أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - مهند البراك - هناك . . عند الحدود (11)















المزيد.....


هناك . . عند الحدود (11)


مهند البراك

الحوار المتمدن-العدد: 4459 - 2014 / 5 / 21 - 12:34
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


الفصل السادس
سردشت *
استقلّوا باصاً خشبياً صغيراً كان يقف امام مقر البيشمركة في بيوران . . وبعد انتظار قصير ليمتلئ بالمسافرين، سار الباص على الطريق المعبّد الصاعد نحو جبال سردشت الشاهقة، و قد كان ذلك الطريق كثير الألتواءات ، و قد اشرف في سيره على مجاميع من بيوت صغيرة بيضاء اللون، ظهرت بمظهر انيق و هي بين انواع من الورود الملونة الكبيرة رغم ان الفصل كان بداية شتاء . قال مام توفيق عنها، انها محطة استراحة كانت عائدة للشاه قبل سقوط حكمه، و يسكنها الآن فلاحوها و حرّاسها من ريفيي المنطقة . .
و في تلك المناطق العالية ظهرت للعيان بناية سوداء على قمة تلة اكثر علواً بشكل حاد، كانت تنبعث منها اضواء تضئ من ابراج مثبّت عليها اضوية حمراء تحيط بما يشبه الرادار . . هي محطة اذاعة و تلفزيون سردشت التي تبث بالفارسي و بالكوردي، و في خضم شروحات مام توفيق لصاحب عمّا موجود، اضاف ان في سردشت فروع لمصارف دولية هامة، ثم قال بصوت خفيض، بأن سردشت تقع على طريق دولي نافذ للسوق السوداء .
وفكّر صاحب في سرّه، كيف ان العراق الشهير بنفطه و ثرواته، يمتلك اذاعة واحدة، هي اذاعة بغداد فقط، اضافة الى اذاعة تجريبية لا اكثر في مدينة كركوك مدينة النفط العالمية، التي تبث اضافة الى البرامج العربية، اغاني بالكوردية و السريانية. و يوجد في اذاعة بغداد برنامج محدد الزمن يذيع بالكوردية .. ؟؟؟
وصل الباص الى رأس جسر، بدا و كأنه جسر عسكري في منطقة شاهقة، كان مقاماً على نهر يسيل عميقاً و سريع الجريان كما بدا من صوت هدير مياهه الصاخب، حيث توقف الباص الخشبي عند نقطة سيطرة للجيش عند مدخل الجسر. اشار حراّس النقطة الى وجود قتال دموي بين اطراف البيشمركة، و انهم يستخدمون فيه كل الأسلحة بما فيها المدفعية !! و قالوا " تذهبون على مسؤوليتكم، لا احد يستطيع ضمان حياتكم ".
نزل من الباص اثناء توقّفه اكثر من نصف ركابه و كانوا من قرويي تلك المناطق كما بدى عليهم، و بقى فيه د. صاحب و مرافقوه و شيخ كبير السن و أمرأة شابة و طفلها الرضيع ، اضافة الى السائق و مساعده الشاب . . و كانوا ممن يريدون المواصلة و كلّ يبغي هدفاً لابد ان يصله باسرع وقت وفق اعتبارات كل منهم . .
قرر الأربعة المواصلة رغم عدم حملهم اي سلاح ـ تقيّداً بما نصّ عليه عدم التعرض الذي يحملوه ـ، قرروا المواصلة لأن لامكان لديهم يمكن ان يلجأوا اليه ابداً . فان نزلوا من الباص، الى اين سيذهبون ؟ . . لذلك قرروا مواصلة الذهاب و ليكن ما يكون !! اما بقية الركاب فقد استمروا بجلوسهم بهدوء و كأن الحياة هناك تسير على تلك الصورة . و فيما واصل الباص سيره، كان الراكبون و السائق يرددون :
ـ الحمد لله . . الحمد لله . . لك الشكر و الحمد !!
