أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج حداد - العراق على طريق -اللبننة- الاميركية!















المزيد.....


العراق على طريق -اللبننة- الاميركية!


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 958 - 2004 / 9 / 16 - 09:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


العراق على طريق
"اللبننة" الاميركية!
جورج حداد*
دخلت ادارة بوش في المغامرة العراقية، دون ان تكون لديها خطة "واقعية" كاملة لما يسمى "السلام الاميركي"، وبكلمات اخرى لنظام حكم للعراق المحتل "ما بعد صدام".
وقد ووجه الاحتلال الاميركي بمقاومة لم يكن يتوقعها. وحتى الان، تجلت الخسائر الاميركية في ثلاثة مظاهر رئيسية:
1 ـ الخسائر في الارواح، حيث ان تعداد الجنود الاميركيين وحلفائهم، الذين سقطوا في العراق "بعد الحرب!"ـ اي بعد الاحتلال ـ فاق عددهم خلال الحرب على نظام صدام. وقد بدأ تململ المجتمع الاميركي حيال هذه الخسائر. الا ان الخسائر لا تزال ضمن نطاق "المحمول"، مع انها اخذت تؤثر بشكل واضح على المستقبل السياسي لادارة بوش والجمهوريين.
2 ـ هبوط قيمة الدولار الاميركي، بشكل ملحوظ، حيال اليورو والعملات الدولية الاخرى. واذا كان هذا الانخفاض يؤثر ايجابا على الصادرات الاميركية، الا انه يؤثر بشكل سلبي جدا على ميزان المدفوعات الاميركي، وبشكل خاص على التوظيفات والودائع الاجنبية والحسابات الخارجية بالدولار، وبالتالي يوجه ضربة جدية لهيبة الدولار. علما ان الكتلة المالية الاميركية تطمح، لاجل فرض هيمنها الدولية، لتحويل نيويورك الى "بنك وبورصة العالم"، والدولار الى "العملة الدولية" المركزية الاولى، التي تتحول معها جميع "العملات الدولية" الاخرى، بما فيها او على رأسها اليورو، الى عملات ثانوية، محلية واقليمية.
3 ـ الارتفاع الدراماتيكي في اسعار النفط، وعجز منظمة الاوبك ذاتها، بالرغم من كل ما تبديه من مرونة و"تعاون"، من لجم الاسعار. وهذا ما يضع الاقتصاد الرأسمالي العالمي كله على شفير الهاوية، ويهدد في الصميم الميزانية العائلية للمواطن الغربي العادي، خصوصا على ابواب الشتاء. وقد انعكس هذا الارتفاع في الهبوط المريع للهيبة الدولية لـ"القطب الاميركي الاوحد". وقد حاولت الادارة الاميركية التعويض عن هذا "الفشل الكلوي" في العراق، باجراء عملية اقتلاع لنظام هوغو شافيز في فنزويلا، بالتعاون مع المعارضة العميلة، من اجل السيطرة المباشرة على النفط الفنزويلي، وخصخصته، وتعويض ما يمكن تعويضه. ولكنها فشلت هنا ايضا فشلا ذريعا، لان "هيبة" الادارة الاميركية اصبحت في وضع حرج، ولانها لم تكن قادرة على الذهاب في تحدي نظام شافيز الى النهاية، اي الى درجة فتح جبهة جديدة والدخول في مصادمة عسكرية، مباشرة او غير مباشرة، في فنزويلا.
وقد ادركت الادارة الاميركية تماما، وبعد اسابيع قليلة من نجاحها في احتلال العراق بأكمله، ـ ادركت عجزها عن القضاء على المقاومة، واخذت تتعامل مع الامر الواقع القائم على اساس ادراك هذا العجز.
ولكن بالرغم من جميع المخاطر التي حملتها، ولا تزال، "المغامرة العراقية" للعالم عامة، ولاميركا خاصة، فإن الادارة الاميركية كانت قد فقدت حرية المبادرة، الضرورية لكل حرب. ولكنها لم تكن قادرة على عدم قبول التحدي، والسير في هذه "المغامرة" حتى النهاية، ايا كانت النتائج، عملا بالقاعدة النابوليونية: "ندخل المعركة، ونرى...!".
