أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شعوب محمود علي - رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟ الجزء الخامس 3















المزيد.....



رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟ الجزء الخامس 3


شعوب محمود علي

الحوار المتمدن-العدد: 4397 - 2014 / 3 / 18 - 17:12
المحور: الادب والفن
    


كلّف جمال من قبل رفاقه في الذهاب لسوق الصاغة , وعقد صفقة مع من يتعاطف منهم مع الافكار التقدّميّة , وحركة السلام ويقاوم الحروب. مع ان جمال لا يعرف, ولم يشخّص احداً من هؤلاء الّا انّه تقبّل المهمّة برحابة صدر حيث ابلغوه بشراء مجموعة كبير من حمامات (بيكاسو..) الفضيّة بعد الاتّفاق على صنعها وذلك لتوزيعها على الشباب في مؤتمر السلام الذي سيعقد في جمهوريّة المانيا الديمقراطيّة تحت شعار من اجل حماية الامومة والطفولة . ومن اجل ان لا تتكرّر مأساة (هيروشيما ونكزاكي) ومن اجل ان لا تعود حمّامات الدم , وحرق المدن , وتشريد الملاين بدون مأوى , وحرمان الاجيال من التعليم , وتشويه وجه الحضارة الناصع , وإثارة الغرائز الوحشيّة في تضاريس الانسان المعاصر , والخلاص من شرور تجار الحروب ممن كسدت بضاعتهم في ظروف اختفاء النزاعات الدوليّة , ولاجل الغاء التخطيط الحدودي القديم , والاغارة على الجانب الاضعف للاستيلاء على الكنوز التي تكمن تحت التراب ايّام فتور وتائر الصراعات, وتصدّع صناعة الموت وفيض الانتاج, الفوضوي الغير مبرمج المتراكم في المخازن للدول الاستعماريّة حيث تكون وفرة الانتاج عقبة , وسدّاً مانعاً امام عمليّة التسويق للشركات ذات الصفة الاخطبوطيّة . وفي مثل هذا الوضع تلجأ الشركات مرغمة لتسريح آلاف العّمال خلال اختناقات ركود الانتاج . وهي تجهد لتحريك الذراع العسكري جرّاء رغبات شيطان المال حيث يضع بصمته على الخارطة ليرسم خطوطاً بيانيّة
لاقتسامات جديدة , ولغنائم جديدة
تعود لتصوّرات خارج حيّز التصوّر القديم , والعمل على ايجاد بدائل ترسم ملامح الوليد القادم وهو في الرحم . ولرفع اسعار احمر الشفاه , وصبغ الاظافر , والعطور , والحرير وجميع ادواة الزينة ورغيف الخبز وقناني الحليب , والمشروبات الروحيّة , وعدم الاهتمام للأمراض المستعصية , وإهمال التربة , وعدم رعاية النبات , وترك الثغرات للأقدار , و الانذار ( المالتوسي) للجنس البشري . وقبل ان يخرج من الوكر دخل احد الرفاق القياديّين وتفجأ بوجود الرفيق جمال ,
صار يفرك عينيه ويقول هل انا في حلم : وراح يقبّله
بفرح وسرور ويبارك له نجاح العمليّة , وعبور الخطوط الحمر. همس الرفيق جمال باذن الرفيق الآخر وبصوت خفيض وقال رفاقنا يجهلون عنّي عمليّة الهرب من القطار: فلا تفشها ..
خرج من الوكر بحذر شديد وهو يسلك الازقّة , ويتجنّب الشوارع المكتظّة بالمارة . كان يمشي وهو داخل شرنقة التحسّب , وفي دوّامة من الافكار . حانت التفاتة منه الى جهة اليمين فلمح مقهى منزو فانعطف اليه . جلس قرب مجموعة من كبار العمر . البعض كان يدخّن (النارجيلة ) وبالقرب منهم كان هناك من يدخن السجاير وهؤلاء من الشباب العاطلين عن العمل . سلّم على الجالسين في المقهى ومن ثمّ جلس قرب المذياع وهو في حالة مشوبة بالقلق , وينتابه شعور يزيد من احساسه بالضيق وكأنّ للجدران عيون تترصّده . وبينما هو يحتسي الشاي انطلق صوت الموسيقار والمغنّي الكبير محمّد عبد الوهّاب وهو يغرّد احب عيشة الحرّيّة . كانت بحق اجمل مصادفة بالنسبة لجمال, لتطلق عنده عنان الذكريات , وتفتح له نافذة الفرح والسرور ,
وتزيل عنه الاحتقان لتجعله ينسرح , ويطوف حول عالم خال من القيود , والملاحقات . قال في نفسه وهو في غمرة التأمّل الراصد لقطار التاريخ , ومحطّاته : الاعوام تختلف في طعمها ولونها . تذكّر كيف كان يقرأ عن وثبة كانون العام الذي تميّز بالاضطراب الزلزالي الذي فاجأ الحكّام , وحرّك كوامن
الحرمان من الحرّيّة المصادرة , والتي تتمتّع بها كلّ المخلوقات النباتيّة و الحيوانات الدابّة على الارض . وكذلك التي تعيش في الماء , والمحلّقة في الجو.خرج جمال عن تهويماته على صوت قرقرت فقاعات
الماء داخل زجاجة النرجيلة وهو ينصت , ويرسم انطباعاته عن المقهى المنغرس بين الحوانيت القديمة المتداعية والتي تعكس حالة الفقر المزري لشعب يملك منابع النفط الذي تهيمن عليه الشركات الاجنبيّة. هذا حال البلد المالك لهذه المادة الثمينة . ترى شعبه لا في المدن العراقيّة , بل في العاصمة بغداد وهي محاصرة (بالصرائف) (وبيوت التنك) والأكواخ الطينيّة من مطلع الربع الاول من القرن العشرين .هذه الصرائف والأكواخ لو تجوّل بينها مالكو الاسهم النفطيّة من الغربييّن , والإنجليز على وجه التحديد لارتعبوا منها , ومن السكّان الموتى في الحياة , ولحكموا بأنفسهم على سكنة القبور الطينيّة والصفيح .
