أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - مهند البراك - هناك . . عند الحدود (3)















المزيد.....


هناك . . عند الحدود (3)


مهند البراك

الحوار المتمدن-العدد: 4435 - 2014 / 4 / 26 - 18:37
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


بعد منتصف الليل بقليل ايقظهم مام بيرووت، و طلب منهم ان يحضّروا انفسهم و ما يحملون جيداً، وان كلّ واحد منهم هو المسؤول عن سلامة اغراضه . . . فخرج الثلاثة مع مام بيرووت الى خارج المنزل ، و كان المجمّع مظلماً حيث قُطع عنه الكهرباء منذ شهرين . . لم تكن ليلة مقمرة و لكن السماء كانت فاتحة الزرقة ، و كان بأمكان كلّ من يسير على قدميه رؤية المسافة المعقولة كي لا يضيّع اثر السائر امامه . و بعد ان قطعوا عدة طرقات سائرين باتجاه طرف المجمّع البعيد عن الطريق العام، الذي يطلّ على الجهة الجبلية . وقفوا في ظل مظلم لجدار اكثر ارتفاعاً من بقية جدران المساكن الواطئة، ينتظرون قدوم القافلة . . و كانوا منتبهين و على حذر من الدوريات و مفارز القوات الخاصة التي قد تمرّ، كما حذّرهم مام بيرووت اكثر من مرة . .
سمعوا جلبة مكتومة لراكبي حيوانات يتجمعون قرب موقعهم، و بدت الحيوانات محمّلة باحمال يجلس فوقها و بينها راكبيها . . لقد جاءت القافلة بعد منتصف الليل. بدت البغال للناظرين قوية و محمّلة احمالاً ثقيلة، ظهر منها صفائح ملصق عليها ماركات السمن النباتي " الراعي "، اعداد كبيرة من اطارات السيارات، اضافة الى احمال ثقيلة بدت تحت ضوء القمر ثابتة و ناتئة الى الأسفل من بين الحبال البلاستيكية المحكمة الشدّ .
كان على الثلاثة ان يركبوا الحيوانات التي حُمّلت باحمال مناسبة لتحمل راكبين، بل و جعلت الأحمال من ظهور الحيوانات اماكن صالحة للجلوس عليها بثبات، لأن الراكب عليها، و بسبب وعورة الطرق يمكن ان يتعرّض لخطر التزحلق من مكانه و السقوط من على ظهر الحيوان، كما شرح لهم مام بيرووت عن نوعية الطريق .
و عندما بدأوا بامتطاء الحيوانات، خافت فاضلة من ركوب الحيوان المعد لها، و بدا انه كان خوفاً داخلياً عندها، يمكن بسبب تجارب سابقة مرّت بها . و بعد محاولات فاشلة لركوب الحيوان، استطاعت امتطائه اخيراً بعد ان ضغطت على نفسها ضغطاً حقيقياً، ساعدها على الركوب مام بيرووت و عدد من سائسي الحيوانات ـ الكروانجية (1) ـ الذاهبين في القافلة، كلاً يمتطي حيوانه.
كانت فاضلة شابة جميلة رغم مسحة الحزن و الشرود التي بانت عليها آنذاك جراّء التعذيب . . تذكّر صاحب كيف قابلها عدة مرات في سنوات سابقة ، في مقر جريدة " طريق الشعب " ، و كيف كانت ممتلئة بالحيوية و النشاط و رو ح النكتة التي كانت تزيدها جمالاً شرقياً متنوع المعاني، بتفاعله بحياتها النشيطة من اجل مستقبل افضل للجميع . و لاحظ بألم كيف بدا عليها الذبول و كيف خطّت القسوة و الآلام خطوطها على و جهها الذي تحوّل من وجه طفولي مرح يبعث على البهجة و التفاؤل . . الى وجه قاس جامد الملامح، بعد شهور من الرعب و التعذيب شهدت عليه ابنية دائرة الأمن العامة في بغداد . كما بيّن ذلك على ملامح زوجها حسن و ان يشكل اقلّ .