و بعد حوالي ربع ساعة من سير الباص، و بينما وصل الى مدخل المدينة الإداري الخارجي . . سقطت امامه قذيفة مدفع !! فتوقّف و نزل منه الركاب مسرعين، فيما خرج من الأحراش المحيطة في الوقت نفسه مسلحون مدنيون، كان احدهم يحمل مسدساً، و حمل آخرون اسلحة متنوعة ؛ رمانة يدوية ، قذيفة ار بي جي ، بندقية صيد ، قامة (..) ، خنجر ...
قال احدهم و كان شاباً متين الجسم ذا شاربين كثيّن :
ـ اخواني . . اعزائي . الحالة خطيرة في المدينة ، ولاضمان لحياتكم !!
و تفاجأ صاحب بأن ذلك الشاب اقترب منه، و صافحه و عانقه بحرارة !! ، ثم انتبه انه ناصر، الذي التقى به مؤخرا في الطبابة في توزله و تحادثا بالأنكليزية، و هو ابن عائلة كوردية من مهاباد عانت الكثير من هجمات و ملاحقات الأجهزة الأمنية الشاهنشاهية ، و اضطرت الى التنقل بسبب مواقفها السياسية بين مهاباد و طهران و بغداد . . فتحادثا بالأنكليزية و كان الآخرون يسمعون و يتابعون بانتباه . . وقال ناصر :
ـ الحالة فعلاً خطيرة و الرأي رأيكم ان تذهبون الى سردشت ام لا . .
و بينما انشغل الجميع بالحديث مع ناصر . . انتبهوا الى هوشنك الذي كان يعانق عناقا حارا احدى الشابات ممن كنّ مع المجموعة، و كانا يتحدثان بالفارسية مع بعض بحرارة قل نظيرها . . و تبيّن ان هوشنك قد التقى بشقيقته " تارا "، و لكون عائلتهما من اهالي منطقة هورمان الكوردية التي يجيد كثير من اهاليها اللغة الفارسية، تحدثا مع بعض بالفارسية.
و بحكم الكثير من علاقات القربى و الصلات العشائرية، التجارية و الثقافية، مع اقاربهم الساكنين في اطراف هورمان الأخرى الواقعة في ايران، اضافة الى ان قسماً منهم يحملون بطاقات شخصية عراقية او ايرانية او كلتاهما، صار قسم من اهلها يتعاملون بالفارسية بشكل افضل.
كانت شقيقته تارا التي التقاها تدرس في جامعة طهران و تعيش في بيت خالتها الساكنة في العاصمة الإيرانية، و عندما علم هوشنك بوجودها في مهاباد، قدّم اجازة للذهاب الى مهاباد ليلتقيها . . و هاهو يلتقيها في طريق سردشت و هي ساعية للبحث عنه في تلك الأوضاع العجيبة المتداخلة الكثيرة التعقيد . . كان فيها كل شئ ممكناً .

بعد انتظار بحدود نصف ساعة، كان كل شئ هادئ، صاح سائق الباص بأنه سيواصل السفر الى كراج سردشت . . تفاهم هوشنك مع دكتور فارس على انه سيبقى مع شقيقته و اتفقا على كيفية لقائهما بعدئذ، و اتفق الثلاثة على مواصلة السفر الى المدينة " والاّ لا ادوية و لا هم يحزنون " كما عبّر صاحب . فصعدوا اليه ثانية و كان النقاش في الباص يدور حامياً، حيث كان يدور حول هل ان القذيفة كانت تستهدف الباص فعلاً ام انها سقطت امامه بالصدفة ؟؟ . . و سار الباص و توقّف عند بداية اول زقاق في المدينة، فيما كانت لعلعة الرصاص مستمرة وفي اتجاهات لايمكن تحديدها سواء كانت مصادر نيران ام اهداف لها .
نزل الثلاثة من الباص الذي توقف و اغلق سائقه بابيه و قفلهما و اختفى في الطرقات الضيّقة المحيطة . . و ساروا واحدا خلف الآخر جنب الحائط الذي يحد الشارع . . شاهد صاحب فجأة " دبابة " في باحة امامية لمنزل !! كانت ملامحها واضحه للرائي من خلال سياج الباحة المشبّك ، و شاهد رجلين احدهما بملابس مدنية و الثاني بملابس النوم ، كانا يعملان على تفكيك شئ ما منها، وسط لعلعة الرصاص المستمرة . .
