أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - جورج حداد - وماذا بعد الانسحاب السوري من لبنان؟















المزيد.....


وماذا بعد الانسحاب السوري من لبنان؟


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 1142 - 2005 / 3 / 20 - 13:37
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


واخيرا فإن عظام السير مارك سايكس والمسيو جورج بيكو (ممثلي بريطانيا وفرنسا الاستعماريتين، ومهندسي ما يسمى معاهدة سايكس ـ بيكو، التي تم بموجبها التقسيم الاستعماري للشرق العربي، خلال الحرب العالمية الاولى) تعود للاستراحة في قبريهما، بعد ان اصبح في حكم المؤكد ان النظام السوري سيسحب مدافعه وراجماته ودباباته وبقية قواته العسكرية واجهزة مخابراته طيبة الذكر، التي "تنعّـم" بها اللبنانيون طويلا، بعد ان "أوفت قسطها للعلى" في هذا البلد الجريح والمعذب. طبعا ان هذا النظام الدكتاتوري، المكيافيلي بامتياز، يحاول التظاهر بالمناورة والمماطلة والتلاعب على موضوعة الانسحاب، بصيغة اتفاقية الطائف، او تحت طائلة القرار 1559. ولكن النظام ذاته يدرك تماما ان هذا التلاعب لا هدف له (ولا فائدة منه)، سوى الاستهلاك المحلي، ورفع معنويات المرشحين لـ"التيتـّم" اي "المستفيدين" من "الوجود" السوري، وتضليل من لا يزال بالامكان تضليله من القوى الوطنية والاسلامية الصادقة و"الجماهير الغفورة" في سوريا ولبنان على السواء. ذلك انه، اي هذا النظام، يدرك تماما ايضا انه قد دقت "ساعة الحقيقة"، المحلية والعربية والدولية، بالنسبة لـ"وجوده" في لبنان، وأن تأخره في الانسحاب، بموجب الاجندة الدولية (مثلما تأخر في الانسحاب، "فقط!" 15 سنة، بموجب الاجندة العربية التي كانت تمثلها اتفاقية الطائف، والتي كانت تتيح له انسحابا "مشرفا" فعلا، لا كما يحدث الان) سيكلفه مواجهة الحساب الدولي (ومن ثم العربي والمحلي)، ليس في لبنان وحسب، بل وفي "وجوده" الاصلي داخل سوريا ايضا، وبالاخص. اما اذا رجع، راغبا او راغما، او راغبا ـ راغما معا، الى "بيت الطاعة" القطرية (السايكس ـ بيكوية)، اي الى داخل الحدود السورية، فيحتمل، حسب المطواعية المعروفة عنه، ان "اللاعبين الكبار"، الذين يعمل في خدمتهم منذ تسليم الجولان بدون قتال في 5 حزيران 1967، سيتيحون له "فرصة اخرى" و"حظا آخرا" في "اللعبة الدولية" الجارية الان على قدم وساق في "الشرق الاوسط الكبير"، وهي "اللعبة" التي شارك فيها هذا النظام طويلا، وغامر وقامر، ما شاءت له المغامرة والمقامرة، خصوصا في الساحة اللبنانية، وعلى حساب الشعب اللبناني المظلوم، ولا سيما قواه الوطنية الشريفة والمناضلة!
ومرة اخرى تثبت الصيغة القطرية (السايكس ـ بيكوية) انها الصيغة "الأفضل"، بالنسبة للغرب الامبريالي والصهيونية الدولية، للامساك بالاوضاع العربية من خلال "حواضر البيت" في كل قطر عربي على حدة.