بعد ان ركب الثلاثة الحيوانات التي خصصت لهم، ودّعهم مام بيرووت قائلاً بصوت خافت: " اطمأنوا . . معكم اثنين من البيشمركة السريين لحمايتكم " (2) . . بقي الجميع ينتظرون و هم يمتطون حيواناتهم . . وكان صاحب ينتظر معهم و هو ساكت، بعد ان صار الصمت يلفه اكثر من الكلام، بعد السنوات و شهورها الطويلة الأخيرة، التي وجد نفسه فيها انه يحتاج الآخرين، وانه صار لايلوي على شئ دون مساعدتهم، بعد ان كان هو مقصد المحتاجين سواء كطبيب او كسياسي بين اقرانه. و بقي صاحب يردد مع نفسه :
ـ ماذا ينتظرون ؟
فجأة ظهر رجل راكب على بغل ظاهر القوة محمّلاً و يسير على مهل و ثبات ، بدون ان يُحدث ضجيجاً . . و بظهوره صمت الجميع فيما همس احدهم " انه الأعور " !
و بدون اية مقدمات و لامناقشات ، اخرج الأعور اثنين من القافلة و ضمّ آخر اتى خلفه، وسط صمت الجميع . . و تبيّن انه هو الذي سيكون شيخ المجموعة او مسؤولها. كان الأعور رجلاً في الأربعين من العمر . . قويّ المحيا، يلف برقعاً على احدى عينيه، و كأنها مصابة او شوهاء . . و كان آمراً ناهياً بصياحه و لهجته القاطعة . .
ـ من لا يريد السير في هذا الطريق ، عليه ان يرجع و لا يلتحق بيّ !!
و كرر :
ـ هل سمعتم ؟ يأتي معي من يثق بي و يسمع كلامي فقط . . و البقية يرجعون ! . . اتبعوني !!
و فيما كان حسن يترجم ما يدور لصاحب ، ظهر واضحاً ان عدداً من المهربين مترددون و موقفهم لايمت بصلة لموقف الأعور القاطع الواضح . . كما لاحظ صاحب ان التردد بدأ يظهر على حسن ذاته الذي لا يعرف شيئاً عن طرق المنطقة ؟!
و فجأة . . !!
سطعت اضواء قوية لعدة بروجكتورات من جهة الشارع اضاءت المكان ، فيما اشار الأعور فوراً و بصوت طاغٍ مرتفع :
ـ لاتتحركوا . . ابقوا في اماكنكم !!
تحوّل الضوء عنهم الى جهة اخرى و تبيّن انه ضوء لسيارة جيب عسكرية كانت واقفة باتجاه مكانهم، ثم مرّت باطراف المجمّع قاصدة نقطة سيطرة لاتبعد كثيراً عن مكان تجمعهم ، و توقفت هناك و كانوا يرون الإضاءة الحمراء للأنوار الخلفية للجيب الصغيرة و هي واقفة هناك .
رتّب الأعور تسلسل الحيوانات بركّابها، واشار الى عدم التدخين نهائياً، و الى ان البدء سيكون بشكل حيوان خلف آخر و بهدوء حتى المرتفع القادم و وفق ما يعطيه من تعليمات بعد كل توقّف . . و فيما ابتدأت القافلة بالحركة ، لاحظ صاحب تردد حسن من تمتماته و من بقاء حيوانه ساكناً رغم ان الأعور صاح عليه بان يتحرك . .
و فكّر صاحب سريعاً و قلبه يخفق بشدّة و هو يقترب من حسن بحيوانه " هذه هي لحظة القرار الحاسم . . اللحظة التي ستقرر بقائهم في جحيم الدكتاتورية و تحت نيرانها مختبئين لا يلوون على شئ، وبين الإنطلاق الى فضاء جديد للتصدي لها " . . فعاجل حيوان حسن بركلة من قدمه و هو يقترب منه من الخلف ، كي يدفعه الى السير . . فبدأ بالسير فعلاً .