وبالتأكيد هم لايرونها عند زياراتهم , او يتجاهلونها عند مرورهم بالعراق . وعند اتاحة الفرص القدريّة لهم وهم يرون النباتات المزهرة كيف تحيط بالقبور الاجنبيّة للغرباء الذين ماتوا اثناء احتلالهم للعراق . فالقبور هي التي تتحدّث عن ساكنيها , وهي افضل وأصلح للسكن من
( صرائف )وأكواخ العرقيّيّن . ظلّ جمال يستعرض في ذاكرته احداث الايّام الماضية , وأيّام سجنه المروّعة والمشحونة بالصراعات المريرة, وفصول طفولته الغضّة .
كان يغطس في موجة صغيرة تحمل صدى الايّام الخوالي . فالموجة تلح لتصعد لمدى افقه الذي يستوعب كلّ بعد في دائرة ما تصل اليه بصيرته عند ما تغور في مطلق ليس له حدود , ولا قيود تقيّده مثلما يقيّد وهو محكوم برقه عند اول نفحة نسيم يستنشقها من الموروث الثقيل المتراكم حيث يستقر على سنام جمل تغذّيه الروح الاقطاعيّة المتموّجة , والمنسابة . منذ جدولة ايّام نفوذ العثمانيّين وهيمنتهم على الرقعة
الجغرافيّة لأرض السواد , وكيف صارت تتداعى تلك الصور , وبدل ان يمتد النفوذ اكثر فاكر انهار كلّ شئ, وفرّ عصفور السيادة بفرار العثمانيّين
وممن يحسبون من اصحاب الولاء للدولة العثمانيّة المسلمة وقد استلب من ايديهم صولجان القرى , وصودرت اراضيهم, وتمّ طردهم من الارض , وأعطيت لأصحاب الولاءات الجديدة المرتبطة بحبل الامبراطوريّة التي لا تغيب عنها الشس
كان الجد (جري) يتهيّب من عقاب الآخرة وقد احجم عن
التعاون مع الفاتح الجديد بعد ان رفض كلّما هو مغري , وفضّل ان يُسحب البساط من تحت اقدامه ولا يزحزح حجراً عن حجر . كان اسمه مشتقّاً من جريان النهر لذلك سمّاه والده جري تبرّكاً بمجرى ماء النهر الذي هو اصل الحياة .
لقد حزن الشيخ جري , ولم يرفع الشراع لاستثمار الرياح الجديدة الوافدة من امبراطورية سيّدة البحار وهي التي ضمّت درّة اسيا وشعب المهاتماً غاندي .. كمصدر اشعاع لقلادة ملك بريطانيا العظمى وهي تضاف الى كنوز, ومقتنيات التاج البريطاني , وها هي الآن تضع في اصبعها خاتم الزمرّد المسمّى بأرض السواد . فضّل رجل العشيرة ان يعيش في الظل . وعلى ظهر دائرة انحسار النفوذ, وخارج الرقعة التي كانت تضمها قبضة جدّه . انطوى في القوقعة , وفضّل الانسحاب خارج مضمار الماراثون , ومرتكزات النفوذ , وأوقف قلم التحرّك على صفحة اليوميّات المقبلة , والمدى الشاسع . وقطع جذور شجرة نرجسيّته , و قرر الرحيل ليكون بعيدا عن الارض بعد ان انتزع منه كل شئ .
قرر ان يعيش في الظل دون ان ينصر الفاتح الكافر على الظالم المسلم . انها معادلة صعبة دخلت الخيمة العنكبوتيّة . وطويت جميع اوراق الماضي لتنساب مع جريا ن نهر النسيان . كان جمال يتذكّر كيف كان والده يحدّثه عن جدّه جري
وما جرى لهما في تلك الايام العصيبة .
ثمّ عاد لعالم الواقع , ليخرج من خضم التصوّرات التي
عزلته عن وجوده في المكان والزمان .
حمد الله على قطع ذلك المسلسل , وفصوله البعيدة والتي
توغله في القدم . قدم النفوذ الاقطاعي الذي لا يأتلف
وتصوّرات جمال , ومعتقداته التي تنهل من ينبوع
العصر . كان ينتفض على الف باء السيادة الاقطاعيّة,
وكل اشكال النظم التي تقوم على مستلزمات النفوذ المبني على الاجحاف . فكيف يقر له قرار مع وجود مثل هذه الاعراف حيث يتسلّط الفرد على العشيرة , وحيث تمتد اليد لسرقة جهود
افراد العشيرة , واقتطاف الثمار , وجني الربح العام الذي يفيض عن عصارة جهد الفلّاح المصادر , وحرمانه من مردود ما تدرّه الارض من خلال كدحه المر, وتعبه حدّ الانهاك صيفاً وشتاءاً .
كان جمال يركن الى الراحة كون جدّه خسر موقعه يوم ازيح عن الدائرة المشرقة لجري والتي تتعارض ومعتقدات جمال التي تنهج باتّجاه معاكس والنفوذ الاقطاعي الذي يغلق النوافذ المفتوحة لرفع مستوى الفلّاح المقيّد بقيود السيادة الاقطاعيّة ودفعه بعيداً عن التطوّر الحضاري , وعزله عن العالم الصاعد الذي يقيم في الصحاري جناناً يتذوّق ثمارها اليانعة , ويتلمّس موقعه الاجتماعي , والمعرفي والانساني ولولا الهجرة من الريف الى المدينة لما كنّا على هذه الدرجة من الدراية .
فاحمد الله واشكر الظروف على عدم ولاء جدّي للانجليز والذي كان سبباً لنزع ملكيّة الارض منه , ونزوحنا للعاصمة بغداد . وأخيراً انتبه ونظر الى ساعته وقال في نفسه ان الوقت يمضي , والساعات تركض مثل خيول في مضمار النهار .