ان لبنان، او بالاصح الاتجاه القومي في لبنان، حاول دائما، على المستوى الشعبي، كسر معادلة التجزئة اللاحضارية، اللاتاريخية، الظالمة بحق وحقيقة الامة العربية، وهي التجزئة التي تكمن في اساس الضعف والتخلف العربيين، على شتى المستويات. وبطبيعة الحال فإن المحاولات اللبنانية للخروج من القوقعة القطرية كانت موجهة، بالدرجة الاولى، باتجاه المدى القومي الاقرب، اي باتجاه سوريا وفلسطين (سوريا الشمالية، حسب تعبير الرئيس الراحل حافظ الاسد). ولكن هذا الاتجاه الشعبي القومي في لبنان، لأي حزب او طائفة انتمى، دفع غاليا ثمن "قوميته"، على الارجح بسبب ما فيها من "خصوصية لبنانية"، وذلك بالاخص على يد القوى المتسلطة "السورية" و"الفلسطينية" بالذات، او بمشاركتهما او "بحضورهما". ويكفي ان نذكر هنا دور "سوريا" في تسليم واعدام الزعيم القومي السوري انطون سعادة. ودورها في قتل القائد الشيوعي العروبي فرج الله الحلو تحت التعذيب وتذويبه بالاسيد. ودورها (ودور قيادة منظمة التحرير) في تحويل لبنان ولا سيما المناطق الوطنية اللبنانية، الى "غابة" او "ارض مستباحة" قبل الاجتياح الاسرائيلي في 1982 وبعده، ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، قتل وتغييب (او الصمت عن قتل وتغييب) قادة ـ رموز في قامة كمال جنبلاط والامام موسى الصدر!! وطبعا اننا لا نتكلم هنا عن سوريا الشعب ـ الضحية، ولا عن فلسطين الشعب ـ الشهيد، بل عن "سوريا حسني الزعيم" و"سوريا عبدالحميد السراج" و"سوريا الاسد" واشباههم من الجنرالات الاشاوس، وعن فلسطين بعض "الابوات"، وعن الاجهزة "الامنية" الاجرامية والمشبوهة، التي فتكت في لبنان، بمثل ما فعلت اسرائيل واكثر، ولم يكن يميزها عن اسرائيل سوى الهوية المزورة "السورية!" و"الفلسطينية!".
واذا قسنا عمر الجمهورية اللبنانية الحديثة المستقلة بدءا من يوم الاستقلال، اي تشرين الثاني 1943، فتكون المحصلة حوالى 63 سنة الى اليوم. وطبعا ان هذه السنوات لم تكن كلها سنوات "استقلال"، بصرف النظر عن طبيعة النظام القائم في الكيان اللبناني. إذ انه يوجد "لطختان" او "مساحتان قاتمتان" في تاريخ هذا "الاستقلال":
الاولى ـ الاحتلال الاسرائيلي:
من هذه السنوات رزح لبنان، ونقيس الكل على الجزء، تحت الاحتلال الاسرائيلي مدة 22 سنة بالتمام والكمال. وقبل 5 حزيران 1967 كانت اسرائيل لا تعير كبير اهتمام للبنان، وكانت الاذاعة الاسرائيلية تستمتع بالسخرية منه قائلة ان اسرائيل يمكنها ان تحتله فقط في عدة ساعات وبـ200 مجندة في الجيش الاسرائيلي. وكان لبنان البلد العربي الوحيد من "بلدان الطوق" الذي لم تشمله "بركة" عدوان 5 حزيران 1967، ليس لنقص في النوايا العدوانية الاسرائيلية تجاه لبنان، بل لان اسرائيل كانت تعتبره "في قبضتها" في اي ساعة، حتى بدون احتلال. ولكن تحرك القوى الوطنية اللبنانية، العلمانية والاسلامية، بالتفاعل مع الثورة الفلسطينية المستجدة، بدأ في "إزعاج" اسرائيل بـ"العمل الفدائي"، طليعة التحرك الجماهيري المقاوم، الفلسطيني واللبناني والعربي، ضد الكيان الصهيوني الغاصب. وجاءت الغارة الاسرائيلية على مطار بيروت المدني، في اواخر العام 1968، لتؤكد ان اسرائيل اخذت "تغير قليلا" (!) رأيها الاستخفافي بلبنان وقواه الوطنية. ولسد هذه "الثغرة اللبنانية" التي لم تكن قبلا تحسب لها حسابا، حركت اسرائيل واميركا "الطابور الخامس" اللبناني، ثم فجرتا "الحرب اللبنانية"، واخيرا نزلت اسرائيل بقضها وقضيضها لاجتياح لبنان، بما فيه العاصمة العربية المتميزة بيروت ذاتها، ومن ثم احتلال قسم كبير من اراضيه، الذي دام 22 سنة كاملة. وقد لحقت بها في وقت من الاوقات القوات "متعددة الجنسية". وكان الهدف "بسيطا": إجراء "عملية تجميل" لتقسيمات "سايكس ـ بيكو"، وذلك بتنفيذ مخطط لتحويل لبنان الى "محمية" اسرائيلية وتكريسه دوليا بهذه الصفة، طبعا بمباركة اميركية بالدرجة الاولى، وعلى حساب النفوذ الاوروبي ولا سيما الفرنسي.