سارت القافلة . . مكوّنة من عشرة مهربين من اهالي المنطقة، و الثلاثة الغرباء الذاهبين الى مواقع البيشمركةالأنصار بحقائبهم الصغيرة التي حملت الضروريات من الملابس و ماتسنىّ من الأوراق الشخصية، الذين لم يكن احدا منهم يدري ـ او هكذا بدا عليهم ـ ماذا سيكون في استقبالهم، هل هناك حركة انصار فعلية ؟ ام تجمع لإنقاذ الملاحقين ؟ ام ماذا ؟؟ و لكنهم كانوا يشعرون بنسائم من الحريّة تفكّ قيودهم التي كبّلتهم بها الدكتاتورية . . و لو بقيادة الأعور حتى الآن ؟!!

اشتهر الأعور بكونه من اكثر المهربين جرأة و مغامرة في المنطقة . . في بقعة واسعة ـ من بقاع حدودية متنوعة ـ شهدت معارك و حروب منذ عشرات السنين، و شهدت فقراً قاتلاً بسببها . . و اليها لجأ انواع المطاردون سواء من قبل الحكومة التي اصدرت عليهم احكاماً لأسباب متنوعة، او مطاردون من عشائر بعينها بسبب الثأر لقتيل او الثأر لقضايا شرف و نهب نساء .
ولأن التهريب شكّل المصدر الأساسي ليس للثراء فحسب، و انما للعيش في تلك البقاع الجبلية التي عاشت على رعي الغنم و المواشي و انواع الدواب، وعاشت مذلة الحروب و التهجير و الحرق و التدمير بسبب انتمائها القومي . . حتى صار التهريب ليس مغامرة و تحدي فقط، و انما مهنة للعيش و مواجهة و مواصلة الحياة، رغم مخاطرها و مشاركة اطراف عديدة فيها ممن قست قلوبها، و اخرى تبحث عن الربح بأية و سيلة كانت . .
من جهة أخرى فإن الحدود التي رُسمت بين بلدان المنطقة على طاولات المكاتب الأنيقة . . ادّت الى ان تمرّ في واقع الحياة و على الأرض بين العشائر، و ان تقسم عديداً من العشائر على الدول المتجاورة على طرفي حدودها، الاّ انها لم تستطع ابداً عزل اقسام تلك العشائر عن بعضها، و استمرت علاقات و روابط الدم و الزواج و الإرث و الثأر تربطها و تشدّها الى بعض مهما فرّقت حدود الدول بين اجزائها، بل و اخذت تلك الروابط تزداد قوة بسبب الشوق الذي اثاره انقسامها على دول متحاذية، و صارت الروابط تتصاعد بفعل السوق و الأرباح التي تتحقق من تبادل البضائع و البيع و الشراء، و معاملات السوق بين التعامل على طرفيها . .
و لجرأة الأعور و عمله الدؤوب الذي لايعرف الكلل، و رغم انه لم ينتم الى عشيرة من العشائر القوية في منطقة بشدر و انما لعائلة وضيعة لا اصول لها في عُرف العشائر، الاّ انه باستعداده الدائم لخدمة من يحتاجه مقابل عمولة او موقف يسنده . . استطاع ان يقوم بكثير من الخدمات لأكثر من عشيرة هناك على طرفي الحدود بعد ان كوّن صلات متشعبة مع اكثر من جهة، بعمولات دفعها الطرف المستفيد، سواء أكان الطرف المستفيد افراد عشائر او موظفي شرطة و كمارك، او ضباط عسكريين ممن يعملون هناك، اضافة الى مستشارين في قوات الفرسان الحكومية . . وبعد ان حقق ارباحاً كثيرة و ذاع صيته في المنطقة، اختطف امرأة جميلة من اغوات احدى عشائر المنطقة، عشقها و هامت به و تزوجا . . و بدأت مطاردات و مطاردات كلفته الكثير ..
