|
القضية الارمنية
جورج حداد
الحوار المتمدن-العدد: 1178 - 2005 / 4 / 25 - 05:56
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
في شهر نيسان من كل سنة، يحتفل الشعب الارمني بذكرى المجازر العنصرية التركية التي مضى عليها اكثر من 90 سنة، وذهب ضحيتها حوالي المليون ونصف المليون انسان، وطرد فيها من تبقى من ابناء هذا الشعب من ارضه التاريخية في ارمينيا "التركية". وبهذه المناسبة، تضاء الشموع في الكنائس، وتحمل الاكاليل الى النصب التذكارية، وتلقى بعض البكائيات. والى السنة القادمة! فهل هذه هي "حدود" القضية الارمنية؟ بالرغم من هذه المأساة الانسانية الفظيعة، التي يمكن اعتبارها المقدمة او النسخة الاولى للفاشية والنازية التي لطخت فيما بعد وجه القرن العشرين، فلا يزال الشعب الارمني الى اليوم ضحية للمساومات الدولية، التي تقف حائلا دون اعتبار قضيته قضية قومية عادلة، تستوجب البحث في موضوع استعادة اراضيه، والعودة اليها، والاعتذار التاريخي ودفع التعويضات له من قبل العنصريين الاتراك وورثتهم. انه من الظلم المضاعف بحق هذا الشعب تقليص قضيته الى حدود ابداء المواساة و"التعزية" وحسب عما مضى. ومع ذلك فإن الدول الغربية تمتنع الى اليوم حتى عن مثل هذه الوقفة الانسانية المجردة مع الارمن، حفاظا على "ماء وجه" العنصرية التركية، حليفتها التاريخية الى الان، التي تعتبر احدى اهم ركائز حلف الناتو، والتي يجري التحضير لادخالها في "الاتحاد الاوروبي"، بالرغم من كل سجلها "الحافل" في مجال "حقوق الانسان"!! وفي وقت يتم فيه التسابق لتجيير التضحيات التي قدمها اليهود البسطاء والشرفاء والتقدميين والشيوعيين، على ايدي النازية الالمانية، لصالح النازية الاخرى، اليهودية، المتمثلة في الصهيونية، فإن تغاضي الدول الغربية ـ بعد كل هذا الزمن ـ عن القضية الارمنية، انما يدل على ان تلك المجازر لم تكن "فورة طيش" آنية لجماعة "تركيا الفتاة"، التي طلعت من بين صفوفها الاتاتوركية، وأن الدول الغربية كانت ولا تزال شريكة في الجريمة الكبرى التي ارتكبت بحق الشعب الارمني الأبي، وتجد مصلحتها في استمرار طمس هذه الجريمة. ان القاء نظرة على تاريخ القضية الارمنية تبين انها كانت احدى حلقات التآمر الدولي، الذي نتج عنه التقسيم الاستعماري للشرق. ففي القرن التاسع عشر كان الشعب الارمني جزءا من "المسألة الشرقية"، وتحديدا مسألة الشعوب والاقليات الاتنية والدينية، غير التركية، وخصوصا المسيحية، الخاضعة للسلطنة العثمانية. وكانت هذه الشعوب والاقليات بمثابة "رهائن جماعية"، وضحية دائمة لابتزاز الطغمة العثمانية المستبدة الفاسدة، وللضغوط المتبادلة والمساومات فيما بين "رجل اوروبا المريض" والدول الاوروبية الكبرى. وبالرغم من كل الظلم الذي حل بالجماعات الاتنية والشعوب الغيرية في السلطنة، لم يكن من مصلحة أي من الطرفين، التركي والاوروبي، ان تصل الامور حينذاك الى حد "الحل النهائي"، أي التصفية الجسدية لتلك الجماعات والشعوب ـ الرهائن. وفي الانقلاب الدستوري في 1908، ومن ثم خلع السلطان عبدالحميد في 1909، التقت حركة "تركيا الفتاة" مع الحركات الاصلاحية والاستقلالية للشعوب والاتنيات الاخرى في السلطنة، في السعي الى التجديد. ولكن هدف كل من الطرفين كان يختلف جذريا عن هدف الآخر. فالحركات الاصلاحية والاساقلالية للشعوب والاتنيات غير التركية كانت