ولكن بالرغم من كل "جهود" اسرائيل، ومعها "حليفها الستراتيجي" اميركا، و"جهود" الطابور الخامس "اللبناني"، وبالرغم من "النجدة" التي تلقاها الطابور الخامس من قبل النظام الدكتاتوري السوري في 1976، وبالرغم من ايصال "اولاد الشيخ بيار الجميل" (وريث الـ “base navale”الفرنسية، التي تحولت بقدرة قادر الى "بيت الكتائب" المركزي) الى مركز رئاسة الجمهورية، فقد فشلوا جميعا فشلا ذريعا في تحقيق مخطط "أسرلة لبنان". وكانت اولى نتائج هذا الفشل فرار القوات "متعددة الجنسية"، وعلى رأسها الاميركية. ثم كانت الهزيمة القاسية للطابور الخامس، ولا سيما في معركة الجبل اللبناني، بالرغم من مجازر صبرا وشاتيلا واختطاف وتصفية الوف المناضلين والكوادر الوطنية في عهد "اولاد شيخ الكتائب". واخيرا فإن اسرائيل فشلت كذلك في الاحتفاظ باحتلالها للارض اللبنانية، المعترف بها دوليا (اي باستثناء مزارع شبعا، التي لا تزال موضع التباس دولي من حيث تخطيط الحدود بين سوريا ولبنان، رسميا وضمن الاصول المتعارف عليها دوليا). وقد تكرست الهزيمة الاسرائيلية دوليا بالقرار 425، الذي تلكأت اسرائيل في تنفيذه اكثر من عشرين سنة كاملة. وهكذا تحملت اسرائيل اول هزيمة جدية في تاريخ الصراع العربي ـ الاسرائيلي، ليس على يد اي جيش عربي، تابع لأي نظام عربي مأفون، عشائري ـ بوليسي تقليدي او دكتاتوري "تقدمي" و"وطني"، بل على يد المقاومة الشعبية، الوطنية والاسلامية او الوطنية ـ الاسلامية، اي على يد القوى الشعبية اللبنانية المناضلة ذاتها، التي كانت ولا تزال تناضل لاجل الاستقلال، وتتمسك بالدمقراطية، في آن واحد. وقد امكن تحقيق هذا النصر بفضل "الكيمياء السياسية العضوية" التي تميز الحركة الوطنية اللبنانية، بمختلف تلاوينها الحزبية والمذهبية، العلمانية والدينية، والتي تتألف من: وطنيتها وعروبيتها ودمقراطيتها.
وقد اعطى هذا النصر الشعبي محتوى جديدا لاستقلال لبنان، يختلف جذريا عما اراده ويريده مهندسو ورعاة "سايكس ـ بيكو". والآن تقف اسرائيل، رغما عنها وعن طابورها الخامس، خلف ما يسمى "الخط الازرق"، ويقض مضاجعها ليس فقط وجود "حزب الله" كما تدعي، بل على العموم وجود لبنان الشعبي، الوطني ـ العربي، المستقل والدمقراطي، الذي انبثقت منه المقاومة الوطنية والاسلامية، التي حررت لبنان وبعثت وكرست وطورت استقلاله وتقاليده الدمقراطية، بشكل لا ولن تطيقه لا اسرائيل، من جهة، ولا الانظمة العربية، الاستبدادية تجاه شعوبنا المظلومة، المتخاذلة تجاه اعداء امتنا، من الجهة المقابلة.