قال مام توفيق :
ـ هذه هي غنيمتهم من الثورة !! حيث سيستفيدون من صامولاتها و براغيها و يبيعوها من خلال انواع الجماعات التي تعمل على التهريب و هي كثيرة في المنطقة و هذه فرصها كما يرى كثيرون ، ليعيشوا بمردودها لأكثر من عام . .. .
و فيما كانوا يتناقشون . . صادفوا اطفالاً ينادون لبيع بضائعهم الصغيرة التي يحملوها بأيديهم : " تشترون قنابل يدوية ؟؟ " ، و كان صبيان آخرون ينادون و يسألون عمّن يريد شراء مدافع او هاونات ليتبعهم . . و بقي صاحب ذاهلاً مما كان يجري، و هم بدون سلاح و هو لايحمل سوى عشرة دنانير، كانت مخصصاته لذلك الشهر . .
دخلوا المقهى الوحيد الذي كان مفتوحاً، وكان المكان عابقاً برائحة الشاي و الورد . . الاّ انهم لم يجدوا احداً فيه . كانت اقداح الشاي التي احتوت بقايا شاي او كانت فارغة . . موضوعة بشكل مهمل على الموائد، واخرى قد تساقطت على الأرض. و شاهدوا عددا من البيض المسلوق المقشّر و المقطّع مخلوطاً مع دهن جامد، متروكاً . . لا احد هناك و لا حتى صاحب المقهى الذي يبدو انه قد ترك المكان اثر غارة من الغارات . .
جاءت زخة رصاص صوبهم و هم في المقهى، و اجبرتهم على الإنبطاح ارضاً ، ولما لم تتكرر فسروها بانها كانت ضمن الرمي العشوائي الذي طال كل مكان و كان يستهدف كلّ زاوية من المدينة، متسبباً بخسائر بالأرواح و المعدات لايمكن حصرها . .
و فجأة ارتفع صوت من اكثر من مكبّر للصوت صائحاً :
ـ سلام . . هدنة !! هدنة !!
و اخذت اصوات الرصاص بالتناقص تدريجياً حتى بدا و كأنها انتهت . . فيما تحركت سيارات تجوب الطرقات و هي تحمل مسلحين بوجوه شرسة متحفزة و كأن اصابعهم كانت على زناد اسلحتهم و هم يصيحون باصوات جافة :
ـ هدنة !! هدنة !!
استعدل الثلاثة بجلوسهم في المقهى، الذي تبيّن انه كان مدخل و باحة لأوتيل ، وظهر عديدون من الداخل لايعرف من اين هم بالضبط و من اين جاءوا ، بعضهم ريفيون مسلحون، آخرون بان عليهم انهم من المدينة و كان آخرون ببدلات انيقة، بدا على قسم منهم الخوف و الرعب و بعضهم كان يحمل صرراً معقودة باحكام . و انتبه صاحب الى ان عدداً منهم كان يتحدث بالأنكليزية و التركية و العربية، بأصوات خافتة، و انصت جيداً لهم و تبيّن له انهم يتحدثون عن شراء او بيع اسلحة و لوازم و معدات عسكرية . . و ما اثار عجبه فعلاً، هو منظر رجال انيقين بانت عليهم الثقافة و المدنية في انتظارهم لفلاحين قذري الملابس كانوا سيحملوا اليهم شيئاً بعد ان اتفقوا على السعر كما بدا . .
طلب صاحب من رفيقيه ضرورة البحث عن صيدلية لشراء عدد من الأدوية الضرورية التي يحتاجها في طبابة البيشمركةالأنصار لعدد من الانصار المرضى و خاصة الذين كان قد وعدهم بها، و بعد سؤال و جواب ، قال دكتور فارس " ان هناك صيدلية كبيرة تعود الى " ماموستا ميرزا "، و هو (طبيب جراح و صيدلي) و سيّد من سلالة آل البيت ؟؟! كان رئيس المجلس البلدي لمدينة سردشت قبل سقوط الشاه " على حد وصف و تعبير دكتور فارس، الذي اكّد على ضرورة ذهابه هو مع د. صاحب الى الصيدلية لمساعدته باللغة و للترجمة له، و لعدم معرفة صاحب بالمدينة و مكامنها الخطرة في تلك الظروف، لأنه يأتي للمرة الاولى اليها . ثم سأل صاحب :
ـ دكتور، كم معك من النقود ؟؟
ـ عشرة دنانير !
تفاجأ مام توفيق بحكم خبرته الإدارية بالمشتريات و قال :
ـ هل تعتقد يعني انها ستكفي ؟ الأدوية غالية جداً هنا ، وهي بقيمة الذهب في المنطقة، و خاصة في هذه الظروف بالذات !!
ـ سأذهب الى الصيدلي و اشرح له الحالة، وانا على ثقة انه سيساعدني لكوني طبيب، وهذا العرف موجود في كل العالم، ولمسته هنا بوضوح منذ مجيئي للمنطقة .
ذهب صاحب مع دكتور فارس الى الصيدلية، فيما ذهب مام توفيق الى جهة اخرى لأنجاز مهمة ما، و اكد على انه سينتظرهما في نفس مكان افتراقهم ذلك، كما اكّد عدة مرات على ضرورة عدم التأخير و الاّ سيفقدون اثر بعضهم البعض !!
في طريقهما الى الصيدلية، لاحظ صاحب ان الناس يلبسون ازياء متنوعة، من الملابس الكوردية الفولكلورية الزاهية كما في العراق و لكن بجمداني من اقمشة غالية الثمن زاهية الألوان، آخرون يلبسون البدلة الكوردية و لكن بدون جمداني و بشعر مسرّح، فيما لبس قسم آخر بدلات رجالية سموكن عادية . . وكان يرى النساء كعادة النساء الكورديات في العراق، نشيطات الحركة اضافة الى ان ملابسهن كانت اكثر اناقة و اكثر الواناً . .
كانت حيطان البيوت المطلة على الشارع ملطّش عليها كثير من الألوان بسبب الشعارات التي كتبت عليها و مسحت بتلطيش الصبغ عليها باصباغ من الوان اخرى، سواء تلطيش كل منها او اجزاء منها . . فكان يرى نجمة حمراء خماسية الرؤوس ، مطرقة و منجل و بينهما كلاشنكوف، كلاشنكوف خطّ تحته شعار " تحيا ايران " ـ درودبه ر ئيران ـ . . شعارات : الموت او الحرية ، يسقط الشاه ، درودبه ر خميني ( يعيش الخميني ) . . شعارات : منظمة طوفان ، فدائيي خلق ايران ، مجاهدي خلق ايران، مجاهدي دهقاني . .
فيما واصلت المحلات عملها و عودتها الى حالتها الطبيعية، وكأن قتال لم يحصل للتو، و ان الأمر كان مجرد امراً عادياً و يومياً . . و كان عدد القتلى من الأطراف المتصارعة يتجاوز العشرين و العشرات من الجرحى كما تداول الماروّن . . فيما كان البقالون ينادون على بضائعهم الطازجة، مخفضين الأسعار لاتمام ما امكن من بيعها . .
و كان صاحب يتساءل مع نفسه عن ماهية تلك الحياة . . و كيف تعوّد الناس عليها، رصاص و قنابل و انفجارات، لتسكت بعدئذ و كأن شيئاً لم يكن و لتقول الناس : حصل خير . . عدد من القتلى و عدد اكبر من الجرحى ، دفع الله ماكان اعظم . . فيما عادت الأغاني الجميلة لـ محمدي مام لي و محمد عارف جزراوي تصدح في المدينة عبر العشرات من اجهزة التسجيل بمكرفوناتها و الموضوعة على اعلى درجات اصواتها . .
و تردد بين الناس ، ان الهدنة بين المتقاتلين ستستمر ساعتين لاأكثر، وهو زمن كافي تماماً كما يقولون لشراء المؤن و للم الشمل و عودة الضيوف و الأهل الذين انقطعوا عن بعض بفعل الأقتتال، و كافي لتدبير صيانة المساكن من الخراب و الدمار و الشتاء على الأبواب . .
سارا نحو الصيدلية . . واقترب منهما رجل طويل القامة بلحية صغيرة بيضاء، هادئ الملامح ثابتها ، بدا في اواخر العقد السابع من العمر، و سأل بلهفة و هدوء :
ـ هل انت د. صاحب ؟
ـ نعم !! . . اجاب صاحب لا ارادياً .
ـ دكتور !! زوجتي تموت و لايستطيع احد انقاذها . . ستموت !!
وفيما كان الرجل يتكلّم بلغة عربية سليمة و ببطء يزيد من وضوحها، اخذ يبكي بهدوء و كانت دموعه تنهمر بغزارة مؤثرة، و اضاف :
ـ دكتور اتوسّل اليك ، تعال معي الى بيتي !
ـ . . . .
تردد صاحب في اجابته، لمعرفته بمكر القرويين و اهالي المدن الصغيرة، من خلال احداث متنوعة حصلت و راح ضحيّتها عدد من خيرة الشباب في تلك الظروف الكثيرة الخطورة ، وتذكّر نصائح ابو جوزيف له بضرورة اليقظة و الحذر من الذين يتظاهرون بحاجتهم الى طبيب، في مدينة اوضاعها غير أمينة.
الاّ انه شاهد ان كل مظهر الرجل يدلّ على ان هناك فاجعة حقيقية يعيشها . . و لكن . . كيف عرف اسمه ؟ هل يجوز انه عرف ذلك من القرويين الذين كانوا يجلبون مرضاهم اليه في طبابة نوزنك ـ توزله، من مدينة سردشت ذاتها قاطعين كلّ تلك المسافات، كما قيل حينه ؟ و اخيراً من هو هذا الشخص الذي قطع عليهم طريقهم للذهاب الى شراء الأدوية ؟؟
و كما لو عرف الرجل بما كان يجول في خاطر صاحب، حيث قال بدون مقدمات و بصوت متهدج :
ـ انا حاج وحيدي . . و معروف في المدينة كلها بأمانتي ! دكتور زوجتي امانة في عنقك !! صدقة لله !
قال دكتور فارس بلهجة قاطعة و هو يجيب صاحب على تردده، بسبب واجبه بشراء الأدوية و موعدهم مع مام توفيق . . حيث اكّد بأن عليهم الذهاب مع الرجل، و اضاف :
ـ ثق ان كل شئ سيسير بشكل طبيعي . . المهم مساعدة الناس . و من يساعد الناس ، يساعدوه بدورهم . . ثق !!
سار الأثنان مع الحاج وحيدي الذي انشرح غاية الأنشراح، و استمر بتكرار شكره لهما ثم انطلق بالحديث بلغته العربية السليمة، فتحدّث كيف انه كان يعمل في الكاظمية في بغداد، حيث كان يعمل بالتجارة و على علاقة قوية باصحاب افران الخبز و الصمون، و تحدّث عن جمال بغداد و طيبة اهلها. كان يتحدث بانطلاق و حيوية لايسمحان بالمناقشة او الأستفسار . . و تحدّث عن ذهابه للحج بلا و ثائق و لاجواز سفر، عن طريق خط ثابت بعيد عن السيطرات الحكومية . . من سردشت و يستمر على طول الحدود العراقية الإيرانية جنوباً و حتى الكويت ثم الأراضي السعودية و حتى مكة المكرّمة ، وكيف انه عاد عبر نفس الطريق !
و تحدّث الحاج وحيدي كيف ان ذلك الطريق طريق تأريخي قديم، تعيش على مردوداته الوف العوائل من العشائر التي يمر بها ذلك الطريق، سواء كانوا كورداً ام عرباً ، فرساً ام كورداً فيليين. و قال ان ذلك الطريق استمر ثابتاً طيلة قرون رغم تغيّر الدول و الأنظمة، و كيف ان الحج ثبّت الطريق و صانه، لأنه يدرّ ربحاً وفيراً سواء من الحج او من التجارة في زيارات تجري للحج او للعمرة او للتجارة، سواء كغاية وحيدة منها ام لتحقيق كل الغايات معاً .
و دخل في موضوعه الملحّ . . زوجته ! فقال انها تعاني من ضيق التنفس منذ اعوام، و لم تعد تنفعها الأدوية حتى فقدت ثقتها بها، و لم تعد تتناول شيئاً منها منذ شهور، و اضاف بأنه منذ اسبوع فقط بدأ ضيق التنفس يشتد عندها و اخذ يتفاقم يوماً بعد آخر، الى ان وصل الى الحالة التي هي عليها الآن، حيث لاتستطيع الأستلقاء لأنه يضاعف ضيق التنفس عندها .
و فيما كان الثلاثة يمشون في شوارع سردشت متجهين الى بيت الحاج، و الناس ينجزون اعمالهم و اشغالهم و يتحركون مسرعين، و مسلحون متنوعون يطوفون الشوارع بترقب و حذر . . جاءت سيارة مسرعة و توقفت فجأة عند باب احد المنازل، الأمر الذي جعل الحاج وحيدي ينتبه بكل حواسه و يقلق و يميط لفافة رأسه على فمه، وقال ، ان هذه السيارة تعود لأحد افراد المخابرات العراقية !! الأمر الذي جعل دكتور فارس و صاحب ينظران بقلق الى الحاج والى السيارة منتظرين منه توضيحاً . .
قال الحاج وحيدي :
ـ ان رجال المخابرات العراقية لايزالون يتحركون بكل اطمئنان في سردشت رغم سقوط الشاه، لعدم استقرار النظام الجديد في المدينة بعد !
و لم يعُدْ الحاج الى هدوئه الاّ بعد ان حملت السيارة شخصاً خرج من البيت و تحركت مسرعة كما جاءت . في الوقت الذي استغرق فيه صاحب بالتفكير، و هو يردد لنفسه : بعد كل تلك الجهود ، لنتخلص من رجال المخابرات العراقية، هل هو حال مدن الحدود ايضاً ام ماذا ؟
. . . .
. . . .
و فيما كانوا مستمرين بسيرهم ، شاهدوا مام توفيق الذي جاءهم مسرعاً بعد ان لمحهم و التحق بهم ، الأمر الذي جعل دكتور فارس يستأذن منهم للذهاب لأنجاز ماقدم من اجله الى سردشت . و واصل صاحب و مام توفيق سيرهم مع الحاج وحيدي نحو طرف المدينة ، ماريّن بشوارع تتسع و تضيق، تنكسر و تستقيم بين بيوت قديمة آيله للسقوط و قديمة جميلة فولكلورية شاخصة بشموخ و اخرى حديثة، كبيوت افلام السينما الحديثة . . الى ان عرجوا على طريق جانبي ضيّق يخترق بساتين مسيجة باسيجة عالية، لينفتح على جادّة معمرة الجانبين ببيوت حديثة . .
و وقفوا امام باب خشبي ثقيل مرصّع بمسامير معدنية كبيرة، و فتح الحاج الباب المغلق بمفتاحه . . و دخل صاحب و مام توفيق خلف الحاج الذي كان يحمل كيساً احتوى على سماعة طبية و جهاز لقياس الضغط. و بعد ان اجتازوا الممر الخارجي ثم الباب الداخلي، اطلواّ على غرفة واسعة تزيّنها قطع أثاث ثمين موضوعة على سجاد فارسي زاهي الألوان . . و مروّا بين شابتين و شابين كانوا واقفين احتراماً و استعداداً لخدمة الطبيب و الضيف . .
كانت الزوجة الأم جالسة و متّكئة بظهرها على وسائد تسندها على الحائط من جهة و اخرى في حِجْرِها من الأمام لتسند انتصاب جسمها في جلستها، كي تستطيع التنفس . . كان وجهها قرمزياَ مزرق، كانت تحاول ان تتنفس و كان تنفسها بصوت مسموع شاهقة بقوة و تتالي علّها تستطيع استنشاق الهواء . . و انتشرت حولها اواني ماء فضية و اواني عطور .
بعد ان تسمّع صاحب الى تنفسها بالسماعة الطبية التي امررها تحت ملابسها، وتأكّد لديه بأنها تشكو من ضيق شديد بالتنفس . . " ربو " كان في هجمة شديدة ( ازمة ربوية حادة) مع ازمات اشد كانت تهاجمها بين حين و آخر مهددة ايّاها بالموت في اية لحظة فعلاُ !!
فطلب الطبيب ابعاد كل العطور عنها لأنها تهيج ضيق التنفس، و اشار الى الحاج وحيدي بأن زوجته تحتاج الى امبولات امينوفللين و كورتيزون و اخرى و اخرى، اضافة الى سوائل مغذية بانواع متعددة و " اجهزة اعطاء " لأعطائها ايّاها بالوريد ، واكّد عليه :
ـ بدون ذلك كبداية لايمكن اجراء اي علاج لها !!
اجابه الحاج بأن لامشكلة هناك . . و عليه فقط ان يكتب كل مايحتاجه بالأنكليزية ، و سيأتي به ابن اخيه الذي يعمل مضمداً متمرساً في المستشفى، واشار الى احد الشابين الذي تقدّم من د. صاحب مبدياً له احترامه و استعداده قائلاً له، بأن من الأفضل ان يأتي هو شخصياً معه الى المستشفى لينتقي الأدوية التي يحتاجها. وافق صاحب على الذهاب مع ابن الأخ الذي عرف منه ان اسمه احمد و انه خطيب ابنة الحاج الكبيرة المعلمة سعاد .
و رغم الظروف الأستثنائية التي هددت بتواصل الصدامات المسلحة العشوائية التي كانت تسود مدينة سردشت، ذهب صاحب برفقة احمد بسيارة بيكاب مغلقة " بلوبيرد " كان يقودها. و فيما جلب انتباهه ان احمد يتكلم العربية بطلاقة، تحدث له احمد كيف انه من عائلة "فرحه " الكوردية الكبيرة المتوزعة في سكنها و اعمال افرادها على مدن في دول : العراق، سوريا، ايران و تركيا التي برز منها السياسي الكوردي السوري المعروف خالد بكداش، وكيف انه يعمل بالتجارة مع سوريا و تركيا، اضافة الى مهنته في التضميد.
و لدى وصولهما الى مستشفى سردشت، جاء طبيب باكستاني كما قدّم نفسه لصاحب ، و و الذي استقبل د. صاحب ببشاشة كبيرة و فرح، وساعده مساعدة كبيرة بتوفير ما احتاجه من ادوية و مواد، و هو يشاهد زميلا طبيباً بملابس البيشمركة ، و كانا يتفاهمان بالأنكليزية . . و بذلك حصل صاحب على كل ما احتاجه من الأدوية الضرورية لزوجة الحاج عدا الكورتيزون الذي كان نافذاً تماماً من المستشفى. و قال احمد بأن ذلك ليس مشكلة و أنهم يستطيعون الذهاب الى ماموستا ميرزا الذي يمتلك مذخراً طبياً كبيراً جداً كما وصفه، واضاف بأن مستشفى سردشت ذاتها تشتري الأدوية الأساسية منه !! فوافقه صاحب.
و فيما كانا يتهيئان للذهاب و يحييان الطبيب الباكستاني، قال الطبيب الباكستاني :
ـ شرّفونا غداً مساءاً . . انها مناسبة جميلة ان نقيم حفلة صغيرة بمناسبة ذكرى ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى، و ستكون جلسة جميلة يشارك فيها كورديّان و عربي و فارسيّان و انا الباكستاني . . سنغني كلّ باغانيه و بلغته القومية في هذه المناسبة الأممية ، خاصة و ان لدينا بعض العازفين من منتسبي المستشفى و من المرضى الراقدين و هم مستعدون للمشاركة . .
تفاجأ صاحب بذلك . . و نظر اليه بودّ و قبل الدعوة، مع تأكيده على انشغاله بحالة المريضة المستعصية الآن، و ذهب مع احمد في سيارته الى صيدلية ماموستا ميرزا، الذي رحّب بهم بحرارة و ابدى استعداده للمساعدة بعد سماعه بحاجتهما، فترك الصيدلية لمساعده . . و ذهب معهما الى بيت كبير مرتفع مغلق النوافذ . . وبعد ان فتح الباب بمفتاح كان معه، نزل الجميع بعد مرورهم بالطابق الأرضي . . الى طابق تحت الأرض .
كان منزلاً شرقياً ذا ثلاثة طوابق تحيط كلّها بباحة الدار الوسطية التي اغلقت من فوق بجملون كبير من الألمنيوم الفضي اللون، و ظهرت الطوابق للرائي و هي مقسمة الى رفوف امتلئت بأنواع العلب المغلفة بالكرتون او السلوفان و النايلون . . و انتبه صاحب الى ان المواد التي ملئت الطابق الأرضي، كانت مرتّبة حسب الحاجات الطبية و حسب الحروف الأبجدية الأنكليزية . . و شاهد في الطابق تحت الأرضي المواد الطبية للجراحة و الكسور، من ادوية و ادوات جراحية و اجهزة اعطاء سوائل و دم . . الى انواع اللفافات و الروابط و الجبس و حتى الأطراف الصناعية . .
و بينما فكّر صاحب . . بأنه مذخر هائل يكفي لتجهيز اكثر من مستشفى و اكثر من مدينة صغيرة كمدينة سردشت . فإنه اخذ ما احتاجه من الأدوية الضرورية ، وعاد بالسرعة الممكنة بصحبة احمد الى بيت الحاج بعد ان شكرا ماموستا ميرزا الذي ابدى استعداده لتجهيز الطبيب بكل ما يحتاجه ، على حد قوله . . و عادا الى البيت . .
(يتبع)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سردشت ، هي مركز القضاء الكوردي الإيراني العائد الى محافظة رضائية، المقابل لمركز قضاء قلعة دزة الكوردي العراقي العائد الى محافظة السليمانية، في الزاوية الشمالية الشرقية للحدود .



#مهند_البراك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هناك . . عند الحدود (10)
- هناك . . عند الحدود (9)
- هناك . . عند الحدود (8)
- هناك . . عند الحدود (7)
- اين -الدولة الجديدة- بديل الدكتاتورية ؟
- هناك . . عند الحدود (6)
- للإسراع باعلان نتائج الإنتخابات !
- هناك . . عند الحدود (5)
- هناك . . عند الحدود (4)
- هناك . . عند الحدود (3)
- ما معنى الإنتخابات و الى اين ؟
- هناك . . عند الحدود (2)
- هناك . . عند الحدود (1)
- ثمانون عاما من اجل قضيتنا الوطنية . .
- الشعب بين حقوقه و بين تقاعد الرئاسات
- 8 آذار و مخاطر مصادرة حقوق المرأة . .
- الى من يحاول تجميل جرائم 8 شباط الاسود (2)
- الى من يحاول تجميل جرائم 8 شباط الاسود (1)
- اصلاحات الكنيسة الكاثوليكية و احزابنا الثورية (2)
- اصلاحات الكنيسة الكاثوليكية و احزابنا الثورية (1)


المزيد.....




- تبدو مثل القطن ولكن تقفز عند لمسها.. ما هذه الكائنات التي أد ...
- -مقيد بالسرية-: هذا الحبر لا يُمحى بأكبر انتخابات في العالم ...
- ظل عالقًا لـ4 أيام.. شاهد لحظة إنقاذ حصان حاصرته مياه الفيضا ...
- رئيس الإمارات وعبدالله بن زايد يبحثان مع وزير خارجية تركيا ت ...
- في خطوة متوقعة.. بوتين يعيد تعيين ميشوستين رئيسًا للوزراء في ...
- طلاب روس يطورون سمادا عضويا يقلل من انبعاث الغازات الدفيئة
- مستشار سابق في البنتاغون: -الناتو- أضعف من أي وقت مضى
- أمريكية تقتل زوجها وأختها قبل أن يصفّيها شقيقها في تبادل لإط ...
- ما مصير شراكة السنغال مع فرنسا؟
- لوموند: هل الهجوم على معبر رفح لعبة دبلوماسية ثلاثية؟


المزيد.....

- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر
- محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي ... / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - مهند البراك - هناك . . عند الحدود (11)