تطمح الى تحقيق الحرية السياسية والاجتماعية والثقافية والى الاستقلال الذاتي ضمن الامبراطورية العثمانية او الى الاستقلال القومي الناجز. اما جماعة "تركيا الفتاة" التي كانت تمثل البرجوازية القومية التركية الصاعدة، فلم تكن تفكر للحظة في تحرير الشعوب والاتنيات الغيرية والتخلي عن التسلط التركي. بل كانت تضع نصب عينيها تتريك تلك الشعوب والاتنيات بأية وسيلة كانت، واذا تعذر ذلك فتطبيق "الحل النهائي" عليها، أي تصفيتها كجماعات بشرية ونهب ثرواتها وممتلكاتها والاحتفاظ بالأرض المحروقة والمتروكة وتتريكها. وأخذت البرجوازية القومية التركية تتربص الفرص المؤاتية لتطبيق خططها العنصرية. وكانت "تركيا الفتاة"، كما جميع الحركات الممثلة للشعوب والاقليات الاخرى، على علاقات متزايدة بالدول الاوروبية الرئيسية، حيث كان كل طرف يسعى لكسب التأييد لقضيته. وبطبيعة الحال ان الدول الاوروبية كان لها حساباتها الخاصة، التي كشفت عن وجهها الاستعماري البشع بالتدريج. وفي حين كانت الحركات الاصلاحية والتحررية غير التركية، ولا سيما المسيحية منها، تتلقى بعض الكلام المعسول و"تنام على حرير" دعم اوروبا "المتحضرة" و"المسيحية" لمطامحها الانسانية المشروعة، كانت الدوائر الاستعمارية الغربية، ولا سيما الصهيونية، تنسج اوثق العلاقات مع البرجوازية القومية التركية الصاعدة، وتخطط معها "لما بعد" قلب "السلطنة" واقامة "الجمهورية التركية" على الطراز الغربي، كي تكون قاعدة نفوذ غربية رئيسية بوجه احتمالات اي نهضة عربية ـ اسلامية جديدة، من جهة، وبوجه "خطر توسع" النفوذ الروسي، من جهة ثانية. وضمن هذا السياق تم زج السلطنة المحتضرة في حرب البلقان سنة 1912، ضد اليونان وبلغاريا وصربيا وتشيرنا غورا (الجبل الاسود). وتفيد معلومات واردة على موقع "الحقيقة الارمنية" (Armenian reality.org) ان مجازر الابادة الجماعية التي نفذت ضد الشعب الارمني بدءا من سنة 1915، انما تقررت في الاجتماعات التي عقدها قادة جمعية "الاتحاد والترقي" (انور باشا، طلعت باشا، جمال باشا السفاح، الدكتور ناظم، بهاء الدين شاكر، سعيد حليم باشا وآخرون) في مدينة سالونيك اليونانية (التي كانت حتذاك ضمن اراضي السلطنة التركية) وذلك في سنة 1910 و 1911. واذا تذكرنا ان مدينة سالونيك بالذات كانت مركزا رئيسيا للتنظيم والنشاط الصهيوني، والماسوني، في السلطنة التركية، وان قادة "الاتحاد والترقي" كانوا من الشخصيات الماسونية البارزة، وعلى علاقة وثيقة بالاوساط الصهيونية التي كانت توجه وتمول "الاتحاد والترقي"، لامكننا ان نستنتج بسهولة ان قرار ابادة الارمن، وغيرهم من الشعوب المسيحية الشرقية، هو قرار استعماري غربي ـ صهيوني ـ ماسوني، بامتياز، نفذته البرجوازية الشوفينية التركية المتمثلة بـ"الاتحاد والترقي" و"تركيا الفتاة" و"الثورة الاتاتوركية" الخ. ويقول الباحث الاشوري السوري سليمان يوسف يوسف ("الحوار المتمدن" 23/4/2005) ان مجزرة 1915 التي اودت بحياة 1،5 مليون انسان ارمني، قد شملت ايضا المسيحيين الاشوريين (سريان/كلدان)، واودت ايضا بحياة 500 الف منهم. وفي مقالة بقلم يوسف معوض (محام واستاذ جامعي لبناني) منشورة في "النهار" في 6/5/2004، يقول: " ان دراسة صدرت في التسعينات للمؤرخة ليندا شاتكوفسكي شيلشر أفادت بأن جبل لبنان (المسيحي اساسا) فقد من جراء المجاعة حوالى 200 ألف من ابنائه من اصل خمسمئة ألف من ضحايا الجوع في كل انحاء سوريا الطبيعية. ووصلت المؤرخة المذكورة الى هذه النتيجة بعد مراجعة الارشيف الالماني والنمسوي، فالمصادر العثمانية غير متوافرة كما ان المراجع الفرنسية والانكليزية نادرة في هذا الخصوص". ويحكى عن جمال باشا، انه حينما روجع من قبل بعض الوجهاء اللبنانيين، بخصوص المجاعة، اجابهم: "وهل اكلت الام ابنها الميت؟ اذا لم يحدث شيء بعد!". ويستدل من ذلك انه كانت هناك ايضا خطة لابادة المسيحيين اللبنانيين بالكامل. ولم ينقذهم سوى انتهاء حرب سفربرلك وسقوط الحكم العثماني. وجمال باشا السفاح كان متهما بأنه على علاقة وثيقة بـ"الحلفاء"، وضد المحور الالماني، وكان يخطط ليصبح هو رئيس الجمهورية التركية القادمة، قبل ان يبرز الجزار الاخر كمال اتاتورك. وهنا يبرز سؤال تاريخي كبير وهو: لماذا أيدت الدول الاستعمارية الغربية، والماسونية والصهيونية بالاخص، القضاء بشكل خاص على الشعوب المسيحية الشرقية ولصالح الشوفينية التركية؟ ان هذا السؤال لم يحظ حتى الان بالاهتمام الكافي من قبل المؤرخين والمثقفين والحركات السياسية، ولا سيما التقدمية، العربية خاصة والشرقية عامة. وليس هدف هذه المقالة الاجابة عن هذا السؤال. ولكن يتوجب علينا ايراد ملاحظتين: الاولى ـ ان وجود الشعوب المسيحية الشرقية، بما تمتلك من مستوى حضاري ومن تواصل عالمي، يمثل عقبة كأداء امام الاستعمار الغربي للشرق، حيث ان الدوائر الاستعمارية الغربية لا تستطيع ان تبرر بسهولة سياستها امام "شعوبها" المسيحية. وينطبق ذلك بالاخص على الصهيونية. والثانية ـ ان وجود المسيحيين الشرقيين، بوجه محاولات الاستعمار والصهيونية للهيمنة على الشرق، يؤكد الطابع القومي، السياسي والاجتماعي، للصراع، وليس الطابع الديني الاسلامي ـ المسيحي. ولهذا فإن الدوائر الاستعمارية والصهيونية كانت منذ البدء تريد المسيحيين الشرقيين ان يكونوا فقط ضحايا مسحوقين ومهزومين ومذعورين لا هم لهم سوى نشدان السلامة الجسدية من "المسلمين" والاستنجاد بالدول الاستعمارية (وباسرائيل لاحقا) لهذه الغاية. وقد استغلت جماعة "تركيا الفتاة" ظروف الحرب العالمية الاولى، واعتبرتها فرصة مؤاتية للكشف عن وجهها الحقيقي، وتوجيه ضربة قاصمة للحركات الاصلاحية والاستقلالية غير التركية، بشكل عام، ولتطبيق "الحل النهائي" ضد الشعب الارمني بشكل خاص. وجماعة "تركيا الفتاة" كانت على علاقة جيدة بكل دول اوروبا الغربية. ومع ذلك فقد اخذت في الحرب جانب المحور الالماني. ويجد ذلك تفسيره في "التقاليد التاريخية" للشوفينية التركية، العثمانية وما قبلها وما بعدها، في الوقوف مع عدو عدوها التقليدي: روسيا. وبعكس ذلك تماما، فقد وقفت الحركات الاصلاحية والتحررية غير التركية في السلطنة، الى جانب المعسكر الآخر، كنتيجة منطقية لمعاداة التسلط التركي، والرغبة في استغلال ظروف الحرب للتخلص نهائيا من هذا التسلط. وكانت هذه المفارقة اكثر حدة بالنسبة للشعب الارمني بصورة خاصة، كنتيجة منطقية لوجود قطاع ارمني "روسي"، وللجوار المباشر والتعاطف التاريخي بين الشعبين "المسيحيين": الروسي والارمني. وهكذا اصبح من المحتم ان تقع الواقعة بين "حلفاء الامس" ضد السلطان. واتخذت جماعة "تركيا الفتاة" من "خيانة" القوميين العرب والاكراد والارمن ذريعة لتنفيذ مخططاتها العنصرية، في "سبق تاريخي" على العنصرية