أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج حداد - الحرب الباردة مستمرة بأشكال جديدة بين -الامبراطورية- الروسية والغرب الاميركي















المزيد.....



الحرب الباردة مستمرة بأشكال جديدة بين -الامبراطورية- الروسية والغرب الاميركي


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 1264 - 2005 / 7 / 23 - 08:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


سنة 2004 كانت سنة انضمام غالبية دول اوروبا الشرقية، الاشتراكية الدائرة في فلك الاتحاد السوفياتي سابقا، ومنها بلغاريا، الى حلف الناتو الذي تتزعمه اميركا، وتتحكم عبره بأوروبا الغربية. وبهذه النقلة تكون اوروبا الشرقية قد انتقلت، ظاهريا على الاقل، من النقيض الى النقيض. وهذا ما يثير دهشة الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين في العالم اجمع.
وفي الظاهر، تبدو الامور بسيطة للغاية: ان هذه الدول، بل وروسيا ذاتها ـ مهد التجربة الشيوعية ـ السوفياتية، قد هزمت فيما سمي الحرب الباردة، وتخلت عن ايديولوجيتها السابقة. فمن "المنطقي" إذن ان تتبنى الخيار الاخر ـ المضاد، أي ما يسمى الخيار "الدمقراطي" و"الليبيرالي" الغربي، ولا سيما بواجهته الاميركية!!!
ولكن اذا تجاوزنا جدلا ظاهر الاشياء، وتعمقنا قليلا في جوهرها، سنكتشف ان الامور ليست بهذه البساطة الأرتماتيكية، بل هي ـ وحتى في الحسابات الأرتماتيكية البسيطة ـ عملية رياضية صعبة في منتهى التعقيد.
مقدمات أساسية
ونستند في هذا الاستنتاج الى بعض المعطيات الواقعية، العنيدة كما يقول المثل الانكليزي، التي لا يمكن المرور عنها مرور الكرام:
1 ـ ان دول اوروبا الشرقية المعنية، وقبل ان تصبح، بالحسابات الايديولوجية المرحلية، "اشتراكية"، و"موالية للسوفيات" وما اشبه، هي، بثوابت الحسابات الجيوبوليتيكية العالمية، الاقليم الدولي الذي يقع ضمن خط التقسيم العالمي لمناطق النفوذ، الذي كرسته الاتفاقات السرية في اجتماعات يالطا ـ بوتسدام، في اواخر الحرب العالمية الثانية، بين روسيا "السوفياتية" حينذاك، من جهة، والدول الغربية وعلى رأسها اميركا، من جهة ثانية.
وفي هذه الاتفاقات أقر الحلفاء الغربيون مكرهين، بالواقع التاريخي، الذي يتصف بالعلاقة المميزة بين اوروبا الشرقية وروسيا، والتي تجعل كل منهما مدى حيويا طبيعيا للاخرى.
والسؤال الذي ينبغي الاجابة عليه، من اجل التقرب من فهم مجريات الاحداث الراهنة والقادمة، لا في اوروبا الشرقية وحسب، بل في العالم اجمع، هو: ان روسيا ذاتها قد تخلت عن "اشتراكيتها" و"سوفياتيتها"، وهي نفسها دفعت دول اوروبا الشرقية للتخلي هي ايضا عن "الاشتراكية" و"التبعية السوفياتية"، وتم ذلك بشتى اساليب الضغط وحتى بالقوة كما جرى في رومانيا، التي قتل فيها تشاوشسكو بانقلاب "سوفياتي" ـ اميركي مدبر.
ولكن: هل تخلت روسيا عن كونها روسيا؟ وهل تخلت دول وشعوب اوروبا الشرقية عن كونها ذات هويات ومصالح قومية، متميزة تاريخيا عن الغرب عموما، وعن اوروبا الغربية خصوصا، وعن اميركا بالذات بشكل اكثر خصوصية؟
2 ـ لقد سبق للرئيس والممثل الاميركي الاسبق دونالد ريغان ان اطلق على الاتحاد السوفياتي السابق تسمية "امبراطورية الشر". وهذه الوصفة التركيبية تقوم على الخلط بين مفهومين هما: "الامبراطورية" و"الشر". واذا حللنا هذا "التعريف" او "التصنيف" او الاصح القول "الحكم" الاميركي على روسيا، السوفياتية السابقة، لوجدنا ـ استنادا الى كل آلة الدعاية الاميركية المغرضة والغبية ـ ان هذا الحكم بـ"الشرورية" كان يعني على وجه التحديد لا الصفة "الامبراطورية" لروسيا، بل صفتها "الاخرى"، "الدخيلة"، اي الصفة "السوفياتية" او "الاشتراكية" او "الشيوعية" لروسيا. وهو ما كان يمثل بالفعل حينذاك وجه روسيا ومحتوى ومحور سياستها السابقة، داخليا وخارجيا. ولكنه ـ أي هذا "التصنيف" او "الحكم" الريغاني، لم يكن يعني تماما صفة "الامبراطورية"، الا في ارتباط وثيق بصفة "الشر" السوفياتي.
والواقع ان الاتحاد السوفياتي السابق كان بالفعل دولة "شريرة"، بمعنى دولة ذات ايديولوجية "سوفياتية"، "اشتراكية"، "شيوعية" الخ. ولكنه لم يكن يمثل دولة "امبراطورية" وحسب، "امبراطورية" خالصة، بمعنى دولة كبرى لا تقيم الاعتبار للايديولوجية والمبادئ والعواطف والاخلاق، بل للمصالح، وفقط للمصالح، كما هي الامبراطوريات الامبريالية، الاميركية والغربية الاخرى، القديمة والجديدة.
اما الآن فقد "انقلبت اللعبة" تماما، بالنسبة لروسيا، ورأسا على عقب. فروسيا "السوفياتية" قد ولت الى اجل غير مسمى، وبقيت روسيا الدولة القومية الكبرى، التي تبلغ مساحتها تقريبا ضعف مساحة الصين الشعبية، اكبر دولة في العالم من حيث تعداد السكان، وما يكاد يوازي مساحة الولايات المتحدة الاميركية واوربا كلها مجتمعتين. وهذه الدولة تمتلك كل مقومات "الامبراطورية".
واذا اجرينا مقارنة سريعة نجد ان روسيا، وخلافا لاوروبا الغربية، تمتلك دورة اقتصادية كاملة، بدءا من الطاقة والخامات، وكذلك "عمقا استراتيجيا" كافيا في أي حرب شاملة، وهو ما يتمثل بالاخص في مساحتها الشاسعة، وصعوبة وتنوع تضاريسها، و"الجنرال شتاء".
وهذا العامل وذاك ـ أي الدورة الاقتصادية الكاملة، والعمق الاستراتيجي، الضروريان لكل امبراطورية ـ تفتقدهما اوروبا الغربية مع كل تقدمها وغناها. وحينما نشأت الامبراطوريات الاستعمارية الاوروبية الغربية، ويمكن اضافة الامبراطورية العثمانية، فقد اكتسبت صفة "الامبراطورية" بامتلاك هذين العاملين، عبر إلحاق المستعمرات بالمتروبول، اي المركز "القومي" للامبراطورية الاستعمارية المعينة. وحينما كانت احدى تلك "الامبراطوريات" تفقد مستعمراتها، كانت تفقد اوتوماتيكيا صفتها "الامبراطورية"، لان قوامها القومي لا يسمح لها بتحقيق هذه الصفة بدون الالحاق الاستعماري. وهذا لا ينطبق على روسيا، التي لا تحتاج الى الحاق استعماري كي تكون "امبراطورية".
اما اميركا، فهي تمتلك دورة اقتصادية كاملة وعمقا ستراتيجيا، وهي تتساوى في ذلك مع روسيا.
الا ان اميركا تعاني "عقدة خاصة"، تكلفها غاليا جدا على المستوى الاقتصادي والستراتيجي والسياسي. وتتمثل هذه "العقدة" في بعدها الشاسع عن "العالم القديم" كله، على خلاف روسيا، التي هي جزء لا يتجزأ، بل وجزء رئيسي ومفصلي من هذا "العالم القديم"، ولا سيما قلبه وجزؤه الاكبر: اوراسيا. بل ان روسيا هي "الجسر" الاوراسي الاكبر، الذي يصل آسيا واوروبا وافريقيا.
والآن، بعد ان "تحررت" روسيا من "شرها" السوفياتي، فقد بقيت منها حتما "الامبراطورية"، وأي امبراطورية!
والواقع ان روسيا "الجديدة"، "غير الشريرة"، بدأت تمارس دورها قولا وفعلا كـ"امبراطورية" كبرى، ذات مصالح اقتصادية ـ عسكرية ـ سياسية شاملة.