وأحد اهم اسباب عجز الادارة الاميركية عن تسوية الاوضاع في العراق، بما يتلاءم مع مصالحها الجوهرية، ويبرر ادنى تبرير ادعاءاتها السابقة، هو عدم وجود "حلفاء" عراقيين جديرين، يمكن لاميركا ان تعتمد عليهم. ومثال احمد الجلبي هو برهان على مأزق "التحالفات" الاميركية ـ العراقية. فحتى هذا البزنسمان السياسوي (البوليتيكاني)، الفاسد والمافيوتي والعميل المكشوف لاميركا، لم يكن قادرا لا على ان يكون مفيدا للاحتلال، حسب الشروط والمتطلبات الاميركية، ولا حتى على الاستمرار كسياسي "عراقي"، الا بوضع مسافة ولو صورية بينه وبين الاحتلال، حتى عن طريق محاولة "اللعب" مع النظام الايراني ذاته. اما فيما يتعلق ببعض القوى السياسية العراقية الجدية (التي "اجتهدت" في تبرير التعاون مع الاحتلال بحجة التخلص من نظام صدام، ومن ثم التخلص من الاحتلال ذاته، وذلك عن طريق مطالبته بتنفيذ وعوده الكاذبة على طريقة "إلحق العيـّار لباب الدار")، كـ"المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق" و"حزب الدعوة" وغيرهما من القوى الاسلامية، والحزب الشيوعي العراقي الخ، فإن هذه القوى قد خسرت الكثير من مصداقيتها وشعبيتها، ولم تعد قادرة على "فرض" اي "تفاهم" او "حل مؤقت"، تتفق عليه مع الاميركيين. وبصورة من الصور، اصبحت هذه القوى، او بعضها على الاقل، تلعب لعبة الاستفادة المباشرة وغير المباشرة من جميع اشكال المقاومة للاحتلال، ولا سيما المقاومة المسلحة، التي لا تشارك هي فيها، من اجل الابتزاز السياسي للاميركيين على قاعدة "اما نحن، واما المقاومة!" (وهي "اللعبة" التي يلعبها عرفات مع الاسرائيليين). والادارة الاميركية لم تعد غافلة عن هذه اللعبة، وهذا ما يضعف ثقتها اكثر فأكثر بجميع "حلفائها" العراقيين، مما يجعل اي صيغة حل قائمة او مقترحة، في وضع مهزوز تماما.
ولكن بالرغم من كل ذلك، فمن السذاجة الاعتقاد ان الادارة الاميركية تقف عاجزة امام معضلة احتلال العراق. وهنا لا بد من الاخذ بالاعتبار الملاحظات التالية، التي تطفو بشكل واضح على سطح الاحداث:
اولا ـ "الهدوء" الذي تواجه به الادارة الاميركية حتى الان ازمتها في العراق، بما في ذلك العمليات اليومية المؤلمة للمقاومة المسلحة، والانتفاضات الشعبية الواسعة على غرار الانتفاضة السنية في الفالوجه، ثم الانتفاضة الشيعية لتيار السيد مقتدى الصدر.
ثانيا ـ ان الادارة الاميركية قد اكتسبت وراكمت في العقود الاخيرة تجربة واسعة في ادارة الازمات العربية (فلسطين، لبنان، السودان، المغرب، الخ، ناهيك عن العراق). وهي تستفيد ايما استفادة من تهافت الاوضاع العربية، ولا سيما تهافت الحركات والاحزاب الوطنية والتقدمية والقومية التي افسدتها وهمشتها الممارسات السلطوية، والذيلية التاريخية للسوفيات (فيما يتعلق بالشيوعيين)، وتدني مستوى التضامن العربي، وضعف المعارضة العربية الرسمية لسياسة الهيمنة الاميركية.