النازية والصهيونية والاميركية. فعلقت المشانق، وطبقت العقوبات الجماعية والمجاعات، وكانت عملية "تطهير" الارمن، التي تعتبر من اكبر لطخات العار في التاريخ البشري الحديث. وفي المرحلة المضطربة التي رافقت الحرب العالمية الاولى، التي كانت فيها تركيا في عداد المهزومين، خسرت الاخيرة نهائيا "مناطقها" العربية، بفضل الارادة التاريخية للعرب في الاستقلال، التي تجسدت في الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين، كما بنتيجة التواطؤ الاوروبي لتقسيم الشرق وفرض استعمار مباشر على الارض العربية الغنية بمكامن النفط. اما المناطق العثمانية غير التركية الاخرى، الكردية، والارمنية التي سبق وشملتها المجازر، فقد خضعت للمساومات والصفقات الدولية، تبعا للتطورات التي رافقت مرحلة الحرب واعقبتها. وقد شمل التقسيم بشكل مباشر جميع "الممتلكات" السابقة للامبراطورية العثمانية. وشاركت فيه بالدرجة الاولى انجلترا وفرنسا، ومن ثم روسيا القيصرية فيما يخص المناطق المحاذية لها. وهو ما تمخضت عنه "اتفاقية سايكس ـ بيكو"، التي لا تزال "خرائطها" حتى اليوم تحكم "شرعية" حدود ووجود دول المنطقة. ومن ضمن هذه الصفقات على الشعوب واراضيها، برز لدى الدول المنتصرة اتجاه غالب نحو انشاء دولتين جديدتين هما: الاولى ـ دولة ارمنية موحدة، تمتد من الشرق الى الغرب، وتشمل القطاع الارمني "الروسي" وقسما من القطاع الارمني "التركي". والثانية ـ دولة كردية الى الجنوب منها، تشمل كردستان "العثمانية" السابقة، أي باستثناء كردستان "الايرانية". وقد تكرس مشروع هاتين الدولتين في "اتفاقية سيفر" الدولية عام 1920. وكان لهذا التقسيم الاهداف التالية، التي خضعت للتغيير خلال التطورات اللاحقة: 1 ـ معاقبة تركيا لسيرها مع الالمان، وحصرها ضمن حدودها القومية ما امكن، وتحجيم دورها الاقليمي والدولي. 2 ـ استمالة الطبقة الاقطاعية العشائرية الكردية، والانتليجنتسيا الملتفة حولها. 3 ـ استمالة الطبقة البرجوازية الصاعدة والانتليجنتسيا الارمنية. 4 ـ إرضاء روسيا القيصرية، بجعل هاتين الدولتين المفترضتين (الارمنية والكردية)، منطقة نفوذ روسية، مقابل جعل المنطقة العربية، بما فيها الخليج وشرقي السويس، منطقة نفوذ غربية، بريطانية ـ فرنسية ومن ثم اميركية. 5 ـ ان تضطلع الدولتان المفترضتان ( الارمنية والكردية) بدور حاجزمضاعف يفصل، من الشرق الى الغرب، بين ايران وتركيا القومية، ويفصل من الشمال الى الجنوب، بين روسيا والمنطقة العربية، حيث ان اخشى ما كانت ولا تزال تخشاه الدول الغربية هو وصول روسيا الى البحار الدافئة، وخصوصا تلاقي الروس والعرب. ولكن بعد انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا سنة 1917، وظهور توجه استقلالي قوي لدى العرب (تمثل في رفض دخول الجيش الفرنسي الى سوريا، واقامة الحكومة العربية فيها، واضطرار الفرنسيين لفتح سوريا عنوة، والثورة المصرية سنة 1919، وثورة العشرين في العراق، الخ.)