أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شعوب محمود علي - ذهب ولم يعدإإ ؟















المزيد.....



ذهب ولم يعدإإ ؟


شعوب محمود علي

الحوار المتمدن-العدد: 4360 - 2014 / 2 / 9 - 23:09
المحور: الادب والفن
    


(رواية)
ذهب ولم يعدإإ ؟
الجزء الاوّل.
تدور احداث الرواية على مسرح الملهاة الساخرة , والمأساة الدامية لشعب قدّم عشرات الآلاف من القرابين ان لم اقل الملايين على مذبح التضحيات الجسيمة منذ دخول اصحاب العيون الزرق ليوم سقوط الاوثان مطايا الامبرياليّة حيث التحم العراق بخلفيّته التي اعادت له اعتبالاستقلال المنجز,على يد جيش العراق العظيم تحت قيادة قائده الفذ القائد الشهيد عبد الكريم قاسم الذي حقق العبور لفك الارتباط والتحلل من جميع المواثيق , والمعاهدات المذلّة والمهينة لشعبنا , ولنهب ثرواته , ولجعل ابنائه من مدن الظل المرسومة على الجانب المظلم من الخارطة الحضاريّة المشرقة . هذا الشعب الذي قدّم اول حضارة , وأّول قانون
لهمجيّة الانسان الموغل في محيط الجهل والتخلّف والفقر المدقع ومنذ اجتياح (هولاكو) بقطعان البرابرة
مدينة بغداد منار محيط العالم الظلامي فالرواية نتاج لواقع مأزوم , ومشحون بالأحداث المريرة والقاسية في عهد النظام الملكي والذي تعرض شعبنا لضغوط كوابيسه , والالتفاف على سلامة الوطن , وصوغ قيود , وسلاسل لتكبيله اكثر فأكثر , ولجعله رهينة لنظام سَلّمَ مقاليده للإمبراطورية العجوز تحت راية , ووصاية الملك المصدّر للعراق الذي عقمت امّهاته ان يرفعن ولداً من شبابهنّ ملكاً على عرشه اليتيم ..
شعّوب محمود علي 8/ 2 /2014

الرواية ذهب ولم يعد إ إ ؟


إقتاد عبد القادر ولده منير الى أحد الكتاتيب وما يصطلحون عليه آن ذاك بالمُلا ليعلمهُ قراءة القرآن الكريم .
كان عُمر مُنير خمس سنوات . وكان بيت المُلا لا يبعد عن بيت عبد القادر إلا قليلاً وهو ضمن تلك البيوت القريبة من النهر الذي عايش المرحلة التي يسمونها بالعصر الذهبي .
النهر ما زال يعطي ويُعطي المزيد مِن البركات ، و وجوده سبب الديمومة لجميع المخلوقات التي تعيش بالقُرب مِنه .
وكذلك جميع المخلوقات التي هي جزء مِن سكان كوكبنا الأرضي والتي باركها الله بالخير والنماء
عاشت وتعيش على الماء .
كان الطلاب إن جاز لنا التعبير أن نسميهم بالطلاب قريبين من بيت المُلا ..
كانوا يأتون الى الدرس في الساعة التاسعة والنصف صباحاً وعِند الظهر يذ.هبون الى الغداء وفي فصل الصيف كان للنهر قرآبينُهُ مِن الأطفال ..
المُلا الذي يقوم بتعليمهم يُشدد على الاطفال الذين يذهبون. الى النَهر , وقد أهتدى الى طريقة أشبه بالمهر يمهر سواعد الأطفال بالحبر فإذا سبح الأطفال في النهر ذهب الطبع وأكتشف أمرهم عند ذاك يُعاقبوا بالضرب على باطن أقدامهم وهي عملية الضرب بالعصا عقوبة لخرق وصايا المُلا .. يقع بيت مُنير على كتف النهر ، خلف حضرة الامام أبي حنيفة النعمان بن ثابت.
بعد ثلاث سنوات من أيام الطفولة الغضة والبريئة أحتفلوا بمناسبة نجاح مُنير بعد أن قرأ القرآن الكريم وحَفِظ الكثير من سوره الصغيرة .
أقتادوه في موكب أحتفالي يتَخلله التَكبير, والتهليل وهم يحملون الشموع الموقدة ويرددون الصلوات ليعبِروا به من بيت المُلا الى حضرة الامام النعمان بن ثابت ومن ثم الى بيت مُنير وهم يُهنئونهُ وهو يرتدي (الدشداشة) البيضاء , والغترة والعِقال الصغير المُصمم للأطفال ، ولمثل هذه المناسبات، في بدء العام الدراسي ذهب عبد القادر بولده منير الى مدرسة النعمان بن ثابت .
كانت المدرسة قريبة من الحضرة وكان عبد القادر يتوسم بأبنه النجاح عاماً بعد عام.
واضب منير على حمل دفاتره والقراءة وأٌقلامه في كيس له عروتان ثُبتت في طرفي الكيس لتُعلق بأصابع منير .
يهبط عبد القادر في أيام الصيف الحار عصراً الى شاطيء النهر, ويجلس تحت ظل شجرة سدر مُعَمِرة يقضي سويعاته بالتأمل والأحاديث مع من يتواجدون وهم في عمره من أهل الأعظمية .
وفي الشتاء يطغى النهر مُهدداً باجتياح الضفة وفي بعض المواسم يأتي عبد القادر مصطحباً معه منير ثمّ يجلسان وينظران الى الضفة المقابلة من النهر ليراقبا القوارب ، والسفن الشراعية وهي تحمل حاصلات سامراء وما بعدها , وماقبلها من المناطق الزراعية التي تقع قرب النهر الذي هو الواسطة ، والأكثر حيوية لنقل الحاصلات .
فالسفن تنحدر مع موسيقى النهر ، و وترية الأمواج المُثقلة بالحاصلات الصيفية كالرقي، والبطيخ، والشمام، والخيار و أنواع الخضار .
وذلك لكي ترفد المدينة بخيرات تلك المناطق التي حباها الله بالهناء الوفير .
ومن خلال الاخذ والعطاء بين المدينة والريف يكتمل الأنسجام ، والتواصل كنشيد سرمدي .
وفي مساءات الجُمع المباركة كانوا يذهبون سويةً عبد القادر وعائشة ومنير وهم يقضون وقتاً طويلاً في حضرة الامام أبي حنيفة النعمان أبتداءً من المساء وطعامهم معهم وهم يشاهدون إيقاد الفوانيس، وبريق الكرستال للثريات البالغة الروعة والجمال فتمتلء القلوب بالبهجة والسرور ، والأحساس بالطمئنينة الى جانب الرجل المنقطع الى الله .
وفي الحضرة ينطلق منير مثل طائر أفرد جناحيه وخرج من القفص ليسرح ويمرح , وعندما ينطلق الصوت ، صوت المؤذن الله أكبر يردد عبد القادر همساً لأشيء أكبر من الله .
وعائشة تصلي على النبي محمد ومن ثم ينهضان ليتوضئا ثم ينفصلان لأداء صلاة المغرب
هي في الصفوف الخلفية وعبد القادر ينتظم مع الجماعة .
بعد أنتهاء الامام من أداء الصلاة ، وقراءة الادعية تتفرق الجماعة ، وتنفرط حبات المسبحة , وعبد القادر لا يخرج من الحضرة إلا بعد صلاة العشاء .
وكذلك عائشة تبسمل وتقرأ سورة الفاتحة بثواب الرجل المنقطع الى الله النعمان بن ثابت , وعلى ارواح شهداء المسلمين وامواتها .

0 0 0



مر سينمائي متجول في أزقة الأعظمية يحمل صندوقه المسمى بـ ( صندوق الولايات) ، يحمله على ظهره ، والاطفال يسيرون خلفه .
وضع الصندوق على حمالة كان يحملها معه كما يضعون القدر على ثالثة الأثافي في مكان مشمس توقّياًمن البرد القارس.
وللصندوق ثلاث عدسات مكبِرة ، ودائرية قرب الوسط من الصندوق، وبشكل متباعد بعض الشيء ، وبمسافات مناسبة .
والرجل عندما يبدأ بعرض صوره ينطلق معلقاَ وبصوت يشوبه لحن جميل فيحصل تأثيراً قوياً على المشاهد ، وصاحب الصندوق يأخذ دور
الدليل بالتعريف على الأحداث التأريخية ، والإعراب عن أعطاء هوية كل شخص ، ولنقل يأخذ دور العرّاب والراوي الحاضر ، وليس الغائب .
ومن ثم يتجمع حوله الأطفال ومن عنده اجرة العرض . وبعد أن يقبض صاحب الصندوق الأجر المقدر يسمح لهم بالوقوف أمام العدسة, في مكان يتسع لثلاث أطفال عند العرض . ثم يبدأ البث مع أنطلاق صوت الراوي ، وعرض الصور بشكل منسق يخلب لب الاطفال .
حين يوظف صوته الجهوري والجمل المكررة التي ملئت سمع الأطفال منذ العروض السابقة وهو يبدا بجملة أنظر ياسلام .هذه جنائن بابل المعلقة ، ومياهها الدفّاقة ،والصاعدة ، وازهارها الملونة ،وعطورها التي نكاد نشمها ، وسطور الملاحم العظيمة التي خلدها التاريخ أيام نبوخذ نصر حيث ساق قطعان اليهود الى الأسر والذي سمي بالأسر البابلي .
وهاهو أمامك الطاق المعروف بطاق كسرى يقف شامخاً بعظمته .
وكذلك سليمان وجنوده ،والهدهد الذي جاء بنبأمن سبأ ، وها هي أمامك حورية البحر ، وطائر العنقاء ، ومغامرات السندباد البحري ، وبيضة طائرالرخ العجيبة ، وقصص الف ليلة والليلة الأخيرة ، وقصة الملك داريوس ، وفتوحات الاسكندر, وقصة عنتربن زبيبة وخوضه معارك (داحس) و(الغبراء), والمياسة والمقداد بن الأسود الكندي, ثم ينتهي العرض .
كانت أمراة واقفة على بعد وهي تنظر الى الرجل وتتحسر وقد خرجت جارةٌ لها ووقفت عند الباب ، أطلقت صوتاً عالياً وهي تقول أنظري لهذا الرجل المقوّس ، ألا يخجل من عمله , وضحكه على اطفالنا.
الجارة : هو لا يعدو ان يكون محتالاً ثم أبتلعت ما أرادت أن تنطق به . عاودت أخرى وقالت انما يسلبه من أطفالنا قد يدخله باب الحرام .
وقالت أخرى بعد سماعها ذلك القول ان الرجال يأكلون من عرق جبينهم . فهناك من ينشر الخشب ، ومن يجلب الماء من النهر الى البيوت . وخرجت ثالثة بعد أن سمعت مايدور من أحاديث فقالت حتى بائع ( الفرارات ) أرحم منه . ثم قالت لماذا لا نطرده ؟ نراه بعيوننا، ونسمعه باذاننا ، ومنذ زمن طويل كان ومازال يلعب على ذقون أطفالنا ، ويبتزما في جيوبهم من نقود حصلواعليها بجهود الاباء ليسرقها المحدودب الظهر, الراقص في مشيه , فاقد التوازن , القريب من المخمور المتأرجح
أخيراً ذهبت أحدى النسوة اليه وقالت لقد صبرنا عليك طويلاً فارفع صندوقك وأعطنا ظهرك قبل أن تحل عليك الكارثة ، وأياك أن تعود الى هذا المكان, نحن لم ولن نكون مزرعة لك , ولامثالك لتحصد فلوس اطفالنا هل فهمت . هذا اخر انذار لترحل . حمل الرجل صندوقه وتوارى عن الأنظار .