ثالثا ـ بالرغم من التشدد العسكري الذي ابدته، ولا تزال تبديه، الادارة الاميركية، وحليفتها الستراتيجية اسرائيل، في الحرب على العراق، وفي احتلال الاراضي العراقية والفلسطينية، الا انها لا تمتلك "الوكيل" العراقي "الموثوق" و"القادر" على استلام الساحة، فيما لو اخذت على عاتقها القيام بعملية "تطهير" عسكرية، واسعة وشاملة، هي على كل حال غير مضمونة النجاح. ولهذا، فهي تجد نفسها مضطرة لأن تنتهج، في الوقت نفسه، سياسة "الاحتواء" المرن للواقع الاتني والطائفي والسياسي للعراق. وهذا ما يدفعها، بالرغم من تشددها العسكري، لأن "تتوقف" دون حد الحسم العسكري النهائي، وأن تحاول التوصل الى اقصى ما يمكن من التسويات الامنية والسياسية، مع جميع الاطراف الفاعلة الموجودة على الساحة، ايا كان موقفها المسبق من الاميركيين.
لقد فشلت حتى الان كل المحاولات التي جرت، لجر العراق الى فتنة طائفية واتنية على طريقة الحرب الاهلية اللبنانية. ولكن هذا الفشل لم يمنع الادارة الاميركية من العمل الحثيث والخبيث لـ"تطييف" و"كنتنة" العراق، تحت الشعارات الكاذبة للدمقراطية وحقوق الانسان، وحتى على قاعدة "احتواء" المقاومة ذاتها ضد الاحتلال. ومن ثم فهي تسعى للتعامل مع جميع "قوى الامر الواقع"، بما فيها اشدها عداء للاحتلال، جنبا الى جنب التعامل مع "السلطات المركزية الدميوية"، والقوى السياسية المتفاهمة والمتعاونة مع الاحتلال.
وقد لوحظ بالعين المجردة انه، تحت الغطاء الكثيف للمعارك الدامية ووقوع مئات والوف القتلى والجرحى ولا سيما من المدنيين الابرياء، بالنيران "التحريرية" لقوات "التحالف"، فإن القوات الاميركية كانت "تفاوض!!" كي تدخل المدن المقاومة ذاتها، كالفلوجة وسامراء والنجف وغيرها، باتفاقات لوقف اطلاق النار مع قوات الامر الواقع الموجودة على الارض، والتي هي على علاقة وثيقة مع تنظيمات المقاومة.
وقد برز هذا التاكتيك السياسي ـ العسكري بوضوح في التعامل المتشدد والمرن في آن معا، مع انتفاضة الفالوجة، واخيرا مع انتفاضة النجف الاشرف. وكانت المحصلة السياسية النهائية لهاتين المواجهتين:
أ ـ تكريس وجود قوة طائفية ـ سياسية محلية، سنية، في منطقة الفالوجة وما يسمى "المثلث السني". والتعامل "الندي" مع هذه القوة من قبل المحتلين الاميركيين، على قاعدة "توازن الخوف". واجبار السلطة المركزية الموالية للاميركيين على الاعتراف بتلك القوة والتعامل الفعلي معها، بحجة حفظ الامن وسلامة المواطنين.
ب ـ وعلى المنوال ذاته، تكريس وجود قوة طائفية ـ سياسية، شيعية، في مدينة النجف الاشرف وغيرها من المدن والمناطق الشيعية. واجبار السلطة "العراقية" الموالية للاميركيين على الاعتراف بها والتعامل الفعلي معها ايضا.
وطبعا ان دائرة النفوذ المباشر لكل من هاتين القوتين لا تتعدى حدود "منطقتها" و"منطقها" الطائفيين.
والان، بعد اكثر من سنة على احتلال العراق، والسقوط المخزي للنظام الدكتاتوري لصدام، وحل المؤسسات المركزية السابقة للدولة، وتصفية رؤوس ذلك النظام بالقتل والاعتقال، واعتقال صدام نفسه وتقديمه لـ"المحاكمة!!"، اصبح المشهد السياسي العراقي يتميز بما يلي:
1 ـ وجود "سلطة" مركزية ضعيفة، تشارك فيها وتدعمها قوى متنافرة متجاذبة، لا يربط فيما بينها اي رابط جدي سوى طموح كل منها لتعزيز دورها وحصتها في ما يسمى "العراق الجديد!!"، من ضمن "التعايش السلمي" و"التعامل الايجابي" مع الاحتلال، والوهم بتحويل الادارة والقوات المحتلة الى "قوة صديقة" للشعب العراقي المظلوم. وهي "سلطة وطنية" تستمد شرعيتها وقوتها من وجود الاحتلال، وغير قادرة حتى على حماية نفسها. ورموزها انفسهم يضطرون لاخذ الاذن من البيت الابيض، وطلب حماية الدبابات والهليكوبترات الاميركية حتى عند الذهاب لقضاء حاجاتهم الشخصية.
ولم يغير شيئا، بل على العكس اكد، هامشية هذه "السلطة العراقية"، "نجاحها" في عقد ما سمي "المؤتمر الوطني العراقي" في بغداد، اثناء المعركة مع تيار الصدر في النجف. اذ ان صوت هذه المعركة، مع "محدوديتها" الطائفية، قد طغى تماما على "وطنية" هذا المؤتمر، مع "شمولية" تركيبته "العراقية".
2 ـ وجود منطقة كردية "مستقلة ذاتيا"، لم يعد لها من "عراقيتها" سوى الاسم، وقد تحولت (بفضل قيادتها العشائرية الشوفينية: البارزانو ـ طالبانية) الى مقر وممر للاحتلال، والى قاعدة للتهريب والتجسس وكل اشكال التخريب والاعمال العدائية والهدامة ضد الدولة العراقية والشعب العراقي، بحجة الانتقام من الاضطهاد الصدامي السابق، الذي تلقى مسؤوليته الان على الشعب العراقي والامة العربية عامة.
3 ـ وجود منطقة، او بالاصح: مساحة سياسية ـ طائفية، سنية، مركزها الفالوجة، اكتسبت "شرعيتها" والاعتراف الواقعي بها، من قبل المحتلين بالذات، على قاعدة مقاومة الاحتلال بالذات. وتلتبس "قيادة" هذه "المنطقة" او "المساحة" بين فلول البعث الصدامي والتيار الديني السني.
4 ـ وجود منطقة، او بالاصح مساحة سياسية ـ طائفية، شيعية، على المنوال ذاته، مركزها النجف الاشرف. وتلتبس "قيادة" هذه "المنطقة" او "المساحة" بين المرجعية الدينية الشيعية "المهادنة"، المتمثلة بالسيد علي السيستاني، وبين "مرجعية" السيد مقتدى الصدر "المقاومة".
ونشير هنا الى ان السفر المفاجئ للسيد علي السيستاني للاستشفاء، ابان معركة النجف الاشرف، قد جرى استغلاه، بمعزل عن موافقته المسبقة ام لا، لاعطاء فرصة لقوات الحكومة العراقية، لتصفية الحساب نهائيا مع مقتدى الصدر، بالدعم الاميركي، اما باغتياله واما باعتقاله واما بالتفاهم المباشر معه وخضوعه لسقف تلك الحكومة. ولكن الذي حدث هو العكس تماما، حيث انه، وبالرغم من التصريحات العنترية التي ادلى بها العديد من المسؤولين الحكوميين حول قتل المئات من جيش المهدي واعتقال مئات اخرى، وان مصير الصدر سيتقرر خلال ساعات، بالرغم من ذلك فإن عناصر جيش المهدي سيطرت فعليا على الصحن الحيدري الشريف وعلى مدينة النجف الاشرف، وتبخرت كل عنتريات محافظ النجف الموالي للحكومة، واضطرت القوات الاميركية لان تقف عارية من اي غطاء "عراقي"، وجها لوجه ضد قوات الصدر والجماهير الشعبية الشيعية. وقد دل ذلك على عمق الاتجاه الشعبي الشيعي المعارض للاحتلال، حيث ان قوات الصدر لوحدها لم تكن تغطي كامل المساحة السياسية الشيعية. وحينذاك اضطرت القوات الاميركية لان تفرض الصمت والنفس "التهدوي" على الحكومة والناطقين باسمها، من جهة، وللاستنجاد بوساطة آية الله السيستاني، الذي استقدم على عجل من لندن الى النجف الاشرف، للاضطلاع بدور الوساطة مع الصدر من جديد. وهكذا فإن الادارة الاميركية، وبالرغم من استمرار تشددها العسكري، الا انها ـ سياسيا ـ وضعت نفسها على مسافة واحدة من: 1ـ الحكومة، و2ـ المرجعية الشيعية العليا الممثلة بآية الله السيستاني، و3ـ التيار الشيعي المتشدد بقيادة مقتدى الصدر.
وهكذا نجد ان ادارة الاحتلال لا تعترف فقط بـ"الاستقلال الذاتي"، و"الوضع الخاص"، لـ"حلفائها" الاكراد، بل ايضا ولاعدائها من "السنة" و"الشيعة".
والادارة الاميركية، بامتناعها عن التصفية العسكرية لتيار الصدر، والتصفية الجسدية للصدر نفسه، عبرت ليس فقط عن الخشية من "تجذير" و"تطريف" الموقف الشيعي المعارض للاحتلال، بل ايضا عن الرغبة في ابقاء الخطوط مفتوحة مع هذا التيار، و"المحافظة" على بقائه، ضمن حدود خطة الاحتواء النسبي، ومنع التيار الآخر المعارض للاحتلال، اي التيار السني، ولا سيما "القاعدة" وجماعة ابو مصعب الزرقاوي، ـ منعه من "التفرد" بمقاومة الاحتلال، مما يترتب عليه انعكاسات اقليمية شديدة السلبية على الوجود الاميركي في المنطقة، ولا سيما على الانظمة السنية "التقليدية" و"المعتدلة"، الموالية للاميركيين.
ولم يكن من الصدفة، خلال معركة النجف بالذات، ان يطلع الزرقاوي بتصريح "ستراتيجي" يقول فيه ان هدف جماعته هو اقامة حكومة اسلامية (طبعا سنية) في العراق، والانطلاق منه الى دول الجوار والى فلسطين. ومن هنا فإن من مصلحة الاميركيين عدم اقتصار المقاومة على السنة، ولا سيما على جماعات مثل جماعة "القاعدة" لبن لادن و"التوحيد والجهاد" للزرقاوي.
وبعد انتهاء معركة النجف، عمدت القوات الاميركية مجددا لتسخين جبهة الفلوجة من جديد، لقطع الطريق على استفادة المقاومة السنية من الوضع الناشئ في الجنوب، ولا سيما فشل "الحكومة العراقية" والعجز السياسي لقوات الاحتلال في المواجهة مع تيار الصدر. وكل ذلك يقود الى سياسة "الاحتواء المزدوج والمتعدد" على الطريقة اللبنانية.
5 ـ وجود مناطق، او مساحات سياسية ـ طائفية ـ اتنية، هجينة، كبغداد والموصل والبصرة وكركوك، السيطرة فيها على الارض غير محسومة، و"تتعايش" فيها كل من: الادارة والقوات الاحتلالية، "السلطة" المركزية "العراقية"، ومختلف القوى الطائفية ـ السياسية الفاعلة على الارض.
في هذا المشهد "اللبناني" المركب نجد ما يلي:
ـ ان كل قوة سياسية، طائفية او اتنية، تسيطر على "ارضها" او "ارضيتها" الخاصة، و"تشارك" نسبيا في السيطرة على المناطق المختلطة والهجينة.