حتى وجد نفسه ذات مساء مطوّقاً من مسلحين عائدين للأغا والد زوجته بقيادة اخيها وهم يصوبون بنادقهم صوبه، فسارع باطلاق النار على اخيها و تلقى من جهة اخرى شظايا صخرة اصابتها رصاصة اطلقها اخوها عليه . . فسقط اخوها مضرّجاً بدمائه قتيلاً في مكانه، بينما اصابت الشظايا عين الأعور اليمنى الذي رمى بنفسه الى الوادي متدحرجاً و وابل الرصاص منهمراً عليه . . و استطاع الإفلات بعينه المدماة التي فقد النظر بها، حتى وصل بصعوبة كبيرة الى حيث كانت زوجته مختبئة، ثم هربا معاً الى الجانب الإيراني ليحتمي دخيلاً عند عشيرة تعرفه فمنحته حمايتها و عاش في قرية من قراها وكوّن عائلة بعد ان رزق باطفال من زوجته
و واصل اعمال التهريب و صار مهرباً معروفاً غنياً للسلاح و العتاد . . الاّ انه لم يستطع التخلي عن مغامراته الشخصية في التهريب، التي اعتمد فيها في سعيه بالذهاب منفرداً لعقد صفقات او توثيق علاقات عمل او استطلاع . . فخوراً بلقب " الأعور" كلقب يدل على التحدي و مواجهة الصعاب .
. . . .
. . . .
كانت القافلة تسير بقيادة الأعور . . فكانت تسرع حيناً و تبطئ احياناً و تنتظر في عدد من الأماكن التي تسبق السير في سهول و وديان واسعة محاطة بربايا عسكرية او ربايا للجاش (3)، او كانت القافلة تقف حسب اوامر الأعور و وفق ما اظهرته نتائج اتصالات و محادثات سريعة كان يجريها مع رعيان مستقرين بقطعانهم في ذلك الليل، على مسافة من مكان توقّف القافلة، و قرب مواقع و نقاط عسكرية او ربايا محيطة من التي تسيطر على المنطقة بشكل محكم . . حيث بنيت كل ربيئة عسكرية في العادة، في مكان يجعلها تسيطر على مواقع مترامية الأطراف من السهول و الوديان الفسيحة باتجاهات متنوعة تحيط بموقعها . .
و كان للمرور او العبور في بعض المناطق مخاطره الكبيرة، لأن القافلة كانت تضطر بسبب وعورة الطرق و مشاقها الى المرور امام بعض الربايا العسكرية و في مواجهتها ، بل و تحت رحمتها، بعد انتظار كان يطول في العادة و احياناً بعد لقاءات مع رجال كانوا يأتون اليه بعد ان يصفر بفمه صفير طائر ليلي . .
و لم يفهم صاحب لماذا لاتقصفهم الربايا و ترمي عليهم و هم يمروّن قربها . . هل هي صديقة ؟ أم لديها اوامر بذلك ؟ اوامر بان يغضّوا النظر مثلاً عن الهاربين من جحيم العراق آنذاك، ليخلصوا نهائياً منهم . . حيث ان مرورهم البطئ و هم سائرين على طرق شديدة الوعورة، كان يمكن قطع تلك الطرق و قتلهم بسهولة كافية لو ارادوا كما فكّر صاحب، الذي تصوّر انهم وحدهم من يقطع تلك الطرق، الى ان انتهى تصوّره ذلك بعد ان سمع ضجة خابية و لمح وجود مجاميع اخرى ذاهبة او آتية مرّت قربهم . .
و قد فهم بعد ذلك ان انتظارهم الطويل ذلك، كان بسبب ضرورة انتظار الأعور لظهور اشارات متفق عليها من السابق . . و كانت الإشارات المتفق عليها متنوعة وفق الحاجات، كنار بعيدة او رشقة رصاص او اكثر من اطلاقات كلاشنكوف خطاط تضئ في الهواء بلون متفق عليه !
اضافة الى ما فهمه من شروحات سابقة لانور، بان الربايا ليست مستعدة دائما للرمي و ان منتسبيها سواء كانوا عسكريين او جاش، يخافون من الخدع التي قد تحصل بسبب ضجيج مفتعل لإثارة انتباههم كي يخرجوا من مكمنهم، و يقعوا في كمائن مهاجمين من جهة اخرى، و يتعرضون بذلك لعمليات انتقام من قبل من يستهدفون الربايا و افرادها خاصة و انهم في منطقة معزولة . و ترمي بعض الربايا رشقات من رصاص مضئ خطاط (4) في الهواء بين حين و آخر، مشيرة بذلك الى استعدادها لأي طارئ، تنفيذاً لأوامر ما تأتيها من اعلى وفق توقيتات لحالات طوارئ توضح عادة ببرقيات لاسلكية مرسلة الى آمرها المقيم فيها مع افراده . .