القرى تئن تحت وطأة الفقر ،ونساء الفلاحين يخرجن صباحاً وكل واحدة تحمل طفلها قبل ان ترسل الشمس خيوطها الذهبية ،
ومع قسوة البرد القارس . وصيفاً حيث تجلد الشمس بسياطها القرية ومن فيها كان أحمد يعيش في قرية من قرى مدينة العمارة .
والده كان مزارعاً يحلم في ان يكون لولده نصيباً يميّزه عن ابناء بقيّة الفلّاحين في القرية المنافية لاسمها . القرية المدقعة بالفقر . ومن غريب الصدف كانت تتحلّى باسم لا يدلّ على مسمّاه , وهي مسجّلة بذاكرة الفلّاحين باسم قرية المكاسب . وسخريّة البعض منهم وهو يسمّيها همساً
بقرية المصائب
فكّر الوالد في ان يذهب باحمد الى المدرسة التي كانت قرب القرية . وبعد ان قبل احمد : تحقّقت احلامه وهو الطفل الذي كان يحسد ابناء وجهاءالقرية , وكذلك سمع عن محمد بن شيخ القرية كيف قطع شوطاً طيلاً في دراسته ولكنّ الاب دفع بابنه من اجل المباهاة بين معارفه في المدينة ليس الّا
وكيف انّه الان طالب هندسة رغم ان والده يضمر كراهية شديدة للمتعلّمين , وللمعلّمين
واصل احمد دراسته حيث حصل على شهادة الصف السادس الأبتدائي .
وفي كل يوم كان يذهب الى العمل بعد عودته من المدرسة إن كان هناك عمل . كان احمد مع تلك الحياة الرتيبة قنوعاً ، وراضياً عن عالمه الذي هو القرية ، وما وراء القرية هو من عوالم اخرى يجهلها احمد ، مثلما يجهل الناس عوالم الافلاك ، والنجوم، ، واعماق المحيطات المظلمة والتي يجهل الأنسان حدودها عبر آلياته المدنية ، وما وراء اسرارها .
لم يستطع عبد الحسين دفع ولده لأكثر مما هو عليه .
أما احمد فقد كان يطمح في التوغل ،والغوص في عوالم المعرفة وقد كانت له رغبة ما استطاع تحقيقها، فهو مثل من قطع به حبل البئر ليبقى راسبا في القعر، ولكنه ظل يتشبث بالجدار المطلي بالشمع المدلوك . لقد حصل الخروج ليوسف إذ اٌنقذ على شكل بضاعة لها ثمنها أما احمد فلا قافلة ، ولا سلالم ،وليس هناك من يمد له حبل الأبجدية للصعود من عالم المغلق الى عالم الانفتاح والعروج مثلما تعرج روؤس النخيل بالعذوق المثمرة والمباركة . قال احمد هل يجب على الانسان ان يخطو على أثر خطوات أبيه ؟ أليست هذه القوانين الميكانيكية هي التي تضعني في الجب ؟
وتستنسخني في ثوابت لا يمكن الأفلات من بين كلاليبها ، وإلا ما معنى أن اُحرم من المواصلة بعد ان تذوقت ثمرة المعرفة. أأمنع عن المواصلة في مدار الاخذ والعطاء ..؟ أعلي ان انغمس في جدلية لا تباركها الحياة ؟ .
كان احمد يطمح في ان يتجاوز ما تعلمه في المدررسة ،وما اضفاه عليه الأستاذ فاضل العاني من معلومات غزيرة قدمها له على طبق من ذهب كما يقولون ،وما تحوي ذاكرة الأستاذ فاضل ،وما تخزنه من أفكار ، ومن مظاهر حضارية جعلت احمد ينبهر ، وينشد ويتعلق بحلم لا يستطيع الانفكاك والخلاص منه .
كان احمد في ليالي الشتاء يحدث والده عبد الحسين عن المدينة وما سمع عن مزاياها الحضارية ، وكيف ان اهل المدينة يشربون الماء المصفى من الحنفيات وليس من الجدول ، او النهر ،أو مياه الأهوار, وهم يلبسون الأحذية الجلدية ، والبنطال ،وربطة العنق تماماً كما نرى الأستاذ فاضل العاني, وبقية المعلمين في المدرسة ،وكانهم الطواويس بين دجاج , وديكة نتف ريشها
0 0 0

مات والدي وأنا ابن تسعة عشر عاما من الاعوام السود.
جاء عارياً ,
: وذهب عارياً وقد بَرَدته الأيام كما يُبْرد الخشب ، ودمرته المصائب
كان كظل في القرية لا يلتفت الناس اليه مثلما لا يلتفتون الى المجهولين من شهداء القهر الاقتصادي ، وضحايا الأبتزاز غير المنظور في الأرض التي تدور عليها الطواحين الساحقة ، وليس للسواعد المكسورة من يجبرها .
الكوخ يخلو من كل شيء اللهم إلا النزر اليسير من بقايا شعير ، وتمر .
أحمد يرتدي الملابس المهلهلة والتي لا تقيه من البرد القارس ، ولا تحميه من الصيف المحرق . كانت هواجسه تجول به وهو جالس في الكوخ يحس بنحول ، جسد منهك . قال لهدية الهجرة افضل لأمثالي . ولمَ . لأنّي لا املك في قريتي ناقة , ولاجمل . ابتسمت هديّة وقالت وهل والدك كان يملك ؟ والدي عالمه القرية , حدودها نهاية العالم بالنسبة له . امّا انا فانظر لابعد من ذلك . لا اُريد ان ادفن كما دفن والدي وهو على قيد الحياة .
الكثيرون قبلي ، حتى ابن خالتي ناصر, فقد هجر قريته من زمن بعيد مع انه اكبر مني سناً . واكثر مني ذكاءً إلا انا المتردد مثل قنفذ يكمن في درعه المشوك وانا لا املك حتى الدرع لاحمي نفسي عند وقوع الضرر ، وأراني كحصاة في ساقية تكبر ولا تتزحزح عن مكانها
لماذا اتحسب اكثر مما ينبغي ؟ ويوماً فيوماً يتكشف انخذالي ، وتفتر عزيمتي على صخرة امل التمنّيات غير الجاد ة. عليّ ان اتحلى بروح المغامرة ، واتعلم من الطيور عملية الهجرة . هي تهاجر ولا تتحسب لغدها ، تهاجر بمحض ارادتها وهي تعبر محيطاً من الرمال ولا تبالي بتصدي الصقور لها والجوارح الاخرى من الطيور .
وكذلك الأسماك تترك مواطنها بكل جرءة ، وترحل في هجرة جماعية ... إلا أنا . لا ادري مالذي سأخسره حتى لو عاكستني الأقدار ؟
الكلاب السائبة لم تمت عند أغترابها .
ولو تجاوز الكثير عبور المحنة ,
وذهبوا و لم يرجعوا, لكانوا قد كسروا حاجز الخوف , وفكوا عقدتهم .
انا واحد منهم فقد تسمرت هنا كالمرساة للقرية الطافية على ترابها الشحيح . والدي مات ولم يترك في دنياه سوى ملابسه الرثة .
لم يحصد من مزرعة العمر: سوى غائلة الجوع ، والعوز المزمن ،
وبعد ان نزف ماء فتوته ، ودار كالثور حول الطاحون ,
وجفت اوراق شبابه ، وانحنى جذعه ،
وتيبست غصونه بفعل انكساف المواسم ،
وتقلبات الفصول , وقد تدحرج من القمة الى السفح ،
وغاص في الجوف ، وجاور الظلمات ، وانغمس في الصمت المطبق ،
وشُطِب اسمه من دفتر يوميات الحياة الرتيبة.
كان احمد يحس بدبيب الأيّام ، وهرولة الشهور .
تداخل احمد في السنين ، وتداخلت سنون العقم في حيثياته ،
كان مثل جرم يجهل قوانين الحركة, ولحظات استراق المراوحة خارج جدلية الحركة ، ودوران الناعور, وديالكتيك جريان الماء .
حياته قسوة وعذاب ، وحرمان , وعيش كفاف .
دواليك هي الايام لأ تسفر عن فرح ،
ولا عذوبة ، ولا لذة عيش كريم يليق بانسانية الانسان .
تمرالايّام وهو يلوك الأمل ، ويحتسي التفاؤل من قدح الاماني.
تسكره التصورات في فترات الاختراق اللا مجدي .
قال لهدية والدي ودّعنا وسلك نفس طريق الأجداد مرتقياً التابوت عبر مسار الانطواء ، وليل الضمور في صيفنا القائظ .
وبعد صيف وصيف تتجدد الصور, وتخرج من ملف الذكريات ،
وتابى أن تغادرني مثل مسلسل سينمائي لا ينقطع ،
ولربما بعد مغادرتي القرية ينتهي مسلسل الشقاء ,
وتحترق الشاشة التي تربطني بخيوط العنكبوت . كان والدي كالحصان المشدود الى العربة ، عربة الجهد المبذول في زمنية ضائعة
وليس للتاريخ من مكان في قرية الضياع , والتسلط منذ الازمنة السحيقة والمغلقة بنسيج ظلامي حيث المعايير المسنودة بقوة السياط , وعصي الخيزران , وفوهات البنادق .
علقت هدية وهي تُردد القسمة .. هديّة هوّن عليك , منافذ الذاكرة .
رد أحمد وكيف يتسنّا لي غلق منافذ الذاكرة وانا اغطس لنصفي في طين الشقاء والأستغلال ، ودعم الاعراف البالية ، وسن القوانين دون اشراك اصحاب المصلحة الحقيقية . كيف اغلق المنافذ وانا تحت ظلال الاباطيل، وخارج دائرة القسمة ، وهم يديرون ظهر المجن لكل ماهو عادل وحقيقي . كان والدي كالحصان المشدود الى العربة وهم يدورون به عكس مداره المطلوب كيف تقول تقول كان كالحصان المشدود الى العربة ؟
نعم والحصان له من يحميه في العالم مثل جمعية الرفق بالحيوان
إلا في ارض السواد
وعلى ما سمعناه من المعلم في المدرسة ، وممن يذهبون لغرض زيارة الاقرباء من الذين سبقونا في الهرب من الجحيم , جحيم القرية التي نحبها ونكرهها بسبب ماجرّته، وتجرّه علينا من تسلط ، وهؤلاء يقضون أحلى ايامهم وازهاها في المدينة التي نحرم منها . ثم هتف قائلاً لهدية منذ زمن وأنا افكر في هجرة الرسول محمد (ص) عندما ضاق بشعاب مكة , ومساحاتها . احمد ، احمد اجاد انت ام انك تطلق الفراشات في حدائق مخيلتكَ دون تروي ؟. بل جاد انا . كلا فأنت حالم تثمله خمور الاماني ، وبصراحة انت تمني نفسك بما انت عاجز عنه ، واحسبك مثل طائر يدور في فراغ . اهبط قليلاً على ارض الواقع ،
واحصي حبات مسبحة سنواتك التي فرت مثل العصافير
وانت تنظر, وتقف على تل من الرمال ، تنظر الى الافق ونهاية المحيط ،
وعمرك يذبل ، واوراق الورد تتساقط من غصون شجرتك التي ضربها الجفاف . أعود فأسالك بصراحة هل أنت جاد بقطع الحبل السري ،
ورمي المشيمة ؟ . نعم سأرمي بها الى الكلاب ، كلاب الشيخ المسعورة ،
وسوف لن أنسى صور الارهاب ,
والاستبداد الذي يمارسونه على امتداد المواسم ، والفصول ،
ألم تنظري لهم في الطريق وهم يحملون البنادق ،والعصي .
بل وحتى في الديوان يحملونها وهم يلوحون بها
ونحن بمثابت ضيوفهم .
وفي مثل هذه المواقف اشعر وكأنهم يريدون اذلالنا ,
وأرغامنا على كل الذي يريده الشيخ من سراكيله .
نعم هذا هو واقعنا ،وعلاقتنا بشيخ العشيرة .
تصوري في الليلة التي مضت كنت جالساً في الديوان ، وكان الخوف يلوح على قسمات الفلاحين الفقراء . لقد احدثت هذه الصورة شروخا في مرايا ضميري ، وفي جدار حياتي البائسة ، ووضعتني في سجن وبقية الجالسين من الفلاحين ونحن طلقاء نعمل لهم في الصيف والشتاء ، ورقعة الديوان تكبر , وحصصنا تصغر ، وتتبخر ببركة شيخ القرية . لذلك اريد ان احرر نفسي من القيود . وكيف ستحرر نفسك ؟
بفك الارتباط .. ومنذ وقت طويل وانا افكر و احاور نفسي
كيف ساعيش !!؟
وانا مثل قارب ليس له ضفاف ، وعندما اقف على ارضية الميناء والبحر يصافح وجهي ، وصورتي تظهر عند بوصلة الرحيل ، وانا اجول على متن البحر ، ولا اود الخروج الى اليابسة بعد ان احسست بانني احلم
وفي الحلم ارسم خارطتي من جديد , لاستعد للرحيل مع من يهيمون في الارض وقد سبقونا في العبور ، ومسيرة الخلاص .
ماذا افعل وانا مثل طائر بلا جناح ، وبلا ماوى ،وكذلك لا اعرف ان اسلك السبل التي تفضي الى مستلزمات العيش كالعمل ، والسكن ، وتأمين الغذاء ان لم تحتضنني القلوب الرحيمة واعني الذين سبقونا الى الفردوس ، كانت هدية في حالة ذهول وهي منجرفة تحت سلسلة الافكار ، والتصورات المتداعية في بعدها الشعوري , فانتفضت قائلة الفردوس ، الفردوس
كلكم يتحدث عن الفردوس ولم نره حتى في احلامنا ، ولا ارى غير تحرك اللسان تحت سقف الفم في كهفه المظلم وعلى سبيل الثرثرة ، والانجرار وراء مالا يدرك ، والكل يردد حرمانه من ليلاه ...
ومحفوظة الفردوس تُحّش بها ادمغة العاشقين في المجتمع المحروم حتى من التصورات ، لقد صمنا طويلا وفطرنا طويلا ولكن لم ننظر ولو لمرة واحدة الى مائدة من موائد الفردوس ولو في اوهامنا ومن يحرك اقدامه تحت قوة الارادة والتصميم الذي لا ينثني ، والاصرار العاصف سيظل هدف الصيادين ، كفانا هذياناً تحت سلطان نوم اليقظة .



0 0 0







ظل أحمد ميالاً ومولعاً بتطوير العلاقة مع الاستاذ فاضل العاني رغم مغادرته المدرسة من سنين . وهو ينعطف للّقاء باستاذه العاني خارج اوقات العمل ، وفصول الكدح المضني . وفي ايام فراغه ليزيل الهموم الثقيلة والكوابيس التي تجثم على صدره . كان دائماً وابداً يذهب الى المدرسة ليكحل عينيه برؤية الاستاذ فاضل العاني ينبوع المعرفة ، وهبة السماء الى القرية التي لم تجد موضعاً لها على خارطة العراق ليلتقي به وقد شاءت الصدف ان يكون احد المعلمين ممن يعيشون على بقايا امبراطوية العصور المظلمة وهو محسوب على عصر جاهلية ثانية ، كان ومايزال من جوقة ممجدي حرب البسوس ، وكان بيته الشعري المفضل والذي يحفظه في تلافيف دماغه المتحجّر ، والقاسي قسوة الحجارة ، وهو يصوم ويفطر على تقديس القوة والعنف ، مع تجاهل الاضعف ، وطرح الابجدية على حد السيوف وفوهات البنادق، كان يترنم بجهالة بائسة بالبيت الذي أنحدر من سلالة العصر الجاهلي . كان يتغنى به في مناسبة وبغير مناسبة
وهو ملتهب العواطف لتاثره بافكار تعافها النفس ، ويتقزز منها الحس الحضاري . كان البيت الشعري عبارة عن اللوحة التي تمجد القوة والشعلة التي لا تخمد في مجتمع الغاب مابقية فروسية الادعاء , وبطولة الجبناء .
كان يتحدث عن فحولة البيت الشعري وكأن الشعرالعربي ينقسم الى فحول واناث . وعندما يقرأ هذا الصنف من الشعر يميل كما تميل رؤوس النخيل تحت مهب الريح ، ويضفي على صوته نوعاً من التنغيم والتفخيم ، وكأنه فارس في ساحة المعركة وقد سمعه احمد مرات , ومرات وهو يردد :-
أذا لم تكن ذئباً على الارض أجردا كثير الأذى بالت عليك الثعالب والاستاذ خلدون ينظر خلسة وبريبة للزيارات المتكررة من قِبل هذا الفلاح الرقيع وهو يجري حواراً مع نفسه وبشكل مكتوم ثم يتسائل في عمق باطنيته المضلة ,وطبيعته المليئة بالعقد والتي تنكّد عليه صفائه , وتدين تطفله على الآخرين الذين لاتربطه اي رابطة معهم وهو يثور في دخيلته بلا سبب ثم يقول مانوع العلاقة بين فلاح تافه واستاذ قدير؟ كالاستاذ فاضل العاني ، وما سر هذا الترحيب الفائق برجل مجهول
وقد لا يحسب على صنف من اصناف البشر .
تكررت زيارات احمد في الاونة الاخيرة بشكل خاص والادهى دخوله الى الادارة بلا تكلف أواخذ الرخصة .
ولا اظنه اكثر شئناً من بيدق يحشر نفسه بين الاساتذة .
هكذا كان الاستاذ خلدون يتحدث في باطنية مع نفسه
والاستاذ خلدون يتأكسد يوماً بعد يوم ، ويخرج من بوابة القرن العشرين ليصل الى العصر الجاهلي , والبكاء على الاطلال.
كان وما زال من المسحورين بشخصيات من امثال
نابليون ، وهتلر ، وموسليني ، ومكيافيلي في مطارحاته ,
وكتابه الموسوم بكتاب الامير 0ظل خلدون يهتم بالاستاذ فاضل وقد حاول ان يعرف ما وراء شعاب مكة بشكل ملح , ومتناهي
في الأدارة وفي فرص الطلاب ،
صار يحاول اثارة الأستاذ فاضل بطرح وجهات نظر مقرفة ،
وكريهة مثل قوله ( رائحة هؤلاء الفلاحين تزكم الانوف ، وتقزز النفوس وهم يغطسون في الأوحال , ولقربهم من الماشية فهم يكتسبون رائحة الماشية وفضلاتها ولا يستحمون إلا بين هلال ، وهلال في فصل الصيف وفي احسن تقدير . أما في الشتاء فأقرأ عليهم السلام ،
وفي رأيّ كل واحد منهم يمثل زريبة متحركة ،
وقد يرتدون العفن والروائح الكريهة بدل القماش علاوة على ذلك هم شريرون بطبعهم ، وسراق لايستحقون الاصطفاف مع البشر وهم دون أبقارهم , وحميرهم ، وهو يشير اليهم ببنانه في السر .
كان يروم اغاضة الاستاذ فاضل العاني وذلك لقربه منهم ثم يعقّب بقوله المأثور الاقتراب منهم يضع الانسان الحضاري بين قوسي الاستخفاف والسخرية والهبوط الى الدرك الاسفل ، كان الاستاذ خلدون يتعالى على الخلق داخل دائرته النرجسية المقية وكل طروحاته .
كانت في نظر الاستاذ فاضل العاني لاتوزن بدخان سجارة حشاش و حين ينظر الى صورته من خلال المرايا المكبرة والتي تظهر الاقزام بصورة العمالقة وهم مثل زَبَد البحر عندما تفرزه الأمواج وكل واحد من الأساتذة كان يستغرب ويستهجن سلوكية الاستاذ خلدون،
وتعاليه وغطرسته على فقراء الفلاحين والادهى والامر من ذلك كان يغيضهم اكثر فأكثر حيثما يكتشفون ازدواجينه ، بل وكتابه المستور خاصة يوم كشف عن نفسه مثلما يكشف القرد عن عجيزته
وذلك صدف ان مرّ شيخ القرية في أحد الايام وقد كان مروره قرب المدرسة ولا أحد يعلم لماذا دخل الى الادارة وهل مرّ بشكل مقصود؟ ام مرّ بطريق الصدفة، ويا للمفاجأة :
لقد صعق من في الادارة من المعلمين حين رأوا الاستاذ خلدون مثل كلب يهش ، ويهز بذيله ترحيباً وتملقاً وهو يكرر أكثر من مرّ لقد زارتنا البركة ونحن في خدمة ابناء الفلاحين وهم اقرب لنا من ابنائنا .
سيدي نحن في خدمتكم ، ونتمنى أن يمن الله علينا بزياراتكم وشم انفاسكم العطرة كما نتمنى زيارة آباء الطلاب الاكارم لنا ولقد زادتنا زيارتكم شرفاً وعزّاً وان جميع المعلمين اكتفوا برد التحية على شيخ القرية دون احراق البخور ،
اما الاستاذ فاضل العاني فقد ردّ التحية وهي مغتصبة وقد خضع لقواعد العرف ورد التحية باحسن منها فكانت ردوده منتزعة.
وبعد وقت قصير خرج الشيخ مندهشاً ومبتسماً لكثرة ترحيب وتملق الأستاذ خلدون وتكريمه له ولامتداح الفلاحين وابنائهم .
كانت النظرات تتلاشى وتضيع خلال الاشجار والاكواخ وقامات النخيل .
كان احمد يحس بانجذاب نحو الاستاذ فاضل ، وبعاطفة وشفافية ساحرة وزاهية زهو من يعيش وتتملكه الاحلام الوردية .
ولكثرة تردد احمد على المدرسة تعمقت العلاقة خلال تلك الزيارات المكثفة ، وعُبِدّ طريق الثقة بينهما ، وانشدّ كل منهما الى الاخر مثل قطبين متقاربين في جميع الاوصاف وهاهما يقتربان حدّ الاندماج .كان احمد يرى في المعلم فاضل خصال تجعله مميزا عن الاخرين فهو في نظر احمد معادلة لا تقبل الانقسام ،فهو بين الانسان والاسطورة ، بل و السوبرمان او الملاك المنقذ ومع جريان الايام وانحدار الشهور كثرت اللقائات بينهما .كان احمد يدعوا الاستاذ فاضل الى كوخه المتواضع لشرب الشاي ، وقدتطورت العلاقة بينهما .
كان احمد يصغي لاحاديث الاستاذ فاضل ،وبشكل خاص احاديثه عن العمال والفلاحين كونهم قوى متقاربة يقع عليهما الضيم ، وهما طبقتان متضامنتان ومشتركتان في الحرمان وتقع عليهما المصادرة :
والاستلاب ، وعدم الحصول على ثمار كدحهما وعليها يدور طاحون الظلم ،وليس لهما من اللب غير القشور ، ولذلك ينشدّان الى الروابط المصيرية التي تربطهما
باقوى الاساليب وبشكل حميمي وقد تفوق هذه الروابط رابطة الدم ،والعيش تحت السقف الواحد ، والمهد الذي يتقاسمه الاخوة بحكم العرق والسلالة
التي تتوارثه اباَ ًعن جد ، وابناَ عن اب وقد تكون في مجتمعنا القانون المقدس لشريعة الحياة.
كانت الافكار تزدحم وتضطرم في الوجدان وبقدر ما تصغر القرية وتضيق به : كان افقه الفكري ، او التصوري يتسع وقد آل على نفسه ان لايبوح الى احد في القرية بمكنونات ما يدور في مخيلته .
كان يرى في المدينة الفردوس، والآن صارت المدينة قرية والقرية قصبة فأصغر، وصار العالم الواسع بمدنه الصناعية مركز الطموح.
هدية تسمع وتتعلم ، وتزداد خبرة عبر الممارسات والحوارات الفكرية بين الاستاذ فاضل وبين احمد ولو بشكل أضيق ومسافة اقل وفسحة صغيرة ،
وانفتاح على الشمس في قرية العميان وقد ظهرت في تربة العشيرة نبتة سامة في القرية ولو علم شيخ القرية ما اعشب في جمجمة احمد وما تفرزه الافكار الثورية لقلب القرية راساَ على عقب
ولو علم ما حصل من تغير في خارطة احمد لأقام الدنيا واقعدها .
احلام احمد تتسع كالمحيط ،وخياله شلال لأ ينضب ،
وطموحاته ليس لها حدود .
لقد اصيب الكوخ ومن في الكوخ بعدوى الافكار التي تقف بالضد من العبودية والاقطاع ،والنضم الراسمالية وباختصار هي تعمل على الغاء العملة القديمة بكل تشعباتها التي تمنع الفقراء الذين يشكلون الغالبية من سكان كوكبنا الارضي من أخذ ما يجنون من ثمار استنبتوها بكدحهم وسقوها بعرقهم ودمائهم وقد خرجوا من الطين الى الطين بعيون مفتوحة
في قرص الشمس بعد ماكانوا مثل من يفتقد الطعم وحاسة اللمس ولا يفرق بين رائحة العفن والعطر
ومثل من اصيب بعمى الالوان ولكن بعد اكتشاف فائض القيمة عرف كيف يحرك حجر الشطرنج بمهارة فائقة والكشف عن مصادر التمويه والاحاطة بسر اللعبة .
0 0 0













ظلت هدية تعوم على امواج ذكرياتها
كانت الاعوام تركض مثل قطيع من الايائل وقد نبتت سبعة عشر قرناً على راس ايل اعوام هدية
يوم كانت الصور تغطي الصور مثل رسام يجمع لوحاته فيركنها لوحة فوق لوحة .
بعد كل سنين المرارة كانت تتذكر طفلها محمد وهو ثالث حبة عنبٍ تنفرط من عنقود الغيب لتسقط لقاع الوجود في تلك السنوات العجاف والثور يدور حول الناعور , ولا ماء في ناعور يومياتنا والقرية امسها يشبه يومها , ومنذ سنين ونحن نجر اذيال المحل :
والبركة تفر مثل غزال مذعور وخلفه كلب صيد لاهث .
تنهدت وقالت بصوت مكتوم في ليلة عرسنا ما اطيب تلك الليلة التي حلقنا فيها الى عوالم لم ندرك ابعادها قبل التحليق .
كنا نشبه ملكين يحلقان في دنيا يعجز عن تصورها حتى الحالم . ومع الفقر الساحق كنا قد ارتفعنا عاليا ولكن منَ من البشر يستطيع قطع حبله السري عن الواقع الذي يعيشه .
فالفقر سيد المنبهات وان شربنا عصارة الخشخاش ونقيع القات فالمرارة لا تلغي اثرها ملعقة سكر .
لقد احترقت الايام ولم يرسب في الطين إلا الطين فالحزن والقلق وفاقة الغد المرئي والخارج من باطن الغيب هو مسارنا على الدرب المجهول .
قبل ايام قللة رأت هدية امرأة شيخ القرية تلتف على جيدها قلادة ذهبية تتألق بها الليرات المسكوكة من الذهب الخالص وهي تبرق تحت اشعة الشمس .
سحبت هدية حسرة وهي تحلم بخاتم الخطوبة مثل بنات حواء من مثيلاتها وكلٌ منهن تحصل عليه عند الخطوبة وخاصة في المدن , مدن السعادة والعيش الرغيد , وحصة المرأة امام الرجل النصف هي افضل حالاً من نسوة الفلاحين الذين يضعونها في مصاف الماشية , وكلاب الحراسة .
ترقرقت الدموع بين جفنيها وقالت مكتوب على الجبين .
عاد احمد من عمله مساءً وهو يفكر بهموم الحياة وصعوبة تدبير لقمة العيش المعجونة بالطين والعرق المالح ملوحة البحر الميت .
كان احمد يحدث نفسه بهلوسة هامسة وقد يثير التساؤلات من حوله ثم عاد الى حاله وهو يقول الحياة هنا مقرونة بالموت المجاني المؤجل وجغرافية القرية تنحصر بالاطار الضيق بين العمل شبه المجاني والتفكير المرهق والمزهق للارواح والمفروض منذ الغبش والى ما بعد اختفاء قرص الشمس الذي يتوارى خلف الافق .
نام احمد تلك الليلة تحت سيل من الهواجس ،وشتات من الصور التي تترك اثرها على مساحة القاريء مثل اقاصيص وتصورات فرانزكافكا الى جانب سلسلة من الكوابيس المتداعية أمام افق احمد الظلامي .
استيقظ احمد صباحاً وهو لن ولم يشفى من عقده التي تسببها له ظروف القرية , ونمط الحياة فيها .
قال كيف ساعبر بهدية وعلى وفاطمة ومحمد ؟
اجل كيف ساعبر بقارب يشرف على الغرق ؟ وهو ليس سفينة نوح في البحر الذي تطفوا على سطحه المدينة الفاضلة او الفردوس الذي اتعشّقه كنت ومازلت اتهيب الخروج وانا في القوقعة
ومع عقارب الساعة المراوحة على قاع الحرمان وازدراد القهر ومطالب العيش الملحة في زمن الخواء والتلويح بسياط التاديب ,
وانعدام الشفافية , وغلق الاذن الصاغية بقواعد التواضع , والشكوى من لجم الافواه , وممارسة الحوار بمفردات القوة والجبروت ,
وتمريغ الانوف في تراب الانكسار تحت قوس الذلّ في محيط ضياع مجتمع القرية تحت فوهة البندقية , وفي زمنية العصر الاخرس
وقد توارثه الفلاحون بعد ان دجنوا في هذه البقعة من ارض السواد واضحى الفرد مذعناً لصيغ المصادرة لادمية الانسان وجعله يتقبل مفردات التجاوز دفعاً وتلافياً لشرور المشاكسة والمواجهة بين الاعلى والاسفل .
ومثلما هي العلاقة بين السيد والعبد الملون وغير الملون وقد ساد ذلك بشكل واضح في محيط القرية .
كل هذه الحقائق والممارسات تطبق بشكل يومي واحمد كان يتهيب من عملية العبور والخلاص من هذا الوضع المزي اما في المدينة فقد جرت وتجري نفس الممارسات ولكن بشكل اضيق وقد حلت هذه التقاليد غير الحميدة منذ فقدان السيادة وبطاقة الانتماء الى التراب بشكليها المادي والروحي ولا تعني الآن سوى بضعة حروف تموضعت على الورق لتشير الى الجذور في الطين الذي يضم القواسم المشتركة لعظام الاباء واللاجداد.
فاجتياح الغرباء وتدنيسهم الارض بالاحذية الغازية
هو الاسفين الفاصل بين النقاء والتهجين
المدنس لطهارة الولاداة بالتعاقب غير المرغوب فيه وذلك لتمويه الشفرة الانسانية المُميزة بين الاصلاب منذ خطى أدم على طريق الانفلات البشري الخاضع للاعراف التي برمجت نفسها في ظروف بيئية تجنباً لمتاهات التداخل في صلب الانحراف والتعامل في حدود الانفلات الحيواني .
كانت هدية تستعرض ايام الفقر وهي تهمس اكاد اجن من الفقر لقد نسيت اصناف الاطعمة وما ترد من اسماء للغذاء , هاهو قدرنا يجهل ما تستقبله القدور في البيوت الاخرى فهو لا يعرف إلا الشحة في طعامنا .
كل قدور الموسرين لها ابجدية تتوزع بين الخضار واللحوم في الا البيوت الطافية على المال لا كبيوت اهلنا الطافية على البردي والقصب .
أولئك عيال الملوك والأمراء والشيوخ.
اما نحن كنا وما زلنا عيال الله .
كانت هدية تملك ثلاث دجاجات وكل بيضة تحصل عليها تحسبها قطعة من الذهب , تحسست ثوبها البالي ,كانت الدموع تنساب على وجنتيها ,
اما احمد فقد كان يغط في نومه وهدية تتحرك داخل الكوخ مثل سمكة مزهورة كانت تحس وكأنها قطعة من الحرير بين مشابك الشوك ,شوك الفقر الساحق .
كانت تبكي بصوت مخنوق وفي ذروة اضطرابها ,وانسراحها على نهر الاحزان . سُمِع نداء من خارج الكوخ أحمد أحمد..
استيقظ احمد من نومه وخرج ليرى من الهاتف وياللمفاجئة
كان السيد طاهر وبصحبته ولده مهند البالغ ستة عشر ربيعاً وزوجته باسمة
وما ان اقترب احمد منه حتى تعانقا عناقاً حارا وطويلا تجيش فيه العواطف الصادقة .
قال احمد تفضلوا فانتم احبابنا
دخل السيد طاهر واحمد وباسمة ,فرشوا لهم بساطاً ,جلسوا وصاروا يتحدثون عن القرية واهلها , وعن افراحها واتراحها ثم قدموا لهم البيض المسلوق وخبز الشعير والشاي وبعد تلك الاحاديث واجترار الذكريات والانسياب على نهر الماضي
مثل قوارب تنسرح في حلم يندر ان يطفوا عليه احمد.
والى جانب كلمات المجاملة التي يقتظيها المقام والمشفوعة بالابتسامات والود الخالص والنابع من القلب .
قال السيد طاهر جئنا نطلب القرب منكم وتقوية الاواصر , وامتزاج الدماء في حدود ما احله الله وباركه الرسول محمد ص وذلك لانني عايشتكمك وعرفتكم ولم يقع الاختيار الا عليكم وسوف تكونون منا ونكون منكم بمثابت الشريحة الواحدة ودمكم دمنا ولحمكم لحمنا .
سكت احمد وهو ليس كبقية الفلاحين بنظرته للمرأة.
كان البعض منهم عند ذكر زوجته يقول لمن يتحدث معهم
( تكرمون فلانة )
هذا هو دئب اكثريتهم في المحور النسوي ، اما احمد فكان يحترم النصف الذي يقوم عليه سقف الحياة المظل للاسرة وعدم اهمال دور المراة بشكل خاصعند اكثرية الفلاحين تجذر في طين الذات المتخلفة والملحدة بحق المرأة المتمثلة بالزوجة والام والاخت والحبيبة والغصن المتفرع عن الارومة المقدسة .
كان احمد يثور في ذاته على تلك الاعراف التي تتنكر لقيم النصف المكمل لدين الرجل والحبل السري الذي تمتد منه السلالة صعوداً الى قمم الانسانية الباهرة وكون المراة نبات لارث في مجتمع جديد بالولادة وقديم بالعادات والتقاليد التي القى بها على الضفاف من وجه القمر المظلم .
بعد الحاح السيد طاهر وتذكير احمد بعلاقته بالمرحوم والد احمد نهض احمد وانفرد بهدية وفاطمة وبعد ان دار حوار هامس وطويل رجع احمد الى السيد طاهر والبشرى تطفح على محياه نهظ السيد طاهر وقبل راس احمد وقال نحن موافقون وقال السيد طاهر هل نقرأ الفاتحة؟
نعم لنقرأ سورة الفاتحة ..
قال احمد يربكني بعد المسافة وفراقها بالنسبة لي ولوالدتها . ابني احمد طالما وجدت وسائط نقل عصرية وسريعة فلا تحمل هما للمسافة ولو رجعنا قليلا الى الماضي لراينا ابائنا واجدادنا نعم لو فكرنا بجحيم المعاناة كيف كانوا يقطعون المسافات مشياً على الاقدام او يركبون الدواب او ييرون على شكل قوافل في شتائهم وصيفهم حيث يمتد بهم الوقت اياما قد تطول وقد تقصر حسب المسافة لتلك الليالي القلقة والنهارات اليتيمة .
قال احمد لم اعتد لفراقها منذ وقعت عيناية عليها ولا ادري ماذا افعل ؟
وماذا اريد ؟ وماذا ارفض ؟
ولدي احمد الزواج من الف باء الشريعة الاسلامية وان تعلقك هذا غير صحيح مع وجود العاطفة الابوية ولو فكروا كل الاباء مثلما تفكر لما زوجوا بناتهم والتعلق الابوي بهذه الصورة قد يكون معوقاً لنصيب البنت بحجة الفراق او البعد . اما فاطمة فستعيش كأميرة في بيتنا.
سيدي ارجوا ان تعطيني فرصة للدفاع عن نفسي ولمراجعة كتاب القدر ولدي ليس هناك قدر بل طريق الصواب لستكمال مسيرة البشرية على الارض كما اراد لها الله ان طلبي يسوقني في ان الح .
كانت فاطمة تسمع الحديث ملْ وجدانها وقلبها يدق بعنف وقد انهمر شلال التصورات وهي تحس وكان حصانا طائرا ينظرها ليعرج بها بعيداً وراء الغيوم او وراء تخوم البحر.
نعم ساعة العروج تقترب وهي لم تتعود المبيت ولو ليلة خارج البيت بعيدةً عن حنان امها وعواطف والدها وهو الحاني عليها كالسماء بنجومها بدأت ىتتحرك بمكانها بلا تركيز وبلا ضبط للاعصاب فقد اقتربت ساعة قطع الحبل السري .
ومن فتحات البردي كانت تنظر خلسة فرأة شاباً اسمراً يطل بوجه مدور دقيق التناسق وقد وفق في قسمات وجهه ,
قالت في وجدانها كيف ابتعد عن قريتي ومتى استطعت فراق الفرقدين في ظلام عمري الذي نسجته احلام الليالي وسقلته نهارات الحب الجارف .
أأقدر على ان اغادر الكوخ ليكن الله في عوني .
قُدم الشاي الى السيد طاهر وعائلته وقد لاح الارباك على احمد من خلال اصطباغ محياه بلون الورس تارتاً وبلون احمر الشفاه طوراً
قال السيد طاهر ان الزواج سنة من سنن الاسلام ومن اعظم فضائله وقضية الزواج مدينة لابد من الدخول اليها وهي مقدرة على جميع بنات حواء وعلى المرأة ان تضع في حسابها الانتقال مابين بيت وبيت وبين مسافة قصية وقد تقترب ’ فلماذا تخشى الانتقال الطبيعي وتدخل في تعقيد ليس له مبرر انا ساكون مثلك في رعايتها وستسير الامور بشكل طبيعي
ابني احمد انا اتعهد على ان احيطها بسياج يرضاه الله ويباركه فعتمد علي كما اعتمدت على كرمك فلا تردني مكسوفاً .
لن اردك مكسوفاً كما قلت ولكني ترددت فيما يخص موقع العش ان فراق نخلة في بيتي ليحزنني فكيف بفراق فاطمة ولكن ليعاونني الله وليعاون والدتها وليلهمنا الصبر والسلوان .
كما اني محيط بكرمك ورعايتك لابنتي فاطمة وانتم خير من تقدم في محيط معارفنا في هذه القرية اللعينة والمقدسة .
ابني احمد جميع بنات حواء كن وما زلن يخضعن للتغير المفأجيء عندما يجيء النصيب وكل الامهات والاباء يجابهون نفس الاحاسيس فالمراة دائما وابداً تضع في جدول حياتها مسألة الانتقال من بيتها الى بيت الزوج وهذا هو القانون الساري على جميع بنات حواء إلا في النادر ممن
لم ولن يشملهنّ هذا القانون

0 0 0








بعد الخطبة بستة شهور جاؤا ليأخذوا فاطمة الوديعة ذات البشرة البيضاء التي لا تقل بياضاً عن حليب النوق
كانت فاطمة فائقة الجمال ،ويخيل للناظر اليها انه ينظر لحورية من حور الفردوس فسبحان من صور فأعطى ...
كانت تتميز بعنق نعامة وصدر رخامي رجراج ناهد ونافر بثمرتي عنب حمراوين تعدان بنافورتي حليب من شجرة معطاء تمّتُ لإمنا حواء .
كانت عندما تتحرك يتفتح ويعبق جوريّ فاطمة وأبهة ما في الطاووس المنتشي بريشه الجميل وألوانه البالغة الروعة والتمايس المدل على نحافة خصرين يشكوان من ارتفاع ردفين فسبحان من صور عينين تستظلان بأمشاط شوكية تحت هلالين يستظلهما شعر مسدول يضاهي الحرير بتموجه ونعومته وهي تميس بالقامةالخيزرانية الفارعة جذلى تحاكي النورس بالبشر الطافح على اسارير وجهها
كانت تلك اللحظات فريدة في حياة فاطمة وهي تغادر الكوخ وتفارق اعز من في الوجود .
وعيناها تسكب قطرات الدموع المتساقطة كقطرات المطر على ارض بور
هي تخرج من بيئتها وطقسها المتخوم باحزانها و افراحها ومجرتها التي كانت تدور حولها .
بعد ان خطت فاطمة خارج الكوخ كسفت شمس القرية وغطاها ظلام دامس لفراق فاطمة التي كانت النجمة المشعة في ظلام الكوخ

0 0 0
قبل الغروب كان الطرق على الباب يتساوق على وتيرة واحدة ، تكاد تعكس الحاح ، وقلق الطارق على الباب .
خرج ناصر وقد تفاجأ بابن خالته احمد .
اقترب كل واحد من الاخر في ذهول وغمرهما ، فتعانقا .
كان كل واحد منهما يمطر الاخر بالقُبل الحارة .
مسك ناصر بيد احمد ، وسحبه الى داخل البيت ، وهو يقول لقد تباطأت ، وانا انتظرك كما ينتظرون هلال العيد . عسى ان يكون المانع خيراً ان شاء الله.
الظروف هي التي تتحكم بنا، وليس لنا الا ان نخضع مقهورين شئنا ام ابينا .
اقتاده ناصر الى داخل البيت ،فتلقاه ظافر وسناء و زينب ، وجلسوا معه .
قال احمد اشعر بقصوري اتجاهكم ،حيث لم اقم باخباركم في الوقت المناسب .
أي اخبار . زواج فاطمة . ومثلما يقال : كتبت القسمة لها هنا . ناصر اين هنا؟
في جواركم في مدينة الكاظمية .
غمر الفرح الجميع .قال ناصر ربما ستصبح زيارتك لنا ولها اكثر فاكثر . ابتسم احمد ثم وجم وتجهم ،وسرح بنظراته البعيدة .
قال ناصر احمد مالي اراك حزيناً ،هل حصل لك مايبعث على القلق لاسمح الله ؟ قلي انا ابن خالتك ،وانت لحمي ،ودمي .
باله اقسم عليك ان تعلمني ، ولا تخفي عني شيئا فاذا كنت ...،
قال احمد احتاجكم نعم .
قل ولا تتردد , فانت ابن خالتي ، وصديق عمري الصدوق .
مضى زمن وقد دارت علينا دولاليب الليالي العجاف وكوالح الايام العسيرة وقد أصبحت جزءاً من تراكم التاريخ المهمل ، والامر من المرارة
ولكن في قلبي وضميري مازلت حاضراً مثل جبل أتكيء اليه ، ومرساتك راسخة في قاع وجداني ،ولن انسى دعمك ،ودعواتكم المتكررة لي بكرم حاتمي .
عزيزي ناصر انت تراني جسدا يتحرك على طريق المخلوقات ،وغصني تثنيه الريح وانا قد انثني هشا ومهزوماً رغم ارادتي القوية .وها انا امامك ظل بلا جسد ،والة صماء, وخرساء يحركها سيد الارض ،وذئابه ، لقد عدوا وراء الطريدة الجريحة ،ولا خلاص لها ،وقد اوجدت قاسما مشتركا بين دقة شمها وطعم الدماء .
قال ناصر اوجز جزاك الله خيرا فانا لا اريد ان انتظر المفاجئاة, او الفصل الاخير من الدراما الماساوية وسوف لن اقصر ، ولن ارفعك اعلى من قامتي ، او امد يدي صوب ثمرة اعجز عن احتوائها وساكون عند حسن الظن ،وقدر المقاس دون التمثيل خارج التكليف عند المهمات تكون تحت مصباح الضمير ، ودفء المشاعر المرتفعة بانسانية الانسان ،وان ذراعي انشاء الله تحفر الرقم القياسي على رخام البذل بالغالي والنفيس وكذلك ظاف سوف ينوب عني وقت غيابي .
ظافر ارى انك وابن خالتك كنتما ومازلتما كنهرين ترفداننا بالبركة ،والخير العميم ونستظل بخيمتكما .
احمد انتم اهلي ،وعشيرتي ،وعندما اريد التعبير عن ظروفي يغلبني الحياء ،واقول مع نفسي لماذا القي بحمل احزاني على غيري حتى ولو كانوا من لحمي، ودمي، ولا أحمّل وزر معاناتي ،ومع سحب كل نفس ،وألقاء كل خطوة على الطريق احس بخيبة ما بعدها خيبة ،وبجسامة الالم .
ان ظلي خيمة سوداء قد تحجب نور الصبح عنكم .
ضحك ظافر وقال . ليست الحياة هي التي اصدرت حكما قاسياً علينا . بل النظام هو الذي اصدر حكمه على ظلمنا ، وظلم الاخرين من ابناء شعبنا ،ولو كان النظام بيدي لهدمته كونه ينحاز الى القلة من المترفيين ،
ولم يكن محايداً ولو لمرة واحدة منذ تكوينه ،ولحد يومنا هذا .
وهو ينحاز لمن اتخمت ،وتكرشت محفظاتهم بالملايين من مردودات كدح الفقراء .
ومثلما نرى المؤمن البسيط يلطخ بالحناء الشبابيك ، والجدران ، ويوقد الشموع على قبور الاولياء . نرى اولئك يقدمون الاعطيات الثمينة ، والهدايا لاصحاب الحل ،
والربط مقابل حماية مصالحهم ،
وقد تصرف الدولة جزءاً كبيراً من الاموال الطائلة لتملأ بطون كلابها لكي يصونوا اصحاب روؤس الاموال ،ومعاملهم ، وشركاتهم في ظروف يسمونها بالديمقراطية ايام اعراسهم ،
اما ايام احزانهم فتقوم اجهزة الدولة بالتزوير الفاضح لصالحهم ، والقفز بهم تحت قبة البرلمان ،والمجالس الاخرى ،وتقدم لهم كل الفرص غير المشروعة .
وفي الضفة الاخرى ، تضع العصي بين العجلات ،وتربط الحصان خلف العربة لتعيق مسيرة الصعود بغلقها النقبابات ،وتعطيل الاحزاب الوطنية حيث تصادر ممتلكاتها .
واذا ما شعروا بالطوفان ، والاحداث الوشيكة الوقوع ،علقوا الحياة الدستورية ،وحولوها الى الحكم العسكري ليخمدوا الشارع المشتعل بالمد الثوري ،بفتحهم ابواب السجون على مصراعيها ،وذلك ليتخلصوا من اورامهم تماماً مثل من يتخلص من امراضه القاتلة .
وان طالت السنوات والقرون , فالصراع يبقى قائماً وان لم يظهر فهو مثل البراكين في جوف الارض .
ان نظاما يعطي الفرص للافراد على حساب الجماعات لابد ان تنتهك قدسيته الزائفة، والمغطاة بالمساحيق التي تزيده قبحاً علي قبح.
فالعلاقات الاجتماعية تبنى على الاساس المادي لحركة التاريخ عبر ديالكتيكية الحياة, وليس على بذخ الصراعات الكاذبة .
نحن بنتظار الخسف في الارض, والنفخ في الصور, صور المظلومين في الارض حيث يظهر هلال الحقيقة لعيد الانسان المنتهك حقه.
والان افتح قلبك لنا وانت الذي يأمر ويطلب .
أقول لك تاجاوزاً القي بالخطوة الاقرب على عتبة بيتنا مثلما : كان الانسان الاول مأواه كل والارض أينمى حلّ او ارتحل عبر مشاعية يزرع, ويحصد ويصيد, ويدجن,ويسكن, ويرحل لاي بقعة منها
ولكن بدون بطاقة سكن او تاشيرة خروج
قال احمد جئتكم وانا متردد ووجل ومتهيب وانا انظر الى نفسي مثلما ينظر الغريب ولكن الآن تكشف لي كل شي وها انا اطفوا على لجة من الفرح والسرور واخشى ما اخشى ان اكون حالماً.
قال ناصر لست في حلم فنحن اهلك وما يفرحك يفرحنا , وما يحزنك يحزننا
فكن في الموضوع لما تسمع, وترى,
واريد ان اكشف لك سراً وانا فخور به ...
إعلم عندما كنا في القرية كنت احرص و اشح بقرص الشعير على الغير وذلك ليس بخلاً بل تحسبا , وخوفاً من قادمات الايام وكذلك كنت افخر بالسطو على غيري ولا تهتز شعرة من جسدي.
وعندما هاجرت من القرية الى العاصمة كنت احمل جميع الترسبات السيئة في تعاملي مع الغير
وكنت افكر دائما و اهتدي بفلسفة تغدى به قبل ان يتعشى بك
تحت هذا السقف المكفهر وفوق ارض الملح التي امشي عليها باقدامي الجريحة تحت شعار ( انا وابن عمي على الغريب وانا واخي على ابن عمي)
ولا اريد الوغول في كل تفاصيل حياتي .
وبشكل مختصر كنت اسير في شوارع المدينة وكاني امشي في غابة مليئة بالحيوانات المفترسة والفخاخ المنصوبة
وتحت كل خطوة القي بها فوق تربة مجاهلي.
ومع الغموض المحاط بالمفاجئات, أحس وكأنني على حافة السقوط .
كنت اتحرك بميكانيكيةٍ متبلدة مثل بندول الساعة في حركته الرتيبة .
شاءت الاقدار أن التقي بأصناف من البشر، صنفاً تملكه الشيطان، وصنفاً أصطفته الملالئكة
واخيراً انحزت لمن اصطفته الملائكة ولكن خارج القلعة
قلعة الملائكة والمصلحين
وكذلك اصطففت وانا خارج المدار اتلو صلواتهم واردد ادعيتهم بحماس منقطع النظير
انتشى احمد وغاص في البعيد وقال في نفسه ألتقى الجبل بالجبل فتوحدا
دون ان يرسمى ميثاقهما وكانهما يغمسان اطراف اصابعهما في اناء عطر (ممشِم)
ومن هنا كان التقاء دجلة والفرات حيث شكلا زخم شط العرب وتداعيا ظمن انحدارهما على الارض .
انسحب على احمد شريط من الذكريات ولاح امام عينيه طيف الاستاذ فاضل العاني معلم المدرسة في القرية.
قال احمد في دخيلته لقد امسكت بالخيط المشدود في قطبيّ الزمان والمكان والذي سيقودني الى الطريق الواضح والصحيح ليصلني الى المجرة ، مجرة درب المعدمين
انتبه على صوت ناصر يقول له أحمد اين سرحت؟بل اين طفت ؟
ربما كنتَ في سفينتك التي عانقت اشرعتها رياح التغيير...
اجابه احمد اقول لك انا على سفينة عراقية تمخر على محيط يربط بين القرية والمدينة , ولست على سفينة برتغالية تقتحم المجهول وتتعرى لتغتسل في جزر الهند الشرقية حيث عادت ولكن بعد ضياع قائدها (ماجلان)
وها انا افكر بالهرب من الجحيم الى الفردوس .
ناصر اتمنى لك النجاح في عبورك من القرية الى المدينة ولكن عليك ان تدرك ان المدينة لم ولن تكون مفروشة بالورود كما تتصور وتريد وتحلم .
فالمدينة في نظري ,وفي تصوري , وتجربتي الطويلة بطول معاناتي اعتبرها مركز ،
الثعابين وبُئر العقارب فلا تنخدع ببهرجها , وبوجهها المصبوغ بالمساحيق والمنقوش بالوشم
فاهلها بين ملاك وشيطان وان قبيل الشيطان امكر واكثر مهارة باللعب على حبال السرك والتنويم المغناطيسي ، واعطاء دفعات البنج خارج صالات العمليات .
كل ذلك المكر , والدوران , واللعب على الحبال يتم بشكل خفيّ وايغالاً في الاستغفال وذلك لكي لا يخرج البركان لسانه
والذين لا تغمض لهم عين يعالجون بالقيد والعصى , وهنالك من يعالجون بالاستسلام والسكينة والتامل وبهضم التعاليم وغرسها في القلوب وحشوها في الادمغة وذلك لكي تقود القطيع الى الحضيرة التي يريد لها الراعي ان تكون
قريبةً من امواج البخور في الزمان والمكان وقبل قيام الساعة وفي المساحة التي يغطي رقعتها العراق
والمدينة كأي مدينة في العالم
المدينة بأهلها تحتوي على وجهين الليل والنهار
وهي مثل اي عملة ذات وجهين فطهارتها من طهارة اهلها ودنسها من دنس اهلها
تماماً هي مثل الشجرة المركبة بالتطعيم
مازالت تزدحم دروبها بالشوك والحنظل وقليلاً جداً,
وفي فتراة متباعدة قد تحسب بالقرون يمكن ان تقول قد منحت اهلها فاكهة فردوسية وكم اعقبتها الدموع الغزيرة والتنهدات في نهارات بائسة تنكأ الجراحات مخارز لياليها السود .
والمدينة لم تخل من الاشباح ومطاردي الفراشات , وخالعي الجذور من تربتها , وقاطفي ثمار المواسم لحسابهم الخاص .
وفي عرف الصفوة يستوجب بقاء الاشياء على حالها لكي لا يتعرى الجمر بأزاحة الرماد وذلك ضمن قانونها المقدس وكذلك هي لا تؤمن بقانون التعرية والتاكل .
وربما في ظروف قاهرة قد تعطي الضوء الاخضر وهي مرغمة على ايجاد مناخ يشيع التهدئة والتخدير لامتصاص العاصفة قبل ان تجتاح المدن وتقتلع كل شيء



0 0 0





فكر جمال في ان يخرج من البيت وينطلق دون ان يحدد الذهاب الى مكان ما . كان ينظر الى المحلات التجارية ، وبيع الالبسة المعروضة من وراء الزجاج . وفي بعض الاحيان كان يتوقف ليشبع النظر من تلك المعارض الى جانب محلات بيع الساعات ومن ثم يمر على الجسر ، ويتوقف لينظر الى النهر ،ويرى كيف تقطع القوارب مابين الكرخ والرصافة ،
ومن على جسر الاحرار كان يرى (القشلة الساعة )الاثرية وصيادي الاسماك كيف كانوا يرمون شباكهم الى النهر الصافي .
تارة يعودون بثمار غزيرة وحين يخرجون من النهر يعرضون بضاعتهم للبيع ، ويرى المراكب وهي تسحب العوامات المشحونة بالحنطة والشعير وغير ذلك المحمولة من حاصلات الجنوب ,والاتية من الموصل وغيرها محملة بالرقي والبطيخ والحبوب والحاصلات الصيفية من الخضار بعوامات صغيرة ايضاً تسحبها قوارب بخارية .
كان دولاب الحياة يدور بشكل مريح ولا من هموم تعكر صفو الطالب جمال وكان قد تلقح حديثاً بالتيار اليساري . ولكن لم تضع بصمة على جلده بعد . وليس هناك من يشير اليه بالبنان في رجال التحقيقات .
كان يسير في الشوارع خارج اي ملاحقة وقد تعرف على عناون بعض الكتب التي تجلب برائحتها الكلاب الجائعة والمتعطشة للدماء واخيراً لمعت فكرة في رأسه في ان يذهب الى المكتبة العامة في باب المعظم .
فتوقف في احدى محطات للركوب في سيارة مصلحة نقل الركاب .
وكان في محطة الانتظار مجموعة من الناس وهم خليط من نساء ،ورجال وبعد وقت طويل جاءت الحافلة ،فصعد الجميع .وكلٌ استقر في مكان من الحافلة . كانت الحافلة تنؤ بالركاب و جمال ينظر للشارع وما فيه من بنايات، وعلى غفلة بوغت جمال بصوت امراة تهتف بصوت عالي وهي تقول لاحد الركاب عقرب وهي تشير اليه باصبعها
والرجل لم يلتفت الى نفسه ولم يعرف اويفهم فحوا خطابها ..
فماكان منها إلا ان كررت تحذيراتها وبصوت اقوى ..
كانت تجلس الى جانب جمال قبالت الرجل المعني ثم صارت تكرر عقرب عقرب ..
التفت الرجل الى وضعه وصار ينظر الى نفسه وفي تلك اللحظة الرهيبة لمح جمال العقرب يتحرك على بدلة العمل الزرقاء واخيراً راى الرجل ذلك العقرب يتحرك على بدلته البائسة فوق القفص الصدري ..
فارتبك وخاف من ذلك العقرب وحاول جاهداً ان يبعده بيده فلدغه في كفه الايمن ..
راح الرجل يحرك يديه ويتاوّه وعلامات الالم لاحت على قسمات وجهه وفي تلك اللحظات دخل العقرب من فتحت القمصلة ومن بين الازرار , فطوى الرجل القمصلة بكفه وراح يعتصرها تحت القماش وهو يتلقى اللدغة تلوة اللدغة
لم يستطع الركاب مد يد المساعدة له فسحب جمال منديلاً من بنطاله وقدمه للرجل ..
ماكان من الرجل الا ان قبض بذلك المنديل على العقرب وهو تحت قماش البدلة وصار يضغط ويضغط الى ان حطمه بعد ان دفع العقرب بخزين ذلك السم الموجع والخطر ثم وصلت الحافلة الى باب المعظم واخذ الركاب يهبطون الواحد بعد الاخر و جمال ينظر الى الرجل بحزن ثم قال له انت قريب من المستشفى فاذهب للمعالجة ولا تتساهل مع هذه اللدغات . كان جمال اخر من هبط من الحافلة وهو ينظر الى العقرب ملقى على ارضية الحافلة ..
ثم غرق وغط بعيدا وقد نسي الشيء الذي جاء من اجله وهو يفكر في محنة الرجل واخيراً انفلت من اسر كوابيسه وهو منغرس على الرصيف فانتزع نفسه من المكان لينأى بعيدا عن هاجس الحزن ومحن العوم ...
كاد جمال ان ينسى الهدف الذي خرج من اجله واخيرا تذكر كونه جاء قاصدا المكتبة العامة .
اتجه الى البناية ودخل وراح نظر الى فهارس المكتبة التي تشير الى اماكن الكتب الجالسة على الرفوف ..
كان يدقق على العناوين , مرة على كتّاب القصة والرواية ثم , التراث العربي والاسلامي , ومجموعة الدراسات النقدية , وروضة الشعر منذ العصر الجاهلي , ..ثم كتب علم الاجتماع , ومجاميع الفلسفة من ابن رشد وابن سينا والفارابي والكندي والمعري وابي حيان , ..
ومن الغربيين الاوربيين برت راندرسل , وادم سمث , وشوبن هور ,
وكارل ماركس , وفردريك انجلز , وهيجل وغيرهم , ومن قدماء اليونان كسقراط , وافلاطون , وارسطو طاليس ..
كان جمال في تلك الفترة مالكاً لحريته وفي الصف الاول للدراسة في الكلية .. وقبل ان ترى العيون خطواته , وقبل ان يوضع له ملفاً خاصاً في دائرة التحقيقات الجنائية , وقبل ان تتعرف على رائحته الكلاب البوليسية
طلب من المسؤول عن تقديم الكتب للقراء في المكتبة وقال ارجوا اعارتي كتاب راس المال الجزء الاول لكارل ماركس ابتسم الرجل وهز راسه بالامتناع عن تداوله ..
لماذا تمتنع عن تقديمه لي ..التعليمات ..
اي تعليمات ؟
تعليمات ادارة المكتبة ..
ضحك جمال بسخرية تشوبها المرارة وقال انت تتحدث باشياء غريبة ولايمكن ان تصدق .. واحس بانك تصدر احكاماً بالاعدام على بعض الكتب التي قد لاتروق لمزاجك او انت قد لا تريد ان تتوافق معها ..
وإلا ما معنا ان يعلن عن وجود كتب في مكتبتكم وتمنع عن التداول .. ,
قلي بربك اليس هذا العجب العجاب ..
أسالك كيف تستطيع التوفيق بين الاعلان والحظر ..؟!
سيدي لست انا الذي امانع في تداولها انما الادارة فلا تطلق الاحكام جزافاً..
اذن من هي الادارة غيرك ومن معك من الذين يتحالفون ويتأمرون على اجهاض الكلمة الحرة قبل ان تولد .. ؟
انا مثلك لم اكن ضد الكلمة . اذن من هو الذي يقوم على نحرها ويضع ,
عجيزتها بتجاه القبلة ؟
لماذا نتخاصم ونحن في صباحنا هذا حيث ندير وجوهنا للظلام فغرقة المدير امامك فاستفسر منه..
انا ارغب ان استفسر من راس الحكمة في دائرة مكتبتكم ..
كان جمال يسخر وبمرارة اتجه الى باب الغرفة وراح يطرق على الباب بشكل خفيف فجاء الصوت من الداخل تفضل ادخل ..
دخل جمال وسلم على الرجل وهو يتفحص جو الغرفة , رد المدير السلام بكامل الاحترام وكان بالقرب منه كرسي قال الرجل تفضل استريح اشار بيده الى الكرسي , بعد ان استقر جمال قال للرجل قيل لي انك مدير المكتبة
اجل انا المدير ..
بودي ان اوجه لك سؤالي واتمنى ان لاتنزعج ..
ولماذا انزعج سل ما بدى لك
استاذي الكريم اليست المكتبة اخذة صفة المشاعية لجميع القراء داخل وخارج الدار ؟
نعم بل اكثر مما تتصور ..
نحن نمنح فرصاً لطلاب المعرفة في ان يطالعوا الكتب بكل حرية وليس في الدار فقط بل حتى في بيوتهم وبالاخص الطلاب منهم وذلك لنكون عوناً لهم لكي يعبروا مرحلة الدراسة وهم لايعانون شحة في المصادر.
وحتى الذين يرغبون بقراءات مختلفة كالقصة ,والرواية , والشعر , والنقد وكتب علم الاجتماع , والفلسفة والى اخر ماتصل اليه ايديهم من الطلاب وغيرهم ..
فشعبنا يعاني ضعفاً في مورده المالي , وشراء الكتب يسبب ارهاقاً للقراء ولذلك نحن نساهم في دعمهم في كل ما يحتاجون من الكتب مقابل مبلغ زهيد مع فرصة زمنية كافية لمن يستعيرون الكتب الى خارج الدار ومع عودة الكتاب يسترجع المبلغ لصاحبه .. استاذي العزيز اشد على يدك , وابارك لك هذه الروحية , وهذا التطلع , والتوق الانساني الرائع والعظيم .
ولكن بودي ان اطلعك على حالة قد تستغرب منها وقد تشجبها بشدة وهي مخالفة شاذة قد تستهجنها بالمقارنة لخطواتك المنهجية , والدائبة على الدعم والتشجيع , واكاد اصرخ , وارفع يدي محتجّاً لسلوك الموظف المسؤول عن تسليم الكتب للقراء , وكيف تعامل معي حين طلبت منه كتابا ؟ فرفض تقديمه لي وتحدث معي ببرود ولامبالاة ..
الذي تقوله مستحيل , وخارج تعليماتنا الادارية , ومنذ سنين وانا هنا مع نفس الموظف لم يشكوا منه احد كما انت تشكو منه الان لا الطلاب , ولاغيرهم .
سيدي بالنسبة لي فقد حصل معي بالزمان والمكان .. ارجوا ان تعطيني صورة دقيقة عن الشيء الذي تتكلم عنه بصدد الموظف ؟
سيدي قبل ان الج غرفتك كنت قد طلبت منه كتاباً فامتنع عن تقديمه لي
ربما هو الان قيد التداول عند بعض القراء في المكتة او خارجها
لم يقل هو قيد التداول
اذن رد لي عنوانه وانا ساجلبه لك ان كان موجوداً عندنا في المكتبة ...
كتاب راس المال الجزء الاول لكارل ماركس .
بهت الرجل , وطاش عقله وقال انت طلبت مماهو خارج قدرتنا على اعطائك اياه ,
بعض الكتب في مكتبتنا يوجد عليها حظراً أمنيّاً وهذا منها
اذن كيف تضعونه بالمكتبة ؟
انت تعلم نحن في عصر متقدم , وحضاري , ولا يصح امام وفود العالم من الغرب والشرق وقد ياتي بعض العلماء , والكتاب , ومن المفكرين من مختلف الاديولوجيات وقد يأتون لزيارة المكتبة فهل يصح ان تخلوا المكتبة من عيون الادب والفكر السياسي , ومن الكتب النفيسة التي تتباها بها مكتبات العالم وتفتقر المكتبة العراقية لما هو ضروري , ومكمل لوضع وروح العصر والديمقراطية .
ابتسم جمال ابتسامة عريضة ومليئة بالمرارة .. , عقّب الرجل وهو يحس بوخز الضمير ..
لوكانت الامور بيدي لتعاملت مع القراء الكرام غير هذا التعامل الخارج عن الذوق وعن كل ماهو غير مالوف , سكت الرجل ثم قال انها الارادة القاهرة .
جمال وما مدى تاثير تلك الارادة على النظام .. ؟
انها النظام بذاته , ومايحيطه من وزارات ومسميات لاترتفع عن مقام (القرقوزات , و الدمى , والبيادق ) داخل القلاع الطينية , والمتلقية تعليماتها من القصر العريض .. ,
والفاره , والمحاط بحزام من الاشجار الباسقة , والمتربع على ضفة النهر وهو يفصل مابين منطقتي (الكريمات والشوّاكة) واهلها من الاحياء الاموات , وحيث يُرى سيده وهو يرتقي الحصان وسط الحديقة الدائرية , ووجهه يطل على الشارع كقرين ومنافس للملك المحنّط و الممتطي حصانه ايضا وهو يزهو منتصباً في ساحة قد تكبر قليلا عن ساحة الجنرال مود


0 0 0

كان منير ينظر باستغراب الى سطور الكتاب الذي يحتوي على صور نعيشها يومياً ولا نلتفت اليها, ورغم ممارسات المجتمعات البشرية على مر الليالي والنهارات , وانطواء الازمنة , ووضع العلامات الهائلة الاحجام والتي اصبحت تصغر وتكاد تتلاشى لبعدها عنا.
لقد غاصت في التاريخ , وغاص بها التاريخ, والكتاب أشبه بالسهل الممتنع.قال منير طوراً احسه يطرح البديهيَات , وتارة يدخلني في عالم الأحجية , والسطور المطلسمة.
كان منير قد قرأ في مطلع حياته ألف ليلة وليلة , ومقدمة ابن خلدون , ولمن تقرع الاجراس لهمنكواي , وطفولتي لمكسيم غوكري, وأحبد نوتردام لفكتور هيجو, والادب الجاهلي لطه حسين , والمقداد والمياسة , وسيرة عنتر بن شداد , والزير سالم , وحكايات كتب السيرة والاساطير , وذلك قبل النضج والتمكن من حصر التصورات , والتركيز والتداعي في مرحلة الرومانسية , والتزحلق بين الملهاة والمأساة الا ان هذا الكاتب كان يبعث النار في الجليد , ويدفع بالعاصفة بشكل ثوري , وعنيف وكأنه يريد زعزعت الاُسس القائمة على اساطين التحذير ونمطية قواعد التاريخ القديم . والكتاب عبارة عن هزات , وبراكين تجتاح ما ينمو على ضفّتي عصر القنانة , والاقطاعية , والرأسمالية وقد وضعها الكاتب بين قوسي الصراع , والتحولات التي تشكل القفز, وعبور المراحل لأجل قيام الفردوس..
كان منير يكمل الحلقات المفقودة خلال قراءآته السابقة عن التوراة , والانجيل , والقرآن الكريم وكذلك عن صدر الاسلام , وعن
العصر الاموي , والعصر العباسي , وما آلت اليه ارض السواد.
ومنذ الغزو التتري , والاستيلاء العثماني , ثم الاحتلال الانجليزي.
كان الكتاب يقذف بما رسب في قاع منير, ويسقط من غصون شجرته كل الثمار الفجة , ويستقبل البذور الجديدة خلال مروره بصفحات النار وقد سار منير مع الصفحات التي ابتدأت من السفح لقمة الهرم , ولآولويات الحقيقة لمسار التاريخ وهي تنطلق من خلال فائض القيمة الذي تدور حوله عقدة الصراع , والموجهات اليويمة بين معسكرين , معسكر المستغلين بكسر الغين ومعسكر المستغلين بفتح الغين .
هذه الصورة لايمكن محوها من مفكرة المعدمين في الارض بحيث تكون مثل بركان يزمجر ولا يخمد , ويبعث أمواج غضبه موجة اثر موجة , على أمتداد التاريخ .
مع هبوط كل مطرقة لدق مسمار: وذلك لتحويل المواد الخام الى حاجات ذات فائدة , وضرورية , ونافعة تشمل كلما صنع وسيُصنع الانسان لخدمة الانسان منذ عصور الظلام , ومرحلة العيش في الكهوف , الى ان تربّع على عرش الحضارة وايّامه تتلاحق وتتبلور مع التطور . وكلما يكبر, ويتضخم الفائض . تتسع الفجوة , و تتعمق الهوة بين المستثمر , والمستثمر حيث تزداد الشرنقة تعقيداً , ويصبح التعامل اليومي في ان تكون او لاتكون .
في صمت الليل وعلى ضوء الفانوس كانت تستفزه كل حركة تُسمع من خارج البيت , وكلما توغل منير, وساح مع الكاتب.
أصبحت المسافة أقرب فأقرب بينه وبين الكاتب حيث يحصل الاندفاع الارادي لكسر هيبة القيود , وإسقاط الحواجز, وتحرير المعاصم, والعقول , وخرق القانون غير المقدس الذي صاغه اصحاب النفوذ ايام السُبات المزمن , وبمعزل عن الطرف الاكثر عدداً خارج مظلة ما يسمّى بالديمقراطية . فلو تم التأكيد على الاختيار الحر في صياغة النظم عبر تلك الاشواط التي مرت لعشرات من العقود , و من السنوات العجاف.
بالتأكيد لكان الوضع لصاح اصحاب المطرقة , والذين يحرثون الارض . ولم يحصلوا على أقل الأقل من مردود كدحهم المضني . كان منير الطالب المجد , والمجتهد الذي تستبد به الهواجس , ويعصف به الشوق لإكمال دراسته . كان مولعاً , ويقرأ أي كتاب يقع بين يديه بالإضافة لكتبه المدرسية والتي تفرض عليه ضمن المناهج الدراسية المقررة من قبل النظام المقيّد . .
غرق منير في طوفان من الافكار والمواضيع الجديدة , والغريبة , والبعيدة عن المناهج بالإضافة لكتب التراث الاسلامي .
انغمر منير في كتابه الغريب وهو يلتهم سطوره مثل ظامئ لا يطفئ لهيبه حتى النهر .
راح يطلق العنان لجواده الجامح , ولنظره الثاقب , وعقله الذي يملك قدرة الغوص , والبحث عن جوهر الاعماق . وفي ذلك الصفاء الملائم لاستيعاب , والتهام الصور . واحتضان مالا يحتضن , او يحاط به في لحظات الصمت , والمتاه المائي أو الصحراوي , أو في اصطخاب الفوضى , وحركة الأشياء المحيطة بالمكان والتي تشوش الرؤى , وتفسد الاحلام .
كانت تستفزه أبسط حركة في الزقاق الذي يقع فيه بيت منير وذلك لأن الكتاب الذي بين يديه له نكهة , وخصوصية , وحظوة خاصة عند الفقراء والمسحوقين في الارض , وقد قدمه له زميله في الدراسة الطالب جمال, وقال له احرص على ان لا يراه احد عندك , وبالذات العيون , عيون الذئاب , او عيون الثعالب الماكرة , والمفتوحة حتى ما بعد منتصف الليل . فالكتاب يعتبر من مناهل الفلسفة . اما الكاتب فهو احد عباقرة القرن الثامن عشر , وهو بحق من اكبر منظري و مؤسسي الفكر الاشتراكي في ذلك العصر , عصر التموّج , ورياح الثورة .
وها هو يقدّم البذار لطبق المسحوقين الطيني لكي يجنو ثمارهم فيما بعد . هذا الكتاب جاء خارج اطار التزويق , وإخفاء العورات لأشكال النظم في العالم القديم . بل عمل ويعمل على بتر الاطراف المتعفنة من الجسد المعلول , والذي شاخ على هضم المال الحرام من وفرة ومردود كدح فقراء العالم .
فهو بمثابت الشتلة الغريبة , والجديدة بين الاشجار , والنباتات الاسطورية بقِدمها فاحرص كل الحرص لتلافي ضربة كوسج غادر , فالكاتب لا يبرئ السارق على سرقته , ولا يبيض الجداران المتسخة كما يبيضون القدور ليزيلوا الصدأ العالق بها .
فهو يسلط الضوء على السارق تحت مظلة القانون ,وشرعية النظم المموهة لصالح الاقوى , والأقدر على التحرك في البحيرة التي يأكل فيها القوي الاضعف , فأن اردت ان تفتح عينيك في النهار, وتحت قرص الشمس , وفي بلاد العميان , والمصابين بعمى الالوان فطالعه بدقة , وتركيز, وبالنتيجة فسيظهر ما لا تراه عيناك وأنت في المحيط او في عرض الصحراء المترامية الاطراف وقد تكون في الاشياء وأنت تجهل الاشياء , وقد تكون في اللعبة التي امتدت لآلاف السنين وأنت تجهل نفسك في اللعبة , وقد كانت وما زالت اللعبة تجدد نفسها , وتغير لونها مثل اي حرباء تغير لونها ضمن اي مناخ , وتحت اي طقس , وفي ايّة بيئة .
تذكر منير عندما كان في صحبة والده ايام ألطفولة وفي بعض الاحيان كان يخرج مع والده ويلح لشراء لعبة وهو يصر على امتلاكها وقد يكلف والده بما لا طاقة للوالد لشرائها ,وقد يستدين والده المبلغ ليسعده بامتلاكها.
وبين فترة وأخرى كان عبد القادر يسرّح من عمله عندما يستغني رب العمل عن خدماته حيث يضاف عيالاً الى جيش العاطلين غير العسكري رغم ما يشار الى تسميته بالجيش وان حياته عرضة لضربات القدر
وهو مثل فرس رهان ما ان يكبو حتى يتصدع جوّ العائلة , ويأخذها القلق قبل الطوفان للمصير المجهول والذي يضع الظمآن في المحيط السرابي , والعمل هو الحلقة المركزية لتوازن العائلة الشبيهة بالسفينة عندما تجنح في ساحل احدى الجزر الخالية من المستلزمات الغذائية , وشروط الحياة المتاحة لاستقرارها .
عند دوران عجلة العمل تصاب العائلة بتخمة الفرح , والسرور , والحلم الجميل والطفح الوجداني لأولويات التفتح تحت السماء الصافية وشروق الشمس التي هي مصدر الحياة رغم ما تلوح من أخاديد وخطوط على وجه عبد القادر حيث حفرتها الايام واشّرعلها الزمن وحفظتها السنون التي شربت من غضارته ماء الشباب و لم تترك فيه أثراً للنضارة , او الرونق الذي يعكس سمة الجمال .
كان عبد القادر يقف على عتبة الرقم الخمسيني لسلم الكهولة.
ومع كل صباح كان يخرج الى عمله عندما يبتسم الحظ . وهكذا تدرج الايام مثل سِباحة الخيل في المضمار .
ومثلما حصل للأجيال العراقية المسحوقة تحت سنابك الخيول التترية, وفرض الهيمنة , والعبث بكل مقدرات ألناس , وخرق التقاليد , وقلب اللوحة الزاهية للطبيعة , وتشويه الصور الفائقة ألروعة , ومسح تخطيطات معالم المدينة المدورة , واعتقال التصورات في اليقظة , والحلم , وتعطيل دورة الحياة ,
وإلقاء الثمار الفكرية لتيار النهر الجارف ,
وتعريض سكان المدن الى صنوف من العذاب والمصادرة , والإبادة واستحداث الحرائق , الى جانب التجويع لأهل مدينة النهر المصطبغ
بالحبر والدماء , وتصعيد الاحداث , وامتدادها صوب المدن الاخرى
لهذا الوطن المبتلى بغزو الظالم . وهكذا قدر لأبناء ارض السواد المصير المروّع , والمستقبل , المجهول حيث اختفت كل اشراقات
الاباء وظل يلازم ابناء الارض المصير النكد بكل ما هو غير متوقع حيث الاحساس الحاد بالغربة دون قطع الجذور. وقد تداول الغرباء الارض (كتداول الصبية للكرة في الملعب)
ملعب الاحداث عبر التاريخ المر وأخيراً سقطت الكرة في الملعب لصالح العثمانيين بعد التتر, والناس تدجنوا على تلك الصور والسماح للطارق الغريب في ان يطأ بأقدامه الدنسة التراب , والسبات على الانكفاء وقد طال أمده وراء ليل تجذر بالانكماش تحت درع السلحفاة . أجل هكذا هي الحياة في ارض السواد . لقد عومل أبناء هذا البلد كما يعامل الزنوج , والهنود الحمر
تحت مظلة تمثال الحرية ايام زحوف القطعان البيض تماماً مثل بيتهم الابيض الذي اتسخ بالدخان الصاعد من تنهدات المقهورين في الارض .


0 0 0



#شعوب_محمود_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الملك
- الصعود لبرج بابل
- (بانتظار القصاص)
- (جولة في حقول النوّاب)
- بين المسرح والقضبان
- مولد الرسول الاعظم
- الرحمن
- (ايقونة الرماد)
- حين يغنّي الدرويش
- مقدمة في مدار اسماء الله الحسنى
- (الله) جل جلاله
- لمحات عن الشعر العراقي الحديث
- خسوف قمران
- (الحروف الفسفوريّة )
- صحيفة الرماد
- ابكي الحالمين
- ابكي لمن يحلمون
- (الظمأ ونبع السراب)
- (التحديق لما وراء الافق)
- جسد الطين الجزء الثاني


المزيد.....




- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...
- فيلم -حرب أهلية- يواصل تصدّر شباك التذاكر الأميركي ويحقق 11 ...
- الجامعة العربية تشهد انطلاق مؤتمر الثقافة الإعلامية والمعلوم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شعوب محمود علي - ذهب ولم يعدإإ ؟