وسياسة الدولة الروسية المعاصرة اصبحت تقوم على هذه المصالح، وتسترشد بها، بدون أي اعتبار للصداقات والاخلاق والمبادئ والعواطف، مثلها مثل أي امبراطورية اخرى، ولا سيما الاميركية. وبالتالي فإنها، أي روسيا المعاصرة، اصبحت تتعامل خاصة مع اميركا واوروبا الغربية، بلغة المصالح البراغماتية التي "يفهمانها"، القائمة أساسا على الانانية والخداع والتضليل والتآمر والغدر. بل هي ستبزهما في استخدام هذه اللغة "الامبراطورية" "الخيرة" و"غير الشريرة" (استطرادا للمفهوم الريغاني)، نظرا لتجربتها المريرة السابقة في استخدام "لغة" المبادئ الايديولوجية "الشريرة". وسيأتي قريبا اليوم الذي يترحم فيه جهابذة الستراتيجية الاميركية والغربية على ايام "امبراطورية الشر" السوفياتية، التي كانوا، على الاقل، يعرفون مسبقا ما هي وكيف تفكر وماذا تريد. اما الان، ومن خلال معرفتهم بامبراطورياتهم، الحالية والسابقة، فهم يدركون تماما انهم ـ بشخص روسيا الامبراطورية "غير الشريرة" ـ انما اصبحوا يتعاملون مع ابليس حقيقي، مثلهم تماما، لا دين ولا عقيدة ولا مبدأ له سوى المصالح.
من زاوية النظر هذه ينبغي التفكير بتمعن: هل يمكن لروسيا "الامبراطورية" هذه ان تتنازل مجانا عن "مداها الحيوي"، الذي اقر لها به الغرب، في اوروبا الشرقية، وبصفة "تعاقدية!" مكرسة في اتفاقات يالطا ـ بوتسدام؟
ام ان لها ـ اي لروسيا ـ مصلحة براغماتية في ان تلعب تلك دول اوروبا الشرقية دور "حصان طروادة" مزدوج:
ـ "اميركي" ضد اوروبا الغربية؛
ـ وروسي ضد اميركا والناتو كله؛
بعد ان كانت تلك الدول في الماضي تلعب دور ساحة الصدام الامامية لـ(روسيا) السوفياتية، "امبراطورية الشر" سابقا؟
3 ـ كانت البيروقراطية الحزبية "الشريرة" (أي الشيوعية) السابقة، هي التي تحكم روسيا (الاتحاد السوفياتي سابقا)، وكانت اجهزة المخابرات، وعلى رأسها الكا جي بي، تضطلع بدور المنفذ بوصفها اليد اليمنى والقبضة الحديدية لتلك القيادة البيروقراطية، ذات الصبغة الايديولوجية.
وكان عهد يلتسين آخر عهد في تلك المرحلة. ولكن بعد المصادمات المسلحة التي وقعت في 1993 في وسط موسكو، بين انصار يلتسين وانصار مجلس السوفيات الاعلى (السوفياتي) المعارض له، سقطت سلطة البيروقراطية السياسية نهائيا، وحلت محلها، في مركز قيادة الدولة، سلطة الكا جي بي واجهزة المخابرات، التي اصبحت تشكل الهيكل الحديدي للدولة، امنيا وعسكريا وسياسيا.
وقد جرى حينذاك التصديق، عبر استفتاء عام، على دستور جديد للدولة، مفصل على قياس القيادة الحديدية الجديدة "غير الشريرة"، اي غير السوفياتية. وروسيا اليوم تنطبق عليها تماما صفة الامبراطورية، ليس بالمعنى السياسي والاقتصادي والعسكري وحسب، بل بالمعنى الدستوري ايضا. فبموجب دستور 1993 المعمول به حاليا، فإن روسيا هي جمهورية سوبر ـ رئاسية. ذلك ان رئيس الجمهورية يملك من الصلاحيات اكثر مما يملكه الرئيس الاميركي والرئيس الفرنسي مجتمعين. فهو الذي يحدد التوجهات الاساسية للسياستين الخارجية والداخلية معا. وهو القائد الاعلى للقوات المسلحة (الجيش والشرطة والاجهزة الامنية الخاصة). وهو الذي يوحد وينسق عمل مختلف المؤسسات. ويعين الوزراء. ويقتصر حق مجلس النواب على: الموافقة او رفض رئيس مجلس الوزراء الذي يعينه الرئيس. وفي حال الاختلاف يملك الرئيس حق حل مجلس النواب واجراء انتخابات مبكرة. وبموجب المادة 93 من هذا الدستور يملك الرئيس ايضا حق اصدار مراسيم اشتراعية لها قوة القانون. اي باختصار ان الرئيس الروسي هو "رئيس جمهورية" بالاسم فقط، اما في الواقع فهو امبراطور مطلق الصلاحية، باستثناء "حق" التوريث، الذي يبدو انه امتياز عربي، والحمد لله!! الذي لا يحمد على مكروه سواه!!
4 ـ ان اوروبا الشرقية تمثل عالميا منطقة حساسة جدا لكونها مركز تلاقي، تداخل وتصارع، ثلاثة عوالم هي: العالم السلافي، وقلبه روسيا، شرقا؛ العالم الاسلامي، جنوبا؛ والعالم الانغلو ـ ساكسوني ـ الجرماني ـ اللاتيني، غربا. وقد برزت هذه الخصوصية الاوروبية الشرقية منذ انقسام الامبراطورية الرومانية ـ البيزنطية القديمة، الى شرقية وغربية، ثم انقسام الكنيسة ايضا الى "شرقية" و"غربية".
وقد ترسخت هذه الخصوصية خلال المراحل التالية:
ـ مرحلة الحروب الصليبية، التي بادرت الى شنها اوروبا الغربية المسيحية "الغربية"، ورفضت المشاركة فيها وعارضتها شعوب روسيا واوربا الشرقية المسيحية "الشرقية".
ـ مرحلة الحكم الاستبدادي العثماني الذي سيطر على قسم من اوروبا الشرقية، بدعم صريح من اوروبا الغربية و"قلبها النابض" الطغمة المالية اليهودية (الخزرية) العليا.
ـ مرحلة الحربين العالميتين الاولى والثانية.
ـ واخيرا لا آخرا مرحلة الحرب الباردة بين المعسكرين "الشرقي" و"الغربي".
وعلى امتداد هذه المراحل، عوملت هذه المنطقة، من قبل الدول الغربية الكبرى، بمختلف معسكراتها وتناقضاتها، وكأنها اما منطقة معادية، او "كمية مهملة" يجوز استباحتها للمطامع التوسعية، بدون أي احترام واعتبار لتاريخها وهويتها وشعوبها.
وبالمقابل، واستنادا الى رابطة العلاقة "القومية ـ الام" بوصفها شعوبا سلافية، وكذلك العلاقة الدينية، للكنيسة الارثوذكسية التي ينتمي اليها القسم الاكبر من شعوب اوروبا الشرقية، فإن روسيا، الدولة السلافية والارثوذكسية الاكبر، هي التي قاتلت الى جانب هذه البلدان، ودافعت عنها، وساعدتها بشكل رئيسي على تحقيق التحرر والاستقلال وانشاء دولها الوطنية، ولا سيما بوجه الطاعونين العثماني والهتلري. وطبعا ان روسيا كانت تفعل ذلك مدفوعة بمصالحها العليا، الامبراطورية. وقد قدمت روسيا مئات الوف الضحايا، من خيرة ضباطها وقواتها العسكرية، والفرق الطبية والهندسية التي كانت ترافق الجيوش، على اراضي تلك البلدان دفاعا عنها، منذ القرن التاسع عشر حتى اواسط القرن العشرين. (في بلغاريا وفي العاصمة صوفيا العديد من النصب والتماثيل، التي تشير الى التضحيات الروسية على هذا الصعيد، ومنها للمثال ساحة ونصب للاطباء ـ العسكريين الروس الذين سقطوا في المواجهة مع العثمانيين لتحرير بلغاريا، وتسمى "حديقة الدكاترة"). ومن الغباء ان يعتقد احد ان روسيا، ولا سيما كـ"امبراطورية"، يمكن ان تنسى تضحياتها ودماء ابنائها. وبالرغم من كل "شرور" المرحلة "السوفياتية" ذاتها، من الجوانب السياسية ـ الانسانية، على صعيد تأمين الحريات الدمقراطية وحقوق الانسان، فان دول اوروبا الشرقية قبل المرحلة السوفياتية لم تكن سوى ركام بلدان وحطام دول، كما تركها الحكم العثماني الغاشم والاحتلال النازي الأغشم، والانظمة الملكية والرأسمالية العفنة التي كانت سائدة فيها حتى منتصف القرن العشرين. وبالرغم من كل شرور المرحلة السوفياتية، ففي تلك المرحلة بالذات، تحولت تلك الدول ـ الركام الى دول متطورة صناعيا وزراعيا،علميا وثقافيا، وعسكريا. ولا يستطيع احد ان ينكر ان الروس (السوفيات) قدموا لهذه البلدان مساعدات خيالية هائلة، تقريبا بدون مقابل. وبنتيجة ذلك، فهي قد اصبحت في وقته دولا يحسب لها الف حساب، على الصعيد العالمي بأسره. والآن، بعد انهيار "الشيوعية السوفياتية" وزوال الاتحاد السوفياتي كنظام اجتماعي ـ سياسي ـ ايديولوجي، فان الاهتمام الاميركي والغربي الزائد بتلك الدول يؤكد تماما انها اصبحت رقما صعبا، لا يمكن تجاوزه ابدا، في المعادلات الدولية برمتها، ولا سيما في المعادلات الغربية ذاتها.
