاط الخلافية في مفاوضات غزة
-
بوتين يتوقف أثناء مراسم تنصيبه ليصافح ضيفا بين الحضور.. فمن
...
-
ضابط بريطاني: الأسلحة الروسية مصممة لإسقاط مقاتلات مثل -إف-1
...
-
وزير الدفاع المصري يبحث مع قائد القيادة المركزية الأمريكية ا
...
-
وسائل إعلام: الزعماء الأوروبيون يشعرون بالرعب من التصعيد في
...
المزيد.....
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
-
المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب
...
/ حسام الدين فياض
-
القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا
...
/ حسام الدين فياض
-
فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
يوميات على هامش الحلم
/ عماد زولي
-
نقض هيجل
/ هيبت بافي حلبجة
-
العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال
...
/ بلال عوض سلامة
-
المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس
...
/ حبطيش وعلي
-
الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل
...
/ سعيد العليمى
-
أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم
...
/ سعيد زيوش
المزيد.....
|