، سقطت على الارض امكانية جعل الدولتين المفترضتين (الارمنية والكردية) منطقة نفوذ روسية، وأصبح الهدف هو تحويلهما الى منطقة نفوذ للدول الحليفة ذاتها، تعزل بين روسيا الشيوعية، التي اخذ وجودها يهدد النظام الرأسمالي والاستعماري العالمي، وبين المنطقة العربية المتوثبة وغير المأمونة الجانب، لما لها من عنفوان حضاري تاريخي ومن تقاليد عريقة في مواجهة الفتوحات الاستعمارية منذ ما قبل الصليبيين وحتى ايام احفادهم الجدد (عندما دخل الجنرال اللنبي فلسطين، قال كلمته "الان انتهت الحروب الصليبية". وعندما دخل الجنرال غورو الى دمشق، ذهب الى قبر صلاح الدين الايوبي وقال كلمته "عدنا يا صلاح الدين"). ولكن التطورات العامة التي حكمت مسار القوى السياسية الفاعلة على الساحتين الارمنية والكردية، "خيبت آمال" الدول الاستعمارية في ان تستطيع تلك القوى القيام بدور ركيزة ومنفذ لسياستها في المنطقة. فالاكراد ساروا على المكشوف مع العرب، كما اظهروا تعاطفا مع روسيا "بشيوعيتها". اما الحركات السياسية الارمنية فكانت قد انشقت على نفسها بشكل مأساوي، بين تيار اشتراكي مرتبط بروسيا الشيوعية، كان ضعيفا في البداية، وبين تيار قومي موال للدول الغربية. وقد سيطر التيار الاخير على الحكم في ارمينيا "الروسية" سنة 1917، مستفيدا من سقوط القيصرية وضعف السلطة الروسية الجديدة. واعلن هذا التيار قيام دولة ارمنية تشمل القطاع الارمني "الروسي" وجزءا من القطاع "التركي". الا ان التيار القومي الارمني لم يكن مؤهلا للسير بمشروع الدولة الارمنية حسبما تقتضيه المصالح الغربية التي وضع نفسه في خدمتها، بل كان استيلاؤه على السلطة بمثابة فاجعة على الشعب الارمني لعدة اسباب اهمها: 1 ـ شق صفوف الشعب الارمني وزرع العداء والاقتتال بين ابنائه، في وقت كانت فيه حملات الابادة والتطهير التركية لا تزال قائمة ضده. 2 ـ خسارة تأييد الشعب الروسي، الذي كان قد قلب النظام القيصري لتوه. ومن ثم اضطرار السلطة السوفياتية الناشئة، تحت تأثير ضعفها، وردا على وقوف التيار القومي الارمني بالسلاح جنبا الى جنب حرب التدخل الدولي ضد روسيا، الى مهادنة جماعة "تركيا الفتاة"، على اساس عدم التدخل في "الشؤون الداخلية" لكل من البلدين. وبالتالي قصر اهتمام روسيا، كدولة، على المنطقة الارمنية "الروسية" السابقة. 3 ـ خسارة التيار القومي للسلطة، على يد الشيوعيين الارمن في المنطقة الروسية، وعدم قدرته على مواجهة العنصرية التركية وانتزاع أي جزء من الارض الارمنية منها. حيال هذه التطورات، لم يعد امام الدول الغربية التي تبحث عن مصالحها على حساب جميع الشعوب، الا ان تقدم القضية الارمنية ـ ومثلها القضية الكردية واليونانية ـ "هدية ترضية" و"عربون مصالحة" مع العنصرية التركية المنفلتة، التي سبق لها ان وقفت مع المانيا في الحرب العالمية. ذلك ان الدول الغربية وجدت: اولا ـ ان الدولتين المفترضتين، الكردية والارمنية، لن تستطيعا الاضطلاع بدور الحاجز بين روسيا الشيوعية والمنطقة العربية، بل على العكس ستتحولان الى حليف وجسر تواصل بين هذين المحورين، مما يهدد بخلق جبهة عالمية معادية للهيمنة الغربية، تمتد من موسكو (مكة الشيوعية) الى مكة المكرمة (مكة العرب والمسلمين). وثانيا ـ ان العنصرية التركية، الخارجة من الهزيمة مع المانيا، اثبتت بحساب موازين القوى على الارض، دهاءها السياسي وتفوقها العسكري حيال القوى القومية الكردية والارمنية معا. وبالتالي بقيت هي وحدها على الساحة، المؤهلة لسد "الثغرة" من جديد بين ايران وتركيا، وتشكيل الحاجز المطلوب بين الروس والعرب، على حساب الشعبين الارمني والكردي. وهذا ما جعل الدول الغربية "الدمقراطية"، من لندن الى واشنطن، تدوس بنفسها على مبادىء الرئيس الاميركي ولسون التي اعلنها في