أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شعوب محمود علي - رواية) ذهب ولم يعدإإ الجزء الخامس















المزيد.....



رواية) ذهب ولم يعدإإ الجزء الخامس


شعوب محمود علي

الحوار المتمدن-العدد: 4372 - 2014 / 2 / 21 - 16:34
المحور: الادب والفن
    



حاتم يحدث نفسه همساً
عند زيارته وعائلته لجمال وهو محشوربين جمع كبير من العوائل.
كانت الزيارة تشبه الاسطورة .
لم يتعوّد حاتم على مثل هذه الامور, عمره كلّه انقضى ولم يصدّق ما حصل لجمال.
جمال الطالب المستقيم ليس كغيره من الشباب العابثين..
والذين يرتادون الحانات , والملاهي الليليّة : ومواخير الرذيلة , ولعب القمار , وسباق الخيل , والولوج لبيوت بنات الهوى .
يخرج من البيت الى الكلّية وديعاً لم يحصل له ان تشاجر في المقاهي , والحانات مع الناس
ثمّ كرر حاتم في دخيلته : هم يتركون الشقاة , واللصوص يعيثون فساداً في المدينة ويطمرون جمال في سجونهم .
ولدي المهذّب الهادئ علام سجنوه ؟
الذين لا يخافون الله , وليس لهم ذمّة , ولا ضمير .
جمال الطاهر النقي الذي لم يشكو من سلوكه احد
من ابناء المنطقة , وحتّى البنات من نسائها .
بينما كانت تجول وتلعب برأسه الافكار , وهو يغرق في تهويماته منسرحاً مثل زورق يهزّه الموج .
سمع صوتاً جهوريّياً قبيحاً وهو يزبد , ويرعد متوعّداً : اسمعوا , بلا تهريج , ولا ضوضاء ,
نحن لسنا في حمّام نساء .
كانت قضيّة جمال بمثابت الضربة القاضية في حلبة الحياة .
حاتم يبني آمالاً عريضة على ولده جمال , وينتظر بفارغ الصبر يوم تخرّجه , ولكن القدر سدّد سهمه الذي لم يخطأ ليغتال تلك الآمال العريضة , وليزعزع القواعد , وليهدّ البناء الرصين مثل تلّ من الرمال . بحيث يضيّع كلّ شئ بنظر حاتم .
لقد رسمت علامات الشمع الاحمر على لوحة المستقبل , ومدّ الليل سرادقه دون ان يصحب النجوم , وأعطى البدر ظهره الغير مرئ , وتعثّرت خطوات الفرح في شوارع الاحزان , والقى السأم ستاره ,
ومال البرج الذي يطلّ منه لما وراء التفاؤل بعد ان لامست اقدامه قاع السجن . خطب مدير السجن بتلك الجموع : وكان خطابه قد روّع الزوّار من خلال ما قاله للآباء , ولوالدات وأخوات نزلاء سجنه الذين يقبعون تحت امرته : انّ اولادكم غرباء عن الوطن , وعن تقاليد الاجداد
وهم الآن يعملون على تعطيل ماكنة الدولة , وإيجاد بديلاً عنها
والعمل بشكل دائب على إلغاء ما ألفه العراقييّون
من تقاليد , وعادات , ونظم .
كان الاجداد الأماجد قد وضعوا حجراً على حجر
ليشيّدوا اساساً تقوم علىه المملكة . وقد فتن هؤلاء
السجناء بأفكار (المسقوف) الذين قتلوا ظل الله , وعائلته البريئة .
مزّقوا الإناجيل , ومنعوا المسيحيّين من دخول الكنائس لتأدية الصلاة .
هذا ما كان يسمعه الحرّاس , والزوّار من المدير .
وهو يقسم بأغلظ الإيمان , ويردّد : هاؤلاء على طرفي نقيض مع جميع الأديان .
كان حاتم , وأولاده عبد الله , وفاطمة , وزامل يسمعون . الخطاب بواسطة مكبّر للصوت .
وما ان هبّ حاتم بالتحرّك بعد ضجره من الوقوف الطويل حتى صرخ به احد الحرّاس قائلاً أين ذاهب ؟
اجاب حاتم لموّاجهة ولدي . من هو ولدك ؟
جمال . الحارس , وهذه الفرقة . ايّة فرقة .
هؤلاء الذين خلفك .
هؤلاء اولادي جاؤا لزيارة ابني جمال
طيّب عليك ان لا تتحرّك قبل ان تصدر لك الاشارة
فهمت . نعم فهمت .
اذن قف حيث انت , ولا تتحرّك قبل ان نخضعكم للتفتيش وبعد ذلك يمكنكم الدخول الى بئر العقارب , ومواجهة إخوان اليهود ..
صعق حاتم , وخاف ان يرد على الحارس.
همس مالنا واليهود : موسى (بدينه ونحن بديننا).
بقي ساهماً , ولعن الساعة التي جعلته في لقاء مع هؤلاء الوحوش . انهم لا يحفظون ذمّة لأحد من الناس .
بعد وقفة طال امدها . صاح احد الحرّاس تحرّكوا الى تلك الباب .
