نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4501 - 2014 / 7 / 3 - 16:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قراءة في جدلية ما بين المنظومة الدينية و الواقع– المعجزات و رواية الحوادث عبر مصفاتي الاختبار و التوثيق التاريخي.
تقوم المنظومة الدينية على أساس القبول و التسليم بمعطياتها باسم "الإيمان"، و لا تقدم الكثير لدعم هذه المعطيات عند منتسبيها و إن كانت تطلب الكثير منهم كالتزام ٍ بهذا "الإيمان" يصل لدرجة تبني نظام حياتي شمولي يغطي جميع أبعاد التفاعل الإنساني، و يتسرب إلى الوعي ليشكـِّله و يُرتِّب له القواعد التي سيستند عليها و المنهجية التي سيتبناها و الأنماط الذهنية التي سيتبعها و التي سوف تصيغ بمجموعها صياغة ً نهائية مُخرجات ِ الوعي التي تعالج المعطيات الخارجية.
تتدخل المنظمومة الدينية في خصوصيات الأفراد و كينوناتهم لتسلب منهم بالدرجة الأولى أي قداسة ٍ مُنبثقة ٍ من طبيعتهم المادية و تُفرغهم من استحقاقاتها، ثم لتُسبغ عليهم مكرمة ً إلهية و مِنَّة ً سماوية بديلتين مفارقتين للجوهر الجسدي، فيظل الإنسان ُ يحسُّ بالحاجة ِ إلى الألوهة و الامتنان لوجودها و عطاياها، شعورا ً بتدني القيمة بدون الدين و فقدانا ً للهوية و عجزا ً عن الإحساس بالوجود الفردي المستقل يبدأ لديه منذ الصغر، لتتعزز هذه البُنى النفسية السلبية و المُشوَّهة كلما تقدم الفرد في السنِّ حتى تستحوذ الألوهة و يسيطر الدين على كيانه تماما ً، و هو ما يفسر التشنُّج العصبي في الدفاع عن الهوية الدينية. ***
و من الطبيعي كنتيجة ٍ، أن الصياغة الدينية َ للفرد ستؤدي إلى صياغة ِ للكيان الجمعي المُتكوِّن من اجتماع الأفراد، و الذي يتِّخذ ُ هوية ً تتميز ُ بكونها أكثر من مجرد اجتماع هويات ٍ فردية، أي هوية ً جمهورية ً جمعية ً تستمد قوتها من اجتماع الهويات ِ الفردية لكنها تختلف عنها تماما ً في الشكل و التأثير، فبينما يكون بروزُ الهوية الفردية خاصا ً داخليا ً يكون ُ شكل الهوية ِ الجمعية خارجيا ً عاما ً شاملا ً، يمتلك ُ من القَّوة ما يمكنه من ترسيخ تأثير القناعات الفردية و بناء أخرى جديدة و استدامة القديم و الجديد، نحو تأكيد ذوبان الوعي الُمجرَّد من الأدلجة و اختفائه عند المؤمنين اختفاء ً لا يمكن استدعاؤه و علاجه إلا بصعوبة ٍ شديدة.
تحاول المنظومة ُ الدينية ُ التأكيد على صحة ِ معطياتها و ترسيخ سطوتها من خلال ِ سرد ٍ لحوادث َ تُقدِّمُها على أنها جزء ٌ من تاريخ ٍ قد حصل بالفعل بحيث يترافق ُ السرد مع الأدلجة في نسق ٍ مغزول ٍ لا يلاحظ المؤمن شقِّيه المنسوجين، فيرى وحدة ً واحدة ً تشكِّل تاريخا ً دينيا ً أو دينا ً تاريخيا ً يكون فيه الحدث ُ شاهدا ً على الدين، و الدين ُ تأكيد ٌ للحدث، و هو الأمر الذي يشير إلى كلمة ٍ واحدة: الحقيقة.