نهاية الحرب العالمية، حول حقوق الانسان والامم، وتمنح دعمها الكلي للعنصريين الاتراك، اعدائها في ساحات القتال بالامس، ضاربة عرض الحائط بمصير "حلفائها" الارمن والاكراد. وفي النتيجة فان اتفاقية لوزان عام 1924 طوت صفحة الدولتين الارمنية والكردية حسبما كانت قد نصت عليه اتفاقية سيفر. ومنذ ذلك الحين والشعب الكردي في تركيا هو عرضة لابشع اشكال القمع والدمج القسري. الا ان الشعب الارمني دفع وجوده كله في المنطقة الارمنية "التركية" ثمنا لهذه الصفقة بين الدول الغربية والعنصرية التركية، التي هي من اكبر صفقات العار في التاريخ الانساني الحديث، ولا تضاهيها سوى الصفقة الغربية ـ الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني العربي. وفي هذا المسار المأساوي، قام القوميون الارمن بعمليات انتقامية بطولية كثيرة ضد العنصريين الاتراك. واستطاع شبابهم تصفية "رؤوس الشر" الكبيرة الثلاثة، الباشاوات انور وطلعت وجمال. الا ان هذا لم يستطع ان يغير شيئا رئيسيا في مجرى الامور. ولم يبق للارمن من وطن سوى ارمينيا "الروسية" السابقة التي حافظوا عليها، بالرغم من كل المآخذ على الشيوعيين الروس والارمن، وهي الآن جمهورية مستقلة يعيش فيها حوالي مليونين ونصف المليون نسمة، في حين يعيش ثلاثة ارباع الارمن في الشتات. وقد ادرك القوميون الارمن، بشكل نصفي وبعد فوات الاوان، خطأهم في الاعتماد الساذج على الدول "الدمقراطية" الغربية. إلا أنهم ـ كرد فعل اعمى على هذا الخطأ، وتحت تأثير الحقد على الشيوعيين الارمن الذين انتزعوا منهم السلطة سنة 1920 ـ عمدوا الى "اصلاح" خطأهم التاريخي بخطأ افدح منه بكثير، وهو السير في ركاب ألمانيا النازية والقتال معها في الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك ضد ارمينيا السوفياتية التي جاؤوها مع الغزاة الالمان، وفظّعوا في أبناء قومهم اكثر مما فظع النازيون انفسهم. وهذا ما زاد من مأساة الشعب الارمني، الذي لا يزال الى اليوم يدفع ثمن هذا الخطأ، لأن سير القوميين، الذين كان لهم شعبية واسعة لدى أرمن الشتات، في ركاب النازية، لعب دورا اساسيا في اضعاف التعاطف العالمي مع الارمن، وساعد تركيا المتسترة بـ "الحياد" على طمس جرائمها العنصرية ضدهم. وبعد هزيمة المانيا، عاد القوميون الارمن من جديد الى احضان الدول "الدمقراطية" الغربية، ولكن من موقع تاريخي ضعيف، جعلهم يتغاضون ـ وان على مضض ـ عن التحالف الستراتيجي بين الاستعمار الغربي والعنصرية التركية، ويتحولون هم انفسهم الى اداة في الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، مستبدلين توجيه سلاحهم ضد تركيا، بتوجيهه ضد ارمينيا (السوفياتية حينذاك)، انطلاقا من عدائهم التاريخي للشيوعية، ومؤملين بذلك ان ينالوا بعض حظوة لدى الغرب، كمقدمة للحصول على بعض التنازلات ولو المعنوية وحسب، من قبل تركيا. الا ان جردة الحساب العامة تبين: ـ ان القوميين اليمينيين الارمن راهنوا بكل شيء مسايرة للغرب، دون ان يربحوا منه شيئا للقضية الارمنية. ويبدو هذا حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وزوال "الحكم الروسي" من ارمينيا السوفياتية، وبالرغم من كل "الخدمات" التي قدمها القوميون الارمن على هذا الصعيد. ـ ان الوطنيين الارمن التقدميين، وخصوصا الشيوعيين، قد استغرقوا بشكل شبه تام في الصراع مع القوميين اليمينيين