أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (45)















المزيد.....

منزلنا الريفي (45)


عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .


الحوار المتمدن-العدد: 4440 - 2014 / 5 / 1 - 21:27
المحور: الادب والفن
    


همس الطفولة (2)

ابن عمي المهدي، كان يسكن بالقرب منا، مازلت أذكر تلك " البراكة " التي تحيط بها هالة من الزهور، إضافة إلى تلك الشجرة الزاهية التي تعبق ظلالا، كان منزل عمي رغم تواضعه فاتنا وأنيقا، ففي الداخل كنت تجده مرتبا بشكل جيد، هذه هي الباحة الخارجية تجد فيها أريكة للاستقبال الزوار، وغير بعيد عنها كنت تجد غرفة للأكل، أما خلف هذه الغرفة حيث الباحة الداخلية، فإنك ستعثر على غرفة النوم، هناك ستصادف ساعة تنقر كما تنقر الدجاجة، لازالت نقراتها جاثمة على صدرك حتى الآن . أعتقد أنك مازلت تذكر تلك الكرة الزاهية الألوان، والتي عثرت عليها فجأة، فوضعتها في يديك وأطلقت ساقيك للريح ...
في الصيف، لما كنت ألعب مع المهدي، كنت أجد منزلهم باردا، وطيلة الزوال نظل قابعين فيه، وعند العصر نخرج إلى البيدر، المهدي كان سلبيا في كل شيء، لم يكن يتقن أية لعبة، فإذا خضنا غمار لعبة البي "، ولعبنا لعبة " القاروضي"، تجدني أستولي على كل " بياته "، فلم يكن ذكيا بالقدر الكافي، وما كان يجيد إلا طريقة التباكي و الدغانيش "، وفي الوقت الذي لم تنجح فيه هذه الطريقة في حثي على رد " بياته "، فكان يذهب إلى أمه، فيقول لها : لقد أخذ " بياتي " بالقوة "، تمسك به من قفاه، وتقول له : " أين هما يداك ؟ تكلم أيها " العنزول ؟ يا فم " الشرقرق " ؟ يا فم الضبع ؟ متى ستبقى على حالك هذا ؟ الذي أتى " يخورك " ؟ متى تخرج من غبنك ؟ يا ربي العزيز، أي ولد أعطيتني إياه ؟ أنظر يا رب ( في إشارة إلي ) إلى ذاك الولد، مالي أراه ذكيا ؟ مالي أرى على بال ؟ فلماذا لم تخلق ولدي مثله أو أحسن منه ؟ لماذا يا ربي ؟ ( تشرع في البكاء ) لماذا ؟ لماذا ؟ ولد واحد " وعنزول "، أية حياة هذه ؟ " .
تأتي أمه إلي، فترغد وتزبد متهمة إياي " بالحكار "، مع العلم أنني لست كذلك، فكل ما في الأمر أنني انتصرت عليه بطريقة قانونية، تدخل أمي في الشجار معها، يتطور الشجار إلى سب وشتم، تنبش أمي في ماضيها، تسقط زوجة عمي مغماة عليها، تهرع كل من عمتي وزوجة عمي الآخر إلى سكب الماء عليها .
لم تكن أية مودة بين أفراد عائلتي الممتدة، كانت كل العائلات تسكن بالقرب من الأخرى، ولكن ظروف الفقر هي التي فرضت ذلك فرضا، ولهذا كنت تجد في طفولتك مجموعة من الحواجز العصية على التجاوز، تسمى هذه الحواجز محليا " بالدريات "، فإما أنها كانت تتكون من نبات توزالة "، أو جريد النخل، أو كانت تتكون من نبات " العاصي " الذي ينبثق من نبات لبرواك "، ومن ثمة يمكن أن أفهم نزعة الانغلاق السائدة في عائلتي ؛ الانغلاق تاريخ كما للتاريخ جروح، كان يتواجد يمين منزلنا الريفي النووي، منزلنا الريفي الممتد، كان يعتمره بيت حجري قديم ينظر بابه إلى شروق الشمس، تجاوره " كشينة " حجرية شائخة ينظر بابها جهة الجنوب، ويقابل هذه " الكشينة " " براكة " صغيرة، كانت هذه البراكة في ملكية عمي بوعزة، لكن مع مرور الوقت لم تعجبه نظرا لصغرها، فعمل على اقتناء أخرى، ثم قام بتحويلها خارج المنزل الريفي الممتد، أجل لقد حصل هذا في طفولتك الغابرة، وقرب هذه البراكة كنت تجد حسناء بقميصها الممزق تلعب جوارها .
وعلى يمين البيت، كانت هناك حظيرة حجرية، وجوارها يقبع منزل ابن عمي المهدي، كان والده متشائما إلى حد كبير، فتجد دائما في كلامه الفشل واليأس، لقد فشل في كل شيء، في دراسته، في عمله، كنت ألتقيه في المرعى، فكان يأخذني إلى أعلى سفح الوادي، ويحثني على النظر إلى المنازل الواقعة على ضفافه، فيقول لي : إن تلك المنازل هي منازل الفهود والنمور والأسود، احذر أن تعاود المجيء إلى هنا . كانت كلماته ملغزة ومرعبة، كانت تمتشق رداء الخوف، ويسكنها النكوص، واستعداء المغامرة، كان لا يريدني أن أرى أبعد مما يرى هو، فمكاني في نظره هو المنزل، وعلي ألا أقتحم المرعى، وباقتحامي له، سأقتحمه هو .
