نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4514 - 2014 / 7 / 16 - 08:36
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في الموت – قراءة أولى كأحد وجهي الوجود.
تدل مراقبة سلوك الكائن البشري على أنه يعمل لاجتذاب اللذة و السعادة و اجتناب الألم. تتمحور حياته حول نشاطات ٍ تتعلق بإشباع الحاجات الأساسية من مأكل و مشرب و أمان و تحقيق الذات و أخرى لدفع ما يهدد حياته أو يعمل عكس مخططاته لاكتساب اللذة أو استدامتها أو ينتقص من طمأنينته الداخلية لأي سبب من الأسباب.
في داخل الكائن البشري رغبة مُلحَّة أن يرى نفسه مركزا ً للكون، و يجد علاقة ً بين وجوده الشخصي، ووجود نوعه، و بين الموجودات الأخرى، فهو في سعي دائم ٍ لاكتشاف الأسرار الكونية و إسقاط رؤيته ِ عليها و تفسير قوانين تفاعلاتها و مدى تأثير هذه التفاعلات عليه و على نوعه وطبيعة شبكة العلاقات التي تجمع كل الموجودات بما يخدم تضخيم أناه و نُـمُـوَّ كبريائه الشخصي، فيسقط الفعل البشري على الكون ويجد له تفسيرا ً قياسا ً على مفهوم إرادته البشرية ليصبح الوجود مُرادا ً بإرادةٍ أعظم و موجودا ً من واجد ٍ أسمى، بهدف خدمته ِ هو و استدامة ِ نوعه، فتراه ينظر للثوابت الكونية و الدقة في مسارات النجوم و الكواكب و تناسب حرارة الأرض مع ما يحتاجه للحياة على أنها مصنوعات ُ صانع ٍ اختصه بها جميعها من أجل أن يبقى و يدوم ويستمر.
و بعد أن نظرنا إلى السابق لندرس السلوك الجنسي البشري منذ الأيام السحيقة الموغلة ِ في القدم حين كان القطيع ُ البشري ُّ الأول يأوي إلى الكهف في الليل، فتتصاعد ُ عنده ذبذبات ُ الخوف في أجزاء جسده، تُعليها فوق الأحاسيس جميعها أصوات حيوانات الليل تنادي بعضها البعض أوتنهش ُ فرائسها، و يضخِّم ُ من وقعها الظلامُ الذي يحجب ُ عن عينيه أي إمكانية ٍ للرؤية و بالتالي للفهم. كان التجاؤه ُ في تلك الساعة ِ المليئة ِ بالخوف إلى أشد غرائزه بدائية مفهوما ً، فيتلاقى الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، أيهم مع أيهن، دون ضوابط َ لم تعرفها قوانين ُ تلك الأزمنة السحقية البائدة.
لعب الجنس الدور الأعظم َ لدى الكائن الحي في تهدئة ِ روعه من الخطر، ففيه تتكثَّف ُ المشاعر و تتعاظم ُ الأحاسيس و تضطرب ُ الدماء ُ و هي تجري في الشراين، فيصعد أمام العقل ِ و الوعي الحيوان الداخلي البوهيمي الأول، ليزود الكائن الذي فقد الإحساس َبمركزيته و فهمه المتواضع للكون في النهار بفعل الليل المُدلهـم الأبكم، بمركزية ٍ أخرى هي مركزية الفردية الشخصية و القيمة التامة غير المنتقصة و الخاصةِ التي يحققها سلوك المعاشرة الجنسية ِ بين الزوج البدائي المشاعي.
إن هذه الحاجة الملحة للمركزية سواء ً بإسقاطات التفاسير ِ على ما لا يتطلب ُ تفسيرا ً بذاته، و السلوك الجنسيَّ الذي يتبدى قويا ً في حالات ِ الخوف أو الألم أو الحبس أو الشدة، كفيلان بالقاء ِ الضوء على الغريزة ِ الأقوى عند الكائن البشري و هي غريزة ُ البقاء أي غريزة ُ استدامة الكينونة و الحياة، فكل ما يصنعه الإنسان هو إشباع ٌ لهذه الغريزة و اعتراف ٌ بها و إبراز ٌ لها و طاعة ٌ لسلطانها الجيني الذي يملي عليه هدف تفاعلاته الحياتية دون أن يكون له ألا ينصاع.