قام مغادراً المقهى مزحوماً بالفرح والحبور كونه لم ولن يكون ابن سيّد العشيرة . كان يسير وهو غير آمن على نفسه من كلاب حراسة النظام الهش , والمتّسم بالفساد في اجهزته الامنيّة , والبوليسيّة . كان يسير وهو مسبوق باليقظة والتوتّر , والحذر , وعدم اغماض العين , او ترك البصيرة سائبة
مثل سفينة تدفعها الريح باتّجاه الصخور لتلقي مصيرها المجهول , والتسليم لقدر اعمى, او لغفلة ساذجة لا توجد في قاموس مفرداته . كانت حلاوة الجلوس في المقهى , وطعم ونكهة, كلمات, والحان , وصوت احبّ عيشة الحرّيّة تجول في سمعه , ووجدانه , وتصوّراته . وقد هزّته مثلّما الريح تهز الشجرة العظيمة . كان يسير مثل كرة تتقاذفها الارجل وهو لا يدري من كثرة ما كانت تصطرع الأفكار في وجدانه الى ان استقرّ في الملعب المراد وهو يمر من امام الواجهات الزجاجيّة . صار ينظر بدقّة وتركيز الى النماذج المعروضة من القلائد والأقراط , والمزهريّات من الفضّة , و الذهب الذي يبهر الناظر اليه . وكذلك الخواتم المطعّمة بالحجر الكريم المزيّن بالنقوش المدهشة . كان ينظر لكل المعروضات , وهو يدور ويرسل نظراته الى ان استقرّ على احد المحلّات فدخل وسلّم على الرجل . سأله في ان يرى المعروضات عن قرب ودون ان يحدد ما يريد . رحب الرجل به وقال ها هي بضاعتي امامك وهي بروعة , وإتقان المصوغات , وحسن الاداء . ولدينا كلّ ما تحتاجه قبل وبعد الزواج. ابتسم جمال ولم يعرب عن رغبته لشراء ايّ قطعة من تلك الحلي المعروضة سواء كانت من الذهب او الفضّة . بعد تدقيق وتمحيص , ولنقل حالة من الترويض والإطالة , ولإشعار صاحب المحل بقصد الشراء ولكن خارج عش الزوجيّة : صاحب المحل حصلت له تصوّرات بعيدة عمّا يدور في دخيلة جمال فقال ارى انّك لا تعرف ما تريد , ولا تدري ما تطلب إإ فلماذا لا تدع المسألة لصاحبات الحل والربط . ماذا تقصد ؟ اقصد لهنّ فهنّ اعرف وادرى بهذه الامور من الرجال في الاختيار, والانتقاء , وكذلك هنّ يصلحن لهذه المهام اكثر من الرجال . ابتسم جمال ولم يحلل عقدة من لسانه وهو بين ضرورة الحذر , وإيلاء الثقة للصائغ . كان يتردّد في الافصاح عمّا يريد و قال في نفسه ماذا لو فشلت المهمّة التي جئت من اجلها ؟ ماذا اقول لرفاق الطريق . ؟
هل اقول لهم لم استطع مفاتحة الرجل عن الافصاح عن طلبي؟ وهو لا يلوح عليه ما يبعث الشك , وربما قد خمّن ما اريد , فلماذا التردّد والارتياب ؟ فشعبنا طيّب ونحن نعاني لأجله . والرجل يمكن قراءته من خلال نظراته البريئة , وأنا اميل الى أنه يمتلك حالة من النقاء الى جانب الوقار الذي يلوح على محيّاه , وقد لا تخونني فراستي خاصة هو من الصابئة وفيهم الكثرة من رفاق الحزب ممن ركبوا قطار الاشتراكيّة في العراق , واصطفّوا تحت سقف الحزب وذلك كونهم اقلّية غير مضطهدة , وكون العراق ملكي , بل وعربته مربوطة بالحصان الانجليزي فلماذا هذا التردد والإحجام عن الدخول الى الغابة التصوّريّة من خلال رؤيا تولّدها العزلة , ويعمّقها البعد عن الناس, والانصراف عن التماس اليومي في شارع الخوف , وسنوات العذاب . كيف لااطمئن لهذا الرجل .؟ أخيراً قرّر الخوض في الموضوع , والدخول في الحوار وفتح الشبابيك للهواء الطلق . اعرب جال عن رغبته و طلب من الرجل شراء مجموعة من كبيرة من
الحمام بهت الرجل ووضع ابهامه على طرف اذنه اليمنى وقال
اعد الطلب لانّي لم اسمعك بشكل دقيق وهو في موضع الساخر . ولم ينتبه جمال لسخريّة الرجل الا بعد ان اكمل الرجل قائلاً ولماذا لم تأتي بقفص معك لحشر الحمام فيه؟ وهو يبتسم ابتسامة عريضة اربكت جمال الا ان جمال تمالك جنانه وتحامل على نفسه ولم يجب. ثمّ عقّب الصائغ الا ترى انّي ابيع المصوغات لمناسبات الاعراس : ثمّ من قال لك انا ابيع الحمام ؟ او ايّ نوع من الطيور . عليك ان تعرف انّك في سوق الذهب , والفضّة والأحجار الكريمة, والنادرة كالماس , واللؤلؤ , والزمرّد , والياقوت , والمرجان وغيره . وان شئت شراء الحمام فما عليك الا ان تذهب الى سوق الدجاج , والبط , والطيور وجميع اصناف الحيوانات ..,
ضحك جمال وقال ياعم انا اعرف كلّ شئ عن الاسواق وطبيعتها ,
وقد حصل التباس في الموضوع . انا اريد شراء مجموعة من الحمام الفضّي . ابدى الرجل ارتياحه مع ابتسامة يشوبها الحياء , وقال فهمت وأقول لك سبق وان صغت منفضة سجاير , ونخلة من الذهب, وغصن لشجرة زيتون , ومزهريّات ورد بشكل متقن من الفضّة , وكذلك فناجين قهوة اما الحمام فانا احتاج لنموذج مرسوماً على الورق في اقل تقدير . فما كان من جمال الا ان اخرج ورقة رسم عليها حمامة وهي تفرد اجنحتها في الجو بشكل رائع . قال الصائغ لجمال هل رسمتها انت . اجاب جمال
كلّا اقتطعتها من احدى المجلّات . قال الرجل سأصوغها لك بشكل يعجبك . كان الرجل يعيش في وضع بطالة مقنّعة . وفي فترة عرض مع قلّة الطلب . كان فرحاً لهذه الصفقة التي هبطت عليه مثل سحابة حبلى هطلت على ارض يغزوها الجفاف .