وما ان ولج حاتم , واولاده , فوجئ بطابور من الحرّاس
في الداخل وهم يضربون نطاقاً حول الزوّار الذين
سبقوهم بالدخول وهم ينظرون اليهم بوجوه عابسة تنم
عن الكراهيّة للامّهات والآباء .
كان احد الكتّاب يسجّل اسماء البالغين السن القانوني
(ويطبعون) سواعدهم بالحبر الذي لا يمحى الّا بعد ساعات قد تتجاوز النهار بطوله .
هذه الاجراءات قد تطول تبعاً لكثرة الزوّار الذين يريدون المواجهة .
كان الزحام شديداً وهم يتحرّكون مثل قافلة انهكها الوقوف الطويل ,
والسير البطئ, ولا خيار لمن يفكّر , او يطلب الغاء الزيارة وهو في الطابور , وقد اضحى حلقة من تلك السلسلة .
تمّ تفتيشهم وما جلبوا لاولادهم , ثمّ سمح لهم بالمرور وهم يتدافعون مثل الموج . التدافع على اشدّه وذلك لضيق الممر الشبيه بالنفق ,
ثمّ حصلت اللقاءآت, وتبادل القبل الحارة وقد انهمرت
الدموع , دموع الافراح المشوبة بالاحزان .
جلس الزوّار على اغطية السجناء في ساحة ضاقت بهم لكثرة من قصدوهم لغرض الزيارة .
كانت الاحلام على بساط طائر يطوف بهم خارج اسوار السجن ,
والسجناء سارحون , وغارقون في غيبوبة التصوّرات
تداعبهم احاسيس الطلقاء وهم يشعرون في جوّ من الحرّية المطلقة , ومثلّما تحلّق الطيورعند اطلاقها من اقفاصها اللعينة التي شوّشتها , واربكتها
الحواجز لتكثّف طريق مسارها , قبل ان تصادراحلامها , وتشل قوادمها , لتحرمها من العبور بعيداً عن السجن الرهيب , وحرمان السجناء من التحليق فوق المدن المكسوّة بالخضرة , والجمال .
كل هذه الاحاسيس مبعثها الحرمان من الممارسات الفكريّة , ومصادرة الحرّية التي لا يعوّضها شئ ,
بل حتى كنوز ما في الارض .
وسرعان ما تفيض المرارات , وتغطّي الخيبة بغصونها
المثقلة بثمار الحنظل .
وعند مصادرة الرغبات في التحليق , او التجوال , وتطويق الانسان , وحجزه خلف اربع جدران صمّاء
يمقتها , ويضيق بها حتى الاخرس الذي اعياه النطق
عن اطلاق العبارة العاجزة عن العبور في حدود الشفاه , وقصور اللسان الذي تصاغر امام ما تضم القواميس ,
وكما يضيق الاعمى بمساحات الكون الشاسع حيث تذبل العزيمة , وتذوي الروح مثل الازهار في الغصون .
كانت الاحاديث تأخذ صيغ العتاب , وبعضها تنحو منحى جبر الخواطر . وفي كل الاحوال : تخضع جميع الاطراف لما رسمته الاقدار .
وعلى بضعة امتار ينتشر الحرّاس , ومن انيطت بهم ادارة السجن من المعنيّين بضبط ووضع المحافظة على
الامن داخل السجن , وفرض الطاعة , وتجريد السجين, ومصادرة كلّ مستلزماته الحضاريّة من مذياع , وكتاب . وصحيفة وورق , وقلم , وايّة آلة جارحة, وعزله عن العالم وما يدور حوله في البلاد , وفي انحاء الارض : وركنه خلف الاسوار , وجعله في حدود الحيوان حيث يعيش على النزر اليسير من الطعام , ولا يحسب للزمن ماتُحرق من اوراق شجرة الاعوام وما فات, وما سيفوّت من فرص في خضم معترك الحياة ضمن هندسة التقويم والبناء لمواكبة الامم بالنسبة لشعبنا في ريف الوطن المضيّع من قبل حفنة من الخانعين لاسيادهم في ومدينة المدن المسوّرة بالاكواخ الطينيّة حيث تعلو ارادة السيّد الممثّل والمسمى بالسفير االمتلقي تعليماته من الام العجوز الشمطاء. والمجاور لمنطقتي (الكريمات) و (الشوّاكة) (وجواد الجنرال (مود) يصهل على رؤوس من فرض سكنه بينهم في بقعة من بقاع الجنّة بين فقراء ومسحقين في الارض. وهم يحشرون في اقبية لا تصلح الّا لساكني المقابر في مدينة معنونة باسم عاصمة العراق
فالانسان هنا يشطب اسمه من الجامعة البشريّة . هذا مربّع صغير من مربّعات رقعة شطرنج المدينة , او اشارة على خارطة العاصة الأَمة.. للابناء الاحرار فكيف حال ضحاياها من السجناء السياسيّين الذين يعارضون سياسة النهب .والاستبداد ..
قال حاتم لولده جمال اتمنّى لك الخير والعافية
جمال من اين تأتي العافية ؟
وهم يمنعون عنّا كلّ شئ : حتى الغذاء
حاتم كيف يمنعون عنكم الغذاء وانتم تتدفّقون حيويّة ونشاطاً.