يريد الإنسان ُ أن يبقى و يحتاج ُ هذا البقاء، فيكون ُ تفاعله مع الجنس الآخر عفويا ً فطريا ً من غير أن يكون بالضرورة ِ جنسيا ً، وإن إنكار القدرة النوعية على و الحاجة ِ لـ ِ الاستجابة و الانسجام مع النوع الآخر هي إنكار ٌ لأخص صفات الكائن البشري و تعامٍ عن حقيقة ميزات ِ نوعيه و أصالة ِ آلية التعبير عن هذه الطبيعة.
ولكن هذه الرغبة في البقاء، و إن كانت في اللاوعي عاملة ً و دافعا ً أكثر منها مُستوعبة ً في العقل ِالمُدرك الماثل ِ أمام الوعي أو المُشكِّل للوعي، إلا أنها عارمة ٌ في شدتها لا بد لها من ضوابط َ و مجاميع سلوكية ٍ تحدِّد لها إطارها و أبعادها المسموحه و أنساق تفاعلاتها، فكان أن وضع الإنسان ُ مع بدايات ِ التجمعات الزراعية ِ ثم المدن و بعدها الدول، القيم الجنسية و أنماط السلوك الأخلاقي الموجهة َ نحو هذه الغريزة من جهة، و نحو ضمان ِ خدمتها لاستدامة نسله الشخصي و نقائه من جهة أخرى.
لكن الطبيعة َ لا تعمل في الكائنات ِ الحية إلا تعبيرا ً عن خصائص ِ الأخيرة، أو حتى نكون أكثر َ دقة ً فلنقل أن خصائص الكائنات الحية هي تعبير ٌ عن موضعها داخل الطبيعة و دورها في النظام الوجودي، و عليه فإن البقاء و التكاثر َ ليسا إلا وجها ً واحدا ً من وجوه الوجود يهدف ُ إلى دفع ِ ما سينتج لو فشل التكاثر ُ في دوره، أو لنقل إلى الوصول إليه، وكلاهما صحيح، نعني هنا: الموت.
تعرف ُ الطبيعة ُ الموت كوجه ِ الوجود الثاني، الوجه ِ الراد ِّ إلى العدم الأول ما خرج َ منه بالحياة، و لذلك َ فإن الكائن الذي يتكاثر ُ ليستديم حياتَه و حياة نوعه هو في الحقيقة ِ ساع ٍ إلى الموت بقدر ما هو ساع ٍ إلى الحياة، فالجسد ُ لا يجامل و الجينات ُ لا تعرف التزيف أو التجمُّل، و هي صادقة ٌ في فهم نفسها و هدفها، و هو أن تنسخ الحياة َ التي فيها قبل أن تموت َ هي، و هي تعلم أنها في كل مرة ٍ تنسخ الحياة لتُنتج َ بالتكاثر كائنا ً آخر إنما تخلق حياة ً جديدة ً لكن باستنفاذ حياتها هي، وبالتعجيل في شيخوختها، و بالختم و التوقيع ِ و التأكيد ِ و الاستسلام في الحلقة ِ الوجودية ِ الذي تدور ُ من العدم و الفناء حتى ابتداء الحياة ِ و نموها و بلوغ ذروتها ثم الانحدار من الذروة ِ في تآكل ُ الاكتمال حتى الاقتراب من الخُبوِّ ثم الخبو فالعدم فالولادة من جديد.