منذ هجرته من الريف رفقة عائلته، لم ألتقيه إلا بعد مضي اثنتي عشر سنة، كان يراني كالناموسة أحلق في شوارع المدينة، لم يكن يستضيفني، كان يبدو له أنني أضيع الوقت في المدرسة، ففشله يعني فشل العالم بأسره، ذات يوم من سنة 2009 بعثت لي ابنته المدعوة حنان طلبا للمراجعة معها ؛ قبلت هذا الطلب، ولما التقيته سألني عن أحوالي الدراسية، فأخبرته بأنني أتابع تعليمي العالي، وبعد مضي خمسة أعوام، وجدني قد حصلت على دبلوم في علم الاجتماع بميزة جيدة، وأنني باجتهادي حصلت على درجة أستاذ في التعليم الثانوي التأهيلي، فعرف أن الفشل فشله هو .
رغم وجود الحواجز بيننا، فإننا كنا نحن الأطفال نلتقي ونلعب، صحيح أن كل أم تمنع ولدها من اللعب، لكن هناك أمام منزل جدتي، كانت ساحة تعتليها شجيرات وارفة، وفي الوقت الذي كانت تغيب فيه أمي، كان المهدي يزورنا، كانت أختي تحنو عليه كثيرا، ففي يوم الأربعاء، أي في ذلك الوقت الذي تذهب فيه أمي إلى السوق، كنا نخرج جميعا إلى المرعى، كانت جدتي تمتطي حمارها الشائخ، بينما أختي الصغرى تقود المواشي إلى المرعى، في حين أنا والمهدي نمتطي سوية الحمار الأشهب، كنت أنا في المقدمة، بينما هو يقبع في المؤخرة، ولما نعود من المرعى، ويحين وقت الزوال، تدعو أختي جدتي لتناول الغداء، كانت العلاقة بينهما حميمية، ولم يفرق بينهما إلا الموت .
لم أعرف قيمة المهدي في حياتي إلا عندما قررت عائلته الرحيل، كان يوما حزينا، لقد أحسست بندم كبير على كل أخطائي التي ارتكبت في حقه، أحسست أن شيئا يقتلع مني وهو يأبى الاقتلاع، وأن المستقبل مظلم، لم أكن أفكر إلا في تلك اللحظة، أيام الماضي التي طفحت ذكرياتها بشكل مقرف، أذكر ذات مرة تعاركت معه، فقال لي : لا عليك، أنا راحل عن هذه الأرض، وحينما سأغادر، اغرس الفول والبطاطس، ولم لا حتى النبق ... ؛ كانت هذه الكلمات حادة كالسكين، كانت نارا من سعير، لم أكن أقدر أن أتصور أن تلك البراكة المفعمة بالأريج، ستتحول إلى " مرمدة " للحمير، يتطاير غبارها بالنقيع، وأن الشجرة التي تقبع في مقدمتها ستذبل ذبول الآبدين، أين هي تلك الزهور في هذا الحين ؟ وأين هو الظل الظليل ؟ لن أقفز على " الدري " مرة ثانية ذات صباح، وأتناول الشاي الممزوج بزيت العود رفقة المهدي، لن أقدر أبدا، ستجتاحني الذكريات، سأحس بوخز، بتأنيب الضمير، سأحن إلى هذا الصديق، إلى هذا الأخ، سأحن ....
ذات يوم من أيام أبريل، كنت نائما وقت القيلولة، استيقظت على إيقاع ضجيج عمر منزلنا الريفي، نهضت مذهولا، خرجت من " كشيتنا "، قفزت على الدري ، وتوجهت بسرعة إلى منزل ابن عمي المهدي، وجدته مازال واقفا، لكنه مريض وشائخ، عرفت رحيله قد حط على عتبة بابنا، عدت لأتم نومي، ولما استيقظت، قالت لي أختي : " ألم تسمع الضجيج، لم أرد إيقاظك، حبيبتك حسناء رحلت، لقد جاءت شاحنة، وأخذت " براكتهم " جوار الوادي "، عندها تحول الوخز إلى وخزين، والجرح إلى جرحين، والهزيمة إلى هزيمتين، فانفجر كلام كالنبع في دواخلي : " حبيبتي حسناء، كيف أعيش بدونك، وأنت أيها المهدي يا ابننا العزيز، أنت هو ثمار حبنا، لكن عاصفة الرحيل، دمرت كل شيء وخلفت وراءها النقيع ..."

عبد الله عنتار / الخميس 01 ماي 2014 / المغرب





#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منزلنا الريفي (44)
- هواجس ساخرة
- غدا سأولد من جديد
- الوداع
- مشاهد من المستشفى
- أريدها
- تمرد
- منزلنا الريفي (43)
- كلمات من دماء
- خوالجي الباكية
- شاعرة الافتراضي
- النافذة المغلقة
- منزلنا الريفي (42)
- منزلنا الريفي (41)
- منزلنا الريفي (40)
- منزلنا الريفي (39)
- منزلنا الريفي (38)
- منزلنا الريفي (37)
- عيد ميلادي
- منزلنا الريفي (36)


المزيد.....




- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (45)