انا لا اقصد الطعام , بل اقصد غذاء الروح : الصحيفة ,
الكتاب ..
القلم ..
الورق..
المذياع
هذه الاشياء عندنا هنا تخضع للمد , والجزر .
ونحن بين الكواسج والحيتان الزرق وكل امنيات السجين لا تتحقّق الّا بالإضراب عن الطعام, والإضراب هو سلاحنا الوحيد ,
راح حاتم يعاتب ولده جمال على امتطاء الامواج الخطرة
والانغراس كاسفين في مصب ماء جارف , والانتحار
على حلبة صراع العمالقة من طبقة الاقطاع , وممثّلي
المدن
من اصحاب النفوذ من المقرّبين للتاج ..,
ورموز المال.. ,
و من زقّورات.. ,
وإهرامات.. ,
وتلال في طريقها الى الصعود..
فاذا حاولتم العبور, او القفز باحلامكم على صهوة الحصان الجامح .. فستجدون امامكم سيّدة البحار بأساطيلها الجوّية , والبحريّة لتكون الدعامة , والدرع الفولاذي لحمايتهم منكم ا نتم المضحّون من اجل الفقراء.
واقطاب النظام بمثابت الابناء غيرالشرعييّن لامهم الحنون بريطانيا .
جمال نحن سجناء ننفّذ برامجنا الآن
في السجن الذي نحن فيه : تارة بالاضراب عن الطعام وذلك لتحريك الشارع الابيض ووضع الثعالب امام المرايا وهم عراة
لا يسترهم شئ عن عيون الشعب .
طوراً بالتمرّد .., وكسر القيود ..,
فالسجين مرّة يدخل بما يشبه النزهة لاسابيع
ولا يخرج من السجن الا بدورة حول العالم مثقلاً بسنوات العمر الطويلة .
امّا بخصوص سيّدة البحار , وما يترتّب لها من مواقف
ذلك له حديث طويل يضعنا على محوري الاستراتيج والتكتيك وهو خارج ما نحن بصدده .



000






ختم جمال فترة الحكم الصادرة بحقّه ثلاث سنوات امتازت
وبالقسوة , والمعاناة المرّة التي كان يقاسيها السجين السياسي
من سوء معاملات الادارة التي تدير , امور السجناء بالصيغ اللاانسانيّة وهي تنفذ عكس ما تتضمّنه القوانين مسترشدة بإيحاء ما يوحى لها من قبل رجالات الدولة , وأقطابها الكبار. والسجن عبارة عن مشتل تشتل فيه النباتات الضارّة والنافعة .
ومع مرور الأيام , والدخول في عمليّات مماحكة , واحتكاك مباشر , مع السجناء الذين يقفون بالضد من تخطيطات الدولة , ورجال الحكم .
واخيراً اوجدوا لاولائك معازل يسمّونها
بالسجون السياسيّة وذلك لكي لا يتلقّح البعض
بما يزرعونه من افكار في ادمغة السجناء الآخرين ممن
يقبعون في ظلمات تلك السجون : فابتكروا لعبة العزل .
في الصباح جاء مأمور السجن في سجن بعقوبة ليبلّغ جمال بانتهاء مدّة حكمه , فقال له جمال لقد انتهت مدة حكمك , وبعد وقت قصير سيذهبون بك الى بغداد فكن جاهزاً .
بهت جمال , وغاص في البعيد . ولاحت له الايام تتراكض امامه مثل قطيع من الغزلان في براري العراق . لقد ذهبت بشهدها , ومرّها . لقد صقلته سنوات السجن , وعلّمته ما لم يتعلّمه في الكلّية . اكتسب التجارب , والخبر, وكذلك تصلّب عوده , وضربت جذوره في الارض عميقاً , وقياساً بسنواته التي امضاها خارج السجن . وقد دخل وكانت تعلق به قشور السمك القبلي ولكنه مع حوار الرفاق , وسلّم التسامح التصاعددي ,وطروح (كروبسكايا) في ممارسات النقد والنقد الذاتي كانت مثل جريان النهر وهي تأكل من الجرف العشائري , وتخلع الجذور النرجسيّة من طينه الفطري الذي يوضع حصراً بما تضمّنه البيت الشعري الجاهلي وما توارثه الابناء عن الآباء :
(اذا بلغ الفطام لنا صبيّ تخرّ له الجبابر سجدينا)
وقد قدّمت له فترة سجنه الصقل لصياغة الانسان الشيوعي بنسبة عالية قياساً للوسط الذي يعيش فيه: وهكذا كان السجن المدرسة الحقيقيّة التي تجاوزت ما تعلّمه من علوم الفلسفة في الكلّيّة ضمن مناهجها الرأسماليّة . وعلى العموم كانت الماركسيّة هي اللبنة الاصيلة في الصرح مع حصار السجن وسجّانيه.
ورغم العيون المفتوحة في الظلام الدامس مضت خلايا النحل تتحرّك بشكل دائب , وبدون طنين وذلك لليّ الفولاذ , ولبناء الهيكل الفكري والتنظيمي مع وجود المراقبة الدقيقة وذلك لخلق قيادات جديرة لترعى الثمارالتي قطفت لصالح الوطن وامجاد الحزب كاسقاط معاهدة الغدر , معاهدة (بورتسموت) وإفشال المشروع الامركي مشروع (النقطة الربعة) وكذلك شل (حلف بغداد) كان جمال يفكّر بالحصول على حريّته دون حجب, اومنع خارج قبور الموتى الاحياء , وخارج طوق قص الجناح , وخطر التحليق , ومصادرة كلّ شئ : حتى الحركة داخل دائرة الليل , وحتى الكلام . اللهمّ الّا الكلام فيما وراء اللسان , والحنجرة , وفي فضاء الصدر , والتجوال على خارطة عالم التصوّرات . وما ان تجاوز القطار مقبرة الشيخ عمر وهو يعوّل ويطلق زفيراً قويّاً ثمّ يفتر , ويخفف من سرعته العنيفة
بعد ان لاح عليه التعب وهو يطلق البخار مثل ثعبان كبير . طلب جمال من الحرس الذهاب للمرافق ليتبوّل لانّ لانّ مثانته تكاد تنفجر . فتح احد الحرّاس القيد ليد واحدة بعد ان فصلها عن السلسلة الحديديّة , وترك القيد معلّقاً بيده الاخرى . وفي داخل (الكابينة)
كان جمال يتدارس مع نفسه عوامل نجاح خطّة الهرب
بشكل إبداعي , وراجح مع وضع احتمال الاخفاق , او الفشل في حالة ظهور ملابسات , او معوّقات خارج حساباته .
ثمّ قرر الخروج على مهل وهو يستند على حافّات المساطب التي يجلس عليها المسافرون .
نظر احد الحرّاس بلا مبالات وهو يقول في نفسه عدنا
بالخروفين الوديعين مقيدا المعاصم خوفاً من ان ينقلبا
الى ذئبين .
كان الحارس يمسك بطرف السلسلة التي تربط الإثنين معاً
وهو يتحدّث بصوت غير مسموع :
ها نحن بين ذراعي العاصمة التي يراد اختراق قدسيّتها
بإسقاط التاج , وكسر صولجان الملك الذي يهشّ به على رعيّته .
عدنا وبمعيّتنا عبوتين ناسفتين غير موقوتتين وقد نجحنا
بترويضهما , وترحيلهما من بعقوبة الى بغداد مثلما ينقل رجال السيرك حيواناتهما المدجّنة , والوديعة .
وفي لحظة الحسم الرعديّة حصل شئ خارج كل
الحسابات الدقيقة المتعارف عليها بين صفوف الحرّاس
المناطة بهم مثل هذه الامور , وبشكل خاص نقل السجناء ممن تحشرهم الدولة في السجون بجريمة ارتكبوها او لم يرتكبوها مع انّهم لم يعرفوا ايّ نوع من الجرائم : الا انّهم رفضوا القيود لهم ولبلادهم , واخطر جرائمهم هي تنوير الناس بلعب الحكّام ممن ارتضوا الاذلال للوطن , وحجب النور عن الذين يعيشون في الظلام .
كانت المسافة القدريّة , والفاصلة بين جمال والحراس
لا تزيد على خمسة امتار , وقد شكّلت لجمال بعدين , وخيارين
خيار الطفرة الرعديّة , او البقاء في المدار المفتوح امّا بكسر
قوانين القهر , او الانقياد الذليل , والركون فوق صقيع قاتل .
نعم لا تزيد المسافة عن خمسة امتار لبوّابة العربة التي تبعد عن مقاعد الحرس .
كان السجين الآخر يجلس قبالة الحرّاس : وهو بين انغلاق الجفون وفتحها . وبالخطوة المباركة الدقيقة , والهادئة , والتظاهر بانسيابيّة الانقياد , والتداعي العفوي , والخواء , والتسليم بالامر الواقع . في تلك اللحظة الخاطفة حدثت المعجزة : لتقلب التصوّرات , ولتبدد ما خطّطوا له حيث انقلب جمال الى براق يسابق الريح , ويعانق العاصفة :
حصل ما هو خارج الاستدراك , وسبق الصحو, وقد تمّت العمليّة بشكل اذهلت الرفيق المستسلم لقبضة سجّانيه . مرّ الرفيق جمال بجوار مقاعد الحرس متجهاً الى باب العربة . حرّك مقبض الباب
بقوّة , وقفز الى الفراغ مثل مارد لعصر متقدّم .





بعد ذهول وارباك , وتشويش , وصراخ لا ارادي .
سحب احد الحرّاس كابح العربة , وسمع صرير , وانين
الدواليب حين اضحت ترفض الدوران وتسحب مثل ثور يقاد الى القصّاب وقد جئ به قسراً , وهو يحاول العصيان , والتمرّد للخلاص من قبضة القصّاب .
قفز الشرطيّان على اثر جمال بعد ان توقّفت الدواليب
عن الدوران قبل الوصول المحدّد بمسافة غير بعيدة عن المحطّة .
كان جمال وسجناء سجن الكوت قد خاضوا غمار ملحمة بطوليّة خلالها استبسل السجناء الشيوعيّون وهم يصارعون الوحوش .
شريط الذكريات , والاحداث المتلاحقة تعرض امامه
علي شاشة الرؤى مثلما يشاهد فلماً سينمائيّاً تعايش معه
, وما يزال يحمل تلك البصمات لحلقات دراميّة هائلة
لا يمكن لها ان تنطوي .
كان يركض , ودويّ الرصاص , ورائحة البارود
تنتشر في فضاء المحطّة ,
. الناس تموج وتتراكض خوفاّ وهلعاً في جميع الجهاتوالناس ليس على بيّنة لما يحصل . جمال يشدّ على اعصابه بقوّة : ولكنّه لم ولن يستسلم لهؤلاء الاوغاد الذين يقدّمون خدمة لمن عملوا , ويعملون على تدمير
الشعب وجيش الفقراء , والمعدمين منهم .
كان جمال مسكوناً بقوّة التصميم , والإرادة التي لا تنثني وهو يراهن على مجابهة كل المفاجئآت المحبطة , والمثبّطة .
هاهو يملك خياراته الصعبة , وطموحاته المشروعة
كجندي عمل ويعمل مع البناة لهندسة العالم الجديد الذي يُمنع
في ظلّه استغلال الانسان لأخيه الانسان .
كان احد المناضلين المشهود لهم بمجابهة الرصاص
مثل من يستقبل الزغاريد في ليلة عرس ضمّخ بالدماء :
بدل الحنّاء . استشهد من استشهد في معركة السجن , وفي تلك المجزرة الرهيبة . امّا جمال فقد تلقّى اربع رصاصات
فتحت في جسده اربع نافورات دمويّة .
استخرجت اثناء العمليّة ثلاث رصاصات اما الرابعة
فآثرت البقاء , واستعصت على الاطبّاء وها هي مستقرّة في العمق لترافق جمال اينما يذهب .
ومنذ ذلك التاريخ ولحد هذه الساعة تقاسمه الحركة والسكون وهي ترفض ايّ ارتجاج , والّا قلبت عليه الموازين , وعطّلت ميكانيكيّة الجسد ومرونته في المكان , والزمان .
قبل معركة السجن الفاصلة , قامت ادارة سجن الكوت بعمليّة
حصار , وضربت نطاقاً حول السجن زاد على العشرين يوماً وبذلك عزلت السجناء عن اهلهم , وعن العالم , وخلال التصعيد , والتوتّر بين السجناء , وادارة السجن قطعت الادارة عن السجناء الطعام , والماء .
اضحى السجناء مثل قافلة تمخر في محيط بعيد عن الناس : ولا من عرّاب يعرف علامات الطريق , او يرى الصوى في البحر ..
اصبح السجناء اشبه بمن يدخل متاهاً صحراويّاً وقد فقدوا العلامات الدالة على حافّات المدن , والقرى , والقصبات
اجل هكذا كان المعزل , وهم يتحسّبون لما حاق بهم
ولكنّ السجناء لم يستسلموا , ولم يضيّعوا مقاليدهم
في تلك المعركة , معركة وجودهم وهم يقنّنون ما لديهم
من الطعام المخزون الذي كانت تجلبه لهم العوائل
اثناء المواجهات . الايّام تمضي بصعوبة بالغة , مع معاناة اثارة حرب الاعصاب , الى جانب توجيه النداءات الحاقدة المتّسمة بالوحشيّة والتي من شأنها زرع اليأس , وإشاعة روح الهزيمة في وجدان السجناء لترسم على الافق الخوف , والهلع وهي تضعهم تحت طائلة الجوع , و والعطش .
كلّ هذه الصور المستوردة من وراء اسوار التاريخ
القديم , ومن قبل حلول المدنيّة , ومن وراء
كلّما هو ومتقدّم على عصور ما قبل التاريخ
وحيث ممارسات حيوانات الغاب خارج متن كتاب معارف الانسان عبر حياته البدائيّة قبل اكتشاف النار ,
وهجره الكهوف المظلمة . تحمّل السجناء مظاهر التهديد , والوعيد , وصياغات العنف . تدرّعاً بالصبر وهم يتحلّون بروح التضحية , وبكل ما لديهم من طموحات , وأهداف لتحقيق ما يرمون اليه في مسيرتهم الكبرى , وهم يقتلعون اعشاب اليأس من ارضهم الطيّبة في جبهة البذل ويضعون بصمتهم على جبين التاريخ المهمل , ولكي يقيموا جسراً للعابرين من بعدهم تتألّق على جانبيه قناديل شهداء معاركهم الخالدة وقد اضطرّوا لحفر بئر داخل السجن
وهم يواصلون مسيرة الحياة على صعيد المجابهة السلميّة وذلك لإثبات وجودهم ككل الثوابت التي تتمسّك بأهداب الحياة في شارع الحضارة , وتحت سرادق الحقوق المدنيّة, وتجاوز اطوار الهمجيّة بالأساليب الديمقراطيّة بعد معاناة لا يتحمّلها غير الرجال الذين استعدّوا لمعانقة العاصفة , والانحدار فوق امواج الطوفان . انبثق الماء الذي هو اصل الحياة من بئرهم الذي حفروه بملاعق الطعام وقد حقّقوا بذلك اكبر معجزة بصبرهم ,
وطول اناتهم وهم لا يملكون الا الادوات غير الفاعلة
على تطويع الارض في ظروفهم الشاذة والعصيبة
وقد سابقوا الزمن وانتصروا عليه ولووا عنق القدر
وحصلوا على الماء إلّا انّ الذي تدفّق من بئرهم
كان مالحاً وكأنّ الماء قد تحالف مع الذئاب تحالفاً
غير مقدّس مع جبهة الشر وقد اكّد كونه غير حيادي ,
وانحرف عن مواقع العطاء غير المشروط لكلّ وارد ,
وقد ساعد القتلة بتعويق مسيرة الصمود , وتعطيل
موكب السجناء حيث حالف العدو وأحبط الامل .. إذ ارغمهم على الاصطفاف في الطابور واحداً بعد الآخر بشكل صعب وجعل, كلّ واحد منهم ينتظر دوره في الدخول لتفريغ حمولته جرّاء الاصابة بالإسهال الشديد والذي لا يعطي فرصاً طويلة للانتظار . تلك محنة لجيش يقف على ابواب معركة فاصلة مع عدوّ يملك العدة والعدد .
كانت إدارة السجن تحاول ان تتصرّف بوضع السجناء
وكأنّهم قطع شطرنج .
بالأمس كانت الادارة تضع السجين في الموضع الفلاني , واليوم ترغب الادارة ان تضعه في مربّع آخر : قد يقذف به مئات الكيلومترات , وذلك لتبعده عن اهله ومعارفه وكل ذلك يجري لزعزعة
استقرارهم , وتفكيك اصطفاف وتخلخل بنيان السجناء الذين تربطهم وحدة المصير , والهدف .
كانت ادارة السجن توظف الدين لدق اسفيناً بين السجناء
وهي تتلقّى التعليمات من اسيادها القابعين في البناية اللعينة , التي تستقر خلف ارداف حصان (الجنرال مود) الشبيه بحصان (طروادة) .
كان الغرض من التنقّلات من سجن الى سجن هو نوع من شن الحرب النفسيّة , ذلك لكي تكوّن عند السجناء
احساساً بعدم الاستقرار , ولكي توقعهم في الدائرة المتحرّكة والشبيهة بحركة الأنواء الجوّيّة , والإحساس بتقلّبات الطقس بحيث تضع السجين تحت طائلة الاضطراب الدائم , وعدم الاستقرار , وفي حالة اغتراب مرعب يضعه خارج اجواء الالفة والتقارب . ولكي يكون بين سجين وآخر حاجز للاغتراب والإحساس بالفراغ والخواء .
لقد ضاقت رقعة السجن بالسجناء تحت نداءات المعدة اللجوج , ونداءات ادارة السجن المعادية للسجناء .
شحّ طعام السجناء بعد قطع امدادات الادارة لهم , وعزلهم
, ومنع زيارات ذويهم , ومعارفهم , وكتم ما يدور حولهم من امور خطيرة , وقد عزلوا عن العالم وأخباره . وضربت الادارة ستاراً ً كثيفاً للتعمية , وتغييب ما دار وما يدور خلف الاسوار .
ها هي تقطع البث الاذاعي لعزلهم تماماً عن العالم
كان السجناء ينصتون للمذياع وهو الوسيلة الوحيدة للترويح عن النفس. وفي اوقاتهم الشحيحة كانوا يسمعون لبعض الاغنيات , ولشذرات من الاخبار من هنا , ومن هناك , والآن تقتحم سمعهم الاصوات النشاز , والكريهة الى نفوسهم بواسطة مكبّرات الصوت وهي تزبد , وترعد , وتنذر بالثبور , بعد ان كانت تطوف, وتنثّ زخّات فرح من سحب الاحلام تحوّلت الى وحش اسطوري , ومصدر قلق يهاجمهم في النوم واليقظة ,
وكأنّه نعيب بوم مشؤوم في وجدان سامعيه .
بعد قطيعة طويلة , وطلاق خلعي ازداد الانشداد , والقلق , والترقب , والخوف من هجوم غادر ليشوّش على موسيقاهم الروحيّة , ودفع السحب السود الى سمائهم الصافية صفاء المياه الزرقاء في ليالي الصيف المتألّقة بالنجوم .ابتكر السجناء عمليّة العبور من فوق الاسوار لمد جسر فضائي يربط السجناء بمدينة الكوت .
تلك المدينة التي احتضنت السجن , وتعاطفت مع من فيه ممن صودرت حرّيّاتهم . وقد عمد السجناء على كسر تلك العزلة , وفل الطوق الذي ضربته ادارة السجن من حولهم بتوظيف (مقلاع) يدوي تقذف به الرسائل بعد ان تلف بقطعة من الحجر ثمّ تقذف لتمر من فوق السور لتفشي , وتفضح ما يدور داخل السجن الذي تحيطه الادارة بالسرّيّة والكتمان, وما يتعرّض له السجناء من اساليب بربريّة , وقاهرة .
كانت الحجارة تعبر بسرعة خارقة _ وتهبط على البيوت ,
والأزقّة والتي يقع السجن في محيطها _ وهي تحلّق مثل العصافير في موسم الربيع .
كما طوّرت نشرة اخبار السجناء , وصارت الرسائل تتساقط بشكل مستمر لتمدّ المدينة بالأخبار , وما يدور في الداخل ساعة بعد ساعة .
بهذه الطريقة الرائعة كسر السجناء حصار الطواغيت ,
وافشلوا خططهم الاجراميّة وبذلك تمّ خرق الحصانة البوليسيّة .
واصل السجناء نضالهم ببسالة الرجال الاشدّاء , وصمود الابطال الاسطوري .
منذ محاولة تشتيتهم الرخيصة والفاشلة انقلبوا الى جدار
من الرخام الصلد . بدل ان تكسر شوكتهم الفولاذيّة
كسروا هيبة الادارة ذات التصرّف الاهوج الذي يرمي لتفتيت وحدتهم , وتحطيم معنويّاتهم .
كان هدف الادارة بث الفرقة الدينيّة , والقضاء على وحدة الافكار التي تهدد تضامنهم العظيم .
ولكي يشكل السجناء تضامناً فيما بينهم لحفظ وحدتهم ,
وعدم التفريط ببعض رفاقهم والتصّدي لمنع شتاتهم ,
ونسف اتساقهم , ومصادرة مكتسباتهم التي حصلوا عليها
بإضراباتهم عن الطعام وقد دفعوا ثمناً غالياً ترتّبت عليه سنوات طويلة من السجن , وقد دفع البعض حياتهم ثمناً
عن اضراباتهم عن الطعام . وقد حقّقوا بعض المكاسب ومنهم من دفع حياته ثمناً ك(نعمان محمّد صالح) احد ضحايا سجونهم الكريهة .
كانت الايّام تمر وهي كسيحة , وبطيئة , وساعة بعد ساعة تزداد مرارتها على شفاه السجناء .
بعد ان نفد الطعام .
راح السجناء يلتقطون فتاة الخبز , والفضلات القديمة المتناثرة من هنا وهناك , قرب مجرى الماء لمطبخهم مع انبعاث رائحة العفونة منها ومن الطين الاسود .
اجل راحوا يلتقطونها ليجتازوا بها جسر ساعاتهم , وأيّام محنتهم المطعّمة بالجوع والقلق.
الدقائق تحسب بالساعات .
كلّما مر يوم كانت الامور تزداد تعقيداً .
وأخيراً فكّر السجناء بمعادلة تتناسب وأساليب الخصم
الاعلاميّة , وهم يقفون الند للند .
فاجأوا قطعان الطاغوت وجبروته بإطلاقهم مكبّراً للصوت صنعوه بأيديهم ليوصلوا نداءاتهم التي تفضح
الاساليب الخسيسة , والمناورات القذرة لتمرير لعبتهم ,
وفضح نوايا الجلّادين بكشف عمليّات الغدر , ونوايا
الادارة التي تريد شرّاً بالسجناء العزّل الّا من الايمان بعدالة قضيّتهم , وشرعيّة رفضهم لألاعيب
الدائرة الماكرة والتي تصوم وتفطر على ايذاء السجناء
وليس لها من همّ الّا تعويم اشباح كوابيسها ودفعها لتجثم على الصدور المرهقة .
كانت مدينة الكوت تغلي حقداً على هذه الاوضاع الشاذة
والتي يتعرّض لها السجناء السياسيّين , وقد شكّلت ضغطاً عنيفاً لليّ اعناق (جلاوزة) السجن , وأرباب ادارته ممن ساهموا بإشعال فتيل الازمة , وزرع الفتنة .
طافت ارجاء المدينة مظاهرة صاخبة تندّد بالنظام
الخانع العميل للإمبراطوريّة العجوز ..
تشكّلت المظاهرة من اهالي المدينة , وأهالي السجناء
رفعت شعارات سياسيّة ضدّ ادارة السجن ومن يقفون
خلفها , وأخيراً اشتدّت الازمة , وتفاقمت العقد , وفكّرت الادارة على اطفاء لهيب الفتنة , وتغييب المعارضة خارج السجن عن طريق الوعود بطرح ما هو مناسب لقضيّة السجناء , وامتصاص النقمة باللجوء الى مفاوضة السجناء ولكن بالنوايا الخفيّة , والأساليب الماكرة مدّعية ان لدى السجناء اسلحة وهي تريد تجريدهم منها . ووضعت الادارة شرط ان يسمح السجناء بتفتيش اماكنهم ومن ثمّ تكف الادارة من جانبها عن عمليّة نقل بعض السجناء وعلى هذا الاساس سمح السجناء بدخول رجال الادارة الى جانب رجال الامن حيث قاموا بمصادرة( سكاكين ) المطبخ , وملاعق الطعام , وأقداح الزجاج , وقطع ( صابون الرقّي ) وكلّ شئ يمكن ان يتحوّل الى سلاح في حالة
حصول اشتباك معهم لكسر ارادتهم . بالمقابل قدّمت الادارة وجبة عشاء . بعد ان اشعرتهم بالإمان . في اليوم الثاني بدل ان تأخذ الاوضاع مجراها الطبيعي . فوجئ السجناء بالهجوم الغادر , وبنكث رجال الادارة لوعودهم , والحنث بكلّ ما تمّ الاتفاق عليه .
كان الهجوم ليلاً وهم يطلقون الرصاص الحي على السجناء العزّل الّا من الايمان بعدالة قضيّتهم . وبعد مقاومة السجناء الباسلة لهؤلاء الوحوش , والذين ليس لهم كلمة شرف ,
وفي هذا الجو الصاخب بلعلعة الرصاص .
كان جمال احد ضحايا الهجوم الغادر فقد استقبل اربع رصاصات في جسده الغض وتدفّقت الدماء من اماكنها .
وفي هذه المجزرة قتل من قتل واُصيب من اصيب .
وفي المستشفى اخرج الاطبّاء ثلاث رصاصات من جسد جمال , امّا الرابعة فاعتصمت , وقد تعذّر على الاطبّاء انتزاعها من مكانها ومع مرور الزمن اصبحت قطعة من النسيج الداخلي , وقد تجذّرت في منطقة الفخذ . كان جمال يعاني منها عند المشي السريع , او الهرولة , وأكثر شدّة عند الركض . وقد تشل تحركه في بعض الاحيان, وربّما ترغمه على الاستسلام ليلق قياده لمصير مجهول الّا انّه كان يفكّر بخطورة موقفه الصعب , وحاجة الحزب اليه .
وفي تلك الّلحظات الحاسمة : كان يتحامل على نفسه,
ويضع قضيّة الحزب فوق كلّ شئ . في ذلك الصخب المذهل استفزّ الكثير ممن يتواجدون في المحطّة من الشرطة المحلّيّة والتي مهمّتها حراسة المكان نفسه . استنفروا في تلك اللحظة , لحظة الهرب كقطيع من الذئاب بعد ان تعالى الصفير, وازداد اللغط , والضجيج . كانوا يركضون خلف جمال دون ان يعرفوا سبباً لذلك . كادوا يلقون القبض عليه الا انّ الصدفة وحدها خدمت جمال بقدوم احد القطارات وهو يسحب خلفه الكثير من العربات . ركض جمال ما استطاع الركض المستنفر باقتحاميّة تنم عن جرأة بالغة , وقرار غير مضمون النجاح مع العوق الذي يعاني منه : فقد حقّق فوزاً باهراً بقطع الطريق على الذين يلاحقونه وهو يعبر سكّت الموت .
كادت تصافحه ماكنة الموت الّا انها انقلبت الى منقذ ,
وسفينة نجاة وقد ربح قفزة الرجال في الموقف المصيري , ذلك لاستمرار الركض الذي يسابق الريح .
تسلّق سور المقبرة في ذلك الظلام الدامس , وفي تحرّك
عشوائ , وهو يرتطم بشواهد القبور التي عبث بها معول الزمن . مع تضجّره , وتبرّمه من هذه اللعبة , لعبة القدر , الّا انّه كان راضياً بعض الشئ عمّا يعانيه . لقد شكر الظروف المحيطة به في لحظات الخوف , والملاحقة , وتراكمات الهواجس , فيما لو حصلت كبوة الشؤم ووقع فريسة للصيّادين . كان الفضل للظلام , ولسور المقبرة في جبهة معركته الصامتة امام صخب الشيطان وجنده .
بحثوا عنه طويلاً بمجسّات خوفهم , وتردّدهم , واستفراغهم من الروح الاقتحاميّة , والمجابهة التي لم يعتادوا عليها , فهم مع اسلحتهم الناريّة لا يخرجون عن كونهم طيوراً مُدجّنة , وأليفة امام الصقور المحلّقة لسماء البطولة . اندفع جمال متجاوزاً الخطوط الحمر ولم تكن المسافة بينه وبين الذين يلاحقونه سوى مسافة قريبة قد لا تتجاوز خمسين خطوة . فما كان منه الا ان مرّ مثل البرق من امام قطار ينهض مسرعاً وهو يسحب عدداً هائلاً من العربات خلفه وقد جاء من الاتجاه المعاكس لسير القطار الذي كان يستقله . وعند مغامرة العبور من امامه كان عبوراً اسطوريّاً .كاد يصدمه لقرب المسافة التي لاتزيد على ربع المتر .



#شعوب_محمود_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟ الجزء الرابع
- ذهب ولم يعد إإ ؟
- رواية : ذهب ولم يعد إإ؟ 2
- ذهب ولم يعدإإ ؟
- الملك
- الصعود لبرج بابل
- (بانتظار القصاص)
- (جولة في حقول النوّاب)
- بين المسرح والقضبان
- مولد الرسول الاعظم
- الرحمن
- (ايقونة الرماد)
- حين يغنّي الدرويش
- مقدمة في مدار اسماء الله الحسنى
- (الله) جل جلاله
- لمحات عن الشعر العراقي الحديث
- خسوف قمران
- (الحروف الفسفوريّة )
- صحيفة الرماد
- ابكي الحالمين


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شعوب محمود علي - رواية) ذهب ولم يعدإإ الجزء الخامس