إن الكائن البشري يحب الموت َ بقدر ما يكرهُه، و يدعوه ُ بقدر ما يهرب ُ منه، و يدنو منه بقدر ِ ما يتجنبه، و ينتشي به بقدر ِ ما يذبل ُ بفعله، و ينتظره ُ بفارغ الصبر بقدر ِ ما يفعلُ كل ما من شأنه أن يغرقه في لذة الحياة و نعمة ِ النسيان. فجيناتنا البشرية تُدرك َ أن لها وقتا ً و أن الوقت لا بدَّ أن يأتي، و أن الإتيان َ لا بدَّ أن يسبقه استنساخ ٌ للحياة و تمرير ٌ لها و اندماج ٌ فيها، و ما حياة ُ الإنسان إلا لكي ينسخ َ حياتَه ثم يموت، فلا هدف له إلا الموت ذاتُه لكن بعد َ أن ينقل َ الوجود َ الطبيعي في كينونة ِ نفسه و يستديمه في وجود كينونة ٍ جديدة، ليكون الكائن الأول الناقل و الكائن ُ المنقول ُ إليه الذي سيصبح ناقلا ً فيما بعد مجرَّد أدوات ٍ وجودية في يد الحياة ِ التي تموت و الموت ِ الذي يضمن بقاء الحياة.
ليس الموت ُ نقيض َ الحياة و لا عدوها، لكنه الحالة الأخرى للوجود، وجه الحياة ِ الذابل، و الأخيرة ُ وجهه ُ المُشرق، و كلا الوجهان ِ ذات ُ الوجود ِ الكائن الذي هو أوسع ُ من أي يحيط َ به عقل البشري ِّ الصغير ِ المُفارق ِ لآخر سلف ٍ له مشترك ٍمع القرود العليا الأخرى قبل ثلاثة ِ ملاين عام، و بينما بقي مسارها التطوري أسيرا ً لبوهيمية ٍ غير عاقلة (أو على الأقل غير عاقلة مثلنا)، اكتسبَ هو حجما ً دماغيا ً أكبر وشبكات ٍ و تلافيف َ دماغية ٍ أعقد جعلت منه الكائن الوحيد على وجه الكوكب ِ القادر ِ على التفكير ِ في الوجود و إسقاط تفاسيره عليه.
إن ذات الوجود ِ و جوهره النقي يتجلي في الحياة و الموت ِ بنفس القوة، فهو في الجوهر لا يتغير و لا يتبدل لكنه يتفاعل مع قوالبه الكائنة أي كائناته التي منها الإنسان، فهذا الوجودُ مستمر، كائن، مُتفاعل، ديناميكي، غير صامت، و لا ثابت، و لا ساكن، و لا قادر ٍ على ألا يتفاعل، و لا على ألا يكون.
إن الوجود َ هو أخصُّ خصائص ِ نفسه، و هو عين ذاته و المُعبر عن كينونته و عن صفاته، و الموت ُ هو أداة ُ انتقال ِ الحياة ِ فيه، و ما جمود ُ الجسد ِ البشريِّ و توقف ُ التفاعلات ِ الكيميائية ِ فيه و خمود السيالات ِ العصبية ِ إلا اكتمال ُ دورة الوجود ِ في ذلك ِ الإطار ِ الإنساني الفردي و انتقال الدورة لمرحلة ِ بداية ٍ جديدة ٍ في تفاعلات ٍ أخرى تجري على الجسد ليعود َ إلى الهواء و التراب و الأشجار و البكتيريا و الديدان جزءا ً من الوجود ِ الذي خرج َ منه بالأصل، لكن هذه المرة مع خُبوِّ وعيه و اندثار ِ هويته الوعيوية الشخصية.
إن اندثار َ الهوية الشخصية مع الموت هو النهاية ُ الطبيعية ُ لتلك َ الهوية ِ المرتبطةِ ببيولوجيا الجسم و كيميائه وكهربائه، و هي خاصية ٌ مادية ٌ بحتة تُعبِّر ُ عن قدرات ِ تلك الوحدة ِ الوجودية ِ العاقلة، لكنها لا تجمع في ذاتها الخصائص اللازمة َ لاستدامة ِ شكلها الشخصي الوجودي و الذي كان لو جمعت قادرا ً على أن يصبح ممثلا ً دائما ً لذلك الوجود و صورة ً له و شعاعا ً لقوته.
و عليه فإن الوعي البشري المُنتهي مع الموت، ليس سوى اندثارا ً لانعكاسات الخواص البيولوجية التفاعلية للجسم، لكنه ليس اندثارا ً للوجود، فمكونات الجسد التي تتحول بالتفاعلات الطبيعية و تعود للتراب و الأشجار و الديدان قد عادت للوجود الأول و أصبحت جزءا ً من كيانات ٍ وجودية ٍأخرى هي في حد ذاتها تعبيرات ٌ عن ذلك الوجود ينتظر ُ كل منها اكتمال دورته ليصير جزءا ً في كينونات ٍ وجودية ٍ أخرى.
إن الوجودَ يُعيد ُ تدوير َ نفسه و يستديم ُ شباب َ الحياة ِ بالموت، فالحياة ُ عندما تشيخ تصبح ُ عالة ً على نفسها، و عاجزة ً عن الاستمرار، فيأتي الموت ُ لينقذ َ الطاقة َ الوجودية َ المحبوسة َ في الكائن الحي، حتى توُلد َ شابة ً مرة ً أخرى، و تُستكمل َ حياتها بوعي ٍ أوبدونه، ببشر ٍ أو بنبات ٍ أو بحيوان.
الموت ُ هو عشيق ُ الحياة ِ و حبيبُها المُخصب لنواتها العطشى النهمة إلى التغير و التجديد ِ و التبديل في القوالب ِ مع ثبات ِ جوهره ِ و ذاته، إنه الرفيق ُ المُخلص للحياة ِ الذي يضمن لها الأكسير َ الأزلي الذي يروي شبابها، هذا الأسنسُ الجوهري الذي يجب ُ أن يُستدام و يُستمدَّ و يُعصر َ و يُستخلص َ و يُحضَّرَ من اكتمال دورات ِ الحياة ِ ليقطفه ُ الموت فيقدمه للوجود ِ ليصنع و تًصنع منه الحياة َ من جديد.
إن الموت َ هو الصانع الأصدق ُ للحياة، و الأحرص ُ على بقائها و الأقدر ُ على الكشف ِ عن و تحقيق ِ تجلياتها البهيَّة ِ غير المُقيدة باحتمالات ٍ و لا مغلولة ٍ بشروط، و خصوصا ً شرط الاستمرار الأزلي أو الأبدي لقالب ٍ وجوديٍ واحد ٍ بشريٍّ أو غير ِ بشري. فالوجود ُ يسترد ُّ بالموت ِ من القالب ِ ما أعطاهُ بالحياة، أي ذاته، لينتقل َ إلى قالب ٍ جديد، و قوالب َ مُبتدعة ٍ رائعة ٍ لا حدَّ لقدرتها على الإدهاش.
إن نرجسية َ الإنسان ِ و خوفه قد أرادا أن يحتكرا الوجود في القالب الإنساني فرسما له بقاءً أبديا ً خالدا ً هو عكس ُ قانون الوجود و خاصية ُ ذاته، فالأزلية ُ صفة ُ الوجودِ لا صفة ُ أحد قوالبه و أُطره، و الخلود ُ للتفاعل ِ الوجودي و أشكالِه المُستدامه جمعا ً بإعادة ِ التدوير و بالخلق الجديد ِ و التغير، لا لأحد ٍ منها معزول ٍ عن جميعها بهوية ٍ فردية ٍ أو شخصية تريد أن تبقى.
تلك َ النرجسية ُ البشرية لا تعرف ُ أن لا تخاف و لا تعرف أن تقبل خصائص الوجود ُ العاشق ِ لتبديل القوالب و الأُطر، لكن جيناتها تعرف ً و تعملُ بما تعرف و تنسجم مع الوجود، وتخدم هدفه، فتنقله إلى أطر و قوالب أخرى، ثم عند اكتمال دورتها تصبح جزءا ً من قوالب وأطر لأنواع أخرى، ليبقى الوجود، و الوجود فقط، أزليا ً جميلا ً ديناميكيا ً فاعلا ً.
هذه هي الحياة، و هذا هو الموت، و إننا فيهما جزء ٌ من الوجود، فلنحسن أن نحياه و لنحسن أن نموته، لنحسن أن نكونه!
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