بعد ان اتفقا على السعر قال جمال اريد مائتي حمامة تضع خلفها دبّوس لكي تعلّق على الصدر كما تعلّق الانواط الملكيّة على صدر الانسان الذي هو اكرم مخلوق على وجه الارض , والسيّد بلا منازع لجميع المخلوقات. اريدها كما هي في الصورة تحمل في منقارها غصن الزيتون . قال الرجل نعم كما تريد . قال جمال لا تنسى اتفاقنا بعد استلامنا النموذج الاول بشكله المتقن ومن ثمّ اقدّم لك نصف المبلغ لإتمام الصياغة للعدد الكامل . ثمّ نهض وودع الرجل . والقى بنفسه بعيداً عن النهرالبشري سالكاً طريقاً غير الطريق الذي جاء منه تحسّباً , وزيادة في الحذر , وذلك لكي لا يقع فريسة للذئاب
المتعطّشة للدماء . وصل جمال للوكر مثل مقاتل يعود الى معسكره المجهول لدى العدو دون ان يعكّر صفوه احد ممن يوجّهون نواظيرهم لرصد المارة ,
وينتشرون في التقاطعات , ومفارق الطرق , وتحت لوحات الفنادق , وقرب مداخل السينمات , منهم من يندسّون في الصفوف الخلفيّة للمصلّين , وفي الاضرحة , والمراقد , وفي المقاهي بشكل خاص عندما تبث دار الاذاعة العراقيّة اغاني الفنّان الكبير(عزيز علي) .
كان الشارع يضطرب , وتحتقن المقاهي بالعراقيّين
على اختلاف مناهلهم ومشاربهم السياسيّة . فالمستمعون
يتجمهرون امام المقاهي ممن لم يحصلوا على مقاعد
في المقاهي يضطرّون الى الوقوف امام واجهات تلك المقاهي ليستمعوا الى بلبل العراق المتوهّج وهو يقذف بحجارة سجّيله فوق الرؤوس التي دُفنت في الرمال , وتركت اجسادها هدفاً للصيّادين . حتّى المراقص الليليّة لم ولن تهمل من قبل العيون المحدّقة في الظلام . فأينما ذهبت تعثّرت بها وهي مثل بئر العقارب , وانتشار الثعابين . كان جمال مأخوذاً بسحر المدينة , وبالالوان المستخلصة من واقعها . افكاره تتجمّع لتشكّل حزمة من اصناف الورود الباهرة بعطورها , والخلّابة بمنظرها .
هكذا كان يشعر في لحظات الصفاء وهو يسترقها
عندما كان في مربّع ما قبل المعرفة , وما قبل الانحدار في التيّار الجارف , وعندما كان يطفو على الزَبَد , وقبل الغوص للأعماق , وملامسة القاع , لكنّه عندما استقرّ كما تستقر جذور الشجرة العظيمة في الارض انتهى عنده موسم الفرح , وفصل الربيع , ربيع ما قبل الخريف. وها هو الآن يجهد نفسه لطرد العناكب الضالّة , والتي تنسج خيمتها في الكهوف المظلمة .
في بعض الاوقات كان يسأل نفسه : متى تمحى البقع السوداء عن وجه السماء الصافيه .؟
كان يطلق الحجر على سطح البحيرة ليبعث الدوائر في فلك احلامه. عمل جاهداً للخروج من نفق الحياة الضيّق , افكاره تتداعى عبر رحلتي الليل والنهار . تذكّر قبل ان تحصل له ارتباطات حزبيّة , او التزامات عقائديّة . كان كطائر
يحلّق في ايّ اتجاه شرقاً ام غرباً مالكاً لحرّيّته قبل ان يضطرّ الى الغوص او اللجوء للاوكار, والاختباء عن انظار رجال التحقيقات الجنائيّة , او الوكلاء وهو يتذكّر
كيف كان الناس يتحرّكون على بلاط شارع ابي نؤاس.؟ وكيف كان البعض وهم يمرّون سكارى,؟ والبعض كانوا كزرافات يسيرون للترويح عن النفس , وليزيلوا غبار متاعبهم اليوميّة , وليطردوا الحزن , والسأم الذي اثقل كاهلهم , وهدّ بنيانهم , وجعلهم تحت مدار عمر لا يقيّده قيد , ولا تمنعه , او تحدّه حدود اجل كان جمال كهؤلاء طليقاً حرّاً قبل ان يحصل له تماس مع الافكار المحظورة وهو يتصوّر كيف كان يسير بانسيابيّة مثل موجة تطفو على سطح النهر . والاطفال يرقصون ويلعبون على الثيّل قرب شجيرات الآس ,
والبعض يأكلون السمك المشوي وهم يجلسون
في (الكازينوات) بين اشجار الورد , وأشجار الزيتون في لياليهم الجميلة حيث تصدح الحنجرة الذهبيّة لام كلثوم التي تحمل سامعيهاالى عالم الجمال والدعة , والانسياب على زورق الاحلام في المدينة المقترنة بالأساطير , وقصص الف ليلة والليلة الموسومة, والمعلّمة بأجمل اللحظات المترفة والمتخومة بالحبور والافراح . جمال ينساب على امواج
تخيّلاته التي تمور بالحياة وما تردّده امّ كلثوم يحمل نكهة الماضي وعروج عمر الخيّام في رباعيّاته التي تخطف العقول الى جانب قرع ورنين الكؤوس , واشراقات وهواجس الالتياع وهوامش الاجواء الساحرة والخلّابة .