اضافة الى ان عدداً من الربايا تحمي نفسها ليس بزرع الألغام حولها فحسب، و انما بارسال افراد منها لعمل كمائن في محيطها الخارجي . . وفق واجبات معينة تأتيها كأوامر تتغيّر من وقت لآخر من جهاتها الأعلى وفق اخباريات سرية، لأغراض مباغتة و ابادة من يتجرأ على المس بأمنها و سلامتها من الخارج . . خاصة الربايا القائمة في اماكن مأهولة اهلها معادون للحكومة، و مايثيره ذلك من قلق و خوف بين الجنود و المرتزقة العسكريين لئلا يُصطادوا عند الإجازات . . الخلاصة ان الخط العام للربايا العسكرية النظامية هو عدم اثارة مشاكل في غنى عنها مع العشائر الكوردية ، عدا مايجري في حالات الإنذار عند وردود انباء عن تحركات مريبة للبيشمركة . . التي عادة ما تتم بوجود و اسناد قطعات عسكرية كبيرة . .
و بمرور السنين و الأحداث تعقّد تركيب ربايا الجاش، و صارت مهنة الجاش لها مسوغات متنوعة، و تقسّم الجاش الى جاش اصلي و غير اصلي (5)، و كذلك رباياهم فهناك ربايا متشددة يصعب التعامل معها الاّ بالقتال و خاصة ممن كان منتسبوها قد استقدموا للقيام بعمليات تأديب و انتقام من عشائر بعينها . . و ربايا اخرى متنوعة يمكن التفاهم معها سواء سياسياً او عسكرياً او تجارياً . و هم في العادة مستعدون للقيام باعمال غير مشروعة متنوعة، كغض النظر عن قوافل التهريب، او القيام باعمال حماية المهربين ، مقابل حصص مجزية من الارباح . .
فكانت عمليات التهريب و المرور في المناطق الحرام (6) بأمان و سلامة، لاتتم الاّ من خلال علاقات خاصة مع افراد او اوساط عشائرية و موظفين حكوميين في المنطقة، يتقاضون حصصهم من ارباحها في العادة . . خاصة وان التهريب مهنة متوارثة لعوائل امتهنتها طوال حياتها و اورثتها لأبنائها، كمهنة امّنت لها حياتها. اضافة الى ما حققه المتنفذون فيها من ارباح هائلة، ترك قسم منهم بعدئذ مناطق الحدود . . و لم يستطع القسم الأكبر ترك المنطقة و لاترك مهنة المغامرة حتى بعد تهجيرهم و عوائلهم، و حرق و تدمير قراهم، بسبب سياسات الحكومات المعادية للكورد . .
لقد خلقت الحروب و السياسات العنصرية العرقية التي اعتمدت على حرق و تهجير القرى بعد نهبها . . خلقت في تلك المناطق الحدودية اجيالاً لم تعرف الإستقرار لأنها لم تعشه، اجيالاً عاشت على المغامرة التي عاشتها تلك المناطق، وسط مطاردات الدول المتجاورة و سحقها للحياة الإنسانية الطبيعية، و عاشت على التغلب على الموت و الدمار و النهوض مجدداً بعد خسائر المزارع و الأرواح و الممتلكات . .