مؤشرات ومشاهد
انطلاقا من هذه المعطيات التاريخية، نحاول فيما يلي ان نقدم عرضا لبعض المعايشات الشخصية وبعض التصاريح والمقابلات والمجريات، المرافقة، او التي تجري على خلفيتها، عملية ضم دول اوروبا الشرقية الى حلف الناتو، وبعده الى الاتحاد الاوروبي، كمقدمة لمحاولة القاء الضوء وتحليل واستشراف هذه العملية. ولا بد لنا من الملاحظة ان كل المعلومات والمقابلات الصحفية والتصاريح الشخصية الواردة في هذا العرض، هي مأخوذة من وسائل الاعلام والصحافة البلغارية، ولا سيما راديو "اوروبا الحرة" باللغة البلغارية، الذي تديره المخابرات الاميركية، واليوميات: "دوما"، "مونيتور"، "ترود"، والاسبوعيتان: "168 تشاسا"، و"نوفا زورا"، والشهرية: "ستروغو سيكريتنو"، هذا بالاضافة الى الانطباعات والاستنتاجات التاريخية، التي يدخل فيها طبعا الرأي الشخصي:
1 ـ في السابق كان الاعلام الغربي يسمي دول اوروبا الشرقية "ساتيليت" (تابع) للسوفيات. اما الآن فقد اطلقت الصحافة الالمانية على هذه الدولة وصمة جديدة هي عبارة: "حصان طروادة" اميركي. وراج هذا اللقب في مختلف بلدان الاتحاد الاوروبي. ويشمل ذلك حتى اليسار: حيث ان الاشتراكية ـ الدمقراطية الالمانية والاوروبية الغربية تتهم اليسار الاوروبي الشرقي، ولا سيما الاحزاب الشيوعية السابقة ذاتها، بأنها اصبحت "حصان طروادة" اميركيا. وقد تأكدت هذه التهمة اكثر ما يكون في ظروف تأييد دول اوروبا الشرقية، ويسارها "الشيوعي" السابق، للحرب الاميركية ضد العراق، خلافا لموقف دول اوروبا الغربية ولا سيما المانيا وفرنسا. علما ان بعض دول اوروبا الشرقية، كبولونيا وبلغاريا، لم تتردد حتى في ارسال بعض القوات العسكرية الى العراق. كما أخذ على اليسار الاوربي الشرقي موقفه "الانبطاحي" امام اميركا في موضوع الانضمام الى حلف الناتو، وتقديم قواعد عسكرية مباشرة للاميركيين، هي بديل عن القواعد التي ينسحب منها الاميركيون من المانيا وغيرها، بفعل فتور بل وتوتر العلاقات الاميركية ـ الاوروبية الغربية. ويجري ذلك في الوقت ذاته الذي تمر فيه العلاقات بين روسيا من جهة، واوروبا الغربية، ولا سيما المانيا وفرنسا، من جهة ثانية، بما يمكن تسميته شهر عسل حقيقيا. وللمثال فإن ألمانيا الان، من بين جميع الدول الغربية، هي ذات التوظيفات الاكبر في روسيا.
2 ـ يعتبر الاشتراكيون الدمقراطيون الاوربيون، وانصار الفكرة الاوروبية في اوروبا الغربية ان اوروبا الموحدة، بدون الثروات والطاقات الروسية لا تستطيع ان تسبق اميركا. وهذا ما يجعل شرويدر وشيراك "يدمنان" مغازلة بوتين، والالتقاء معه كل شهر تقريبا. وفي الوقت ذاته يدعم اليساريون الالمان والفرنسيون والاسبان والايطاليون مشروع انشاء القوات المسلحة الاوروبية المستقلة، التي يسميها البعض NATO - Biss. كما يخططون لانشاء صناعة اسلحة اوروبية مشتركة. وفي الظاهر يتناقض ذلك كله، على خط مستقيم، مع "الانبطاح" الاوروبي الشرقي امام اميركا وحلف الناتو.
3 ـ ان اهم دولة في اوروبا هي بدون شك روسيا. وهي تضطلع تاريخيا بدور الجسر الاوروبي الرئيسي نحو آسيا. وفي حال قيام اوروبا موحدة، فإن الحدود الشرقية لاوروبا ستكون هي الحدود الاوروبية الاطول. وبالرغم من كل الصعوبات فإن فكرة تحويل الاتحاد الاوروبي الحالي الى دولة موحدة، ذات دستور واحد، تشق طريقها بقوة، بالرغم من العراقيل التي تضعها بعض الدول الموالية لاميركا كانجلترا، واسبانيا وبولونيا. وسيعمل بادئ ذي بدء على توحيد الدفاع والامن.
4 ـ في 2004 دخلت الناتو: سلوفاكيا، ليتفا، لاتفيا، استونيا، بلغاريا ورومانيا. وقد قررت الولايات المتحدة الشروع في ايقاف بث "راديو اوروبا الحرة" الى هذه البلدان، للتركيز على بلدان اخرى، خصوصا في "الشرق الادنى والاوسط". ومعلوم انه قد بدأ البث من "راديو اوروبا الحرة" باللغتين الكردية والعربية الى العراق. ويسمى هذا البرنامج، الذي تديره المخابرات الاميركية "صوت العراق الحر". وكذلك بدأ البث لافغانستان، من اجل استكمال "تحريرها" ايضا. كما تقرر ايقاف البث الى كرواتيا، بالرغم من تأجيل ضم هذه الدولة الى حلف الناتو والاتحاد الاوروبي، علما ان القوميين الكروات هم الذين فازوا في الانتخابات الاخيرة وعادوا الى السلطة فيها. وهذا ما يشكل حرجا للاميركيين.
5 ـ ان السلطة الاقتصادية والسياسية الفعلية في بلغاريا، كمثال نموذجي لاوروبا الشرقية، اصبحت تعود لقوى الظل، أي مجموعات الفساد والاقتصاد المشبوه والجريمة المنظمة. فهذه القوى اصبحت تخترق اجهزة الدولة ومختلف الاحزاب اليسارية واليمينية، التي تخشى سطوة تلك القوى، وتقوم بمسايرتها لاجل مساعدتها في الوصول الى الحكم. وبالطبع انه ليس لهذه القوى أي مثل وطنية واجتماعية، وهي تجد من مصلحتها ان تسير في ركاب السياسة الاميركية ـ الصهيونية كما تريد، بما في ذلك منح قواعد عسكرية ذرية مجانا لاميركا، وارسال قوات مسلحة بلغارية للوقوف الى جانب المحتلين الاميركيين في العراق، والانضمام الى حلف الاطلسي بشكل انبطاحي. والقوة السياسية ـ الامنية الوحيدة القادرة على الوقوف بوجه هذه القوى المشبوهة، هي القوى التابعة للبوليس السياسي للنظام الشيوعي السابق، وعلى رأسها الكا جي بي الروسية، التي لا تزال تحتفظ بعلاقاتها وتنظيماتها وامكانياتها. وقد اصبحت الكا جي بي المحور المركزي الذي تلتف حوله كل فلول الشرطة السياسية السابقة في الدول الاوروبية الشرقية الاشتراكية السابقة.
6 ـ صرحت ناطقة باسم "لجنة الدولة للأمن والمعلوماتية" في بلغاريا: "ان حوالى 100 شخص حتى الان قد تلقوا تصاريح بامكانية الاطلاع على اسرار الناتو".
و"بموجب التزاماتنا امام بروكسل (مقر قيادة الناتو)، وحتى موعد الحصول على العضوية الكاملة في الحلف، فإن هذا العدد سيرتفع الى 1000 شخص". ومن بين هؤلاء "المختارين" سيكون " وزراء، نواب وزراء، خبراء في نظام الامن، وفي وزارة الخارجية، والاجهزة الخاصة، و"لجنة الدولة للامن والمعلوماتية"، وغيرهم من الخبراء في مؤسسات اخرى".
وكل هؤلاء سيطلعون على "المعلومات الخاصة المصنفة للحلف، التي ستبدأ بالورود الى بلغاريا بعد اكتمال عضويتها فيه. وحينذاك من المفترض ان يتاح لنا الاطلاع على المعلوماتية الخاصة بالحلف، المحمية داخليا".
وستتلقى بلغاريا تصريحا بالدخول الى نظام الكومبيوتر المسمى "منيرفا" الخاص بالحلف. وفي اطار التحضير لذلك، وصل الى بلغاريا فريق من دائرة الامن في الناتو، ليبدأ في "تركيب" الكومبيوترات المتخصصة الخاصة بنظام "منيرفا". وهذا ما يؤكده بعض الدبلوماسيين. وبسبب تقريب موعد الدخول الى الناتو الذي تم في شهر كانون الثاني 2004، فإن المؤسسات البلغارية والناتوية المختصة اسرعت في عملية تنسيق التبادل المعلوماتي.