وبالانسحاب المخزي للقوات "متعددة الجنسية"، ولقوات الاحتلال الاسرائيلية، نشأ على الساحة الدولية ناد سياسي جديد هو "نادي المتضررين من استقلال لبنان"، وعلى رأسهم اميركا واسرائيل.
الثانية ـ "وجود" الدكتاتورية السورية:
ومن "سنوات الاستقلال" الـ63، هناك ايضا حوالى 30 سنة من "الوجود" الشقيق "جدا!" لقوات ومخابرات النظام الدكتاتوري السوري في لبنان. وكأي نظام دكتاتوري، رأسماله الاساسي الديماغوجية والكذب، فإن قوات النظام السوري لم تدخل الى لبنان، لدعم القوى الوطنية والمقاومة الفلسطينية وحماية وحدة وعروبة لبنان، كما اخذت ابواق ذلك النظام تسوّق له دجلا فيما بعد، بهدف سرقة نضالات الجماهير والمقاومة الشعبية اللبنانية، وتمويه دوره الحقيقي وتضليل الجماهير الشعبية السورية، بما في ذلك تضليل جماهير الجنود والضباط الشرفاء في الجيش العربي السوري.
والحقيقة التي يجب المناداة بها بالفم الملآن، ان "عدة شغل" الدكتاتورية السورية، من وحدات عسكرية مضللة، واجهزة مافياوية واجرامية مشبوهة، تعمل في الظلام تحت اسم المخابرات العسكرية وما اشبه، قد دخلت الى لبنان، بادئ ذي بدء، في مهمة محددة بدقة وهي على وجه التحديد حماية "الطابور الخامس" الاسرائيلي من الهزيمة على ايدي القوى الوطنية بزعامة الشهيد كمال جنبلاط، وذلك بحجة كاذبة هي "حماية المسيحيين". وهو ما جاء في خطاب رأس النظام في اذار 1976. وكان الهدف من هذا الشعار الديماغوجي الكاذب:
اولا، استرضاء اميركا والدول الغربية الامبريالية، بهذه الحجة الكاذبة، والمقرفة، حجة "حماية الاقليات المسيحية"، الموروثة من العهد العثماني، والتي بليت من كثرة الاستعمال منذ ذلك الحين.
وثانيا، التسابق مع اسرائيل لاستمالة "طابورها الخامس" الى جانب النظام السوري. وبالفعل فإن قسما من هذا "الطابور"، وتحديدا ـ بالاخص ـ بشخص المرحوم ايلي حبيقة وجماعته، ساروا في ركب النظام السوري، ولا سيما بعد مجزرة صبرا وشاتيلا. وهو ما يثير علامات استفهام كثيرة، حول من كان يخترق من: هل الموساد اخترقت الشبكة السورية؟ ام ان المخابرات السورية اخترقت شبكة الموساد؟ ام انه نشأ تعاون ضمني وتنسيق مبطن بين الطرفين، على حساب الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وجماهيرهما؟
وأصبحت حقيقة شبه مسلم بها من الجميع الان، ان "الوجود" الدكتاتوري السوري في لبنان انما كان بـ"تفويض" اميركي، وهذا طبعا يدخل ضمن ما يسمى "الدبلوماسية السرية"، وليس ضمن السياسة القانونية والمشروعة. حتى ان البعض، مثل "الجنرال" ميشال عون الذي سبق له واختلف مع الاميركيين على هذه النقطة، ذهب فيما بعد بشحمه ولحمه الى الكونغرس الاميركي ليضع نفسه في خدمة اميركا، واخذ يتبجح بأن الاميركيين مثلما جاؤوا بالسوريين، فهم الذين سيذهبون بهم.
وللتاريخ ان يحدد متى وكيف حصل النظام الدكتاتوري السوري على "التفويض" الاميركي بالامساك بالساحة اللبنانية، ومقابل ماذا. وحسب بعض المعطيات ان هذا "التفويض" اعطي عشية الحرب اللبنانية، في 1974، اثناء الرحلات المكوكية لهنري كيسنجر في المنطقة، غداة حرب تشرين 1973، وهي الرحلات التي اسفرت مباشرة عن اتفاقات "فصل القوات" بين اسرائيل من جهة، وكل من مصر وسوريا من جهة ثانية، وهي التي كانت بمثابة تمهيد ضروري لزيارة السادات الى القدس المحتلة وعقد اتفاقية كامب دايفيد المنفردة. ولعله من المفيد التذكير هنا ان حزب البعث الموالي لسوريا قد بدأ منذ ذلك الحين "علاقات ايجابية" مع حزب الكتائب اللبنانية، الركيزة الاولى للطابور الخامس الاسرائيلي في لبنان. وقد تفرد حزب البعث "السوري"، من بين جميع الاحزاب الوطنية اللبنانية، بحضور مؤتمر حزب الكتائب الذي عقد في 1974، وحضره مندوبا عن البعث السيد عاصم قانصو، الذي اصبح امينا قطريا للحزب في لبنان، بعد "غياب" السيدين مالك الامين ومحمود بيضون عن الصورة. وكان السيد عاصم قانصو يعبر عن رضاه عن ان بعض خطباء مؤتمر الكتائب اشادوا ببطولات الجيش العربي السوري في حرب تشرين 1973، وعن رضاه كذلك عن افتتاح مكاتب لحزب البعث "السوري" في مناطق السيطرة التقليدية لحزب الكتائب. وحينما حدثت مجزرة السبت الاسود بتاريخ 6/12/1975، وهي المجزرة التي اريد بها اضفاء وتكريس وترسيخ الطابع الطائفي للحرب اللبنانية، فإن الشيخ بيار الجميل كان في زيارة خاصة في دمشق لمقابلة الرئيس حافظ الاسد. وهذا يدل على ان مخططي السيناريوهات السياسية الكبرى للحرب اللبنانية، بما في ذلك سيناريو وقوع مجزرة السبت الاسود، في لحظة زيارة الجميل لدمشق، انما كانوا يريدون، فيما يريدون، تبرير العلاقات البعثية "السورية" ـ الكتائبية، والتمهيد لاعطاء النظام الدكتاتوري السوري التبريرات لدخول لبنان ولجم الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وحماية حلفائه الكتائب بحجة "حماية المسيحيين".
وقد كان لقوات الدكتاتورية السورية دورها "المشرّف" في إسقاط مخيم تل الزعتر، ومن ثم منطقة النبعة والدورة وبرج حمود (ذات الاكثرية الشيعية) التي كانت معقلا للقوى الوطنية والاسلامية الشيعية اللبنانية، ومنطقة المسلخ والكرنتينا، التي كانت ايضا في يد القوى الوطنية اللبنانية. كما كان لها دورها في اجبار القوات الوطنية على التراجع من صنين. وقد خاضت قوات النظام السوري معركة مكشوفة مع القوات الوطنية اللبنانية ـ الفلسطينية المشتركة، ولا سيما مع "جبهة الرفض الفلسطينية"، على امتداد المناطق التي دخلتها. ومن ذلك معركة مع الدبابات السورية في صيدا، يذكرها تماما اهالي صيدا ومخيم عين الحلوة. وحينما تم أسر الضابط السوري قائد كتيبة الدبابات المهاجمة، أبدى استهجانه لآسريه: كيف يمكن لوطنيين عرب ان يرفعوا السلاح بوجه الجيش العربي السوري؟! وقد اجيب على تعجبه: وأنت من جئت تهاجم؟ وهل تعرف اين انت؟ أنت لست في الجولان المحتل، ولم تأت لمهاجمة محتلين اسرائيليين، بل أنت في مدينة صيدا، وارسلوك لتهاجم القوى الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية!!