الارمن، ودفاعا عن السلطة السوفياتية، والى درجة المهادنة مع تركيا الاتاتوركية و"عدم استفزازها" بتحريك القضية الارمنية. وبذلك فإن القوميين اليمينيين والوطنيين التقدميين واليساريين الارمن جميعا، التقوا موضوعيا من خلال نزاعاتهم السياسية ـ الحزبية والايديولوجية عند نقطة رئيسية هي: المهادنة الفعلية مع مغتصبي ارمينيا، وجزاري الشعب الارمني، وهي المهادنة المستمرة منذ عشرات السنين. وربما لا نجانب الواقع اذا قلنا ان الجميع هم الآن امام ازمة ضمير تاريخية. الا انها أزمة لا يحلها البكاء واقامة التذكارات عن ارواح الموتى، بل الكفاح المرير من اجل استعادة الارض والحقوق القومية المغتصبة للشعب الارمني. فهل آن الاوان لازالة العوائق الايديولوجية والسياسية ـ الحزبية امام القضية القومية ـ الانسانية الارمنية؟! وهل آن الاوان لكسر مؤامرة الصمت العالمية، الاميركية ـ الاوروبية ـ الصهيوينة، عن القضية العادلة لهذا الشعب الحضاري العريق، الابي والشهيد ميتا وحيا؟!
#جورج_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سوريا الى أين؟
-
سنتان على الحرب الاميركية ضد العراق2
-
سنتان على الحرب الاميركية ضد العراق
-
وماذا بعد الانسحاب السوري من لبنان؟
-
جنبلاط، القضية الوطنية والمسيحيون الدجالون
-
المفارقات التاريخية الكبرى في الازمنة الحديثة وتحولات المشهد
...
-
المسيحية العربية والاسلام في المشهد الكوني
-
من هم مفجرو الكنائس المسيحية في العراق؟! وماذا هم يريدون!؟
-
الامبريالية الاميركانو ـ صهيونية و-شبح الارهاب-: من سوف يدفن
...
-
العراق على طريق -اللبننة- الاميركية!
-
أضواء على انشقاقات الستينات في الحزب الشيوعي اللبناني: الاضا
...
-
مؤامرة اغتيال فرج الله الحلو
المزيد.....
-
كاميرا CNN ترصد آثار القصف الإسرائيلي على مدينة صور اللبناني
...
-
لندن تندد باستهداف إسرائيل قوات حفظ السلام في لبنان
-
-حزب الله- ينفي صحة تقرير -رويترز- عن -قيادة جديدة- للحزب
-
إسبانيا تدعو لحظر تصدير الأسلحة إلى إسرائيل
-
صورة جماعية لزعماء الدول المشاركة في منتدى -العلاقة بين الأز
...
-
سانشيز يدعو المجتمع الدولي لوقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل بش
...
-
الجيش الروسي يحرر 4 بلدات جديدة في دونيتسك ويقضي على 14330 ع
...
-
قناة إسرائيلية: لم يتخذ القرار بعد بالرد على الهجوم الإيراني
...
-
العثور على بقايا قد تكون لمتسلق جبال شهير فُقد في إيفرست قبل
...
-
مقطع صوتي -مرعب- لانعكاس المجال المغناطيسي للأرض!
المزيد.....
-
الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية
/ نجم الدين فارس
-
ايزيدية شنكال-سنجار
/ ممتاز حسين سليمان خلو
-
في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية
/ عبد الحسين شعبان
-
موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية
/ سعيد العليمى
-
كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق
/ كاظم حبيب
-
التطبيع يسري في دمك
/ د. عادل سمارة
-
كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان
/ تاج السر عثمان
-
تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و
...
/ المنصور جعفر
-
محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي
...
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|