لكن َّ السرد الديني للتاريخ يصطدم ُ بمشاكل ِ عدة، فقصص ُ الخلق ِ و عصيان الإنسان الأول، و النزاع مع الشيطان، و الطوفان ِ، و خروج بني إسرائيل من مصر، و شق البحر، و البطاركة ِ الأوائل، و أنبياء إسرائيل َ و ملوكهم، لا تؤكدها البحوثات الأركيولوجية و لا الدراسات الأنثروبولوجية، بل تنفيها علوم الأحافير، و الجينات، و الأجنة و التطور، و الفضاء، و الطب، مما يدل ُّ بقوةٍ على كونها محاولات ٍ بدئية ٍ لمجموعات ٍ سكانية ٍ استوطنت الشرق الأوسط لتفسير العالم ِ من حولها، و سر ِّ الوجود، و إيجاد ِ ماض ٍ أصيل و نسب ٍ قوي يعطيها معنى ً لحياتها، ثم فيما بعد -عندما تعددت الحضارات - مكانا ً بين الأمم و أفضلية ً عليها، كشأن القبائل العبرية ِ التي بقيت مفعولا ً بها من المصرين و البابلين و اليونان و الرومان دون أن تساهم في الحضارة ِ بدورها سوى في توريثنا منظومتها الدينية.
تتغوَّل ُ المنظومة ُ الدينية ُ على الوعي بشدة ٍ، لا في تشويهه ِ و فرض ِ رؤيتها المُتَّصلة ِ بالشعب أو الشعوب ِ التي انحدرت عنها و فصل الفرد و الجماعة عن الواقع المعاش و قولبته في واقعٍ-بديل هو عين ُ الهذيان فقط، لكنها تمضي نحو تأكيد صحتها من خلال تحديها للقوانين الطبيعية بما يسمى بالـ "مُعجزات".
و المُعجزة ُ هي إيقاف ٌ مؤقت للقانون الطبيعي بمشيئة ٍ إلهية و الإتيان ُ بعمل ٍ يناقضُهُ لتظهر َ نتيجة ٌ مخالفة للمُخرَج الذي أفرزه هذا القانون الطبيعي سابقا ً (كشفاء ِ أعمى من مولده) أو الذي كان يجب أن يفرزه الفعل البشري أو فعل ُ الطبيعة. (كهجوم ِ البحر ِ على قارب ٍ صغير بموجة ٍ عاتية دون أن يبتل القارب بالماء).
يكثر ُ حديث ُ الأعاجيب و المعجزات في النصوص ِ الدينية، و يؤمن ُ بها أصحاب ُ الدين كمُسلّـَمات لا تتطلب ُ دليلا ً أو إثباتا ً، لكننا نصطدم حينما نفكِّر ُ فيها بأربعةِ مشاكل:
المشكلة الأولى : التاريخ.
إن التاريخ الذي سجل لنا الحروب و الانتصارات و الهزائم و الحِكم و المواعظ و الفلسفة َ و العلم و الشخصيات على لوحاته الطينية ِ و الحجرية و المِسلَّات، لا يتكلم ُ بذات ِ الاهتمام عن أصحاب المعجزات، و إن تحدث عنهم لا يتحدث ُ عن معجزاتهم و لا يسجلها، و هذا مُستغرب ٌ من مؤرخين َ كانوا يدونون َ كل حدث ٍ مهم ٍّ أو مثيرٍ أو مؤثِّر.
المشكلة ُ الثانية: التحقُّق.
لا يمكننا التحقق من المعجزات التي تم سردها، و لا فحصها، و تبقى مجرد روايات ٍ على المؤمن ِ أن يأخذ بها كما جاءت و أن يصدقها، و تبقى طروحات ٍ إيمانية يتطلب ُ قبولها نفس الاختيار و ذات عملية الأدلجة ِ التي تتطلبها العقائد.
المشكلة ُ الثالثة: عدم وجود معجزات حالية.
إن عدم وجود ِ معجزات ٍ حالية يجب ُ أن يضع علامة استفهام ٍ كبيرة ٍ على سالفاتها، فكيف تسرد ُ المنظومة ُ الدينية ُ القصص المدعومة َ بمعجزات ِ الألوهة، ثم لا نشهد َ معجزة ً أو معجزات ٍ في عصرنا الحالي أو العصور القريبة؟ مع أن الحاجة َ لهذه المعجزات قد برزت أشد َّ من الزمن الماضي، فها هنا اليوم و الآن ملاين ٌ من مرضى السرطان و الكبد الوبائي و نقص المناعة المكتسبة (الإيدز أو السيدا)، و ملاين ٌ من الجياع في القارة الإفريقية، و مئات ُ الملاين من الملحدين الذين لا يرون الألوهة َ في شئ، و مئات ُ الملاين من المؤمنين الذين يتساءلون عن غياب الألوهة و يصلون و لا تُستجاب ُ صلواتهم.
المشكلة ُ الرابعة: تعارض المعجزات مع الطبيعة التي لم نشهد خرقا ً لها.
تقدِّم ُ لنا علوم البيولوجيا و الجينات و الهندسة الوراثية و الطب و الصيدلة وصفا ً دقيقا ً للأعضاء البشرية و طريقة عملها و علاج ِ الأمراض بالعقاقير و الجراحة، و نفهم بواسطتها كيف تعمل ُ أجسادنا، و تصدق ُ هذه العلوم حين تنجح ُ في علاج الأمراض و تنتشر ُ المستشفيات ُ و الصيدليات، في ذات الوقت الذي لا نشهد ُ فيه اعضاء الجسم تعمل ُ بطريقة ٍ أخرى، و لا أفعالا ً تجعلها تسير ُ بعكس هذه الطبيعة، أي أننا لا نشهد ُ إلا ما يخبرنا العلم و العلماء، فكيف نثق ُ أن أعضاء الجسم استجابت في الماضي بطريقة ٍ لا تتناسب ُ مع طبيعتها التي نعرف ُ اليوم؟
إن المشاكل الأربعة َ التي وصفتها لا تشكِّل ُ للمؤمن "مشاكل" لكنه يراها مجرد "اعتراضات" و "نقاطا ً" يثيرها اللادينيون و الملحدون، و يتجاوزها بسهولة ٍ شديدة، دون أن يصرف َ فيها جهدا ً كثيرا ً، لأن أدلجة وعيه في الطفولة قد أفسدت الأُسس المنطقية َ و الحِسِّية التي يعمل من خلالها، و هي التي تطلب ُ و تؤكد ُ على البرهان و الاختبار و و الإدراك ِ المباشر ِ بالحواس، و زرعت بدلا ً عنها تعزيزا ً للقبول ِ التسليمي الذي لا يستند إلى أي دعامة ٍ أو أساس أو تجريب ٍ أو قياس أو اختبار أو إعادة إنتاج. و يظهرُ هذا الفساد بأشد َّ مظاهر مبلغِه ِ حينما يستنكر ُ المؤمن ُ أي حاجة ٍ لأدوات التجريب بل و يجادلُك َ بحرارة في فساد رؤيتك َ و ضلالة ِ منهجك َ و عدم قدرتك َ على إدراك الحقائق ِ الإيمانية ِ البسيطة سائلا ً إلهه أن يفتح بصيرتك َ المكفوفة و عقلك َ المُتحجر َ، مُتخذا ً من تفكيرك َ دليلا ً على غرورك َ الشخصي و استحواذ ِ الشيطان ِ عليك!
أرى أن تحرير عقل الإنسان من الخرافة يجب ُ أن يبدأ بالتكيز ِ على الجسد البشري و طريقة عمله، و تبيان ِ مُتطلبات الهوية ِ البشرية ِ المادية و أليات ٍ العمل في الدماغ و الحواس، حتى إذا ما فهم المؤمن كيف يعمل ُ جسده و البراهين التي تطلبها المادة، استطاع َ بعدها أن يسأل نفسه: لماذا لا تنسجم ُ الروايات ُ الدينية مع الطبيعة ِ الجسدية المادية التي أنتمي إليها؟
و بعد ذلك سيسأل عن الروح و غياب الألوهة و سيبدأ بتبني تفاسير واقعية حقيقية تُشبع النفس الإنسانية بحق، دون اللجوء لروايات ٍ تاريخية غير مدعومة و لمعجزات ٍ لم يشهدها و لا تتكرر.
الإنسان هو المقدس الأول، من يفهم هذه الجملة، سيكون ُ حرَّا ً.
--------------
*** للاستزادة من تفسير الفكرة الواردة في الفقرة المشار إليها بعلامة النجمات الثلاثة يمكن العودة إلى مقالي:
قراءة في الإنسان – 3 – في الهوية الدينية و الدفاع العصبي المُتشنِّج
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=414680
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