ـ ان "السلطة" المركزية (بكل صورها وتلاوينها، بما فيها ما سمي "البيت الشيعي" و"المؤتمر الوطني العراقي") هي سلطة مفككة ومتهافتة سياسا وهزيلة عسكريا. ولكنها مع ذلك، او ربما بسبب ذلك، تتمتع بميزة خاصة، لا يشاركها فيها اي طرف آخر، وهي انها تقوم بدور همزة وصل "عراقية" شاملة:
اولا ـ بين مختلف القوى الاتنية والطائفية والسياسية، بما فيها المشاركة في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال.
ثانيا ـ بين هذه القوى وبين الادارة والقوات الاحتلالية.
ثالثا ـ وبناء على هذا الدور الوسيط، تسعى هذه "السلطة" لادعاء "تمثيل العراق" والحصول على الاعتراف العربي والدولي بـ"شرعيتها العراقية".
ـ في هذه الاثناء، تحاول قوات الاحتلال ان تكتفي بدور المشرف العام، وبالحضور الستراتيجي، العسكري والسياسي، المرتبط بالشأن الخارجي للعراق، وأن تبتعد قدر الامكان عن "الشؤون الداخلية" العراقية التي "تتركها" صوريا للعراقيين انفسهم.
ويطرح الان للاستخدام في العراق كل "العفش السياسي" الذي سبق وطرح في لبنان، فيما يتعلق بكيان الدولة:
أ ـ التقسيم، اي تقسيم البلد الى عدة دول "مستقلة"، وذلك كاحتمال تهديدي نهائي، بوجه القوى الوطنية والقومية. وفي الوقت ذاته "حفظ خط الرجعة"، من خلال المعارضة العلنية للتقسيم، من قبل اميركا وحلفائها من الدول الغربية، لأن الغرب الامبريالي، وعلى رأسه اميركا، هو غير قادر، ذاته بذاته، على نقض وتقويض "اتفاقية سايكس ـ بيكو" سارية المفعول منذ نهاية الحرب العالمية الاولى، بدون ايجاد "بديل تاريخي" شامل آخر لها.
ب ـ الفيديرالية، كحل تقسيمي طائفي "داخلي"، ضمن "الدولة الواحدة"، التي لا تخرج عن اطار "اتفاقية سايكس ـ بيكو".
ج ـ اللامركزية الواسعة، الادارية ـ السياسية ـ الطائفية، وهي شكل مخفف من الفيدرالية.
د ـ واخيرا لا آخرا، تكريس نظام طائفي "لبناني" هش، تكون فيه كل طائفة اشبه شيء بدولة ضمن الدولة، وتكون فيه الدولة المركزية كيانا طائفيا مخلعا، قائما على "تسوية" بين القوى الامبريالية الغربية المتسلطة والقوى الاقليمية النافذة، التي تتحكم، امنيا وعسكريا وسياسيا واقتصاديا، كل من جهتها، وبقدراتها وحسب مصالحها، بهذا الكيان، الذي تحكمه مراكز قوى محلية، طائفية ـ فسادية، مرتبطة بتلك القوى. ومثل هذا "الكيان اللبناني" المنسوخ، لا يمكنه، تماما كـ"الاصل"، ان يعيش لحظة واحدة خارج اطار "التسوية" الدولية ـ الاقليمية التي تدعم وجوده، وهو معرض للانهيار في اي لحظة، بكبسة زر من اي طرف من اطراف تلك "التسوية".
وفي هذا السياق، تحاول قوات الاحتلال جاهدة التقليل من احتمالات الاصطدام المسلح بالمقاومة، عن طريق عقد اتفاقات "الهدنة" و"وقف اطلاق النار" هنا وهناك مع قوى المقاومة، الوطنية، الطائفية والعشائرية، بحيث تتحول هذه القوى ذاتها الى حرس للاحتلال، (وبمعنى اوسع: للنفوذ الاميركي) من موقع معاداته.
لقد اتيح للادارة الاميركية تطبيق هذه "الوصفة اللبنانية" على العراق، بسبب انحراف بعض القوى الوطنية الشاملة، كالحزب الشيوعي العراقي، والضعف الشديد لبعضها الاخر، كالناصريين والبعثيين بمختلف فئاتهم، وبسبب "التطييف البنيوي" للمقاومة الوطنية ذاتها للاحتلال، تماما كما جرى في لبنان.
ولكن مما لا شك فيه ان مثل هذا الوضع، القائم على توازن مهزوز لجملة من التوازنات المترجرجة، هو وضع انتقالي غير ثابت، ولا يضمن بأي شكل، بحد ذاته، قيام دولة عراقية تمتلك الحد الادنى الضروري من الثبات والمصداقية والمشروعية الوطنية. وهو ما يشبه، من هذه الزاوية وحسب، وضع "الدولة" اللبنانية قبل (وبعد!) اتفاقية الطائف. والادارة الاميركية تستغل هذه الحالة، في اتجاهين:
عراقيا ـ اللعب على الجميع، ووضع الجميع ضد الجميع، والابتزاز السياسي والعسكري والامني للجميع، للحصول على شتى التنازلات، مهما كانت ضئيلة، وتطبيق سياسة "الاحتواء" و"الخطوة خطوة" التي سبق للادارة الاميركية ان طبقتها ايرانيا وعراقيا ولبنانيا وفلسطينيا.
اقليميا ودوليا ـ تخويف العالم اجمع، ولا سيما الدول الحليفة لاميركا والدول المجاورة للعراق، بما يمكن ان يشكله العراق من تهديد "ارهابي" و"نفطي"، في حال بقي الوضع فيه على ما هو عليه، بكل ما يحمله هذا الوضع من خطر المفاجآت.
وبدون اي تشكيك مباشر، تأتي عمليات الخطف والتصفيات الدموية غير المبررة، للاجانب وغير العراقيين، لتعزز "الحجج" الاميركية على هذا الصعيد. ويكفي ان نشير هنا الى خطف الصحفيين الفرنسيين والناشطتين الانسانيتين الايطاليتين (المعروف عنهم انهم من معارضي الحرب على العراق)، وقتل المواطنين اللبنانيين والباكستانيين وغيرهم، الابرياء كلهم.
وتسعى الادارة الاميركية، عبر هذا وذاك، للتخلص من اثار "مغامرتها" العراقية، وتحميل العالم المسؤولية، وفرض صيغة "حل دولي" للمشكلة العراقية، التي اوجدتها هي نفسها، على طريقة "اتفاق الطائف" للبنان، و"مؤتمر لندن" لافغانستان، و"خارطة الطريق" لفلسطين.
ونظرا لما يمثله العراق من اهمية استراتيجية، على الساحتين العربية والاسلامية، وعلى مختلف المستويات، فإن "التدويل الاميركي" لـ"الحل العراقي"، يمكن ان يخدم كمفتاح لاعادة انتاج "اتفاقية سايكس ـ بيكو"(*) في صيغة اميركية جديدة لـ"شرق اوسط كبير"، تضطلع بالدور المركزي فيه: اسرائيل، طبعا!
ومن خلال المعطيات القائمة، يمكن تلخيص الخطة الاميركية العامة الجاري تطبيقها على العراق، بما يلي:
1 ـ احتواء مختلف القوى الموجودة على الارض، مع اعطاء الاولوية والامتيازات للقوى "المتعاونة"، وتحجيم القوى "المعارضة"، والمحاصرة والمحاربة المرنة للقوى "المقاومة" ومحاولة ايجاد "نقاط التقاء" معها على قاعدة "عدو عدوك صديقك". وهذا يقتضي عدم القضاء على اي قوة موجودة على الارض، حتى لو كانت من اشد المعارضين للاحتلال، انطلاقا من ستراتيجية "ادارة الازمة" في العراق، وليس حلها، وبالتالي عدم حل اي معضلة عراقية ايا كانت: طائفية، عشائرية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية، عسكرية، الخ.
2 ـ الافادة من وجود المصالح المتضاربة والمتقاطعة للقوى الاقليمية، في العراق، لأقلمة "المسألة العراقية"، والسعي بشكل خاص لايجاد "رباعية" اقليمية تهتم بالشأن العراقي، وتتمثل في كل من: ايران الشيعية غير العربية، تركيا السنية غير العربية، السعودية (ممثلة لمجلس التعاون الخليجي) السنية العربية الموالية لاميركا، سوريا العربية "غير السنية" المعارضة لاميركا.
3 ـ الافادة من الاهمية الدولية للعراق، على مختلف الاصعدة، لتدويل "المسألة العراقية"، بإشراف اميركا، على طريقة تدويل "المسألة الفلسطينية"، وايجاد شكل جديد لرباعية دولية، تتألف ايضا من كل من: اميركا، الاتحاد الاوروبي، روسيا الاتحادية، والامم المتحدة، على غرار الرباعية لفلسطين.
4 ـ التوصل الى عقد "مؤتمر طائف" دولي ـ اقليمي ـ عراقي، خاص بالعراق، على غرار "مؤتمر الطائف" الذي عقد لـ"حـل" الازمة اللبنانية.
5 ـ نظرا لعوامل ومعطيات دولية واقليمية هامة (أـ العلاقة الثلاثية المميزة: الاميركية ـ الاسرائيلية ـ التركية. ب ـ "الورقة" التركمانية. ج ـ "الورقة" الكردية. د ـ "الورقة" السنية. هـ ـ "ورقة" نهر الفرات. و ـ "ورقة" المصب النفطي خارج الخليج وخارج سوريا. ز ـ الرغبة الاميركية ـ الاسرائيلية الجامحة في تقليص الدور ـ اي دور عربي، وتقليص النفوذ الايراني في العراق) من المرجح ان تلقي اميركا بكل وزنها، وان تسعى لأن تجر معها الاتحاد الاوروبي وحتى روسيا، كي تكون تركيا ـ لا السعودية هذه المرة ـ هي "طائف" العراق.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
(*) عقدت هذه الاتفاقية اللصوصية سرا، خلال الحرب العالمية الاولى، وقد نصت بشكل رئيسي على تقسيم وتقاسم المنطقة العربية، بعد سقوط الامبراطورية العثمانية، بين الدولتين الامبرياليتين بريطانيا وفرنسا، اللتين انضمت اليهما روسيا القيصرية. ولكن بعد قيام الثورة البلشفية في 1917، عمدت السلطة السوفياتية الى فضح تلك الاتفاقية. ولكن خلال الحرب العالمية الثانية، عادت القيادة الستالينية فوافقت عمليا على منطوق تلك الاتفاقية، من ضمن اتفاقيات يالطا ـ بوتسدام بين المنتصرين (روزفلت ـ تشرشل ـ ستالين) لتقاسم مناطق النفوذ في العالم.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
* كاتب لبناني مستقل مقيم في بلغاريا



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أضواء على انشقاقات الستينات في الحزب الشيوعي اللبناني: الاضا ...
- مؤامرة اغتيال فرج الله الحلو


المزيد.....




- -قناع بلون السماء- للروائي الفلسطيني السجين باسم خندقجي تفوز ...
- شاهد.. آلاف الطائرات المسيرة تضيء سماء سيول بعرض مذهل
- نائب وزير الدفاع البولندي سابقا يدعو إلى انشاء حقول ألغام عل ...
- قطر ترد على اتهامها بدعم المظاهرات المناهضة لإسرائيل في الجا ...
- الجيش الجزائري يعلن القضاء على -أبو ضحى- (صور)
- الولايات المتحدة.. مؤيدون لإسرائيل يحاولون الاشتباك مع الطلب ...
- زيلينسكي يكشف أسس اتفاقية أمنية ثنائية تتم صياغتها مع واشنطن ...
- فيديو جديد لاغتنام الجيش الروسي أسلحة غربية بينها كاسحة -أبر ...
- قلق غربي يتصاعد.. توسع رقعة الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين
- لقطات جوية لآثار أعاصير مدمرة سوت أحياء مدينة أمريكية بالأرض ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج حداد - العراق على طريق -اللبننة- الاميركية!