حتى شكّلت مجتمعات و حياة كاملة عاشتها و تعيشها قرى صغيرة متناثرة، تأوي الجائع و تحمي الضيف ان طرق بابها، و تقاتل بكبيرها و صغيرها من يعتدي عليها و على حرماتها، و عادة مايكون للعائلة اخ او ابن او قريب يعيش في المدينة، فتطورت علاقاتهم مع المدينة الى درجة ان
المهربين الحدوديين في ذلك الوقت، عادة ماكان لهم من يشاركهم اعمالهم و يخدمهم و يحميهم في المدينة القريبة، و تطور ذلك الى علاقات تجارية حققت ارباحاً كبيرة لعدد من العوائل، وخاصة لتلك التي لديها قرابات مع عسكريين و جاش مرتزقة، اعداداً منهم يكرهون الدكتاتورية و يساعدون رجال المعارضة . . و قد طرق تلك الأبواب عديد من المطاردين بسبب وحشية الدكتاتورية . .
حتى ان انتقال صاحب من بيت انور الى مام بيرووت مع الآخرين و الى قافلة الأعور . . كان بناء على اشارة من مخلصين للقضية و اولاد اعمام في مجمّع بست ستين . . افادت :
امان !! تعالوا الآن . . الآن !! بلا اي تاخير !!

بعد مسيرة اكثر من ساعتين في ممرات جبلية و عبر وديان مفتوحة، وصلوا الى نبع ماء و توقفوا عنده. قال الأعور : املأوا زمزمياتكم بماء هذا النبع فالماء هنا من احسن الأنواع ! . . و ترجّل من اراد قضاء حاجة خلف الشجيرات و الأكمات . و اضاف، انه بعد ذلك النبع بنصف ساعة " سنصل الى وادي حجري شديد الوعورة فتمسكّوا جيداً بحيواناتكم، لأنها يمكن ان تتزحلق على الصخور " .
ثم واصلوا السير لمدة حوالي الساعة، وبدأت تلوح اول خيوط الفجر، حين بدأت القافلة تدخل مضيقاً حجرياً، على ممر كأنه منحوت على صخرة هائلة الحجم . . وعلى ضوء الفجر لاحظ صاحب انهم في وادي ضيّق معزول عمّا حوله بشكل كامل . . وادي لاتسمع فيه سوى وقع حوافر بغالهم حين تصطك على الصخر، فيما كانت الريح تصفر فيه بين قطعين صخريين بارتفاع عشرات الأمتار، الى ان انفتح الوادي الصخري على مقدمة صخرية هائلة مرتفعة اخرى، شطرت طريق الوادي الى عدة طرق وكأنه مفترق طريق معقد . . و شاهد الأعور يلوّح لهم بيديه ليتبعوا الطريق شبه الترابي الذي يسير عليه، و كان طريقاً صاعداً الى الأعلى . . وبعد مسيرة بطيئة ثابتة، توقف الأعور في اعلى الطريق و اشار اليهم بيديه بالهدوء و بالتجمع عنده !!
تجمعت القافلة بهدوء و التقت بقافلة خرجت قبلهم و توقفت هناك ايضاً . . و كان الجميع يشاهدون جثة حيوان مضرج بدماء لم تجف بعد، وسط بقع دماء كبيرة منتشرة على الصخور المحيطة
و تناثرت جمدانيات و اغطية رأس (7) ، عدد من المعاطف الجبلية و فردات احذية لرجال قتلوا و دفن
رجال القافلة السابقة جثثهم . و دار الحديث عن انه كان كميناً لجاش هم اهل امرأة شابة اختطفها شاب احبها و تزوجا . .
حيث عرفت القافلة السابقة لهم ذلك من قافلة سبقتها كانت تبحث عن شابة فُقدت، و ما استغربه صاحب ان الأمر بدا و كأنه امراً عادياً حين عاد شاب الى قافلته بعد ان اغتسل و كان يغني و صاح بفرح كبير غير مبالي ببقع الدماء او لم ينتبه لها، لكونها صارت منظراً شبه يومي تحت حكم الدكتاتورية الدموي : " اليست كوردستان جميلة ؟؟ كوردستان او الموت ...!! " و ابتسم الجميع له لحاجتهم لشئ من البهجة او يمكن لتقوية معنوياتهم ايضاً .
انتبه صاحب لأول مرة ان الأعور كان يمسك مسدسه بيده الموضوعة على يده الأخرى قرب رقبة الحيوان، اضافة الى رجلين معهم كان يحمل كل منهما كلاشنكوف مظلي ظاهر و كانا مستعدين للأطلاق به من على ظهر الحيوان، ابتسما له و فكر صاحب و هو يبتسم لهما " لابد انهما البيشمركة السريين " . .