كانت تلك الذكريات تفصل بين ماضيه الطليق, وحاضره المكبّل وها هو الآن يحسّ بالحرمان الفادح بحكم تنافره مع النظام القائم بين الاقطاع , والقلّة المحيطة بالبلاط الملكي, واحتضان الاقلّية, ورعايتها على حساب الاكثريّة الساحقة من معدمي الشعب وفقرائه . كلّ ذلك الهم الى جانب سلب حرّيّته المطويّة الذكرفي مدار المظاهر الحضاريّة لانسان ارض السواد المصادر والمقيّد في القرى , والمدن مثل عبد لاترى سلاسله الا بتعايشك معه . وكذلك عمّال المدن فالكل يخضعون امّا لرب العمل, وامّا لسيد الارض حيث تدور الطواحين على رؤوسهم من خلال التسلّط الطبقي . فعامل البناء يشتغل من طلوع الشمس الى مغيبها , وفي يوم الجمعة الذي هو يوم عطلته نرى رب العمل يطالبه بعمل نصف نهار (سخرة ) اي بلا اجور: هذا هو حال عمّال المدن . كانت الهموم تملأ رأس جمال المتخوم بالصور المرعبة , والتي تمارس بشكل مستمر اللعبة الابديّة بين الذئب والحمل . فمتى ينتزع الانسان ميوله الشرّيرة ؟ ويكف عن ممارسات حيوانات الغاب والصور التي تغلق جميع نوافذ النور.؟ رغم تدفّق الشلّال الحضاري , واتّساع رقعة المعرفة ,
واكتشاف جغرافيا الحب , ورمز التواصل , والانضواء تحت مظلّة آدم وحوّاء : في (يوتوبيا) التصوّرات الجماليّة , والتي تقترب كثيراً من عظاة الانبياء , وصرخات المصلحين , ونداءات الروّاد , ولكنّها جميعاً عجزت عن قلع الضرس القاروني , وشل اليد القابيليّة الآثمة في ممارساتها اليوميّة المتعثّرة تبعاً للظروف التسلّطيّة , وتصعيدها كونها صاحبة القرار بامتياز . في مثل ما يسمّى بحكم الاباطرة , والملوك , وحتّى ما يسمّى بحكم سلطة الجمهوريّة . وبين هذه وتلك تمتد مخالب النمر البشري الذي لا يقل شراسة , وقسوة عن اساليب محاكم التفتيش , وبين عصر وعصر تشن هذه القوى الطفيلية حروباً صليبيّة ؟ : لا بمعنى الحرب الصليبيّة التقليديّة , بل حروب من نوع آخر الى جانب الحرب النفسيّة , وهي تشهر السلاح في كلّ وقت طالما هي تملك سلاح القوانين , وتشريعها لصالحها والتي تدعمها البندقيّة الى جانب العقوبات السجنيّة عند الضرورة ضد من لا يملكون سوى بيع قوّة عملهم, ووقوفهم امام الآلة الصمّاء وذلك ليجني السيّد المالك فرق ما ينتجون في ربيع عمرهم لدعم , وتقويم خريفه الذابل . وفي صين ما قبل الثورة الاشتراكيّة . كان الاقطاعي يمتطي الفلّاح مثلما يمتطي البغل في الطرق الوعرة , او في شعاب الجبال . انّ استشراف جمال لهذه الصورة المرعبة ,والكالحة كانت تسحقه , وتأرّقه , ولا تغادره حتى في الاحلام . هو دائماً وأبداً ينام تحت كوابيس هذه الصور . وفي صحوه كان يتمنّى لو يصوم عن التفكير ولا ينسرح للبعيد مثل رجل عزم , وصمّم على عبور الربع الخالي , ومحيطه الرملي المتموّج , والمغلق على مدى سنوات العمر القصير. جمال يحاول كبح جماح نفسه لكي يغوص في البعيد ويخرج بافتراضات قد تشكّل لديه قناعات غير التي يعتقد و لكنّه يعود ولا جديد تحت الشمس .

0 0 0

كانت الدرّاجة الهوائّية مثل جواد ظامئ في ذلك الشارع
المثقل بالهموم حيث تتفرّع منه شوارع فرعيّة .
كان الشارع ساكناً تصطف على جانبيه الاشجار مثل الجدار الاخضر تفصل بينه وبين النهر لتكاثفها وتقاربها . كانت نظرات جمال مثبّتة على تلك اللوحة الطبيعيّة وكأنّها قطعة من الفردوس . صار يتنهّد , ويطلق الزفير , زفير السنين المرّة , والأمرّ حيث الخيبة . عاد ليدخل حواراً مع النفس وهو يهمس
لو كان الوطن فقيراً , وخالياً من كنوزه , ومعادنه النفيسة , وحليّبه الاسود الذي يتدفّق من تحت جذور كلّ شجرة تفاح , ومن تحت عسكر النخيل المصطف على التربة العطرة والكريمة . نعم لو كان الوطن فقيراً لما كان هذا حاله, ولترك بعيدًاً عن مخطّطات الفاتحين وخرائطهم : ولكن شاءت الاقدار لأرض الانبياء والرسل , وللبلد الذي قدّم اوّل حضارة للجنس البشري , وأعطى اول أبجديّة لّلغة المكتوبة بالحروف على ورق البردى والواح الطين لفك عقدة الّلسان , وليخرج العميان من متاهات الظلام , لدخول الامتداد الّلامتناهي لبشائر النهار كما قدّم اوّل قانون للحقوق والواجبات , وطرح اوّل ملحمة شعريّة سمت بالإنسان من الدرك الاسفل الى قمّة الفكر . بعد ان طافت برأس جمال هذه الافكار , والتصوّرات .
قال اذاً انا الوطن والاشعاع وليس الحجارة والتراب فقط .
بل السابق في ماراثون الامم لعبور قرون الظلام , وعصور البربريّة حيث مدن الشمس لغرس راية الانسان في قمّة المجد .
هذه الاشواط ليست ضئيلة : بل لها حساباتها في مساحات التاريخ , وحجم التقويم , وأولويّات الريادة تظهر ما تحت المجهر , وما فوق مستوى النظر .وفي مجريات العمل المنهك .