وطوال مدة "وجوده" في لبنان، كان النظام الدكتاتوري السوري يعمل على خطين:
الاول ـ إقناع اميركا والدول الامبريالية، ومعها اسرائيل، بأنه "الوحيد" القادر على "تدجين" لبنان ولجمه عند اللزوم (بما في ذلك طبعا لجم المخيمات الفلسطينية التي تضم مئات الالوف من "لاجئي" (مهجري) 1948ـ1949، الذين هم ـ مع القدس وربما اكثر منها ـ عقدة العقد في القضية الفلسطينية). و"الحجة" او "الفاتورة" الرئيسية التي كان النظام السوري يقدمها للمعسكر الاميركي ـ الاسرائيلي، على هذ الصعيد، هي قدرته على لجم الشعب السوري باسم "حالة الطوارئ"، ومنع اي "تعد" على خطوط "وقف اطلاق النار"، ومن ثم "الحماية الفعلية" للاحتلال الاسرائيلي للجولان.
ثانيا ـ تفكيك وضرب الفعاليات والشخصيات والاحزاب والقوى الوطنية والدمقراطية اللبنانية، وزرع الرعب في قلوب اللبنانيين، لقطع الطريق على التجربة الوطنية والدمقراطية اللبنانية، ولإخراس وفرض الاذعان على الجميع، على طريقة "قانون الصمت" المافياوي، وتحويل لبنان، كما "سوريا الاسد"، الى مزرعة "دواجن" بشرية، ومنطقة نفوذ سورية ومصالح مافياوية سورية ـ لبنانية ـ دولية، بما فيها اسرائيلية. ولهذه الغاية عمل النظام السوري، ونجح مرحليا، في تمزيق الحركة الوطنية اللبنانية، وتحجيم وشل المقاومة الوطنية اللبنانية ضد اسرائيل. ولكنه فشل في منع المقاومة الاسلامية البطلة، بقيادة "حزب الله"، لدواع وطنية ـ دينية، محلية واقليمية.
ولكن بطبيعة الحال ان "التفويض" الاميركي، وضمنا الاسرائيلي، للنظام الدكتاتوري السوري، بالساحة اللبنانية، لم يكن تفويضا مطلقا بدون شروط. بل كانت اميركا واسرائيل، ومن ورائهما الطابور الخامس "اللبناني"، تمارسان الضغط باستمرار على النظام السوري، لتأدية الخدمات بإذعان وبأقل ما يمكن من المناورات والاثمان السياسية التي لا توافق عليها اميركا واسرائيل. وهذا ما يفسر نسبيا نهاية "شهر العسل" بين الطابور الخامس "اللبناني" وبين النظام السوري، بعد مقتل وتغييب كمال جنبلاط والامام موسى الصدر، وانقلاب هذا الطابور وغدره بالجنود والضباط السوريين المساكين في 1978، ومن ثم الاجتياح الاسرائيلي للشريط الحدودي وتشكيل ما يسمى "حزام الامن" لاسرائيل.
ومنذ 1978 حتى ايار 2000 كان هناك نوع من "التعايش" بين الاحتلال الاسرائيلي و"الوجود" الدكتاتوري السوري على الارض اللبنانية. وكان كل منهما يبرر "ضرورة" استمراره بوجود الاخر. وكانت هذه الفترة الطويلة بمثابة "فترة ذهبية" لـ"شغل" المخابرات الاسرائيلية والاميركية، وتحقيق اختراقات سورية ولبنانية مهمة، وعلى مستويات عالية، ترقى الى مستوى مراكز القرار السياسي. ويبدو ذلك بوضوح في عمليات اجرامية، ذات دلالات كبيرة وخاصة، مثل:
ـ اغتيال المرحوم ايلي حبيقة حينما قرر "ان يتكلم" في الدعوى ضد شارون في المحكمة البلجيكية، بخصوص مجزرة صبرا وشاتيلا، فجرى اسكاته "في الوقت المناسب". والعجيب انه "لم يتكلم" قبل ذلك، حينما كان يحظى برعاية وحماية الاجهزة السورية، ويمكن الاستنتاج بسهولة انه لم يكن يسمح له "ان يتكلم".
ـ اغتيال القائد الفلسطيني جهاد احمد جبريل، بعد قيام "الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة" باختراق "الخط الاحمر" المتمثل في منع مشاركة المقاومة الفلسطينية وبالاخص فلسطينيي 1948 في العمليات ضد اسرائيل عبر الحدود (اللبنانية او السورية).
ـ اغتيال الرئيس المنتخب رينيه معوض وغيره من الشخصيات الوطنية المستقلة و"النظيفة".
ـ محاولة اغتيال الزعيم الروحي والمفكر الكبير، الديني والانساني، السيد محمد حسين فضل الله.
ـ محاولة اغتيال النائب والشخصية الوطنية الدمقراطية مروان حمادة.
ـ واخيرا لا اخرا جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، التي ـ ايا كان مركز القرار الدولي الذي قرر الاغتيال ـ فإن العملية بحد ذاتها لا يمكن ان تتم الا بوجود "شبكة تنفيذية مشتركة" على الارض تضم، فيما تضم، فعاليات "امنية" سورية ولبنانية.
وخلال هذا "الوجود السوري" الطويل، لما يقرب نصف عمر مرحلة الاستقلال، كانت خطة النظام الدكتاتوري السوري في لبنان تقوم على ستراتيجية وتاكتيك "القضم والهضم" او "التفتيت والاحتواء". وهو قد نجح في استباحة لبنان امنيا وسياسيا واقتصاديا، وتحول الى عبء ثقيل على كاهل الشعب اللبناني المظلوم. وبالتالي، وبالرغم من كل تبجحاته "القومية" الديماغوجية الكاذبة، فإن النظام الدكتاتوري السوري "نجح" بامتياز في زرع النفور الشعبي اللبناني من سوريا، بما لا سابق له البتة في التاريخ المشترك للشعبين الشقيقين.
ومع كل ذلك، فإن القوى الوطنية والدمقراطية الحقيقية، اللبنانية، كانت تتردد، بوجود الاحتلال الاسرائيلي، في القيام بمواجهة مكشوفة مع الدكتاتورية السورية، كي لا يستفيد العدو القومي من هذه المواجهة. واذا اخذنا موقف الزعيم الوطني وليد جنبلاط نموذجا، نستنتج ببساطة ان هذه القوى كانت تتحمل على مضض التجاوزات الفظيعة وحتى الجرائم الكبرى للنظام الدكتاتوري السوري، على طريقة "شو صبّـرك على المر؟! ــ الأمرّ منه!!".
ولكن هذا الوضع الصعب تغير جذريا بعد اندحار الاحتلال الاسرائيلي في لبنان. ومثلما ان "الدخول" السوري لانقاذ "الطابور الخامس اللبناني" في 1976، مهد السبيل امام الاحتلال الاسرائيلي للاراضي اللبنانية، فإن هزيمة الاحتلال الاسرائيلي، سحبت البساط الرئيسي من تحت اقدام "الوجود السوري" في لبنان، وذلك بصرف النظر عن الحسابات الاميركية، الاسرائيلية والسورية. هذا مع العلم ان اميركا واسرائيل ستفعلان المستحيل للاستفادة من اي ثغرة لتحويل اي مواجهة لمصلحتهما. خصوصا وأن الطابور الخامس "اللبناني" هو "في الخدمة". وهذ ما يتوجب على القوى الوطنية الشريفة، في المعارضة اللبنانية الحالية، كما في تكتل "الموالاة"، ولا سيما "حزب الله"، ان تتنبه له بشدة، حتى لا تقع في مطبات شبيهة بالمطبات التي وقعت فيها بعض فصائل المعارضة العراقية السابقة لنظام صدام حسين المشبوه.
لقد جاءت جريمة اغتيال الشهيد الكبير للبنان، الرئيس رفيق الحريري، لتفجر كل التراكمات بوجه "الوجود السوري"، التي تجمعت في الثلاثين سنة الماضية.
ومثلما "فاجأ" لبنان الضعيف اسرائيل وحلفاءها باجبارها على الانسحاب من لبنان؛ فإنه، اي هذا اللبنان الضعيف الذي كان يحكمه بحركة من اصبعه ضابط مخابرات سوري قابع في عنجر، "يفاجئ" الان "سوريا الاسد" وحلفاءها، اذا كان لا يزال لها حلفاء، باجبارها على الانسحاب من لبنان.
والآن تتقدم هذه "السوريا الاسد" لتحصل على "عضوية شرف" في "نادي المتضررين من استقلال لبنان" (المقاوم والدمقراطي)، جنبا الى جنب اميركا واسرائيل.
والسؤال الكبير الان هو: ماذا بعد الانسحاب السوري؟!
وللجواب على هذا السؤال، سيكون من الخطأ الفادح ان يعتقدن احد ان لبنان (بما فيه من "طوابير خامسة" سياسية و"اورام سرطانية" مخابراتية، اسرائيلية وسورية وغيرها، زرعت في المرحلة السابقة)، ستنتهي متاعبه بهذا الانسحاب. بل ان العكس هو الصحيح. اي ان متاعب لبنان الحقيقية ستبدأ من الان فصاعدا، ضد اسرائيل، من جهة، وضد الدكتاتورية السورية من جهة ثانية.
لقد كان لبنان حتى اليوم، يرزح تحت "وجود" القوات والمخابرات السورية، واحتلال القوات الاسرائيلية و"متعددة الجنسية" (في وقت سابق). ولكنه من اليوم فصاعدا سيكون عرضة لمواجهة شرسة مع التحالف الضمني لنادي المتضررين من استقلال لبنان: اسرائيل والدكتاتورية السورية، ومع كل منهما على حدة، او معهما معا: اميركا.
فهل ستستطيع القوى الوطنية والدمقراطية اللبنانية، بما فيها بالاخص المقاومة الاسلامية بقيادة "حزب الله"، وكذلك القوى الوطنية والدمقراطية السورية في السلطة والمعارضة معا، ان تستوعب المخاطر والتعقيدات الراهنة، وان تواجه المؤامرات الشيطانية لـ"الحلف السري" الفعلي: الاميركي/الاسرائيلي ـ الدكتاتوري السوري، ضد مشروع ظهور لبنان عربي، حر، مستقل، وطني ودمقراطي، مقاوم، يكون نموذجا لسوريا خاصة ولـ"الشرق الاوسط الكبير" عامة، بما لا تشتهي الرياح الاميركية؟!
على هذا السؤال سيتوقف الكثير الكثير، ونكاد نقول: الاساسي، من المصير والمستقبل الراهن للامة العربية قاطبة!
++++++++++++++++++++
كاتب لبناني مستقل مقيم في بلغاريا*



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جنبلاط، القضية الوطنية والمسيحيون الدجالون
- المفارقات التاريخية الكبرى في الازمنة الحديثة وتحولات المشهد ...
- المسيحية العربية والاسلام في المشهد الكوني
- من هم مفجرو الكنائس المسيحية في العراق؟! وماذا هم يريدون!؟
- الامبريالية الاميركانو ـ صهيونية و-شبح الارهاب-: من سوف يدفن ...
- العراق على طريق -اللبننة- الاميركية!
- أضواء على انشقاقات الستينات في الحزب الشيوعي اللبناني: الاضا ...
- مؤامرة اغتيال فرج الله الحلو


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - جورج حداد - وماذا بعد الانسحاب السوري من لبنان؟