و بعد ان تقابلوا مع عدد من القوافل القادمة من جهة ايران، و تسالموا سلام اصحاب مهنة واحدة، ارتاحوا عند جدول صغير . . وصلى عدد من الكروانجية صلاة العيد معاً و صلى آخرون منفردين ثم حيّوا بعضهم بعضاً بالعيد، متمنين للجميع عيد سعيد و صحة و حياة اسعد . . . و قال الأعور " زالت مرحلة الخطر و نحن الآن خارج الحدود، لأن الحدود الأصلية هي هذا الجدول . . و بما اننا عبرناه فنحن عبرنا الحدود " و ضحك ضحكة مرّة حملت اكثر من معنى، بعد ان ضاع معنى الحدود الطبيعية، لتحل محلها " حدود عسكرية ـ منطقة حرام شريط الموت الحدودي ـ حدود عسكرية ايرانية شاهنشاهية انتهت بانتصار الثورة الإيرانية " .
و بقي صاحب يفكّر " عبرنا الحدود ؟؟ و لكن اين علامات الحدود ؟!! " لم يلمس علامة او علامات و لم يجد علامات . . الاّ الجدول الصغير الذي اشار اليه الأعور بسخرية، كان يشاهد الأرض هي نفسها و الجبال كذلك، بل و لم يجد فرقاً بين جانب و جانب آخر من الجدول . . كان يتصور ان للحدود علامات او جدار او سحر ما . . و الاّ لماذا حدود و كيف تفصل بين البلدان ؟
و كان يحس بدقات قلبه و هو يخفق بعنف كلّما فكّر بالحدود. . و هل وصلناها ام عبرناها و لم نشاهدها ؟ و كان يحس بالألم من تلك الفكرة عن . . " الحدود " ، احسّ بالألم لأنه لم يحس الإحساس الذي وصفه حنّا مينا في روايته الشهيرة عن دفء الوطن " الثلج يأتي من النافذة " !! (8)
هل هو ظلم و وحشية الدكتاتورية التي حطّمت الوطن و حطّمت معه اشياءً هامة في دواخلنا و ماهيتنا ؟ و الآن . . هل خرجوا من الوطن و بعدين الله كريم ؟؟ كبرت التساؤلات و صارت الماً مضنياً فالوطن هو الناس و القضية و الأمل . . و تذكر شعوره بالمرارة و الغربة و هو يعيش ظلم الدكتاتورية
و توصّل الى ان الفرح و الأمل لن يعودا الاّ بزوال الدكتاتورية و العمل من اجل ذلك الهدف و هو يضع آماله في حركة البيشمركةالأنصار .

يتبع



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. المفرد كاروانجي . . بمعنى من يعمل على نقل البضائع بواسطة الحيوانات ، و عادة ما يكون له خبرة بربط الأحمال على ظهر الحيوان و كيفية تثبيتها، اضافة الى الخبرة في كيفية رعاية حيوان النقل و الأهتمام باطعامه و سقيه، و التعامل معه اذا حرن و رفض السير . . و له خبرة بعلاج الجروح و الأمراض العامة التي يصاب بها الحيوان .
2. البيشمركة السريين، و يسمّون ايضاً بالبيشمركة الداخليين، و هم المسلحون المكلفون باداء اعمال عسكرية في قرى او مدن، و يعيشون حياتهم اليومية العادية مع عوائلهم و في مدنهم او في اماكن اخرى حسب المهام، و هم ليسوا بيشمركة علنيين في وحدات البيشمركةالأنصار العلنية . .
3. قوات المرتزقة الكوردية العاملة الى جانب الجيش، و ستأتي تفاصيل متنوعة عن تشكيلاتها و اسمائها في الفصول القادمة . .