كان جمال قد خرج لمهمّة خاصة .
الذكريات تتداعى مثل ماء الساقية المنحدر من عل وهي تتوغّل في كل مسا مات ذاكرته من القمة الى السفح مثل انسياب درّاجته الهوائّية , والفرح يغمره في ذلك الشارع الجميل , والمعطّر بنفح الزهور , اتّسق وذكرياته , وأفكاره , وتصوّراته عن المستقبل القادم بالتحوّلات التي تتطابق وأمانيه وهو يتعجّل التغير
, والاقتراب , من ذلك اليوم . يوم يصل القطار محطته الاخيرة في اليوم الموعود وان كان جنيناً ينبض في رحم التاريخ : كادت التخيّلات تسكره من دون نبيذ , او خمر : آهٍ ايّتها الايام . القطار قادم .. والمحطّة .. مشحونة بالكبريت . وسنوات النار ..
وبينما هو في دوّامة احلامه الورديّة , وفي ذروة افراحه , وتصوّرات الهناء فوجئ باثنين من الجنود , جنود الحزب ممن نكثوا ونكصوا في الطريق , وركعوا بقامة العمالقة في حضرة الاقزام , وانحنوا للعاصفة , ووقّعوا على القراطيس المذلّة بعد ان سقطوا في شباك اخطبوط النظام فحوّلوا خدماتهم من موقع الدفاع عن الشعب الى الهجوم على مواقع الدفاع القديمة, وتدرّعوا بدرع السلحفاة وهم يقفون بالمرصاد لرفاق الامس وعلى مطلع الجبهة الاماميّة. هم والذين سقطوا من قبلهم وقد باعوا انفسهم للشيطان , بعد ان نقلوا خدماتهم غير الشريفة .ها هم الان يطاردون الفراشات في الحقول وقد ارتضوا لأنفسهم الثمن البخس مقابل خدماتهم مثل ما نقل (يهوذا الأسخريوطي) خدماته لكهنة اليهود ضد السيّد (المسيح)ع مقابل الثمن البخس لتسليمه لكهنة اليهود . فما كان من جمال عند مواجهته لهذين الشيطانين الا المبادرة لسحب مسدّسه وإطلاق النار باتّجاههما وهما يركبان درّاجتيهما الهوائيّتين فسقطا على الارض من هول المفاجئة الفريدة البالغة الجرأة الاقتحاميّة . حالفهما الحظ دون ان يصابا . فرّ جمال قبل ان يفيقا من الخوف ليلحقا به , وبعد ان نهضا عن الارض وركبا درّاجتيهما للّحاق به كان جمال قد تلاشى عن الانظار .
بقيا يطلقان النار بشكل طائش, وعشوائ , وغريب .
خرج الناس من دورهم على اثر لعلعة الرصاص ليستطلعواما الذي يجري . امّا جمال فقد لجأ لاحد الدور في المنطقة هو ودرّاجته .
وقد اشاعا هذان العميلان انهما كانا يطاردان احد اللصوص وهم يجوبان المنطقة و يفتّشان بمهارة الثعالب , وينظران الى الوجوه بعيون بوم , وبوجه حمل جافل ساعة يلاحقه الذئب ليسوقه الى حتفه . عادت المرأة الطيّبة من بين الناس الذين خرجوا من دورهم على اثر
انهمارالرصاص الذي زغرد ولكن زغاريده كانت خارج مواكب الاعراس , او مواكب النعوش الحزينة , والمحاطة باصوات الموسيقى والشموع .
تلك عادة لمن يموت في شابه , غير متزوّج .
قالت المرأة ابني ارى الشهامة تلوح على محيّاك , وسمات النبل , والرجولة فوالله لا اصدّق ما قيل عنك
ولن اسلّمك لقمة للصيّادين , انّهم يشيعون عنك الاراجيف , ويجدّفون , ويطلبون من اهل المنطقة تسليمك لأنّك .., وغصّت , وهي تلوح بوجه حزين والحياء يلوح على محيّاها من تدليسهم . ولكن جمال يجهل ما قيل عنه . ثمّ انبرى وقال ايّتها الوالدة قولي ما سمعته عنّي ولا تتحرّجي : فهم كهنة بهتان ولا فرق عندهم بين الكذب والصدق: ضمائرهم غائبة , وقلوبهم جافة , وألف باء الكذب من محفوظاتهم مع قلب الحقائق, ومد جسور التعمية فوق وديان التمويه , وكسر البيضة, وتركيزها على المرآة المائلة , وتقوّلهم كيف تدور السنة على قرد , او خنزير ابيض
من خنازيرهم في مزارع وغابات ارض السواد .
تحت الحاح واصرار جمال على ان يسمع ما سمعته منهم . قالت وهي تبتسم بسخريّة بالغة : انّهم يقولون عنك .., ثمّ تلعثمت, وسكتت.
جمال ارجوك قولي الذي سمعته عنّي .
تغيّرت ملامح وجهها , ولاح الاحمرار , واختلجت , شفتاها .
ثمّ تغيّرت سحنتها, وطالعته بالبشرة الزعفرانيّة, وأغمضت عينيها وقالت ل.. ل .. لص وأطلقت زفيراً قويّاً وكادت تنهار لولا ان تماسكت في اللحظة الاخيرة وابتلّت جفونها بالدموع وهي خجلى ثمّ ملكت زمامها وقالت . يقولون لص وهو هارب من قبضة العدالة .
ردّ جمال ليس في الامر غرابة . انّهما يحتاجان غطاءاًّ
لعملهما الشنيع , والبائس. وما دمت سمعت كلماتهم عنّي فإليك الحقيقة :
انا واحد من الذين اندرج مختاراً لتجنيد نفسه للعمل من اجل الشعب. انخرطت في صفوف حزب سرّي معارض لنظام الحكم. احاول واعمل على رفع الضيم, والغبن عن الشعب المظلوم , وعن تراب , ومياه , ونخيل , ومنابع نفط وخيرات هذا الوطن . فقد نشأت احزاب ومنظّمات للدفاع عنه , والعمل على اسقاط المواثيق , المعاهدات الجائرة التي وقّعت دون ان يكون للشعب ظلاً على الاقل , والى جانب حزبنا توجد احزاب معارضة كالحزب الوطني الديمقراطي ,
وحزب الاستقلال , وحزب التحرّر الوطني , وحزب الجبهة الشعبيّة , وحزب الشعب , والحزب البارتي .