ـ وباستثناء المعلوماتية الخاصة بالناتو، فإن الاشخاص الذين لديهم تصريحات بالاطلاع على الاسرار الوطنية يبلغ عددهم 8084. وبينهم ضباط في الامن وخبراء في مختلف المؤسسات. وفي قسم الدفاع، حيث يوجد القسم الاكبر من اسرار الدولة، يوجد 3250 شخصا لديهم تصريحات بالاطلاع على اسرار المعلومات المصنفة.
كل هذا يعطي فكرة عن "الفرصة التي لا تفوت" او "ورشة العمل الكبيرة"، التي تنتظر عملاء الكا جي بي الروسية، وعن "الحفرة" الاكبر التي تنتظر المخابرات الاميركية والاسرائيلية ومن لف لفها.
7 ـ "لا ينبغي ان تكون لدينا اية اوهام حول الحصول على فوائد اقتصادية مباشرة. نحن نقوم بالتزاماتنا كشركاء" (التأكيد مني ـ ج.ح.). هذا ما صرح به مؤخرا رئيس الجمهورية البلغارية السيد غيورغي برفانوف (الذي هو الرئيس السابق للحزب الاشتراكي ـ الشيوعي سابقا ـ)، وذلك على اثر اجتماعه مع "مجلس الامن القومي"، الذي يضم ممثلين عن جميع الاحزاب البلغارية، المشاركة وغير المشاركة والمعارضة للسلطة، لبحث موضوع منح قواعد عسكرية لاميركا (بما فيها قواعد نووية)، على الاراضي البلغارية. ولبحث الموضوع ذاته، قام السيد سيرغيي ستانيشيف، الرئيس الحالي للحزب الاشتراكي، باستقبال السفير الاميركي في بلغاريا، في المقر المركزي للحزب، وبالحفاوة والاهتمام اللذين كانت تحاط بهما اللقاءات مع السفير "السوفياتي" سابقا.
وتعليقا على الموضوع ذاته، صرح بعض خبراء الامن القومي "بأن بعض الدول الاوروبية الشرقية الاخرى، ولا سيما بولونيا، قد ساومت الاميركيين للحصول على توظيفات مالية، مقابل منح اميركا قواعد عسكرية على اراضيها". ويقول هؤلاء الخبراء ايضا "اننا لا ندري لماذا نعطي هذه القواعد على اراضينا". ويضيفون "بمنح هذه القواعد تبرز مشكلتان على الاقل: الاولى اننا نصبح هدفا للعمليات الارهابية. والثانية، ان البلدان ذات النفوذ الاكبر في الاتحاد الاوروبي، وبالاخص فرنسا والمانيا، تعارض اقامة قواعد عسكرية اميركية في اوروبا الشرقية، كما انها وقفت ضد الحرب على العراق"، خلافا لموقف بلغاريا وغيرها من دول اوربا الشرقية.
8 ـ دوغلاس فييت، نائب وزير الدفاع الاميركي، الذي كان في زيارة رسمية لبلغاريا في السنة الماضية، ربط عملية منح قواعد عسكرية اميركية في بلغاريا، بعدم معارضة اميركا لموقف بلغاريا من المحكمة الدولية لجرائم الحرب. حيث ان بلغاريا اخذت تميل الى الوقوف الى جانب دول الاتحاد الاوروبي التي تؤيد اقامة هذه المحكمة. وكانت اميركا في السابق قد منعت عن بلغاريا مساعدة عسكرية تقدر بعشرة ملايين دولار، بسبب رفضها توقيع اتفاق ثنائي مع اميركا بالموافقة على عدم خضوع العسكريين الاميركيين لهذه المحكمة الدولية، التي اقرتها الامم المتحدة.
9 ـ بعد لقائه مع نائب وزير الخارجية الاميركية مارك غروسمان، الذي قام بزيارة موسكو في السنة الماضية، صرح وزير الدفاع الروسي سيرغيي ايفانوف "ان مشاريع الناتو للاقتراب من الحدود الروسية تثير قلقا مفهوما تماما لدى موسكو".
واضاف ايفانوف "لم يجر إعلام روسيا بأي مشاريع محددة لاعادة الانتشار العسكري الاميركي في اوروبا. ان ضمان امن بعض الدول لا ينبغي ان يكون على حساب الدول الاخرى".
10 ـ فيكتور شاباروف، رئيس "اتحاد اصدقاء بلغاريا في روسيا"، وهو اخر سفير "سوفياتي"، ومن ثم اول سفير روسي في بلغاريا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، قام مؤخرا بزيارة لبلغاريا، وفي مقابلة صحفية سئل: "كيف ينظر الروس الى انضمام بلغاريا الى حلف الناتو؟". فأجاب:
ـ "ان هذه المسالة كانت تثير اهتمام الروس بشدة قبل عدة سنوات. لانه حينذاك كان الناتو يقوم بقصف يوغوسلافيا. اما اليوم، فإنه توجد حقول عديدة للتعاون بين روسيا، من جهة، والولايات المتحدة ودول اوروبا الغربية، من جهة ثانية. واذا كانت توجد مواجهة في ذلك الحين، فهي قد هدأت الان، او انتفت. وبهذا المعنى ارى ان الروس اصبحوا ينظرون بكثير من الهدوء الى دخول بلغاريا في الناتو. وبالطبع يوجد في روسيا اناس غير راضين عن مثل هذا التطور للاحداث. واعتقد ان هؤلاء ايضا يوجد مبرر لعدم رضاهم. والكثير من هؤلاء يتساءلون: لماذا يستمر وجود هذا التكتل العسكري ـ السياسي. لقد جرى انشاؤه في السابق لمواجهة حلف فرصوفيا. ولكن حلف فرصوفيا قد زال. اما حلف الناتو فيستمر في الوجود. انظروا الى الخريطة. ان توسيع حلف الناتو يمثل في الجوهر اقترابا من حدود روسيا. كيف يمكن ان يكون موقف أي دولة اوروبية غربية من مثل هذا الوضع؟ كيف يمكن ان تقبل محاصرتها من قبل تكتل عسكري؟ ماذا تحسبون سيكون، مثلا، رد فعل الرأي العام الانكليزي، الفرنسي والالماني، في مثل هذا الوضع؟ هذا ما يشعر به الروس ايضا. نحن نستقبل بهدوء ما يجري. ولكننا لا نتوقف عن التساؤل، لماذا يكون من الضروري المحافظة على، بل واكثر من ذلك، توسيع هذا التكتل العسكري ـ السياسي. لقد برهنت روسيا اكثر من مرة انها لا تريد المواجهة، وانها تعمل لتطوير التعاون كما مع الناتو كذلك مع الاتحاد الاوروبي. اني اعتقد انه في ظروف التعاون سنجد الطريق الحقيقي لتطوير العلاقات بين روسيا والناتو".
11 ـ اعتقل في المدة الاخيرة في المانيا احد الجواسيس، ذكرت الصحف ان اسمه إنغو يوهان ش.، وجرى الحديث حينذاك عن وجود "أثر بلغاري". وقد وصلت لجنة خبراء من قسم الجاسوسية في الناتو الى صوفيا، للتحقيق في هذه الفضيحة.
وقد وجه احد الصحفيين سؤالا الى احد ممثلي دائرة التجسس الوطنية في بلغاريا، حول: وجود "خلد" في اعلى طبقات السلطة، ومن ثم وجود "خلد" داخل الجاسوسية الالمانية. فأجاب: "انني متسامح نحو آراء الصحافة البلغارية. واني اتقبلها. وانا اتوقع من الاجهزة المختصة ان تبدي الاهتمام بمثل هذه الاشارات. وقد استغلينا هذه المناسبة ليس فقط للقيام بتحقيق في عملنا، أي عمل ممثلينا في المانيا، بل ايضا في جميع دول الناتو، حيث يوجد ممثلون من قبلنا".