4. الرصاص الخطاط . . و يسمى ايضاً برصاص الإشارة او رصاص التنوير، و هو في العادة ليس رصاصاً قاتلاً و يكون بألوان متعددة، يمكن اختيار احدها ليكون لوناً للإشارة المتفق عليها، فتطلق رشقات ذات لون متفق عليه و بعدد متفق عليه .
5. استحدثت شعبياً تعابير الجاش الأصلي بمعنى الجاش او المرتزقة الكورد العاملين مع الحكومة مهما تغيّرت و مهما كان موقفها من القضية الكوردية و هم يعودون لعشائر معروفة مواقفها، و الجاش غير الأصلي، هم الذين صاروا جاشاً اثر ضغوطات و مصالح او هروباً من الحرب النظامية و غيرها . .
6. المناطق الحرام . . هي المناطق التي هجّرتها الحكومات و احرقت قراها و دمّرت مصادر مياهها و صدرت قوانين تحرّم المرور بها، و من تشاهده الدوريات الحكومية او الطلعات الجوية هناك، فانها تطلق عليه النيران لتقتله دون انذار، و المثال الصرخ على ذلك هو الحزام الأمني الممتد على طول الحدود العراقية ـ الإيرانية اثر اتفاقية الجزائر عام 1975 .
7. جمدانيات، المفرد جمداني . . و يقابلها بالعربية كوفيات، المفرد كوفية . .
8. حنا مينا، مناضل سياسي يساري، وكاتب سوري اشتهر برواياته و ادبه الإنساني، و كان احد ابرز الكتّاب العرب في الثلث الأخير من القرن الماضي . اشتهرت روايته " الثلج يأتي من النافذة " عن معنى الوطن و دفئه للمناضل من اجل قضية وطنه .



#مهند_البراك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما معنى الإنتخابات و الى اين ؟
- هناك . . عند الحدود (2)
- هناك . . عند الحدود (1)
- ثمانون عاما من اجل قضيتنا الوطنية . .
- الشعب بين حقوقه و بين تقاعد الرئاسات
- 8 آذار و مخاطر مصادرة حقوق المرأة . .
- الى من يحاول تجميل جرائم 8 شباط الاسود (2)
- الى من يحاول تجميل جرائم 8 شباط الاسود (1)
- اصلاحات الكنيسة الكاثوليكية و احزابنا الثورية (2)
- اصلاحات الكنيسة الكاثوليكية و احزابنا الثورية (1)
- المالكي يراهن على موقف المرجع الأعلى / 2
- المالكي يراهن على موقف المرجع الأعلى / 1
- اعلان تحالف -كوردستاني ديمقراطي مدني-
- هل هو تخوّف من نتائج الانتخابات ؟
- المالكي : الشعب لايحب الحكومة !
- هل ستعود الإنقلابات العسكرية ؟
- هل هو حكم اوليغارشية طائفية ؟
- الاحزاب الكبيرة و الصغيرة، الشباب
- الحكومة و الارهاب و الاحتجاجات السلمية
- -سانت ليغو- و حراك شبابي منتظر!


المزيد.....




- أبو عبيدة وما قاله عن سيناريو -رون آراد- يثير تفاعلا.. من هو ...
- مجلس الشيوخ الأميركي يوافق بأغلبية ساحقة على تقديم مساعدات أ ...
- ما هي أسباب وفاة سجناء فلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية؟
- استعدادات عسكرية لاجتياح رفح ومجلس الشيوخ الأميركي يصادق على ...
- يوميات الواقع الفلسطيني الأليم: جنازة في الضفة الغربية وقصف ...
- الخارجية الروسية تعلق على مناورات -الناتو- في فنلندا
- ABC: الخدمة السرية تباشر وضع خطة لحماية ترامب إذا انتهى به ا ...
- باحث في العلاقات الدولية يكشف سر تبدل موقف الحزب الجمهوري ال ...
- الهجوم الكيميائي الأول.. -أطراف متشنجة ووجوه مشوهة بالموت-! ...
- تحذير صارم من واشنطن إلى Tiktok: طلاق مع بكين أو الحظر!


المزيد.....

- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر
- محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي ... / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - مهند البراك - هناك . . عند الحدود (3)