والكثير من احزاب ومنظّمات لا اتذكّرها . لقد ضربت هذه الاحزاب جذورها في الارض . امّا حزبنا فهو الاعمق , والأكثر تجذّراً في لارض ,
والأكثر تطلّعاً لتحقيق العدالة , ورفع الحيف عن المعدمين , والعامل بلا هوادة لأجل تحقيق الاشتراكيّة وإنهاء صراع الانسان.., مع الانسان.., عند تحقيق هذه الطموحات العظيمة وسينقل الانسان صراعه المرحلي الى الصراع مع الطبيعة. الى جانب هذه الاحزاب التي عددتها توجد احزاب اخرى : اهراماتها رؤوس السلطة من المتسلطين على مقدّرات الشعب .
وقواعدها من المرتزقة والنفعيّين , ومن آكلي السحت,
والمال الحرام وهم يرسمون اسماء احزابهم بالحزب الدستوري, وحزب الامّة الاشتراكي وكل حرف من هذه الحروف للاسماء الكاذبة قد يزيد طولاً عن ذيل حمار اجرب , ونقاطهم التي تعجم بها الحروف قد تكون بحجم عين حصان مسرّح من الخدمة . ومن ساحات اللعب وكسب المال الحرام . قدّمت المرأة الطيّبة الغداء , واعتبرته ضيفاً يندر ان يزورها ضيف مثله . حمدت الله في قلبها لأنّه لجأ اليها , ولأنّه المكان المناسب , والصحيح إذ لو اقتحم بيتاً آخر ممن اهله ينحازون الى الشيطان لوقعت الكارثة وباءت خطّة الهرب بالفشل , ول انقلب كل شئ على عقب , ولكنّ الله سدّد خطاه , وقاده الى بيتنا , وليس لمن هم ينغمسون في حوض الشيطان .
كان قلب المرأة يفيض بالفرح , والحبور لأنّها شعرت قد حقّقت انتصاراً عظيماً دون ان تستطيع التعبير عنه . فخيالها واسع , وافقها واضح مثل من يستقرئ كلّ شئ دون ان يظهر امامه. وعندما زحف المساء , وتألّقت الأضواء , ونشر الامان جناحيه على المدينة وأهلها رأت جمال يتملّمل . قالت له أنت في بيتك , وأشارت الى أبنها وقالت انت لا تفرق عن ولدي هذا . نم عندنا الليلة . (وفي الصباح رباح) كما يقولون.
قال جمال في نفسه كيف حصل هذا الذي حصل ؟ لقد لعبت الصدفة دورها ماذا لو انّ الشيطانين تمكّنا من القاء القبض عليّ وأنا لم افز بالتواري عن عيونهما الذئبيّة.؟
لقد حرمت نفسي من كلّ صنوف المتع التي يستمتع بها الناس , والشباب بشكل خاص كأرتياد السينمات , والملاهي , والتفسّح في الشوارع , واللقاءات ببعض الاصدقاء , وزيارات الاقرباء , والجلوس في المقاهي على ضفاف دجلة كسفن تطفو على الموج تحت المصابيح الملوّنة حيث تتسلّقها النباتات , وتحيط بها الاشجار العملاقة , والطواف في المدينة عندما يغطّيها الليل وهي تلوح للناظرين مثل قطعة من الفردوس وحيث يمر النهر مخترقاً ومنساباً ما بين شقّي المدينة . اما حصّتي منها فهي الانزواء والهبوط الى التحت مثل غوّاصة تستقر في الاعماق لتكن بعيدة عن المرمى .
بعد هذا الانغمار في الدوّامة الدخليّة : حيث حجبت عن عينيه كلّ الاشياء. تهيّأ للخروج من الدار
قالت المرأة لا تخرج وهي تتوسّل ان يبقى في بيتها الليلة . قال اشكرك فأنت نعم الوالدة , ولا بدّ ان تقدّري ظروفي . فوالدتي ووالدي بانتظار عودتي فإن غبت الليلة عنهم فسيقلقون عليّ وأنت تقدّرين هذه الحالة كأم تتدفّق حناناً, وبدوري سوف لن انسى لك هذا الفضل ما بقيت على قيد الحياة , وستظل ضيافتك غلّاً في عنقي . وأخيراً خرجت المرأة من الدار ثمّ عادت وقالت الطريق سالكة , وخالية من الشياطين والحمد لله
ولكن تبقى على العشاء , وأنا اود ان أملأ عينيّ منك لأنّك شمعة تحترق لأجل الآخرين . اشكرك على تقويمك, وكرمك لي وأُحب ان اعقّب على حديثك: ان عشنا قد نربح القضيّة, وان متنا فسوف لن نخسر سوى القيود . وقديماً قالها المعلّم والمنظّر , للاشتراكيّة وهي في رحم الغيب. وفي دفتر من دفاتر احلام اليقظة . خرج جمال مودّعاً المرأة والبيت الذي احتضنه لسويعات آمنة من الخوف , والملاحقة , وشيئا فشيئاً تلاشى جمال بدرّاجته تحت اضواء المصابيح . والمرأة تدعو لهه بالسلامة. صار جمال يحترس كثيراً عن انظار العدو , وعند ما يخرج يختار الطريق التي تقل فيها الحركة وذلك لكي يتجنّب العيون الراصدة من زبانية النظام , ويستعرض الماضي المشحون بالأحداث بين المد والجزر منذ طفولته .