12 ـ ان التناقض الاميركي ـ الاوروبي الغربي يحكم أي تحرك لكل من الطرفين، وللناتو كتكتل، في اوروبا الشرقية. وظهر هذا بوضوح في خلال الحرب ضد يوغوسلافيا. فالدول الاوروبية الغربية، ولا سيما المانيا وفرنسا، لم تكن موافقة تماما على حل المشكلة اليوغوسلافية بالقوة العسكرية. وكانت تميل لتحقيق حل سلمي عن طريق المفاوضات. وهي تمتلك اوراقا قوية لذلك، كما ان لها مصلحة في الحل السلمي، نظرا للموقع الجغرافي، حيث ان كل من الطرفين: يوغوسلافيا بكل اطرافها المتصارعة، ودول اوروببا الغربية، بحاجة احدهما للاخر. اما اميركا فهي لا تمتلك، وليس لديها رغبة في استخدام أي عامل ايجابي لحل المشكلة اليوغوسلافية سلميا، ولهذا فهي اتجهت لفرض "حلها" بالقوة، بهدف رئيسي هو فرض وجودها العسكري في البلقان. وقد اضطرت دول اوروبا الغربية لمسايرة ومماشاة اميركا، حتى "لا يفوتها القطار"، وحتى لا تنفرد اميركا بالوجود العسكري على الارض اليوغوسلافية. ولهذه الغاية اضطر البرلمان الالماني للتصويت على ارسال قوة عسكرية خارج المانيا، وهو ما كانت المانيا تتجنبه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
13 ـ ان الهجمات الجوية التي تعرضت لها يوغوسلافيا كانت من اشد الهجمات عنفا وشراسة، حيث ألقي عليها من القنابل في اسابيع أضعاف ما ألقي على فيتنام ذاتها في سنوات. وكان احد اهدافها الرئيسية تدمير قوة الجيش اليوغوسلافي. ومع ذلك فإن الاضرار، بالقوة الحية وبالمعدات، التي حلت بهذا الجيش، لا تتناسب مع قوة وحجم ونوعية الهجمات التي تعرض لها. ولا شك ان الكفاءة القتالية للجيش اليوغوسلافي لعبت دورا هاما في حمايته، ولكن هناك عاملا آخرا لعب دورا لا يقل اهمية، وهو وجود "خلد" ـ او جاسوس ـ في قلب حلف الناتو، كان يخبر اليوغوسلاف مسبقا بتوقيت وهدف كل طلعة جوية معادية. فكان الجيش اليوغوسلافي يتخذ التدابير اللازمة، بتحريك قواته ومعداته لحمايتها. وحسب تقديرات الخبراء التي نشرت في وسائل الاعلام في حينه، فإن الاضرار العسكرية اليوغوسلافية لا تتجاوز 5 ـ 10 % من قوة الجيش اليوغوسلافي. ولذلك فإن الاضرار الاساسية في يوغوسلافيا كانت من نصيب الاهداف المدنية: الجسور والطرقات الرئيسية والمطارات والمرافئ والمستشفسيات ومحطات الراديو والتلفزيون والمصانع والسدود والمحطات الكهربائية والمائية، والاماكن السكنية. وهذا ما جعل القيادة اليوغوسلافية، بدافع حماية المدنيين وما تبقى من البنية التحتية والاقتصادية، تتراجع وتقبل بوقف اطلاق النار، وبدخول قوات الناتو وغيرها الى البلاد، باسم قوات حفظ السلام.
وقد اجرى ميلوسوفيتش الانتخابات في البلاد، وكأن شيئا لم يكن. وهو قد خسر الانتخابات ليس لان الشعب اليوغوسلافي تخلى عنه، بل لان قسما كبيرا من المواطنين، السائر خلف المعارضة الشريفة او المشبوهة، اعتقد خطأ ان التضحية بشخص ميلوسوفيتش يمكن ان تؤدي الى "فتح كيس" اميركا والدول الغربية التي دمرت يوغوسلافيا، للتعويض ولو جزئيا عن جرائمها والاضرار الفادحة التي تعرضت لها البلاد في هذه الحرب الظالمة، ومن ثم تحسين مستوى معيشة الناس من جديد. ولكن بعد مرور اكثر من ثلاث سنوات على ازاحة ميلوسوفيتش، تبين ان هذا الامل لم يكن سوى حلم خادع. وتأكدت خيبة امل الشعب اليوغوسلافي في الانتخابات الرئاسية الاخيرة التي جرت في صربيا، والتي خرج فيها ميلوسوفيتش منتصرا وهو وراء قضبان "العدالة" الموندو ـ اميركية في لاهاي، حيث ان اكثر من نصف الناخبين قاطعوا الانتخابات في اكثر من دورة، مما حتم اعتبارها لاغية، اذ ان الدستور ينص انه يجب ان يشارك في الانتخابات اكثر من نصف الناخبين حتى تعتبر قانونية.
14ـ ارى من المناسب ان اذكر هنا حادثتين عشتهما شخصيا، وهما تكشفان طبيعة الاستعدادات العسكرية الجدية والشاملة في "المعسكر السوفياتي" السابق:
الاولى ـ انه في 1961، لدى نشوب ازمة إنشاء جدار برلين، كنت في صوفيا ادرس في احد المعاهد. وحينذاك، تحضيرا لبناء الجدار، وتحسبا لرد الفعل الغربي، اعلنت حالة الطوارئ القصوى في بلدان حلف فرصوفيا، بما فيها طبعا بلغاريا. ومن ضمن تدابير الدفاع المدني الروتينية، جرى تحضير الطلاب ايضا، استعدادا حتى للحرب الذرية. وخلال فترة التحضير، قادنا بعض المسؤولين المعنيين الى اسفل البناية التي كنت اسكن فيها، داخل المعهد، وكشفوا لنا عن وجود ملجأ خاص مضاد للقنابل والاشعاعات الذرية، في اسفل البناية بالذات، علما ان هذه البناية يعود تاريخ بنائها لما قبل الحرب العالمية الثانية، ولم يكن فيها ملجأ، وبالتالي فإن الملجأ أنشئ في فترة الحكم الشيوعي، من ضمن الخطة السوفياتية للمواجهة الشاملة مع الغرب. وقد قدموا لنا بعض الشروح الفنية، منها ان جدران الملجأ، ولا سيما المدخل، مبنية لتلقي موجة الصدمة، من اكثر من وجهة قد تأتي منها، وكذلك البابان المصفحان، وأنه في حال انطلاق صفارات الانذار علينا ان ننزل فورا الى الملجأ، بدون ان يحمل أي شخص أي شيء، لا مأكل ولا ملبس، حتى لا يكون ملوثا بالاشعاع الذري. واخبرونا بوجود جهاز خاص في الملجأ، مخصص لتكييف الهواء وتنظيفه من الاشعاعات الذرية، وهو يعمل على التيار الكهربائي المركزي، واذا تعطل فيعمل على مولد كهربائي موضعي، واذا تعطل هذا ايضا فيعمل بالتحريك اليدوي. وكذلك بوجود شبكة انفاق طويلة، تذهب في اكثر من اتجاه، وتقود بعيدا الى خارج المدينة. وانه في حالة الوضع القتالي علينا ان نطيع تماما المسؤولين عن الملجأ الذين يقدمون انفسهم في الوقت المحدد، وان نتبعهم حيث يأمروننا. واخيرا انه اذا صدف وجود أي منا خارج حرم المعهد، لدى انطلاق صفارات الانذار، فسيكون هناك علامات ترشد الى الملاجئ في انحاء المدينة، وعلينا الاسراع الى اقرب ملجأ اينما كنا.
الثانية ـ بعد حوالى ثلاثين سنة من ذلك، أي في سنة 1992، وكنت مع عائلتي اقطن في بلوك سكني في حي يبعد عدة كيلومترات عن موقع المعهد السالف الذكر. وفي احدى الليالي استيقظنا فجأة على صوت هدير مرعب يصدر من اسفل البناية، وبالتحديد من الاقبية الخاصة بالبلوك، وتبين لنا وللجيران الذين تجمعوا تلقائيا امام المدخل، ان الصوت انما يصدر من اسفل البناية مترافقا مع تيار هوائي شديد جدا. وخشي السكان ان يكون السبب انفجار قسطل المياه الساخنة في اسفل البناية، مما يهددها بالسقوط، فاستدعيت هيئات الدفاع المدني والاطفائية والاسعاف، لاتخاذ التدابير اللازمة. وحينما وصل المعنيون قاموا على الفور بفصل التيار الكهربائي عن البناية تحسبا للطوارئ. وللحال توقف الهدير المرعب والتيار الهوائي الشديد. وطمأنوا الجميع وطلبوا منهم العودة الى منازلهم. وحسبما اوضح لي بعض الجيران لاحقا، ان السبب هو ان احدهم كان في الاقبية وضغط عن طريق الخطأ على احد الازرار، الذي يشغل جهازا معينا لتكييف الهواء، خاص بالدفاع المدني. وأن هذا الجهاز موجود في ملجأ تحت البناية، وهو خاص بتنقية الهواء من الاشعاعات الذرية. وهو ما لم يكن يعرفه اغلبية السكان، الذين فوجئوا بما حدث.
15 ـ بعد تغيير النظام في بلغاريا، بدأ الحكام الجدد، "الدمقراطيون" الموالون لاميركا والغرب واسرائيل، بازالة التماثيل والنصب "الشيوعية" الموروثة من العهد السابق. والعالم اجمع يعلم انه في الساحة المركزية في العاصمة صوفيا كان يوجد اهم تلك النصب، وهو ضريح غيورغي ديميتروف، ابرز شخصية في التاريخ البلغاري المعاصر، بطل محاكمة ليبزيغ ومؤسس النظام الشيوعي في بلغاريا. وعلى غرار ضريح لينين في الساحة الحمراء بموسكو، كان هذا الضريح يضم مومياء ديميتروف، التي كان الناس يقومون بزيارتها والقاء النظرة عليها، كما كان الضيوف الاجانب يضعون اكاليل الزهور على حائط الضريح. وفي المناسبات والاعياد الوطنية المعتمدة كان قادة الدولة والحزب الشيوعي الحاكم يقفون على منصة الضريح لتحية الجماهير، ولاستعراض القوات المسلحة. وبعد تغيير النظام، أخلي الضريح من جثمان ديميتروف، واقيمت له جنازة عادية وتم دفنه. وبقي الضريح لسنوات قائما، كهيكل فارغ يذكر بالماضي. ورفض "الدمقراطيون" استعمال البناء لأي هدف آخر. وقبل اكثر من خمس سنوات قررت الحكومة والمجلس البلدي "الدمقراطيان" نسف الضريح، وتوسيع الحديقة العامة القائمة وراءه. وهكذا تم تزنير الضريح وتفجيره من قبل الخبراء. وحدثت حينذاك مفاجأة، وهي ان الضريح لم ينهر بفعل الانفجار كما كان محسوبا بدقة، بل مال قليلا الى جانب، ولكن هيكله الرئيسي بقي قائما كما هو. وبدأت حينذاك عملية نسف قضمية متتالية، لاكثر من اسبوعين. وحدث ذهول عام للمتانة الاستثنائية لهذا البناء. وحسبما نشر في وسائل الاعلام، فقد تبين للخبراء وللرأي العام ان الجسم الخارجي للضريح لم يكن سوى "ديكور خارجي" لمتراس حقيقي، معمول كي يصمد حتى لصدمة قنبلة ذرية او زلزال عالي الدرجة، وأنه ليس سوى منفذ وقبعة او غطاء لملجأ ولشبكة دهاليز عسكرية تحت الارض، هي بمثابة مداخل ـ مخارج سرية تقود الى مقرات رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء ووزارة الدفاع، والبنك المركزي، التي تحيط بالساحة المركزية. وطبعا ان هذه المنشأة العسكرية الحقيقية لم تكن يتيمة، بل هي من ضمن خطط الدفاع السوفياتية. وهذا يلقي بعض الضوء على سبب عجز الاميركيين، بقنابلهم الذكية والضخمة، والرصد الجوي والالكتروني الخ، عن اصطياد صدام حسين وابنائه طوال فترة هجومهم الجوي الماحق على بغداد، بالرغم من انهم اكتشفوا اماكن تواجدهم اكثر من مرة، واصابوها بدقة. كما يلقي الضوء بشكل عام على طبيعة الاستعدادات العسكرية في روسيا خاصة، وضمن المنظومة السوفياتية السابقة عامة.
16 ـ قبل حوالى مائة سنة، طرح المفكر اللبناني العربي امين الريحاني فكرة "البعث العربي"، و"رسالة الامة العربية". وقد اخذ حزب البعث العربي الاشتراكي عنوان هذه الفكرة، وطرح شعار "امة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة". ومع ذلك فإن الانظمة والقيادات العربية، حتى اكثرها "ثورية" و"عروبة"، كانت تهزم في ست ساعات، او ستة ايام، حتى في قلاع او موانع عسكرية وطبيعية صعبة، مثل الجولان، وصحراء سيناء وقناة السويس، وفي غابات بشرية حقيقية مثل مدن السويس والعواصم العربية وآخرها بغداد، وكانوا يبررون القبول بوقف اطلاق النار والاستسلام لواقع الهزيمة، بحجة التفوق التسلحي للعدو والخوف من سقوط العواصم والمدن والمزيد من الاراضي، ولسان حالهم ما قاله مسؤول مصري كبير، عشية 5 حزيران 1967، لقائد عسكري ابدى ملاحظة حول خطأ او خطر مرور القوات المصرية، الذاهبة للتحشد في سيناء، من امام مقر القنصلية الاميركية في الاسكندرية، مما يجعلها عدة وعديدا "مكشوفة" للعدو، حيث اجابه "دنت فاكر حنحارب، دي كلها مظاهرة سياسية". أي ان القيادات العروبية والثورية العربية ذاتها طبقت مفهوم "رسالية الامة العربية" بشكل معكوس، وجلبوا العار والاحتلال والاذلال لهذه الامة في هزائم لا تنتهي. وفي مقابل مضاد تماما لهذا التطبيق المعكوس لـ"رسالية الامة العربية"، لا بد ان نذكر هنا ان تسمية "روسيا" او "روسي" و"روس"، باللغة العربية او أي لغة اجنبية اخرى، هي تسمية "ناقصة". ذلك ان الروس انفسهم يطلقون على بلدهم وعلى انفسهم تسمية "فيليكوروسيا"، "فيليكوروس"، أي "روسيا العظمى"، "الروس العظام" الخ. ويرى البعض ان في هذه التسمية شيئا من الشوفينية القومية. الا ان الواقع ان الروس، وليس هذه الشخصية او تلك، هذا الحزب او ذاك، بل الشعب الروسي كشعب، ينظر الى نفسه كأمة عظيمة ذات رسالة. وكل من يخالط عن قرب حتى ابسط وافقر وأتعس المواطنين الروس العاديين يلمس انهم "يعيشون" هذه الحالة من الشعور بالعظمة لانتمائهم الروسي. وهذه التسمية لم تأت من فراغ، بل هي قد وجدت "تبريرها" التاريخي، بالرغم من كل مآسي الانظمة الاستبدادية القيصرية والدكتاتورية التي مرت على روسيا. فروسيا هي التي أوقفت خانات التتار والمغول عند حدهم، وارجعتهم الى حجمهم، ومنعت استمرار غزواتهم وفتوحاتهم في اوروبا واسيا. وروسيا لم تسلم (كما سلمت القنيطرة مثلا بدون قتال) موسكو لنابوليون الا بعد ان اشعلت فيها النار و"سلمتها" قاعا صفصفا وكومة من الرماد، وهي بالتالي التي قصمت ظهر جيش نابوليون العظيم في 1812، قبل هزيمته النهائية في معركة واترلو في 1814. وهي التي خاضت الحروب القاسية مع الامبراطورية العثمانية، مما جعلها تنزف طوال فترة وجودها ، وتضعف الى حد تسميتها "رجل اوروبا المريض" من قبل الساسة الغربيين. ولولا الدم الروسي لكانت الامبراطورية العثمانية ابتلعت وهضمت بسهولة اوروبا الوسطى والجنوبية وما وراء القوقاز وآسيا الوسطى ووادي النيل والمشرق العربي. وفي هذه الحالة فإن نتائج الحرب العالمية الاولى، ومن ثم التاريخ العالمي كله، كانا سيكونان غير ما كانا عليه. وروسيا، اخيرا لا آخرا، هي التي هزمت النازية وحطمت جيش هتلر وجيش هيروهيتو معا، تاركة للحلفاء الغربيين التعامل مع فلول هذين الجيشين الجبارين. وهذه الروسيا العظمى، وايا كانت السلطة فيها، ومهما كان من معاناتها، لا يمكن بأية حال ان تهادن، فكيف بأن تستسلم امام الاتحاد الجهنمي الراهن بين العنجهية الاميركية والنذالة الصهيونية، هذ الاتحاد الطامح الى السيطرة على العالم، والذي يدرك انه لن يستطيع ذلك بوجود روسيا حرة ومستقلة.
17 ـ والقيادة الروسية، بصرف النظر عن صفتها الحزبية او السياسية، حينما كان يجري الحديث عن خطر الحرب الذرية الشاملة، كانت تعمل وتستعد على خطين:
ـ الخط الهجومي، بالتحضير لاكتساح العدو في حرب ذرية شاملة.
ـ والخط الدفاعي، بالاستعداد لتلقي الضربة الذرية، ولرد خطر اجتياح روسيا في هجوم ذري شامل.
وقد تم تحضير روسيا المعاصرة كي تكون قلعة حربية حقيقية. وكل مدينة فيها يوجد تحتها مدينة اخرى، مضادة للقنابل الذرية، وأنفاق تؤدي الى خارج المدينة، بعيدا عن منطقة الاشعاع الذري. والقوات المسلحة الروسية بأسرها، عدة وعديدا، مهيأة ايضا على هذا الاساس. أي ان لها قواعدها التحتأرضية، لمتابعة القتال في ظروف اجتياح معاد بعد هجوم ذري كاسح.
18 ـ والستراتيجية الروسية هي مستعدة لرد أي ضربة صاروخية وذرية، بمثلها او اكثر، في أي منطقة في العالم. ومع كل خشيتها من الضربة الذرية الاولى، ولكن اخشى ما تخشاه روسيا، وتعد العدة له، هو خطر احتلال اراضيها والتنكيل بشعبها، من قبل القوات المعادية، كما فعلت في السابق القوات الهتلرية، حيث سقط حوالى 30 مليون روسي في المواجهة مع النازية، أي ما يوازي 50 بالمائة من "فاتورة" ضحايا الحرب العالمية الثانية. ومن هذه الزاوية تبرز ملاحظتان هما:
أ ـ ان روسيا تخشى تماما اميركا بذاتها، والضربة الصاروخية الذرية التي هي قادرة على توجيهها اليها. وهي تستعد للرد على الضربة الصاع صاعين. حيث ان روسيا هي اكثر استعدادا لتحمل واستيعاب الضربة الاولى، لما تملكه من مساحة شاسعة وندرة كثافة سكانية، ومن استعدادات ارضية وتحتأرضية. اما اميركا فهي اقل قدرة على احتمال رمي بعض مدنها المكتظة بضربة صاروخية ـ ذرية. كما ان المدن الشاطئية الاميركية تواجه خطرا مميتا ومرعبا، المتمثل في احتمال رمي "حمولة" بعض الصواريخ الروسية في المحيط، على بعد عشرات وحتى مئات الكيلومترات من الشاطئ الاميركي، مما يتسبب في اثارة هزة ارضية مصطنعة وموجة طوفانية طاغية (تسمى الان تسونامي)، تهددان المدن الساحلية الاميركية وتصيبان المجتمع والقيادة الاميركية بالشلل.
وبالاضافة الى ذلك، وانطلاقا من العقيدة الدفاعية للستراتيجية الروسية، فهناك ميزة ستراتيجية كبرى لروسيا، تساعدها على تجاوز عقدة تخلفها الاقتصادي عن اميركا، في مفاعيله العسكرية، وهي ان القيادة الروسية لم تكن يوما وليست اليوم تفكر وتخطط لاحتلال اميركا، بما يقتضي ذلك من نفقات خرافية، تفوق بأضعاف مضاعفة نفقات أي ضربة صاروخية ـ ذرية توجه لاميركا. في حين ان الهدف الستراتيجي للغرب، منذ ما قبل ايام نابوليون ولما بعد ايام هتلر، وصولا الى القيادة الاميركية وقيادة الناتو الحالية، كان على الدوام: احتلال روسيا، واستعباد واذلال شعبها العظيم، ونهب خيراتها الاسطورية.
ب ـ وهذا هو بالضبط ما تحسب له روسيا ألف حساب. وهذا يعني استراتيجيا ان اساس الخطة العسكرية الروسية هو التحضير والاستعداد لما بعد الضربة الاولى، التي يمكن توجيهها من اميركا او من أي نقطة اخرى في العالم، بما في ذلك الفضاء، أي ـ بعد احتواء الضربة الاولى ـ الاستعداد لمواجهة خطر اجتياج الجيوش المعادية للاراضي الروسية لاحتلالها. ومن هنا ان روسيا، بالمعنى العسكري الصرف، تخشى اوروبا الغربية، والحشد الاميركي في اوروبا، اكثر بكثير مما تخشى اميركا بذاتها مع كل تفوقها، واكثر مما تخشى الجيوش الاميركية المكدسة في البحار المكشوفة، التي يمكنها التخلص منها بضربات صاروخية، كلعب كرتون. ومن هنا الحساسية المفرطة للقيادة الروسية حيال اقتراب حلف الناتو من الحدود الروسية.
19 ـ اكتشفت الاجهزة الروسية المختصة مؤخرا، بالصدفة (!)، مستودعات كبيرة "منسية" من ايام بريجنيف، تضم مئات وربما الوف من الصواريخ البالاستيكية عابرة القارات من طراز "ستيليت" ("تابع"، بالتسمية الغربية SS – 19)، ومثلها من صواريخ "ساتانا" (الشيطان)، وهذه وتلك قادرة على تدمير اميركا مئات المرات "فقط!"، ومن الصعب خاصة مواجهة صواريخ "ستيليت" بنظام الصواريخ المضادة للصواريخ، لانها ـ كما يدل عليها اسمها ـ قادرة على التحول الى قمر اصطناعي تحت التحكم، وعلى حمل عدة رؤوس نووية في وقت واحد. ومتى ما زودت هذه الصواريخ الجديدة "المنسية" بالوقود ووضعت في الخدمة، تكون في جهوزية قتالية لمدة 20 ـ 30 سنة لاحقة، علما ان الصواريخ الروسية التي هي في مناوبة الخدمة الان لم يبق لها سوى 5 ـ 7 سنوات من الصلاحية. وقد علق سرغيي ايفانوف، وزير الدفاع الروسي، على هذا "الاكتشاف" بأنه "ليس من مصلحة احد وضع هذه الصواريخ في مناوبة الخدمة".
20 ـ ان البرنامج النووي الكوري الشمالي، والبرنامج الفضائي الصيني، انما يتحققان، بمساعدة التكنولوجيا الروسية، وغير بعيد عن الدعم السياسي الروسي، الذي يمكن ان يتحول، في طرفة عين، الى دعم عسكري. وكلام مشابه يمكن ان يقال عن البرنامج النووي الايراني. ولولا تعقيدات التدخل السوفياتي السابق في افغانستان والتقاء ايران "الثورة الاسلامية" مع المخابرات المركزية الاميركية والاوساط الرجعية العربية العفنة، في مواجهة مشتركة مع السوفيات، لكان البرنامج النووي الايراني قطع اشواطا "مخيفة" بالنسبة للاميركيين واسرائيل. ومع ذلك فإن سيناريو البرنامج النووي الايراني، بالتعاون مع الروس، يسير في اتجاهات لا تطمئن ابدا جهابذة الستراتيجية الاميركية ـ الاسرائيلية. والهدف العسكري القريب لتلك البرامج، هو اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان واسرائيل، والجيوش والاساطيل الاميركية فيها وحولها. والهدف البعيد هو اميركا ذاتها. وهذا ما يصيب اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان واسرائيل، ومن ورائها اميركا، برعب حقيقي.
مـا وراء الأكمة!
ماذا يمكن ان نستنتج من الانطباعات والمعلومات والمقابلات والمعايشات والتحليلات التي سبق وعرضنا لها آنفا، فيما يتعلق بالمسار اللاحق لانضمام بلدان اوروبا الشرقية الى حلف الناتو، والموقف الروسي الحقيقي المحتمل من هذا الانضمام؟
1 ـ اولا ينبغي عدم الانخداع بأي من المظاهر و"سطوح" الاحداث الجارية، والبحث بعمق عما يمكن ان يكون عليه جواب القيادة الروسية، بمعطياتها القومية، على هذا الاقتراب الخطر لحلف الناتو من حدود روسيا، وهو ما يشكل تهديدا فعليا خطيرا لامنها القومي، ويمثل عامل ضغط نفسي وسياسي هائل على الشعب الروسي، الى درجة الاستفزاز التام، الذي لا يمكن لأي سلطة روسية ان تتجاوزه وأن لا تأخذه بالاعتبار.
2 ـ برأينا أنه، وخلافا للظاهر، ولما يعتقده الكثيرون من المحللين السطحيين، فإن روسيا، وبالاخص في عهد الكا جي بي الذي يمثله حاليا "الامبراطور" بوتين، هي مستاءة جدا، وتزداد استياء يوما عن يوم، من مجرد استمرار حلف الاطلسي (الناتو) بالوجود، فكيف بطرح موضوع توسيعه في منطقة "مداها الحيوي"، وعلى حدودها بالذات، كما هو الامر بالنسبة لجمهوريات البلطيق. و"السكوت" الروسي حيال هذا الموضوع هو اخطر من "الكلام". وروسيا تستعد، على طريقتها القومية التقليدية، للدفاع عن اراضيها بيتا بيتا وشبرا شبرا، وللرد على هذا التوسع بالاظافر والانياب، كما بالمناورات السياسية والعسكرية والاغراءات الاقتصادية، والاستخدام متعدد الاهداف للقدرات العلمية، مباشرة، او "بالتعاون" مع الحلفاء القدماء والجدد.
3 ـ ان عملية ضبط النفس التي تظهرها روسيا حيال توسيع حلف الناتو وانضمام دول جديدة اليه، وتشجيعها الفعلي لانصارها بالذات، ولا سيما الاحزاب الشيوعية السابقة، للانضمام الى الحلف وحتى للتظاهر بالانبطاح امام اميركا تحديدا، يعني ان هناك "وراء الأكمة ما وراءها". فهذه المسايرة من روسيا وحلفائها للناتو ولأميركا تدل على وجود امور مبيتة، ستكشف عنها الايام.
4 ـ يأتي في رأس اولويات السياسة الروسية المعاصرة العمل على شق صفوف حلف الناتو، ولا سيما زرع الشقاق بين اميركا ودول اوروبا الغربية، للحؤول دون تكديس وحشد الاسلحة والجيوش الاميركية في الاراضي الاوروبية الغربية، وتوحيدها مع الجيوش الاوروبية الغربية في مواجهة روسيا.
5 ـ ان عدم معارضة، بل وتشجيع روسيا لدول اوروبا الشرقية، حليفتها السابقة، للانضمام الى حلف الناتو، ومغازلة اميركا والتقرب منها على حساب علاقة تلك الدول مع اوروبا الغربية، وعلى العكس من ذلك قيام روسيا بالتقرب الاستثنائي من دول اوروبا الغربية، على حساب العلاقة مع اميركا، ـ ان هذا التكتيك السياسي المزدوج، المتناقض ظاهريا، انما يستشف منه نوع من توزيع الادوار موضوعيا، بين روسيا ودول اوروبا الشرقية، بهدف شق صفوف حلف الناتو، وتشجيع اميركا على سحب جيوشها من دول اوروبا الغربية واعادة موضعتها في اوروبا الشرقية. ولا بد من الملاحظة هنا ان روسيا، في تقربها من دول اوروبا الغربية لم تقم في الوقت ذاته بأي رد فعل سلبي في علاقاتها مع دول اوروبا الشرقية الذاهبة الى الناتو والمنبطحة امام اميركا، بل على العكس، فهي تعمل في الوقت ذاته على تحسين علاقاتها مع دول اوروبا الشرقية وتعبر عن "تفهم" انضمامها للناتو وانبطاحها امام اميركا الى درجة بدء اقامة القواعد العسكرية الاميركية فيها.
6 ـ ان سحب الجيوش الاميركية من دول اوروبا الغربية هو من اكبر اهداف الستراتيجية العليا الروسية، ونصر كبير لها في حال تحققه، ايا كانت الطريقة.
7 ـ ان نشر القواعد العسكرية الاميركية في دول اوروبا الشرقية، بدلا من اوروبا الغربية، يجعل هذه القواعد اقل فاعلية، بل "ساقطة" عسكريا، في أي مواجهة حقيقية روسية ـ ناتوية واميركية، وذلك بفعل عدة اسباب وعوامل اهمها:
أ ـ العامل التجسسي، حيث ان الاجهزة الخاصة الروسية، ولاسباب "تاريخية" معروفة، هي اقدر على الحركة على هذا الصعيد، في دول اوروبا الشرقية، منها في دول اوروبا الغربية.
ب ـ العامل العسكري، حيث ان العسكريين الروس المعنيين يحفظون عن ظهر قلب كل سنتيمتر مربع في جميع اراضي اوروبا الشرقية.
ج ـ العامل السياسي، حيث ان روسيا تستطيع في أي وقت تحريك حلفائها في دول اوروبا الشرقية، لمعارضة وجود وعرقلة عمل القواعد العسكرية الاميركية، خصوصا حينما تصل الامور لمستوى المواجهة الحقيقية الروسية ـ الاميركية. والملاحظ على هذا الصعيد، قياسا على بلغاريا، ان الرأي العام المعارض بشدة لوجود هذه القواعد، هو واسع جدا، بالرغم من المواقف الرسمية المعلنة للحكومة ولقيادات الاحزاب "الرسمية" الموالية والمعارضة. وفي هذا الاتجاه ذاته، من الملاحظ بشكل خاص ان روسيا تعمد الى تقوية وتوسيع علاقاتها مع الاحزاب والتيارات "القومية" الجديدة، التي تزداد انتشارا، والتي هي بصورة عامة معادية بشدة لاميركا واسرائيل والصهاينة بشكل خاص.
8 ـ ان التقارب الاوروبي الشرقي ـ الاميركي يلعب دورا ضاغطا على دول اوروبا الغربية، لدفعها اكثر فأكثر نحو التقارب والارتباط بروسيا، ولا سيما بوجود اغراءات السوق الروسية الواسعة لتوظيف الرساميل وتسويق البضائع، وللحصول على الخامات وخاصة النفط والغاز الطبيعي، في وقت تشدد فيه اميركا الخناق عل "حلفائها" التقليديين بوضعها اليد اكثر فأكثر على مصادر الطاقة في البلدان العربية والشرقية الاخرى.
9 ـ حينما يزداد الشرخ بين دول اوروبا الغربية واميركا، داخل حلف الناتو، فإن "صوت" دول اوروبا الشرقية، داخل الحلف، سيصبح اكثر اهمية، وبالتالي فإن روسيا ستستطيع ممارسة التأثير بشكل غير مباشر على القرار الاميركي ذاته، من موقع "الحليف"، داخل صفوف الحلف، وذلك عبر صوت دول اوروبا الشرقية.
10 ـ عندما تصبح روسيا اكثر وثوقا بـ"صداقة" دول اوروبا الغربية، وابتعادها الكافي عن النفوذ الاميركي، فهي ـ أي روسيا ـ لن تتوانى عن تحريض ودفع دول اوروبا الشرقية، الاعضاء في حلف الناتو، لـ"قلب اللعبة"، والشروع في ضم صوتها الى جانب دول اوروبا الغربية الصديقة لروسيا، ومن ثم عزل اميركا والتيار الاميركي داخل حلف الناتو بالذات. ومتى توصلت اميركا الى الاستنتاج بعدم جدوى حلف الناتو بالنسبة لها، فهو لن يبقى ساعة واحدة، وسيحل محله حينذاكNATO – Biss الاوروبي، وهو ما لا تخشاه روسيا لا عسكريا، ولا سياسيا. لأن دول اوروبا الغربية كلها تدرك تماما انها، من دون اميركا، لا تستطيع، عسكريا، ان تهز اصبعا في وجه روسيا. كما انها ـ اي دول اوروبا الغربية ـ تدرك انه، سياسيا واقتصاديا وحضاريا، فإن اوروبا من دون روسيا هي شيء، اما اوروبا الموحدة مع روسيا فهي شيء آخر تماما، بالنسبة لها ذاتها وبالنسبة للعالم اجمع.
الرقصة الشيطانية
يقال إن الشيطان، في سعيه لإغواء الخطاة، ولا سيما الطغاة، يستطيع ان يتكيف ويتخذ ألف شكل وشكل. ولا شك ان الاجهزة السرية لجميع الدول، ولا سيما الدول الامبراطورية الكبرى، ذات الامكانيات غير المحدودة، تعرف تماما وتمارس باستمرار هذه الرقصة الشيطانية. والكا جي بي، بعد ان اصبحت مقدرات امبراطورية روسيا العظمى في قبضتها، واصبح "رجلها" يقف على رأس هذه "الامبراطورية"، تلعب الان لعبتها الخاصة، على المسرح الدولي. وهي تستغل بدهاء نشوة سكرة الانتصار الاميركي ـ الغربي في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي والمنظومة السوفياتية السابقين. والعم ساموكوهين، الذي هو الان في اوج سكرته وعربدته، لا يرى في اوروبا الشرقية سوى فتاة فقيرة، مراهقة وساذجة، مبهورة بعظمته وغناه وجبروته، ولا تملك من امرها سوى ان تقدم له رقصة عرض مفاتن، قبل الاستسلام التام، والاستلقاء في فراشه. ولكن عند صياح الديك، ربما يكتشف العم ساموكوهين، ولكن بعد فوات الاوان، انه انما كان يضاجع اخطبوطا يشل حركته ويخنق انفاسه، او افعى ناعمة الملمس تلتف على عنقه، وتعض بأنيابها على لسانه، وتنفث سمها الزعاف في فيه الكريه.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
* كاتب لبناني مستقل مقيم في بلغاريا



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حرب الافيون العالمية الاولى في القرن 21: محاولة السيطرة على ...
- هل يجري تحضير لبنان لحكم دكتاتوري -منقذ!-؟
- أسئلة عبثية في مسرح اللامعقول
- الجنبلاطية والحزب التقدمي الاشتراكي
- وليد جنبلاط: الرقم الاصعب في المعادلة اللبنانية الصعبة
- القيادة الوطنية الجنبلاطية والنظام الدكتاتوري السوري
- القضية الارمنية
- سوريا الى أين؟
- سنتان على الحرب الاميركية ضد العراق2
- سنتان على الحرب الاميركية ضد العراق
- وماذا بعد الانسحاب السوري من لبنان؟
- جنبلاط، القضية الوطنية والمسيحيون الدجالون
- المفارقات التاريخية الكبرى في الازمنة الحديثة وتحولات المشهد ...
- المسيحية العربية والاسلام في المشهد الكوني
- من هم مفجرو الكنائس المسيحية في العراق؟! وماذا هم يريدون!؟
- الامبريالية الاميركانو ـ صهيونية و-شبح الارهاب-: من سوف يدفن ...
- العراق على طريق -اللبننة- الاميركية!
- أضواء على انشقاقات الستينات في الحزب الشيوعي اللبناني: الاضا ...
- مؤامرة اغتيال فرج الله الحلو


المزيد.....




- السعودية.. ظهور معتمر -عملاق- في الحرم المكي يشعل تفاعلا
- على الخريطة.. دول ستصوم 30 يوما في رمضان وأخرى 29 قبل عيد ال ...
- -آخر نكتة-.. علاء مبارك يعلق على تبني وقف إطلاق النار بغزة ف ...
- مقتل وإصابة مدنيين وعسكريين بقصف إسرائيلي على ريف حلب شمال غ ...
- ما هي الآثار الجانبية للموز؟
- عارض مفاجئ قد يكون علامة مبكرة على الإصابة بالخرف
- ما الذي يمكن أن تفعله درجة واحدة من الاحترار؟
- باحث سياسي يوضح موقف موسكو من الحوار مع الولايات المتحدة بشأ ...
- محتجون يقاطعون بايدن: -يداك ملطختان بالدماء- (فيديو)
- الجيش البريطاني يطلق لحى عسكرييه بعد قرن من حظرها


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج حداد - الحرب الباردة مستمرة بأشكال جديدة بين -الامبراطورية- الروسية والغرب الاميركي