ثمّ يستعرض البيوت الطينيّة و(خان حجّي محسن) وانتقال الأهل الى اماكن متعدّدة , وخاصة البيت الذي يقرب من الجامعة التكنولوجيّة وكيف كان ينوء تحت ثقل الذكريات قبل ان يقترب , ويصبح أباً لنبراس ونورس وليث وغيث . كان كنهر يجري بين أخوين ,
وفاطمة . الاخت التي اكبره سنّاً . في تلك الفترة التهبت عواطفه , وشغله هاجس التماس , واتّسعت دائرة تفكيره , وأخذت حيّزاً واسعاً من مساحته , وأصبح كجرم يدور حول كوكب لامع وباهر . فهو ابن قرية من قرى العمارة . وهي بنت مدينة اُم الربيعين وسليسلة عائلة موصليّة مؤلّفة من طفل , ووالدة, وفتاة تملك صفات الغرانيق , وقوام الخيزران , وهي كوردة الجوري الابيض توّاً تفتّحت اكمامها تققول للبدر غب وأنا اكفيك طلب الضاربين في متاههم بحثاً عن الفردوس في الارض . كانت تعبيراً عن إبداع الخالق العظيم في تناسقها المتكامل لهيكل حوّاء الاُنثوي وهي في صميم ربيعها . كان جمال يقترب , ويتعاطف مع من تحت الخيمة الموصليّة .
فكّر في الاقتراب من عش الحمام : ولكن غموض خلفيّات من تحت الخيمة الموصليّة دعاه ان يحجم على مضض , وفي وجدانه صيغ التمازج , والاندماج , والتوحّد .
ظلّ زمناً طويلاً كنهر بين ضفّتين لا يدري لأيّ ضفة سينحدر
بعواطفه الجامحة . وأًخيراً قرر الابتعاد وهو يدوس على عواطفه, يرفض لنفسه غرس البذرة في المجهول من الطين الانثوي الذي يتنسب لاُمّنا حوّاء . كان لا ينشد الى الريف وتروقه المدينة الملعونة .
ظلّ يعيش تصوّراته , وينحدر عميقاً الى أيّام طفولته ,
يتذكّر إنّ جدّه ( جري ) كان سيّد العشيرة مستقرّاً في قريته ولكّنّ الحرب وما ادراك ما الحرب يوم اندلعت بين بريطانيا والحلفاء من جهة , وبين الامبراطوريّة العثمانيّة , ودول المحور من الجهة الاخرى . ومن الطرف الآخر ثورة ال(حسين) ضدّ العثمانيّين التي تقع تحت نفوذها رقعة واسعة من خارطة الوطن العربي .
كانت عشائر ارض السواد تتباين في مواقفها .
البعض منها اعطت رقابها للإمبراطوريّة العثمانيّة بلا تردد لقميصها المرسوم عليه(لا إله إلّا الله محمد رسول الله رغم استبداد وبربريّة تلك الإمبراطوريّة , وكيفيّة تعاملها مع الشعوب العربيّة الاسلاميّة بوحشيّة .
امتدّت هيمنتها لما يزيد عن اربعة قرون وخمسين عاماً من أعوامها السود والدائرة بالويلات , والمحن , والمصادرة للهويّة القوميّة والانسانيّة .
كان الشعب العربي يستغيث من كوابيس التتريك اللّاارادي ومع هذا كان موقف الجد جري , هو غض النظرعن ممارسات الامبراطوريّة العثمانيّة (الاسلاميّة) الشنيعة وهو بموقفه هذا كمن استجار بالنار من النار.
وبعد انهيار الامبراطوريّة العثمانيّة اصبحت الهيمنة البريطانيّة بديلاً لنظام الخلافة العثمانيّة الذي ولّى الى الابد , وحلّت عليه لعنة التاريخ, واندثر كمحيط اسود كان يغطي وجه الامّة العربيّة الناصع البياض وليس العراق الضحيّة وحده .
تمّ طرد الشيخ جري عن ارضه كما طرد العشرات من
امثاله ممن دافعوا عن الامبراطوريّة العثمانيّة بعد ان اصابها التفكك , والاضمحلال ولم يرحبوا بجيوش الكافر الفاتح المحرّر حسب تصريحات سيّد حصان
طروادة الذي كان يصهل على باب سفارته البريطانيّة .
بعد طرد الاقطاع القديم المتواطئ مع الامبراطوريّة
المندثرة ثمّ اتوا بآخرين ممن ناصروا , وحالفوا الدولة المحرّرة إإ؟ والتي تحوّلت بين ليلة و اُخرى الى دولة فاتحة متوحّشة غير مدجّنة : وهي تجيد التعامل بممارسات الغاب . بقدر ما تجهل ممارسات التعامل الحضاري .



#شعوب_محمود_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بأنتظار التحول
- رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟ الجزء الخامس 2
- رواية) ذهب ولم يعدإإ الجزء الخامس
- رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟ الجزء الرابع
- ذهب ولم يعد إإ ؟
- رواية : ذهب ولم يعد إإ؟ 2
- ذهب ولم يعدإإ ؟
- الملك
- الصعود لبرج بابل
- (بانتظار القصاص)
- (جولة في حقول النوّاب)
- بين المسرح والقضبان
- مولد الرسول الاعظم
- الرحمن
- (ايقونة الرماد)
- حين يغنّي الدرويش
- مقدمة في مدار اسماء الله الحسنى
- (الله) جل جلاله
- لمحات عن الشعر العراقي الحديث
- خسوف قمران


المزيد.....




- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...
- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...
- مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من ...
- فيلم -بين الرمال- يفوز بالنخلة الذهبية لمهرجان أفلام السعودي ...
- “ثبتها للأولاد” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد لمشاهدة أفلام ...
- محامية ترامب تستجوب الممثلة الإباحية وتتهمها بالتربح من قصة ...
- الممثلة الإباحية ستورمي دانييلز تتحدث عن حصولها عن الأموال ف ...
- “نزلها خلي العيال تتبسط” .. تردد قناة ميكي الجديد 1445 وكيفي ...
- بدر بن عبد المحسن.. الأمير الشاعر
- “مين هي شيكا” تردد قناة وناسة الجديد 2024 عبر القمر الصناعي ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شعوب محمود علي - رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟ الجزء الخامس 3